دروس وعظات
من أنوار رحلة الإسراء
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
الحمد لله رب العالمين، العليُّ عن جميع الحركات والسكنات، المنزَّه عن الإدراك بجميع الأدوات والآلات، الذي لا يدرك ذاته إلا ذاته، ولا يعلم كنهه إلا هو، وأمره كما قال عن نفسه في كتابه:
﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (11الشورى)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قُربه من العرش كقربه من الفرش، وقربه إلى جميع الكائنات أقرب إليهم من أنفسهم، وأقرب إلى كل إنسانٍ من حبل الوريد،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، رقاه مولاه وأعلاه، ورفع قدره على جميع أنبياء الله ورسل الله، بل وجعل مكانته أعلى في القدر من ملائكة الله،
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد العالي القدر العظيم الجاهن واجعلنا أجمعين تحت لواء شفاعته في الآخرة يا ألله، واحينا في الدنيا بالعمل بشريعته وبمتابعة حضرته أجمعين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
درسٌ عظيم يعلمه لنا الرب الكريم،
فإن الله عز وجل يُعَلّم كل مؤمن أن يوجز في ألفاظه، وأن يختصر في كلمته وأن يختزل في تعبيراته، على أن تكون جامعةً لشتات أفكارهن وتلم بكل ما يدور في صدور سامعيه، لأن هذه هي بلاغة الله التي يعلمها للمؤمنين بالله جل في علاه.
ولذا فالله عز وجل يذكر رحلة ربانية، أخذ فيها الحبيب من مكة إلى بيت المقدس، وصلى بالأنبياء، ثم عُرج به إلى السماوات سماءاً تلو سماء وعرض كل سماء مسيرة خمسمائة عام كما أخبر صلى الله عليه وسلَّم، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة مائة عام، ثم وصل إلى سدرة المنتهى ووقف الأمين جبيرل واخترق الحبيب صلى الله عليه وسلَّم حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أحوى.
هذه الرحلة بما فيها من معاني وبما فيها من مناظر، وبما فيها من علوم، وبما فيها من إعتراض الأعداء والألداء والخصوم، والحجج ا التي ينبغي أن يوَاجَهوا بها.
كل ذلك جمعه الله في آية من كتاب الله:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (1الإسراء).
هذا موجز الرحلة،
ولنا تعليقٌ خفيفٌ لطيفٌ على أجزاء هذه الآية،
قد يخطر بخاطر البعض، هل الله عز وجل فوق السماوات السبع حتى يذهب إليه رسول الله؟
نفى الله هذا الخاطر من أول كلمة في الآية:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى ﴾ (1الإسراء).
وكلمة سبحان يعني التنزيه الكامل نزه ربك عز وجل عن الزمان وعن المكان وعن الحيطة وعن الحيز وعن العُلو وعن الجهة، بل نزهه عن التنزيه، لأنه ليس له نظير ولا مثيل ولا شبيه، لأنه:
﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (11الشورى).
إذاً لم كانت الرحلة إلى ما فوق السماوات السبع؟
ليظهر كرامة هذا النبي، وليُبين قدر هذا النبي على ما سواه من أنبياء الله، وعلى حتى ملائكة الله، وأنه قد بلغ في مستوى الإكرام الإلهي والتشريف الرباني، لم يبلغه نبيٌّ ولا وليٌّ ولا صفيٌّ ولا ملك، فهو صلى الله عليه وسلَّم كما قال الله له:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ (81الزخرف).
هو أول العابدين لله عز وجل.
قد يدهش البعض كيف تمت هذه الرحلة كلها في هذه اللحظات القليلة
مادام الذي قام بالمعراج هو رب العالمين، فلا حرج على فضل الله لأنه لا يُعجزه شيئ وقدرته صالحةٌ لكل شيئ ولذلك قال لنا
﴿ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ (1الإسراء).
من الذي أسرى بعبده؟
الله عز وجل، وما دام الإسراء منسوبٌ إلى حضرة الله، إذاً لابد أن ندرك ونصدق لأننا نعلم أن الله على كل شيئ قدير، ويملك مقادير السماوات والأرض، وقدرته صالحةٌ لكل شيئ،
والله كما قال عن نفسه: بكل شيئ محيط.
إختلف الناس قديماً وحديثاً ـ وزكَّى ذلك الملحدين والمستشرقين ـ هل كان الإسراء بجسده وروحه؟ أم رؤيا منامية؟
أبطلت الآية هذه الحجة بكلمة قرآنية:
﴿ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ (1الإسراء).
وكلمة العبد لا تقال إلا لجسدٍ فيه روح، فلو كان الإنسان روحاً فقط، لقال: أسرى بروح عبده، والجسد بغير روح نقول له جُثـة، أو نقول له ميت، لكن كلمة العبد تقتضي أنه كان بروحه وجسمه صلوات ربي وتسليماته عليه.
ناهيك عن أنه إذا كان الإسراء بالروح فقط فلم الاعتراض عليه؟ وأي إنسان يستطيع أن يرى في منامه ما لايستطيع أحدٌ إحصاءه وعدَّه، ولا يعترض أحدٌ عليه لأنه رؤيا منام، لكن إعتراض الكافرين لأنه كان في اليقظة وبالروح والجسم.
ناهيك عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذهب إلى بيت المقدس راكباً البراق،
وهل الروح تركب؟
وقُدم له شرابٌ وشربه،
ومر على قافلة وشرب من ماءهم، ولما جاءوا سألوهم: قالوا: كان معنا قدر ماء، فكشفناه فوجدناه قد نفد منه الماء، ولم نعرف من شربه، والروح لا تشرب، والروح لا تركب، وإنما كان ذلك لروحه وجسده صلوات ربي وتسليماته عليه.
في كم ليلة تمَّ هذا الأمر؟
قطع الله عز وجل هذه الحجة، وجاء بكلمة ليلاً نَكِرة، يعني في ليلة واحدة، ويعني في طرفٍ من ليلة، ( الذي أسرى بعبده ليلاً) يعني ليلةٌ واحدة ذهب فيها وعاد واخبر القوم بما يُستفاد، لأنه صلى الله عليه وسلَّم كان الذي تولى أمره هو رب العباد عز وجل.
من أين ذهب، وإلى أي مكان ذهب؟
من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى الذي باركنا حوله.
وما حكمة هذه الرحلة، ولماذا أخذه الله عز وجل في هذه الفُسحة الربانية؟
قال الله عز وجل مختزلاً ما لا تستطيع إثباته الأقلام:
﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا ﴾ (1الإسراء).
ليرى من آيات الله:
فقد رأى آياتٌ مُلكية في عالم الملك في الأرض،
ورأى آيات ملكوتية في ملكوت السماوات،
ورأى آيات جنانية عندما دخل إلى الجنان،
ورأى آيات تدل على العظمة الإلهية في عالم الجبروت الأعلى عندما كان قاب قوسين أو أدنى.
كيف رأى هذه الآيات مع أنه سافر في ظلمات؟
والليل في ليلة السابع والعشرين من الشهر، ليلٌ حالك لا يظهر فيه أي أثر، ولا يستطيع النظر البصر ـ فكيف رأى؟
﴿ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (1الإسراء).
أعطاه الله سمعاً من سمعه، وبصراً من بصره، لينظر إلى ما أباحه الله له من عالم الآيات، ويسمع إلى ما تعرض له من أصناف الملائكة والأنبياء والمرسلين والكائنات، وإذا كان الله يقول في الرجل الصالح من أمة الحبيب:
(ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ.).
[الإمام البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه].
إذا كان هذا يحدث مع أي عبدٍ يستقيم على منهج الخالق الكريم، فما بالكم بالرؤف الرحيم صلى الله عليه وسلَّم؟
فقد أعطاه الله سمعاً من جمال سمعه، ليسمع به الكائنات،
وأعطاه نوراً من نور إسمه البصير يُبصر به في الملكوت ويُبصر في الجنات، ويُبصر ما لا تراه الأعين بالأحداق،
فسبحان الكريم الخلاق الذي علمنا جماعة المؤمنين كيفية الحديث وكيفية التحديث عن أي أمرٍ من أمورنا في الدنيا، أو في الدين، فإن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يكون كلامهم فصل وأن يكون جدٌ ليس بالهزل، والمؤمن ليس يُكثر من الكلام، وإنما كلامه موزونٌ بالحكمة، لأنه مشى على منهج الله عز وجل وقال فيه الله:
﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾ (24الحج).
وما أحوجنا هذه الأيام إلى هذا الدرس العظيم، وقد أنبأ الله عز وجل عن وصفه الذي يُحبه الحميد المجيد، فقال فيه:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ (3) (المؤمنون).
فالمؤمن يُعرض عن اللغو بالكلية، وقد دعا النبي لمن كان على ذلك ـ نسأل الله جميعاً أن نكون من أهل ذلك، وأن ندخل في دعاء الحبيب:
(رحم الله إمرءاً قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم).
[في الصحيحين عن أنس بن مالك رضى الله عنه]
أو كما قال: أعوا الله وانتم موقنون با لإجابة.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الذي أكرمنا بهُداه،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُحب التوابين ويحب المتطهرين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، إمام الأنبياء والمرسلين والشفيع الأعظم لجميع الخلائق في أهوال يوم الدين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد ، وآله الطيبين وصحابته المباركينن وكل من تابعه على هذا الهُدَىٰ إلى يوم الدين واجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم أجمعين.
أما بعد
فيا أيها الإخوة جماعة المؤمين:
من فضل الله عزَّ وجلَّ علينا فى هذه الرحلة المباركة الميمونة، أن الله عزَّ وجلَّ عَلِمَ أننا- أمة هذا النَّبِىِّ الكريم- أقل الأمم أعمارا، ولا نستطيع أن نتعبد كما تعبدت الأمم السابقة فى طاعة الله جلَّ فى علاه، فاختصر الله عزَّ وجلَّ لنا الطاعات، وجعل فيها كمًّا عظيماً من الثواب ورفعة الدرجات، يعجز الخلق أجمعون- لو اجتمعوا- على حسابه، لأن الله عزَّ وجلَّ هو المتفضل بذلك الفضل، والله ذو الفضل العظيم.
كما طوى الله عزَّ وجلَّ لحبيبه المسافات والجهات في أنفاس محدودات وأوقات معدودات، إختصر الله عزَّ وجلَّ لنا فى هذه الرحلةالطاعات،
فرض علينا فى ليلة الإسراء الصلاة.
وفرض علينا أن نصلِّىَ لله- حتى نلحق بالأمم السابقة- خمسين صلاة فى اليوم والليلة، ولما شَفَعَ الحبيبُ لحضرته، لأنه عَلِمَ ضعفنا، وكثرة مشاغلنا، وانشغالنا بإصلاح أحوالنا ومراعاة أولادنا وبما نحتاج إليه فى حياتنا- خفَّف الله عزَّ وجلَّ عنا ببركة شفاعته، حتى قال له- ليعلمنا بهذا الفضل:
( أمضيتُ فريضتي، وخففتُ عن عبادي، وأُجزي بالحسنةِ عشرَ أمثالها) (رواه النسائي عن مالك بن صعصعة الأنصاري)
أى أن كل رجل منا إذا صلى الصلوات الخمس فى كل يوم وليلة يكتب الله له ثواب وأجر من صلَّى خمسين صلاة مقبولة لحضرة الله جلَّ فى علاه.
يا هنانا بفضل الله، ويا فرحتنا بإكرام الله، نصلى خَمْسَ صلوات وتكتب عند الله فى الأجر والثواب كمن صلَّى خمسين صلاة فى اليوم والليلة، مقبولة عند الله جلَّ فى علاه!!!
كلُّ ذلك إكراماً من الله، وتعطفاً من الله، وشفقة وحناناً من الله لهذه الأمة المرحومة التى أكرمها الله، وتقبَّل منها اليسير، ويجزيها عليه بالشئ الكثير. فاشكروا الله على نعمه يزدكم، واحمدوه على عطاياه يهبكم .....
🤲🤲ثم الدعاء 🤲🤲
وللمزيد من الخطب
متابعة صفحة الخطب الإلهامية
أو
الدخول على موقع فقضيلة الشيخ
فوزي محمد ابوزيد
من أنوار رحلة الإسراء
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
الحمد لله رب العالمين، العليُّ عن جميع الحركات والسكنات، المنزَّه عن الإدراك بجميع الأدوات والآلات، الذي لا يدرك ذاته إلا ذاته، ولا يعلم كنهه إلا هو، وأمره كما قال عن نفسه في كتابه:
﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (11الشورى)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قُربه من العرش كقربه من الفرش، وقربه إلى جميع الكائنات أقرب إليهم من أنفسهم، وأقرب إلى كل إنسانٍ من حبل الوريد،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، رقاه مولاه وأعلاه، ورفع قدره على جميع أنبياء الله ورسل الله، بل وجعل مكانته أعلى في القدر من ملائكة الله،
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد العالي القدر العظيم الجاهن واجعلنا أجمعين تحت لواء شفاعته في الآخرة يا ألله، واحينا في الدنيا بالعمل بشريعته وبمتابعة حضرته أجمعين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
درسٌ عظيم يعلمه لنا الرب الكريم،
فإن الله عز وجل يُعَلّم كل مؤمن أن يوجز في ألفاظه، وأن يختصر في كلمته وأن يختزل في تعبيراته، على أن تكون جامعةً لشتات أفكارهن وتلم بكل ما يدور في صدور سامعيه، لأن هذه هي بلاغة الله التي يعلمها للمؤمنين بالله جل في علاه.
ولذا فالله عز وجل يذكر رحلة ربانية، أخذ فيها الحبيب من مكة إلى بيت المقدس، وصلى بالأنبياء، ثم عُرج به إلى السماوات سماءاً تلو سماء وعرض كل سماء مسيرة خمسمائة عام كما أخبر صلى الله عليه وسلَّم، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة مائة عام، ثم وصل إلى سدرة المنتهى ووقف الأمين جبيرل واخترق الحبيب صلى الله عليه وسلَّم حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أحوى.
هذه الرحلة بما فيها من معاني وبما فيها من مناظر، وبما فيها من علوم، وبما فيها من إعتراض الأعداء والألداء والخصوم، والحجج ا التي ينبغي أن يوَاجَهوا بها.
كل ذلك جمعه الله في آية من كتاب الله:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (1الإسراء).
هذا موجز الرحلة،
ولنا تعليقٌ خفيفٌ لطيفٌ على أجزاء هذه الآية،
قد يخطر بخاطر البعض، هل الله عز وجل فوق السماوات السبع حتى يذهب إليه رسول الله؟
نفى الله هذا الخاطر من أول كلمة في الآية:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى ﴾ (1الإسراء).
وكلمة سبحان يعني التنزيه الكامل نزه ربك عز وجل عن الزمان وعن المكان وعن الحيطة وعن الحيز وعن العُلو وعن الجهة، بل نزهه عن التنزيه، لأنه ليس له نظير ولا مثيل ولا شبيه، لأنه:
﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (11الشورى).
إذاً لم كانت الرحلة إلى ما فوق السماوات السبع؟
ليظهر كرامة هذا النبي، وليُبين قدر هذا النبي على ما سواه من أنبياء الله، وعلى حتى ملائكة الله، وأنه قد بلغ في مستوى الإكرام الإلهي والتشريف الرباني، لم يبلغه نبيٌّ ولا وليٌّ ولا صفيٌّ ولا ملك، فهو صلى الله عليه وسلَّم كما قال الله له:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ (81الزخرف).
هو أول العابدين لله عز وجل.
قد يدهش البعض كيف تمت هذه الرحلة كلها في هذه اللحظات القليلة
مادام الذي قام بالمعراج هو رب العالمين، فلا حرج على فضل الله لأنه لا يُعجزه شيئ وقدرته صالحةٌ لكل شيئ ولذلك قال لنا
﴿ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ (1الإسراء).
من الذي أسرى بعبده؟
الله عز وجل، وما دام الإسراء منسوبٌ إلى حضرة الله، إذاً لابد أن ندرك ونصدق لأننا نعلم أن الله على كل شيئ قدير، ويملك مقادير السماوات والأرض، وقدرته صالحةٌ لكل شيئ،
والله كما قال عن نفسه: بكل شيئ محيط.
إختلف الناس قديماً وحديثاً ـ وزكَّى ذلك الملحدين والمستشرقين ـ هل كان الإسراء بجسده وروحه؟ أم رؤيا منامية؟
أبطلت الآية هذه الحجة بكلمة قرآنية:
﴿ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ (1الإسراء).
وكلمة العبد لا تقال إلا لجسدٍ فيه روح، فلو كان الإنسان روحاً فقط، لقال: أسرى بروح عبده، والجسد بغير روح نقول له جُثـة، أو نقول له ميت، لكن كلمة العبد تقتضي أنه كان بروحه وجسمه صلوات ربي وتسليماته عليه.
ناهيك عن أنه إذا كان الإسراء بالروح فقط فلم الاعتراض عليه؟ وأي إنسان يستطيع أن يرى في منامه ما لايستطيع أحدٌ إحصاءه وعدَّه، ولا يعترض أحدٌ عليه لأنه رؤيا منام، لكن إعتراض الكافرين لأنه كان في اليقظة وبالروح والجسم.
ناهيك عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذهب إلى بيت المقدس راكباً البراق،
وهل الروح تركب؟
وقُدم له شرابٌ وشربه،
ومر على قافلة وشرب من ماءهم، ولما جاءوا سألوهم: قالوا: كان معنا قدر ماء، فكشفناه فوجدناه قد نفد منه الماء، ولم نعرف من شربه، والروح لا تشرب، والروح لا تركب، وإنما كان ذلك لروحه وجسده صلوات ربي وتسليماته عليه.
في كم ليلة تمَّ هذا الأمر؟
قطع الله عز وجل هذه الحجة، وجاء بكلمة ليلاً نَكِرة، يعني في ليلة واحدة، ويعني في طرفٍ من ليلة، ( الذي أسرى بعبده ليلاً) يعني ليلةٌ واحدة ذهب فيها وعاد واخبر القوم بما يُستفاد، لأنه صلى الله عليه وسلَّم كان الذي تولى أمره هو رب العباد عز وجل.
من أين ذهب، وإلى أي مكان ذهب؟
من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى الذي باركنا حوله.
وما حكمة هذه الرحلة، ولماذا أخذه الله عز وجل في هذه الفُسحة الربانية؟
قال الله عز وجل مختزلاً ما لا تستطيع إثباته الأقلام:
﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا ﴾ (1الإسراء).
ليرى من آيات الله:
فقد رأى آياتٌ مُلكية في عالم الملك في الأرض،
ورأى آيات ملكوتية في ملكوت السماوات،
ورأى آيات جنانية عندما دخل إلى الجنان،
ورأى آيات تدل على العظمة الإلهية في عالم الجبروت الأعلى عندما كان قاب قوسين أو أدنى.
كيف رأى هذه الآيات مع أنه سافر في ظلمات؟
والليل في ليلة السابع والعشرين من الشهر، ليلٌ حالك لا يظهر فيه أي أثر، ولا يستطيع النظر البصر ـ فكيف رأى؟
﴿ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (1الإسراء).
أعطاه الله سمعاً من سمعه، وبصراً من بصره، لينظر إلى ما أباحه الله له من عالم الآيات، ويسمع إلى ما تعرض له من أصناف الملائكة والأنبياء والمرسلين والكائنات، وإذا كان الله يقول في الرجل الصالح من أمة الحبيب:
(ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ.).
[الإمام البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه].
إذا كان هذا يحدث مع أي عبدٍ يستقيم على منهج الخالق الكريم، فما بالكم بالرؤف الرحيم صلى الله عليه وسلَّم؟
فقد أعطاه الله سمعاً من جمال سمعه، ليسمع به الكائنات،
وأعطاه نوراً من نور إسمه البصير يُبصر به في الملكوت ويُبصر في الجنات، ويُبصر ما لا تراه الأعين بالأحداق،
فسبحان الكريم الخلاق الذي علمنا جماعة المؤمنين كيفية الحديث وكيفية التحديث عن أي أمرٍ من أمورنا في الدنيا، أو في الدين، فإن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يكون كلامهم فصل وأن يكون جدٌ ليس بالهزل، والمؤمن ليس يُكثر من الكلام، وإنما كلامه موزونٌ بالحكمة، لأنه مشى على منهج الله عز وجل وقال فيه الله:
﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾ (24الحج).
وما أحوجنا هذه الأيام إلى هذا الدرس العظيم، وقد أنبأ الله عز وجل عن وصفه الذي يُحبه الحميد المجيد، فقال فيه:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ (3) (المؤمنون).
فالمؤمن يُعرض عن اللغو بالكلية، وقد دعا النبي لمن كان على ذلك ـ نسأل الله جميعاً أن نكون من أهل ذلك، وأن ندخل في دعاء الحبيب:
(رحم الله إمرءاً قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم).
[في الصحيحين عن أنس بن مالك رضى الله عنه]
أو كما قال: أعوا الله وانتم موقنون با لإجابة.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الذي أكرمنا بهُداه،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُحب التوابين ويحب المتطهرين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، إمام الأنبياء والمرسلين والشفيع الأعظم لجميع الخلائق في أهوال يوم الدين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد ، وآله الطيبين وصحابته المباركينن وكل من تابعه على هذا الهُدَىٰ إلى يوم الدين واجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم أجمعين.
أما بعد
فيا أيها الإخوة جماعة المؤمين:
من فضل الله عزَّ وجلَّ علينا فى هذه الرحلة المباركة الميمونة، أن الله عزَّ وجلَّ عَلِمَ أننا- أمة هذا النَّبِىِّ الكريم- أقل الأمم أعمارا، ولا نستطيع أن نتعبد كما تعبدت الأمم السابقة فى طاعة الله جلَّ فى علاه، فاختصر الله عزَّ وجلَّ لنا الطاعات، وجعل فيها كمًّا عظيماً من الثواب ورفعة الدرجات، يعجز الخلق أجمعون- لو اجتمعوا- على حسابه، لأن الله عزَّ وجلَّ هو المتفضل بذلك الفضل، والله ذو الفضل العظيم.
كما طوى الله عزَّ وجلَّ لحبيبه المسافات والجهات في أنفاس محدودات وأوقات معدودات، إختصر الله عزَّ وجلَّ لنا فى هذه الرحلةالطاعات،
فرض علينا فى ليلة الإسراء الصلاة.
وفرض علينا أن نصلِّىَ لله- حتى نلحق بالأمم السابقة- خمسين صلاة فى اليوم والليلة، ولما شَفَعَ الحبيبُ لحضرته، لأنه عَلِمَ ضعفنا، وكثرة مشاغلنا، وانشغالنا بإصلاح أحوالنا ومراعاة أولادنا وبما نحتاج إليه فى حياتنا- خفَّف الله عزَّ وجلَّ عنا ببركة شفاعته، حتى قال له- ليعلمنا بهذا الفضل:
( أمضيتُ فريضتي، وخففتُ عن عبادي، وأُجزي بالحسنةِ عشرَ أمثالها) (رواه النسائي عن مالك بن صعصعة الأنصاري)
أى أن كل رجل منا إذا صلى الصلوات الخمس فى كل يوم وليلة يكتب الله له ثواب وأجر من صلَّى خمسين صلاة مقبولة لحضرة الله جلَّ فى علاه.
يا هنانا بفضل الله، ويا فرحتنا بإكرام الله، نصلى خَمْسَ صلوات وتكتب عند الله فى الأجر والثواب كمن صلَّى خمسين صلاة فى اليوم والليلة، مقبولة عند الله جلَّ فى علاه!!!
كلُّ ذلك إكراماً من الله، وتعطفاً من الله، وشفقة وحناناً من الله لهذه الأمة المرحومة التى أكرمها الله، وتقبَّل منها اليسير، ويجزيها عليه بالشئ الكثير. فاشكروا الله على نعمه يزدكم، واحمدوه على عطاياه يهبكم .....
🤲🤲ثم الدعاء 🤲🤲
وللمزيد من الخطب
متابعة صفحة الخطب الإلهامية
أو
الدخول على موقع فقضيلة الشيخ
فوزي محمد ابوزيد