في هذه الأيام المباركة التي نحتفل فيها بذكرى الإسراء والمعراج فإنا نحتفل بها كذلك بميلاد الإمام أبى العزائم رَضِيَ الله عنه وأرضاه، لأن الصالحين دائماً ما يفعل الله لهم أشياء عجب، كأن يختار لهم كلَّ شيء طيب، لأنهم أحبابه، فالإمام أبو العزائم رَضِيَ الله عنه وأرضاه :
ولد في هذه الليلة ليلة الإسراء والمعراج، وكان أبوه يدعى الشيـخ عبد الله المحجوب، وكان رجلاً من الصالحين، ويحب الصالحين، وكان يعمل تاجر حبوب، ويسكن في بلدة (محلة أبو على) بجوار دسوق محافظة كفر الشيخ، فأخذ زوجته السيدة آمنة، فقد كان أبوه يسمى عبد الله، وأمه تسمى آمنة، والإمام أبو العزائم اسمه محمد، وهذا من التوافق الإلهي، وأبوه من ذرية سيدنا الحسين، وأمه من ذرية سيدنا الحسن، وكما قلنا: فإن أباه كان محباً للصالحين، والحديث يقول:
( أَدبُوا أَوْلاَدَكُمْ عَلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: حُب نَبِيكُمْ، وَحُب أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ )(1)
فعندما تربى الولد على حب آل البيت ولذلك عندما نربي أبناءنا على حبِّ الصالحين، فإنهم يلجأون إليهم عند الشدائد؛ فيهيئ الله لهم الأسباب ببركة دعاء الصالحين لهم، أما الآخرون فلن يفعلوا مثل ذلك.
فذهب الشيخ عبد الله المحجوب وزوجته في هذه الليلة لزيارة سيدي زغلول في رشيد ومسجد سيدي زغلول يعتبر من أكبر مساجد الجمهورية، فقد كان يحتوي على ثلاثمائة وستون عاموداً وعندما دخلت المسجد متوجهة إلى الضريح جاءتها آلام الولادة قبل الضريح بمسافة قصيرة، فأدخلوها الضريح
وأقفلوا عليها بابه لكي تلد بداخل الضريح، فولد الإمام في ضريح سيدي زغلول رَضِيَ الله عنه بمدينة رشيد.
وبعد الولادة كما تعلمون يكون هناك دم كثير فهيأ الله كتيبة من القطط ، تأتي وتلعق هذا الدم، وتجعل الأرض وكأنها غسلت بالماء والصـابون، وهذا إكرام من الله عزَّ وجلَّ .
ولم يحدث مثل ذلك إلا للإمام علي رَضِيَ الله عنه وكرم الله وجهه، فقد ولد في الكعبة، فأثناء طواف أمه السيدة فاطمة بنت أسد حول الكعبة، جاءها المخاض وبشدة، فحملوها إلى داخل الكعبة، فولدت الإمام علي داخل الكــعبة، وهي عناية الله للصالحين:
( لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ) (34سورة الزمر)
وشاءت إرادة الله أن الإمام أبا العزائم يعيش سبعين سنة، ويموت في الليلة التي ولد فيها، فكأنه أُسري بروحه من الأزل، وظل متعلقاً بالله عزَّ وجلَّ.
ولذلك كان يقول لأحبابه وإخوانه أجمعين بارك الله فيهم في كـل وقت وحين وكان ذلك وهو يخاطب الله عزَّ وجلَّ :
لولا الذين تحبُّهــم لفررت من
كل الخلائق سـائحا فـــرارا
قلبي لديك وبالبرلس هيكلي
أعلي لديك الصبَّ أعلى منارا
فقد كان رَضِيَ الله عنه وأرضاه في عناية الله في كل أنفاسه في هذه الحياة، وقد كان لا يغيب عنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم طرفة عين، وكان يأخذه الحال فيغيب عن وعيه، ويغيب عن نفسه، وينطق لسانه بكلمات كأنها الجواهر، وقد كان يقول لأصحابه:
وأحفظ إذا سمعت أذناك جوهرة
واحرص عليها تنل كل المبرآت
فوارث النــور باب للنبي به
ينال من أمَّهُ كل الكمـــالات
(أمَّه: يعني قَصَدَهُ). كما قلنا: كان يغيب عن نفسه، ويتكلم بالحكمة العالية، إما قصائد كالتي يغنيها إخـواني وقد ترك أثر من نصف مليون قصيدة وبعد أن يفرغ من القصائد، كان أحياناً يتكلم، فيكتبون خلفه كراساً؛ فيقول لهم: أسمعوني هذه القصائد، وأحيانا أخرى يقول: أسمعوني ماذا قال؟
فيض قدس غريب الشكل، وقد تعجَّب واحد من إخواننا من هذا الحـال، وقال من أين يغرف هذا الرجل؟
فرأى في المنام سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم جالساً على كرسي، وأمامه ستارة، والإمام أبو العزائم يجلس على كرسي أمام الستارة، وكلما نطق رسول الله بعبارة، يكررها الإمام أبو العزائم، كأنه يبلغ، وهذا الرجل الذي رأى هذه الرؤية كان اسمه الشيخ فريد جبر رحمة الله عليه، وكان في مدينة السويس، وعندما أصبح سافر للإمام لكي يحكي له عن الرؤيا، وعندما دخل وجد الإمام جالساً، وحوله أصحابه يلقي عليهم درس علم، وعندما لمحه الإمام قال:
لولا ولولا ولولا عهد وثيق لمولى
لكشفت عني ستاري وبحت بالسر قولا
أغيب عني وأملي لمن بسري تحلَّى
لست المغني بقولي إلا إذا الفرد أملى
بذلك حكي له ما رآه في المنام
إن كان ما قلت نوراً فالسر أعلى وأغلى
يعطى لفرد مراد عن كل غير تسلَّى
باع النفوس ومالاً حتى به صرت أولى
وعندما كان يأتيه هذا الحال، يقول لمن بجواره: اكتب، وحدث أكثر من مرة لرجال، أو واحدة من نسائه، فيقول أكتب!، فيقول لا أعرف الكتابة، فيقـول: اكتب، فيمسك القلم ويكتب بأمر الله عزَّ وجلَّ، مع أنه لم يسبق له الكتابة، وهذا تأييد الله عزَّ وجلَّ قال تعالى:
( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ) ومَنْ بعدهم؟ ( وَالَّذِينَ آمَنُوا )
أي: الذين على قدم الرسل.
( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أين؟
( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) (51سورة غافر)
فكانوا يكتبون خلفه، ليحفظ هذا الكلام.
وعندما كان يدخل لينام، كان يأتيه هذا الحال أحياناً وهو نائم، فكان من حوله من الصادقين، يدخلون ويجلسون تحت السرير، وعندما يأتيه الحال يكتبون، ومن عادة الإمام عندما ينام أن يطفئ النور، لكن عندما كان يأتيه هذا الحال كان النور الذي يعمه يضيء المكان كله، فكان الصادقون يكتبون على نوره، وقد سأل بعضهم مرة هؤلاء الصادقين، وقالوا:
لماذا تدخلون عندما ينام الإمام؟ ويظنون أن الشيخ لا يعرف عنهم شيئاً
وإذا بالشيخ ينشد ويقول :
- أنا لو أغني في الخفا لتكلمت ***أحجار هذا البيت عن كلماتي
لأنها رسالة الله:
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ )(64 سورة النساء)
وقد ترك الإمام أبو العزائم رَضِيَ الله عنه وأرضاه كتبا وقصائداً؛ ولذلك أطلب من إخواني مطالعة هذه الكتب، لأنها تحتوي على نفس عالٍ.
ولن نستطيع أن نوفِّي سيرة الإمام أبي العزائم حقها في هذا المجلس، ولمن يريد المزيد عليه أن يطالع سيرته في كتابنا "الإمام أبو العزائم المجدد الصوفي"، يشمل هذا الكتاب أحواله وأنواره وأسراره رَضِيَ الله عنه وأرضاه.
وهؤلاء الرجال الذين:
(صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) (23سورة الأحزاب)
هم من يقفون على بحر الفتح الأعظم، ويناولهم المصطفى صَلَّى الله عليه وسلَّم. ومعهم إذن صريح من حضرته، لأنهم رَضِيَ الله عنهم وأرضاهم، هم الموكلون بالنيابة عن حضرته في أزمانهم بتوزيع العطاءات على أهل الفتوحات، والأخذ بيد الأرواح التي تكاد أن تصعق فرقاً وخوفاً من أن تخرج من الدنيا ولم تنعَّم بطلعة المليك الفتاح وتلك هي النفوس والأرواح التي سيساعدونها.
أما النفوس اللقسة التي تريد الدنيا، والأرواح السافلة التي تبغي الزخارف والمطارف، فليس لهم شأن بها.
وقد كان الإمام أبو العزائم رجلاً من هؤلاء الرجال، وكان يعلم أحبابه على منهج المختار، ويدلهم على أقصر طريق يوصل للأنوار، ويضع أيديهم بعد صفاء نفوسهم، وطهارة قلوبهم على كنوز الأسرار .
وكنت تجد أحياناً رجلاً أمياً لا يقرأ ولا يكتب، لكن معه فتح الفتَّاح العليم، لأن العلم الوهبي ليس له شأن بالعلم الدنيوي، ولا بالشهادات والدرجات، ولا الوظائف والأموال:
- كم جاهلاً نال علماً من مجالسهم
- أضحى ولياً عليماً بالإشارات
- أضحى وليــا له قلبٌ ومعرفـــة
- يرى النبيَّ عيـــاناً حال خلوات
(1) عن علىٍّ رَضِيَ الله عنه فى الفتح الكبير وجامع الأحاديث، وتمامه ( فَإنَّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ فِي ظِل اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ مَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ) .
http://www.fawzyabuzeid.com/table_books.php?name=%C5%D4%D1%C7%DE%C7%CA%20%C7%E1%C5%D3%D1%C7%C1-%20%CC2&id=18&cat=4
منقول من كتاب {إشراقات الإسراء الجزء الثاني}
اضغط هنا لتحميل الكتاب مجاناً