بسم الله الرحمن الرحيمحمداً لمن شرح الصدور، ويسر الأمور، وقذف فى قلوبنا النور، إلهنا ومولانا وسيدنا العزيز الغفور. والصلاة والسلام على نور النور، وسر كل حبور وسرور، سيدنا محمد الهادى بالله إلى الله، وأله وصحبه وكل من سار على دربه وتمسك بهداه، وعلينا معم أجمعين آمين بالله.(أما بعد)فيا إخوانى ويا أحبابى بارك الله عز وجل فيكم أجمعيننحن جميعا نعرف أن الرُّوح سرًّ الحياة، وأن الروح إذا خرجت من الإنسان فارق الحياة، لكن هناك آيات فى القرآن – مثل التى استمعنا إليها، وأيضاً الآيات القريبة منها - تبين أمراً آخراً !! الآية التى سمعناها اليوم: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (2- النحل) وهناك آية أخرى يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) (15- غافر).ما هذه الروح التى سينزلها والملائكة ينزلون بها؟ إذا كانت الروح سر الحياة!! وما هى الروح التى سيلقيها على من يشاء، وليس على الكل؟... الرُّوحُ الإنسانية التى بها تتحقق حياة الإنسان، وبها يستطيع أن يمشى ويتحرك، ويسمع ويبصر ويعمل فى الأكوان، هذه هى الروح المشتركة فى جميع بنى الإنسان، وهذه دورها تسيير الأعضاء، وتحريك الأجهزة- بأمر الله - لا غنى للإنسان عنها فى هذه الحياة. يعنى جهاز التنفس من الذى يحركه؟ أنا!! أبداً، لا أستطيع أن أقوم بتشغيله، لكن الذى يحركه ويشغله الروح - بأمر من يقول للشئ كن فيكون. المعدة التى تهضم الطعام، وتفرز الإنزيمات عليه لتهضمه، إلى أن يصل الغذاء إلى كل ذرة من ذرات الجسم، يصل إليها الغذاء المناسب لها، من الذى يحرك المعدة؟ الروح - بأمر الله عز وجل. تسمى الروح الآدمية، أو الروح الإنسانية التى هى مشتركة بين جميع الإنس. لكن هناك رُوحٌ ثانية اسمها الرُّوحُ الإيمانية - هذه خصوصية لأهل الإيمان - ينزل بها الله الملائكة على أهل الإيمان، ليعرفوا بها توحيد الله، ويعرفوا بها أسماء الله وصفات الله، ويفقهوا بها كتاب الله، ويتشوقوا بها إلى رسول الله. وهناك روح أخرى إسمها الروح النورانية، إذا ألقاها الله على عبد صار كله بصائر، فيرى الحقائق على ما هى عليه!! فَنَى مَنْ شَاهَدَ المَجْلَى وَنَالَ السِّـرَّ وارْتَاحَوغَنَّى بِالحَقَـائقِ مَنْ رَأى الأشْبَاحَ أَرْوَاحَيرى الأسرار التى تحرك هذه الأشباح. كيف يراها؟ هذا كمال، وهذا جمال، لا يراه ولا يتذوقه إلا أهل الوصال، بفضل من الوالى المتعال عز وجل. وهناك روح أخرى اسمها الرُّوحُ القدسية، وهذه إذا نفحها الله عز وجل فى إنسان، كان هذا الإنسان بحقائقه الباطنة فوق إدراك عالم الزمان، وفوق حيطة جميع الأكوان. وهذا لا يشهد أسرار الأرواح، لكنه يشهد أسرار أسماء وصفات المليك الفتاح، التى بها قامت كل الأشياء بأمر الله عز وجل. (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) (35-النور) يرى نور أسماء الله وصفاته سارية فى عالم السموات وفى عالم الأرض، وفوق ذلك وتحت ذلك وبين ذلك - يرى بالله - وهذه اسمها الرُّوحُ القدسية. هذه مقامات الروح، وإن شئت قلت مطالع للروح، تطلع فى آفاق صنعها الله عز وجل فى أهل الأرواح ليتنعموا بمعية المليك الفتاح عز وجل، بعد فنائهم عن الأهواء، والأغراض والعلل والبواعث النفسانية، والآفات والشهوات الدنيوية، والآثار التى تتعلق بها الأجساد الطينية. الأرواح كلها موجودة فى كتاب الله، يتفضل الله بها على عباد الله، ولها الإشارة فى كتاب الله عز وجل وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) (164-الصافات). كل واحد له مقام أقامه فيه الحق عز وجل على حسب استعداده، وعلى حسب استمداه، وعلى حسب أصل سعادته فى بدء إيجاده، وعلى حسب ما كتبه الله عز وجل ليكون عليه فى ميعاده، وعلى حسب نظرات أهل قربه ووداده لهذا الإنسان - فإن الله عز وجل يرفع بنظرات الصالحين المريدين إلى أعلى المقامات، التى لا يحصولنها بالعبادات والزهادات فى ملاين السنيين، ولكن الموضوع يحتاج من المرء أن يحرك الأرواح لتخرج من سجن الأشباح، فمن أراد هذه المنازل لا بد له أن يحرك الروح ولا يتركها مسجونة فى الجسم، وسجنها يكون شديد إذا كان الإنسان كلَّ همِّه فى الفانى والدانى، فى شهوات الفرج أو البطن، أو فى جمع المال، أو فى شهوة من شهوات الدنيا الفانية، ومنشغل بها بالكلية عن اللذات الباقية، فلابد أن يحرك الأرواح حتى تخرج من السجن. ما الذى يحركها؟ لا يكون إلا بذكر الله عز وجل، فيقول فى هذا الكلام الشيخ أبو مدين الغوث رضى الله عنه وأرضاه إذا اهتزت الأرواح شوقاً إلى اللقاء تمايلت الأشباح يا جاهل المعنى عندما تهتز الأرواح تتحرك الأشباح، ما الذى يجعل الإنسان ينتقض من المجلس ويذهب لبيت الله؟ حركه الجسم أم حركته الروح التى بالجسم ؟ حركته الروح. ما الذى يجعل الإنسان لا يذوق النوم ولا الراحة، ويريد بأى كيفية أن يسافر من هنا إلى زيارة الله فى بيت الله الحرام؟ ما الذى حركه الجسم أم المعنى الذى فيه؟ ليس الجسم وإنما المعنى الذى يحرك الجسم. ما الدافع الذى جعلنا أن نترك بلادنا وأولادنا وبيوتنا وجئنا إلى هذا المكان؟ الجسم!! أبداً، ماذا يفعل الجسم؟ إنها الروح هى التى تريد أن تتمتع بالناس الروحانيين، وتنال نصيبها من الغذاء الروحانى الذى تجد فيه اللذة والسعادة التى يقول فيها الإمام الجنيد رضى الله عنه: ( نحن فى لذة لو يعلم الملوك ما نحن فيه لحاربونا عليه بالسيوف).هذه اللذة ليس لها شبيه ولا مثيل فى عالم الناس، لأنها لذة روحانية، ونعيم ربانى ملكوتى، الإنسان يذوقه ولكن لا يستطيع أن يصفه، ولا يعبر عنه اللسان، أو يترجمه القلب والجنان، لأنه نعيم من حضرة الرحمن عز وجل، وهو نعيم فوق الأكوان.فالذى يحرك هذه الأشياء الروح التى هى فينا. الرُّوحُ الإيمانية وهى التى تحركنى إلى عالم المعانى، ولكن نحن محجوبون بالمبانى، فإذا انكشفت المبانى ودخلنا عالم المعانى، وتنزهنا فى رياض التهانى فى حال الغيبة عن المبانى، تكون هذه الرُّوحُ النُورَانِيَّة، وهى نفخة من الحضرة المحمدية، خصوصية لأهل النفوس الزكية، لا تنال بعمل، ولا يصل إليها الإنسان بأمل، وإنما هى منزهة عن العلل، ينالها الإنسان بالفضل من سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) (17-الحجرات), منة من فضله وليس بعمل.فإذا أشرقت شمس الحقيقة المحمدية على أرجاء إنسان نورت أرجاؤه القصية، وصار كله ظاهراً وباطناً فى أنوار المعية، وهنا تلوح له العطية، ويجلس على موائد القرب الشهية، ويتناول من الحضرة البهية كاسات الوصال، وأفضال الواحد المتعال. ثم يمن عليه مولاه بنفخة قدسية يصير بها قائماً بالله لله، ويكون رجلاً يقول فيه مولاه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (122- الأنعام)معنا نور .. نور الإيمان، لكن هذا نور ذاتى، نور الرحمن عزوجل، به يرى نور الصفات، ونور أسماء حضرة الذات، فى مقام التجليات. فيتجلى الله عزوجل له باسمه الغفور، فيرى فى رياض هذا الاسم ما أودعه فيه الله عزوجل من أسرار وأنوار. ثم يتجلى الله عزوجل له باسمه المصور، فيرى المصور كيف يصور كل إنسان، وكل كائن، وكل ملك، وكل جان، من قبل القبل إلى أن ينتهى الزمان والمكان، إلى حيث لا حيث، لأنه يرى بنور الرحمن عزوجل ، ويرى نور البديع، ويرى نور السميع، فيسمع بسر السميع تسبيح الكائنات بمختلف اللغات، وبجميع الأصوات، ولا يسمع ذلك إلا إذا كان فى هذه المشاهد العالية الراقية مشاهد حضرة السميع عزوجل، (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (1- الإسراء)فيعيش الإنسان فى مشاهد الأسماء والصفات حتى تنمحى الأسماء والصفات فى حضرة الذات، فيكون فرداً ذاتياً ينظر بالله لله، فى غيبة عن نفسه وحظه وهواه. وهذا كمال العبيد الذى كان عليه حال النبى الفريد صلى الله عليه وسلم.نسأل الله عزوجل أن يكملنا بهذه الهبات، وأن يفتح لنا كنوز هذه والعطاءات، وأن يجعلنا من أهل هذه التجليات والمشاهدات، وأن يذيقنا جميعاً لذة برد هذه التنزلات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.********************************************