حسن أحمد حسين العجوز



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

حسن أحمد حسين العجوز

حسن أحمد حسين العجوز

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
حسن أحمد حسين العجوز

منتدى علوم ومعارف ولطائف وإشارات عرفانية



    سـرُّ خلَّةَ أبينا إبراهيم عليه السلام

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1942
    تاريخ التسجيل : 29/04/2015
    العمر : 57

    سـرُّ خلَّةَ أبينا إبراهيم عليه السلام Empty سـرُّ خلَّةَ أبينا إبراهيم عليه السلام

    مُساهمة من طرف Admin الأحد يوليو 10, 2022 9:49 am

    سـرُّ خلَّةَ أبينا إبراهيم عليه السلام
    الحمد لله ربِّ العالمين، يكرم عباده المتقين، ويعزُّ عباده الصالحين، ويمنحهم ما فيه عزُّهم في الدنيا والسعادة في يوم الدين. سبحانه .. سبحانه!! قرن العطاء بالابتلاء، فيبتلي أحبابه ليعطيهم ويجزل لهم العطاء، ويمتحنهم ليرفع قدرهم ويظلَّهم تحت ظلِّ عرشه يوم اللقاء، سر قول خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم: {إِذا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً ابْتَلاَهُ، وَإِذَا أَحَبَّهُ الْحُبَّ الْبَالِغَ اقْتَنَاهُ}[2].
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعطي الدنيا لِمَنْ يُحِبّ ومَنْ لا يحبّ، ولا يعطي الدين والآخرة إلا لِمَنْ أَحَبّ. وأشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عَبْدُه ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخليله، الذي صبَّ عليه مولاه البلاءَ صبًّا، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: ] وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ [ (127-النحل)، ] فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [ (35-الأحقاف)، يعني: لابد أن يكون صبرك وحدك مثل صبر أولي العزم جميعاً - من الرسل والأنبياء.
    اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، والشفيع الأعظم للخلائق أجمعين يوم الدين، سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله، وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين، يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
    فيا إخواني ويا أحبابي: ونحن في يوم من أيام خليل الله عليه السلام، وقد كان هذا اليوم يوم استجابة من الله عزَّ وجلَّ لخليله إبراهيم، حيث طلب من الله عزَّ وجلَّ أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، يعني: يذكرونه، ويشرحون سيرته، ويتعظون بمسيرته، ويتأسون بسنته إلى يوم الدين. فما من نبيٍّ إلاَّ ونذكره سَنَة، وننساه سنين، أو نذكره وقتاً - قد يطول وقد يقصر - إلاَّ نبيَّ الله إبراهيم، فلابد أن نذكره كل عام، ولابد أن نحكي قصته كل عيد أضحى. لماذا؟!! استجابة لقول الله عزَّ وجلَّ: ] وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [ (84-الشعراء) .
    هذا النبي الكريم اسمه خليل الله. لماذا سمي بهذا الاسم؟ روى البخاري ومسلم: أن خليل الله إبراهيم عليه السلام خرج - كعادته - يوماً يبحث عن الضيفان، وكان لا يأكل إلاَّ مع ضيف!! ويمكث يوماً - بل أيام - بدون أكل حتى يعثر على ضيف ليأكل معه!!
    وكان يمشي الأميال باحثاً ذات اليمين وذات الشمال عن الضيف!! لما علمه من أجر إكرام الضيف عند الكريم عزَّ وجلَّ. فذهب يوماً وعاد ولم يجد أحداً، ثم دخل المنزل فوجد رجلاً جالساً في منزله، فقال له: لم دخلت المنزل بدون إذن سيده؟ قال: قد أذن لي ربُّ الدار. قال: من أنت؟ قال: أنا ملك أرسلني الله عزَّ وجلَّ، ليبشر رجلاً من عباده بأنه خليل الله عزَّ وجلَّ!! قال: دلَّني على هذا الرجل، فوالله لو دللتني عليه، ثم كان في أقصى بقاع الأرض لذهبت إليه، وعشت معه حتى ألقى الله عزَّ وجلَّ. قال: إنه أنت، قال: أنا ... أنا .. وأخذ يكررها مبهوراً متعجباً فرحاً مستبشراً. قال: ولِمَ؟ قال: لأنك تعطي لله ولا تسأل الناس شيئاً!!
    وانتهى الملك من بشارته، وإذا بملك الملوك عزَّ وجلَّ يفتح بابه لإبراهيم، ويوحي إليه: يا إبراهيم، تعلم لم اتخذتك خليلاً؟ قال: لا يا رب!! قال: لأنك جعلت جسدك للنيران، وولدك للقربان، ومالك للضيفان، وقلبك للرحمن عزَّ وجلَّ.
    فلم يأخذها بالفهلوة، ولم يأخذها بالنصب والاحتيال، ولم يأخذها بطريق مفروش بالورود، ولكنه طريقٌ صعبٌ طويل، في سبيل الدعوة إلى الملك الجليل عزَّ وجلَّ. بدأ هذا الطريق مع أبيه أولاً، حيث كان أبوه هو الذي يصنع الآلهة، ويبيعها للناس ليعبدوها من دون رب الناس عزَّ وجلَّ. فطلب منه أن يذهب إلى السوق ليبيع هذه الآلهة، فنفذ الأمر وذهب إلى السوق، وأخذ ينادي عليها - ساخراً متهكماً - ويقول: الإله الذي لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، بكذا !! فنقل الناس الخبر إلى أبيه، فجاء إليه مسرعاً وقال: ماذا تفعل؟!! - لأنه يحارب دين أباه - فقال: ] لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [ (42-مريم). فلما اعترض على موقفه، طرده من بيته، فخرج غير نادم على ما حدث، لأنه نذر نفسه لله عزَّ وجلَّ، وقال كما قال الله: ] قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ (162، 163-الأنعام).
    ثم أخذ يدعو قومه بالحكمة تارة، وباللين تارة، وبالجدال تارة، فيذهب إلى من يعبدون النجوم - وهم كثير في بلده الأولى العراق، ويسمون الصابئة - وجلس معهم ليلة طويلة عريضة، وقال لهم: ماذا تعبدون؟!! قالوا: هذا، وأشاروا إلى نجم. فانتظر حتى أفل النجم، وقال: إني لا أحب الآفلين. ثم أشاروا إلى القمر، فجلس معهم حتى طلع الصباح وكسف ضوء القمر، فقال أيضاً: إني لا أحب الآفلين، ثم طلعت الشمس فقال متهكماً: أظن أن هذا إلهٌ أكبر، فنورها أسطع، وحجمها أكبر، وإشراقها أوسع!! ثم جاورهم حتى غابت الشمس، وأقام عليهم الحجة بأن هذه الآلهة لا تنفع ولا تضر، وإنما الإله الحقُّ هو ربُّ العالمين عزَّ وجلَّ.
    فما كان منهم إلا أن أخذوه إلى النمروذ ملكهم - وكان قد طغى وبغى، وأدعى الألوهية - قال: يا إبراهيم هل علمت لك من إله غيري؟ ألك ربٌّ سوايّ؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت - ولم يعبأ بسلطانه، ولم يهتز لصولجانه، ولم يهب من كثرة جنوده، مع أنه من الملوك المعدودين الذين ملكوا أكثر البسيطة الأرضية، إلا أن الإيمان ثبَّتَ قلبه، وقوَّى فؤاده - فقال النمروذ: أنا أحيي وأميت. قال: كيف؟!! فجاء برجلين حٌكِمَ عليهما بالقتل، وأشار إلى حاشيته وقال: اقتلوا هذا. ثم أشار إلى الآخر وقال: أنا عفوتُ عن هذا، أنا أحييته وأعطيته حياة جديدة.
    وظن أنه كسب الجولة، فإذا بإبراهيم - الذي علمه العليم الحكيم - يأتيه بقاصمة الظهر ويقول له: ] فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ[ (258-البقرة)، واحتار في الأمر، وتروى وتدبر، ثم أطلق سراحه بعد أن أمر الجميع أن لا يكلموه ولا يحدثوه، ولا يستمعوا إليه. ولكنه أصرَّ على أن يُكْمِلَ رسالته مع الله عزَّ وجلَّ. فخرجوا في يوم عيدهم، وأرادوا أن يخرج معهم، فقال: } إني سقيم {، أي: إني مريض - من كفركم وشرككم بالله عزَّ وجلَّ - وصمَّم على أن يأتي لهم بمصيبة جديدة تلفت نظرهم إلى الله، تجعلهم يتوجهون إلى حضرة الله!! فخرجوا وتركوه وحيداً عند بيوتهم.
    فخرج إلى الأصنام وحطمها جميعاً، ثم وضع الفأس على رأس كبيرهم. فلما رجعوا ووجدوا ما حدث ] قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [ (59-الأنبياء)، قالوا: ومن يكون إلا إبراهيم؟!! لأنه الوحيد الذي يعيب علينا عبادة هذه الآلهة، ويسخر بها ويستهزأ بها، فجاءوا به وقالوا: ] أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [ (62، 63-الأنبياء)، وأشار إلى أصبعه الأكبر – يعني: أن يده هذه هي التي فعلت - وأشار بيده إلى الصنم الأكبر، لأن الأنبياء لا يكذبون في مزاح ولا في لهو، ولا في شئ، لأن الله عزَّ وجلَّ ثبَّتهم على الحقّ. فقال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وهو يقصد: إصبعه الأكبر، وهم يظنون أنه يقصد الصنم الأكبر!! ثم أخذ يجادلهم، وبعد ذلك علموا أنه على الحقِّ وإنهم على الباطل. ومع ذلك أخذتهم العزَّة بالإثم!! فدبر النمروذ أمره بأن يلقيه في النار!! وبدأو التجهيزات لذلك...
    وأخذوا يجمعون الحطب، واستمروا في جمعها لمدة ستة أشهر، حتى أن المرأة التي كانت تتعسر في وضعها، كانت تنذر أنها إذا وضعت تحضر حطباً لإحراق إبراهيم!! والتي مرض ولدها، تنذر أنه إذا شفى تجمع الحطب لحرق إبراهيم!! حتى جمعوا حطباً يحرق مدينة من الناس - وليس رجلاً، وإن كان سماه الله أمة!! ] إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [ (120-النحل).
    ثم أوقدوا النار وأشعلوها، وبعد اشتعالها لم يستطيعوا أن يقتربوا من النار لشدة حرارتها، وقالوا كيف نلقيه فيها ونحن لا نستطيع أن نقترب منها؟ وإذا بإبليس – اللعين - ينزل في صورة آدمية، ويرشدهم لعمل المنجنيق، وهي آلة كالمقلاع، تقذف الأشياء لأماكن بعيدة، ووضَّح لهم كيف يضعوه فيها؟ بأن يصعدوا على قمة جبل ومعهم المنجنيق، ثم يضعوا فيه إبراهيم - بعد تكتيفه بالحبال - ويقذفونه في وسط النيران.
    وهنا ضَجَّتْ ملائكة السموات يقولون: (يا ربنا عبدك إبراهيم!! لا يعبدك في الأرض سواه!! فما كان من الجليل إلاَّ أن قال لهم: إذا كان قد استعان بكم فأعينوه، أي فهل استغاث بكم؟ فقال سيدنا إسرافيل: يا ربَّ مُرْنِي أن أنزل الأمطار على النار لتطفأها على الخليل. فقال الجليل عزَّ وجلَّ: إذا استغاث بك فاغثه. وقال الأمين جبريل: يا ربَّ عبدك إبراهيم. قال: انزل فإذا سألك حاجة فأعطها له. فنزل جبريل على إبراهيم وقال: يا خليل الله ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا!! قال: إذا كانت إلى الله فاطلبها من الله أبلغها إلى الله. فقال: علمه بحالي يغني عن سؤالي!!
    فوضع جبريل إصبعه في الأرض فنبعت عين ماء، ومد يده في الجنة فجاء بشجرة تفاح ووضعها بجوار الماء، وجاء بأريكة من الجنة وفرشها بجوار الماء تحت الشجرة، وكان في النار كما قال لها الواحد القهار: ] يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ â[ (69-الأنبياء). فلم تحرق النار إلاَّ أحباله وقيوده - التى قيدوه بها - فصار حرًّا فريداً، يجلس على الأريكة في ظل الشجرة، يأكل التفاح ويشرب الماء، ويذكر الله عزَّ وجلَّ - لمدة شهرين كاملين - في هذه النار حتى اطفأت، فقد استمرت موقدة لمدة شهرين كاملين.
    ولكن القوم عندما رأوه تعجبوا!! وقال النمروذ في جبروته وعتوه: من تعبد يا إبراهيم؟ قال: أعبد الله عزَّ وجلَّ. قال: إنه إلهٌ كريم، يستحق أن اذبح له مائة بدنة!! فنحر مائة بقرة لله، ولكن الله لم يتقبلها منه، لأنه لم يؤمن بالله عزَّ وجلَّ. قال الخليل: إن الله لا يريد بدناتك، ولكن يريد أن توحِّده، ويريد أن تعبده، ويريد أن تعرفه، وهو غني عنك وعن بدناتك جميعاً. واستمر يدعو إلى الله، ويدعو هؤلاء القوم إلى عبادة الله عزَّ وجلَّ، ولكنه في النهاية زاد غرورهم وعتوهم، بل إنهم في النهاية أصدروا أمراً بطرده من البلاد!! فقال: ] إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [ (99-الصافات) .
    هذا الخليل ألقى جسمه في النيران، وقدم ولده قرباناً لحضرة الرحمن، وكان ماله كله للضيفان، حتى أن الرحمن يحكي لنا: أنه جاءه رجلان فماذا فعل؟ اثنين يكفيهما نصف دجاجة، لكنه كما قال الله: ] جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [ (69-هود)، جاء بعجل سمين.
    جاء بعجل حنيذ يعني: مشوي، شواه لهم لأنه كان كريماً مع الله عزَّ وجلَّ. فقالوا له: يا إبراهيم لا نأكل طعامك إلا إذا دفعنا الثمن. قال: الثمن الذي أطلبه منكم أن تذكروا الله أوله، وتحمدوه في آخره. فقالوا: صدق من سمَّاك الخليل.
    بل أنه مشى ذات يوم، وقد تعجبت ملائكة الله من أحواله، فاختار الله منهم نفراً وأمرهم أن ينزلوا لاختباره - بعد أن نما ماله، وكان كثيراً وكثيرا - فنزلوا وذكر واحد منهم الله بصوتٍ شجيٍّ يطرب السامعين، فقال الخليل: أَعِدْ عليَّ ذكر الله الذي ذكرته آنفاً، قال: لا أعيد حتى تعطيني ما أريد. قال: وماذا تريد؟ قال: تعطيني وادياً مملوءاً بالغنم من أغنامك - وكان له وديان كثيرة مليئة بالأغنام، لأنه أبو الضيفان كما سماه الرحمن عزَّ وجلَّ - فماذا قال للملك؟!! قال: اسمعني ذكر ربِّك ولك كل ما ملكت من أودية مملوءة بالجمال أو الأبقار أو الأغنام!! فضجت الملائكة في السموات وقالوا: صدق الله إذ سمَّاك الخليل، لأنه مع أن الله أعطاه المال الكثير إلا إنه لم ينشغل به عن ذكر العلي الكبير عزَّ وجلَّ.
    اختبره الله بعدم الإنجاب - فلم ينجب إلا بعد ثمانين عاماً مضت من عمره - ولم يتغير ولم يتبدل. اختبره الله في زوجه - حيث سلط عليها فرعون مصر - ولكنه لم يتغير قلبه. اختبره الله بعد أن أعطاه الولد، بعد هذا العمر الطويل، وأمره بأن يبعده ويضعه في مكان قفر لا زرع فيه، ولا ضرع فيه، ولا ماء فيه، ولا أنيس فيه، وهو في كل ذلك لا يتغير قلبه طرفة عين عن خالقه وبارئه عزَّ وجلَّ. فما كان من الله بعد أن نجح في كل هذه الابتلاءات، ونجا من كل هذه الامتحانات، إلا أن جعله أباً لنا ولمن قبلنا ولمن بعدنا، ووفقه الله لأعمال الفطرة التي لم تظهر إلا على يديه. كيف ذلك؟!!
    كان أول من اختتن من الرجال، واختتن وهو ابن مائة وعشرين عاماً بقادوم، بعد أن أمره الله بالاختتان - والاختتان يعني الطهارة، وكان أول من نظف فاه، وكان أول من استنشق بالماء، وأول من لبس السراويل – يعني: ساتر العورة - والبنطلونات حتى لا تظهر عورته، وأول من ظهر الشيب في رأسه، فقال: ما هذا يا ربّ؟ قال: هذا وقارٌ يا إبراهيم. قال: يا ربَّ زدني وقاراً. قال: يا إبراهيم، إني استحي من رجل شاب في الإسلام أن أعذبه بالنار. وكان عليه السلام أول هذه الأمة في حج بيت الله الحرام، كما أمر الملك العلام، فهو الذي بنى البيت، وهو الذى نسك مناسك البيت.
    وكلما طاف الحجيج بالبيت، وكلما سعوا بين الصفا والمروة، وكلما وقفوا على عرفات، وكلما رموا الجمرات، وكلما شربوا من زمزم، تذكروا بذلك إبراهيم الخليل، وولده إسماعيل، وزوجته هاجر. وذلك كلُّه تكريماً لإبراهيم عليه السلام، لأن الله عزَّ وجلَّ اختاره واصطفاه.
    قال صلى الله عليه وسلم - عندما قيل له: أنت أكرم الخلق على الله، قال: { ذاك إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إنَّ الكَرِيمَ ،ابْنُ الكَرِيمِ، ابنِ الكَرِيمِ، ابنِ الكَرِيمِ، يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، بنِ إسْحاقَ، بنِ إبراهِيمَ، خَلِيلِ الرَّحْمنِ عَزَّ وَجَلَّ }[3]. وقال صلى الله عليه وسلم: { أَوَّلُ مَنْ يُكْسَىٰ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قُبْطِيَّتَيْنِ، ثُمَّ يُكْسَىٰ مُحَمَّدٌ حُلَّةً حَبِرَةً وَهُوَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ }[4]. وقال صلى الله عليه وسلم: {التائب حبيب الرحمن، والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ}[5].
    ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
    الخطبة الثانية:
    الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر، ونجنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا، يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
    فيا أيها الإخوة المؤمنون: لقد كان لكم في إبراهيم - خليل الله - أسوة حسنة، وفي محمد صلى الله عليه وسلم أسوة كريمة، فإن الله عزَّ وجلَّ اختارنا للإسلام والإيمان، وجعلنا جميعاً عباد الرحمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: { قال الله عزَّ وجلَّ للدنيا: يا دنيا مري ولا تحلولي لعبادي الصالحين، حتى لا ينشغلوا بك عني } [6]. فإن الله عزَّ وجلَّ عندما يغلِّي علينا الأسعار، أو يصيبنا ببعض الأمراض، أو ياتي لنا ببعض الهموم، ويعفي من ذلك الفجار والكفار، فإن ذلك شأن عجيب؟!!
    فهم - كما ترون - ينعمون بالمال، وينعمون بالخيرات، وينعمون بالحياة الدنيا، لأن الأمر - كما قال صلى الله عليه وسلم: {الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ}[7] ، }أولئك عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا{، أما أنتم معشر المؤمنين: فإن الله يريد أن يرفع درجاتكم، ويريد أن يغفر زلاتكم، ويريد أن يستر عيوبكم، ويريد أن يطهر قلوبكم.
    فكلما أسرف العبد منا على نفسه في الخطايا، جاءه الله ببلاء قريب - ويعينه عليه - ليغفر له به هذه الذنوب، فإذا أصيب بمرض فصبر عليه، ولم يشكو.
    ورد فى الأثر: {مرض يوم يكفر ذنوب سنة}، وقال الله عزَّ وجلَّ في حديثه القدسي: {أَبْتَلِـي عَبْدِي الـمُؤْمِنَ، فإذَا لـم يَشْكُ إلـى عُوَّادِهِ ذلِكَ، حَلَلْتُ عنهُ عِقْدِي، وأَبْدَلْتُهُ دماً خيراً من دمِهِ، وَلَـحْمَا خيراً من لَـحْمِهِ ثم قلتُ له: إئتنِفِ العَمَلَ }[8].
    فإذا أصابه هذا المرض كان تكفيراً لخطاياه، أو رفعة لدرجته عند الله، فإن لم يصبه بالمرض أصابه بهمِّ المعاش، أو أصابه بهمِّ الأولاد، أو أصابه بنكد من الزوجة، أو يصاب بأي شئ من أشياء الدنيا، وكل هذه الأشياء يقول فيها نبيكم الكريم صلى الله عليه وسلم: {لا يُصيبُ المرءَ المؤمنَ مَنْ نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍٍ، ولا غَمٍّ ولا أَذىً، حتى الشوكةُ يُشَاكُها، إلا كَفَّرَ اللَّهُ عنهُ بها خَطايَاهُ}[9]. كل هذه تكفير لنا يا عباد الله. ولذلك أمرنا الله أن نقول: ] قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا [ (51-التوبة).
    لم يقل: (إلا ما كتب الله علينا)، لأن الذي كتبه الله لنا: الأجر والثواب، والخير والفضل الكثير. لكن لو قال: (إلا ما كتبه الله علينا)، فالذي يكتبه علينا: الأوزار والذنوب، والعيوب والمخالفات. فكل من ابتلاه الله فإنما يبتليه ليرفع شأنه، وليقيمه في مقام الصالحين، وليلحقه بالنبيين. فقد ورد: {عن مُصْعَبِ بنِ سعد عن أبيه، قالَ : يا رسولَ اللَّهِ، مَنْ أشدُّ الناسِ بَلاءً؟ قالَ: الأنبياءُ، ثم الأَمْثَلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى العبدُ على حَسَبِ دينِهِ، فما يَبْرَحُ البَلاءُ بالعبدِ حتى يَدَعَهُ يَمْشي على الأَرْضِ وما عليهِ خَطيئةٌ}[10].
    وورد أيضاً أنه: {دَخَـلَ أبو سعيدٍ الـخُدْرِيَّ عَلَـى رسولِ الله وهو مَوْعُوْكٌ، علـيه قَطِيْفَةٌ، فَوَضَعَ يَدَهُ علـيهِ فَوَجَدَ حَرَارَتَهَا فوقَ القَطِيْفَةِ، فقالَ أبو سعيدٍ: ما أَشَدَّ حَرَّ حُمَّاكَ يا رسولَ الله!! فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلَـيْنَا البلاءُ، ويُضَاعَفُ لنا الأَجْرُ. ثم قالَ: يا رسولَ الله مَنْ أَشَدُّ الناسِ بلاءً؟ قالَ: الأنبـياءُ، قالَ: ثم مَنْ؟ قالَ: ثم العُلَـمَاءُ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثم الصَّالِـحُونَ، كان أَحَدُهُمْ يُبْتَلَـى بالفَقْرِ حتَّـى ما يَجِدُ إلاَّ العباءَةَ يَلْبَسُهَا، ويُبْتَلَـى بالقَمْلِ حتَّـى يَقْتُلَهُ، ولأَحَدُهُمْ أَشَدُّ فرحاً بالبلاءِ من أَحَدِكُمْ بالعطاءِ}[11]. لماذا؟ لأن الدنيا ساعة، فاجعلها طاعة لله عزَّ وجلَّ.
    والإنسان كما أخبر الديان: ] إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [ (6: 7-العلق)، عندما يرى جسمه صحيحاً، وماله كثيراً، وولده حوله، يغتر، بل ربما يطغى، بل ربما يفسد في الأرض!! فمن رحمة الله بعباده المؤمنين أن يكدرهم بهذه الآلام، ويفكرهم بهذه المصائب، حتى لا ينسوا فضل الله، وحتى لا يغفلوا عن طاعة الله، وحتى يظلوا طوال عمرهم معتمدين أولاً وآخراً على جميل فضل الله، وعلى كريم صنع الله، ويعلموا بأن الأمر في الأولى والآخرة متوقف على جناب الله، وعلى عطف الله فيشكرون الله عزَّ وجلَّ.
    نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
    اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل زاهقاً وهالكاً وارزقنا اجتنابه.
    اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا.
    اللهم لا تجربنا ولا تختبرنا، فإنا لسنا أهلاً للشك ولا للتجربة يا رب العالمين.
    اللهم ألطف بنا في كل أحوالنا، وارفع بفضلك سخطك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين.
    اللهم انظر إلينا نظر عطف وحنان، تبدل به سيئاتنا بحسنات، وترفعنا به إلى أعلى الدرجات، وتوفِّقنا به إلى طاعتك إلى الممات، يا رب العالمين.
    اللهم اغفر لعبادك المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا رب العالمين.
    اللهم انصر إخواننا المؤمنين في كل مكان، وردَّ عنهم أهل الكفر والطغيان، وأيِّدهم بجنود من عندك يا حنَّان يا منَّان.
    اللهم أيِّد المسلمين بنصرك يا عزيز يا غفار، ولا تؤاخذنا بالذنوب والأوزار، وتُبْ علينا توبة نصوحاً يا كريمُ يا عفوُ يا ستار.
    عباد الله: } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { (90-النحل)
    *************
    [1] كانت هذه الخطبة بمسجد سيدي عيسى الشهاوي بالجميزة - مركز السنطة - غربية يوم الجمعة 11 من ذي الحجة 1412هـ الموفق 12/6/1992م.
    [2] رواه الطبراني في الكبير عن أبي عتبة الخولاني.
    [3] رواه البخاري وأحمد في مسنده والحاكم في المستدرك والترمذي في سننه والنسائي في سننه عن ابن عمر.
    [4] رواه أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده عن ابن عباس.
    [5] أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود والديلمي عن أنس وابن عباس والطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري.
    [6] رواه صاحب مسند الشهاب عن ابن مسعود.
    [7] رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة
    [8] سنن البيهقى الكبرى عن أبي هريرة
    [9] رواه البخاري وابن حبان في صحيحه وابن أبي الدنيا عن أبي هريرة.
    [10] صحيح ابن حبان
    [11] سنن البيهقى الكبرى

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 3:07 pm