الفرج بعد الشدة
من دروس وعبر الإسراء والمعراج
خطبة جمعة لفضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
**************
الحمد لله ربِّ العالمين، مَنْ توكَّل عليه كفاه، ومَنْ تحصَّن بحضرته حصَّنه ووقاه، ومَنْ سأله أعطاه، ومَنْ دعاه عزَّ وجلَّ أجاب دعاه.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليٌّ عن الزمان، مُنَزَّهٌ عن المكان والحيطة والإمكان، لا تلحقه العبارات، ولا تحيط به الإشارات، ولا يعبر عن حضرته معبِّرٌ إلا بما ورد في صريح الآيات :
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [11الشورى].
وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عَبْدُ الله ورسولُه، جعله الله عزَّ وجلَّ رحمةً مهداة، ونعمةً مسداة، وأسوةً طيِّبةً وقدوةً حسنةً لكلِّ مَنْ آمن بالله. رفع شأنه، ورفع ذكره، ووضع وزره، وأثنى عليه في خطابه له ولنا: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [1: 4الشرح].
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد؛ صلاة تشرح بها لنا الصدور، وتيسر بها لنا الأمور، وتزيد بها الإيمان في قلوبنا وتجعله نورًا على نور، وتمنحنا بها رضوانك ومغفرتك، وتجعلنا يوم القيامة من أهل الحبور والسرور، آمين .. آمين يا ربَّ العالمين.
أما بعد ...
فيا أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
ونحن في أيام شهر رجب والذي أسرى فيه الله بالحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، نريد أن نأخذ من هذه القصة الإلهية عبرةً لنا في نفوسنا، ودرسًا لنا في حياتنا نتمسك بهديه، ونسير على ضوئه، فيصلح الله عزَّ وجلَّ به جميع شئوننا، لأن قصص الأنبياء والمرسلين يقول الله عزَّ وجلَّ عنها لنا أجمعين:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [111يوسف].
وسنأخذ عبرةً واحدة على قَدْرِ ما يسمح به الوقت حتى لا نطيل عليكم:
النبيُّ صلى الله عليه وسلم طلب منه مولاه أن يبلِّغ دعوة الله، فقام بهذا الأمر لا يرجو من ورائه إلاَّ رضا الله جلَّ في علاه، لا يريد بسبب دعوة الله منصباً دنيوياً، ولا مالاً فانياً، ولا أحدوثةً أو سمعةً أو شهرةً عند الناس، وإنما يريد به رضا الله جلَّ في علاه،
ولما وجد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن قومه لا يستجيبون لدعوته، بل يشتطون في محاربته ومحاولة القضاء على رسالته؛ بَحَثَ عن مكانٍ آخر يذهب إليه لينشر دعوة الله ودِينَ الله عزَّ وجلَّ، فذهب إلى الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام، ويشرح لهم نور مبادئ القرآن، وأحكام التعاليم الإلهية التي أرسله به خالق الأرض والزمان والمكان وهو الرحمن عزَّ وجلَّ، ما كان منهم إلاَّ أن كذبوه، بل زادوا على ذلك وآذوه، وأمروا - بعد أن مكث فيهم أسبوعاً يدعوهم إلى الله - أمروه أن يخرج من مدينتهم، وأمروا خَدَمَهُمْ وعَبِيدَهُمْ أن يقفوا صفين على جانبي الطريق، ويمسكون بالأحجار ويقذفونه صلوات ربي وسلامه عليه بالأحجار وهو خارج من قريتهم ومدينتهم، حتى دميت قدماه، حتى لم يستطع السير عليها من شدة الألم، وذلك لأنه يدعو الخلق إلى الله جلَّ وعلا.
ورغم كل ما لاقاه صلى الله عليه وسلم لم يضعف يقينه بالله ولم يقل أمله ولا رجاؤه في الله
ماذا فعل؟
وهذا الدرس الذي يجب ان نتعلمه
🤲لجأ إلى الله، ودعا الله جلَّ في علاه؛ لأن الله قال للمؤمنين أجمعين في أي ضيق، وفي أي شدة، وفي أي ملمة، وفي أي نكبة، وفي أي همٍّ، وفي أي غمّ، وفي أي ضنك:
🤲🤲﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [60غافر].
وتدعو الله جلَّ في علاه وتضرع إليه. وكان مما قاله:
{ اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك (الطبراني وابن عدي وابن عساكر عن عبد الله بن جعفر)
ماذا فعل وصنع به مولاه؟!!
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [2، 3الطلاق].
قيَّض الله عزَّ وجلَّ له رجلاً في هذه المدينة، ذهب إليه بقطف من العنب، فأخذه صلى الله عليه وسلم وقال: بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال الرجل إن هذه الكلمة لا تقال في هذه الأرض، ولا في هذه البلاد: فقال صلى الله عليه وسلم: ومن أي بلد أنت؟
قال: من نينوى - قرية قريبة من الموصل في بلاد العراق - قال: بلدة أخي يونس.
فقال الرجل لقد تركت نينوى وليس فيها أربعة نفر يعرفون شيئاً عن يونس وهم أكابر البلدة وشيوخها، فقال: أنه نبيٌّ وأنا نبيّ، فما كان من الرجل إلا أن ألقى نفسه على أقدامه، وأخذ يقبل أقدامه ويمسح بها وجهه وأعلن إيمانه بالله، وكان مؤمنا بالله جلَّ في علاه) (سيرة ابن هشام)
حتى لا يخرج النَّبِيُّ خائبا من سفرته، وأنه رجع برجل يؤمن بالله عزَّ وجلَّ. فجبره الله وطيِّب خاطره، وآمن بالنَّبِيِّ رجل واحد، فقد فاز بالفوز العظيم، والأجر الكبير لأنه صلى الله عليه وسلم يقول
{لأن يهدي بك الله رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم} وفي رواية ( خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت ) (البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه)
ثم سار النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خطواته في طريق رجوعه إلى مكة، وأخذ يتلو كتاب الله عزَّ وجلَّ، فإذا بطائفة من الجِنِّ من بلدة تسمى نصيبين من بلاد الشام يستمعون إلى هذا القرآن، فقالوا كما قال الرحمن:
﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ [1، 2الجن]. فجاءوا إلى حضرة النَّبِيِّ وأعلنوا إيمانهم بدعوته وتصديقهم برسالته، وأنهم رسلٌ إلى قومهم سيدعونهم جميعاً إلى هذا الدِّين ليكونوا مسلمين، فكان ذلك فتحاً لدعوة سيد الأولين والآخرين في عوالم الجِنِّ،
فقد كان إلى هذا الوقت يدعو في عالم الإنس، ففتح الله له عوالم الجنِّ ليؤمنوا به أجمعين، لأن دعوته للإنس والجنِّ والملائكة وكل الخلق أجمعين، قال له الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [28سبأ].
فكان في هذا التقرير الإلهي، والإخراج الرباني، شرحاً لصدره، وتفريجاً لكربه، وكأن الله يقول له بفعله:
إن لم يؤمن لك الإنس فقد آمن بك عوالم الجن، لأنك رسول الثقلين ولست مرسلاً للإنس فقط،
ثم زاده الله عزَّ وجلَّ تكريمًا وتعظيما، وبيَّن جلَّ جلاله مكانته، ورقَّي درجته وعظيم نبوته ورسالته، فأخذه في رحلة الإسراء والمعراج، وجَمَعَ له النبيِّين والمرسلين السابقين أجمعين، وأمسك بيده الأمين جبريل - بعد أن اصطف النبيون والمرسلون - وقال: يا محمد تقدَّم فصلِّ بهم فأنت الإمام لهم.
فأعلمه الله عزَّ وجلَّ وأعلمهم أنه إمام النبيِّين، وزعيم المرسلين، لأنه هو الذي صلَّى بهم إمامًا، وصلوا خلفه أجمعين. بل وزاده فرفعه إلى العوالم العلوية، وكاشفه بالملائكة في كلِّ العوالم السماوية، ذلك ليعلم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم قَدْرَهُ عند ربِّه، ومكانته عند الله عزَّ وجلَّ. وصدق الله إذ يقول:
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [113النساء].
قال صلى الله عليه وسلم:
(أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر) (روى الترمذي والدارمي وأحمد عن أنس رضي الله عنه)
او كما قال
🤲ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين الذي اختارنا لدينه وجعلنا من عباده المسلمين، وزادنا من فيض فضله وبرِّه وزيَّن لنا الإيمان في قلوبنا، وملأ قلوبنا بالنور واليقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من أحبَّه رضي له الإسلام دينا، والحبيب المصطفى رسولا، والقرآن كتابا، ووفَّقه في حياته لما يحبُّه ويرضاه، وختم له بخاتمة السعادة يوم يلقاه. نسأل الله أن نكون من أهل هذا المقام أجمعين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، جعله الله عزَّ وجلَّ فارقاً بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال.
اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هداه ووفقنا للعمل بشرعه في الدنيا يا الله وألحقنا به يوم لقائه واجعلنا من أهل جواره في جنات النعيم أجمعين.
أما بعد فيا أيها الأخوة المؤمنون:
الدرس والعظة والعبرة الذي نأخذها مما ذكرناه، أن المؤمن والمسلم إذا أراد أن يعمل عملاً، أو أراد شيئاً، أو أراد تحقيق أمر، لابد أن يجعل نيته في هذا الأمر لله جلَّ في علاه.
لا ينوي عملاً إن كان لنفسه أو كان لأهل بيته أو كان لعائلته أو كان لمجتمعه، أو كان لوطنه، إلا إذا كانت النية في هذا العمل
أولاً إرضاء الله، ابتغاء وجه الله، ثم بعد ذلك خُلق الله على اختلاف صورهم وأجسامهم.
فإذا صدق في هذه النيَّة، وجعله قوله وفعله وعمله كلَّه لله أولاً، ثم لخلق الله ثانياً، أعانه الله وقوَّاه، وبولايته تولاه، وجعل له دائماً وأبداً توفيقاً وحفظاَ وصيانة من الله، فلا يخيب مسعاه، ولا يرد رجاءه الذي ارتجاه، ولا يستغلق في وجهه أبواب الأمل في تحقيق ما يتمناه، لأنه يريد بعمله وقوله وفعله وجه الله عزَّ وجل،
وذاك هو الإخلاص الذي يعلمه لنا الله في القرآن، وكان يسير عليه النبي العدنان، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى في حديثه القدسي: ﴿الإخلاص سر من أسراري أستودعه قلب من أحب من عبادي لا يطلع عليه شيطان فيفسده أو ملكا فيكتبه﴾ (البخاري عن جابر رضي الله عنه)
ويقول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: {يا أبا ذر، أخلص يكفك القليل من العمل} (أحمد والبيهقي عن أبي ذر رضي الله عنه)
فإذا أخلص المرء العمل لله يعني جعل نيته في أي عمل أن تكون لله، حقَّق الله له الأمل، وبلَّغه ما يرجوه من وراء هذا العمل، وجنَّبه كل ذلل.
وورد أن رجلاً وامرأة متزوجان حدث بينهما خلافٌ شديد، فذهبا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: انتخبوا رجلاً من أهلها ورجلاً من أهله يقوما بالإصلاح بينهما، فانتدب الرجلين، وذهبا للصلح بينهما، ثم رجعا ولم يتم الصلح. فقال عمر رضي الله عنه: هل أتممتم الصلح بينهما؟. قالا: لا، قال: إنكما لم تكونوا تريدا صلحاً!! لأن الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [35النساء].
توبا إلى الله، وجدِّدا النية، واجعلوا نيتكم إصلاح ما بينهما، ثم اذهبا. فذهبا وعادا مستبشرين، فقالا: أبشر يا أمير المؤمنين فقد اصطلحا!! فعلم المؤمنون أجمعون أن الصلح يكون حسب النوايا.
بل إن الأرزاق في الأرض تكون على حسب النوايا قال فيها الله: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾ [58الأعراف].
(إذا صدقت النيَّة حقَّقت الأمنية)،
أي أمنية يريدها المرء في دنياه وأخراه لابد أولاً من إخلاص القصد، ويتحقق من طِيبِ النية، وطِيبُ النية أن يريد بها وجه الله ورضاء الله والدار الآخرة، لا يريد بها شهرة ولا سمعة ولا رياء، ولا مالاً ولا جاهاً ولا منصباً، ولا شيئا من خلق الله، وإنما يريد بها وجه الله جلاَّ في علاه.
من تحقق بذلك فله في الدنيا كل ما يريده من الله:
﴿لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [34الزمر]،
وله في الآخرة كل ما يرجوه من مولاه!! لأنه صدق مع الله فصدق الله معه.
🤲نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوحد شمل أمة الإسلام وأن يجمع شتاتها وأن يجعلنا في كل ربوع الوطن أخوة متكاتفين متعاونين متباذلين عاملين بالبر والتقوى كما يحبه الله منا في كل وقت وحين.
🤲🤲ثم الدعاء 🤲🤲
وللمزيد من الخطب
متابعة صفحة الخطب الإلهامية
أو
الدخول على موقع فضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
من دروس وعبر الإسراء والمعراج
خطبة جمعة لفضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
**************
الحمد لله ربِّ العالمين، مَنْ توكَّل عليه كفاه، ومَنْ تحصَّن بحضرته حصَّنه ووقاه، ومَنْ سأله أعطاه، ومَنْ دعاه عزَّ وجلَّ أجاب دعاه.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليٌّ عن الزمان، مُنَزَّهٌ عن المكان والحيطة والإمكان، لا تلحقه العبارات، ولا تحيط به الإشارات، ولا يعبر عن حضرته معبِّرٌ إلا بما ورد في صريح الآيات :
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [11الشورى].
وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عَبْدُ الله ورسولُه، جعله الله عزَّ وجلَّ رحمةً مهداة، ونعمةً مسداة، وأسوةً طيِّبةً وقدوةً حسنةً لكلِّ مَنْ آمن بالله. رفع شأنه، ورفع ذكره، ووضع وزره، وأثنى عليه في خطابه له ولنا: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [1: 4الشرح].
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد؛ صلاة تشرح بها لنا الصدور، وتيسر بها لنا الأمور، وتزيد بها الإيمان في قلوبنا وتجعله نورًا على نور، وتمنحنا بها رضوانك ومغفرتك، وتجعلنا يوم القيامة من أهل الحبور والسرور، آمين .. آمين يا ربَّ العالمين.
أما بعد ...
فيا أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
ونحن في أيام شهر رجب والذي أسرى فيه الله بالحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، نريد أن نأخذ من هذه القصة الإلهية عبرةً لنا في نفوسنا، ودرسًا لنا في حياتنا نتمسك بهديه، ونسير على ضوئه، فيصلح الله عزَّ وجلَّ به جميع شئوننا، لأن قصص الأنبياء والمرسلين يقول الله عزَّ وجلَّ عنها لنا أجمعين:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [111يوسف].
وسنأخذ عبرةً واحدة على قَدْرِ ما يسمح به الوقت حتى لا نطيل عليكم:
النبيُّ صلى الله عليه وسلم طلب منه مولاه أن يبلِّغ دعوة الله، فقام بهذا الأمر لا يرجو من ورائه إلاَّ رضا الله جلَّ في علاه، لا يريد بسبب دعوة الله منصباً دنيوياً، ولا مالاً فانياً، ولا أحدوثةً أو سمعةً أو شهرةً عند الناس، وإنما يريد به رضا الله جلَّ في علاه،
ولما وجد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن قومه لا يستجيبون لدعوته، بل يشتطون في محاربته ومحاولة القضاء على رسالته؛ بَحَثَ عن مكانٍ آخر يذهب إليه لينشر دعوة الله ودِينَ الله عزَّ وجلَّ، فذهب إلى الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام، ويشرح لهم نور مبادئ القرآن، وأحكام التعاليم الإلهية التي أرسله به خالق الأرض والزمان والمكان وهو الرحمن عزَّ وجلَّ، ما كان منهم إلاَّ أن كذبوه، بل زادوا على ذلك وآذوه، وأمروا - بعد أن مكث فيهم أسبوعاً يدعوهم إلى الله - أمروه أن يخرج من مدينتهم، وأمروا خَدَمَهُمْ وعَبِيدَهُمْ أن يقفوا صفين على جانبي الطريق، ويمسكون بالأحجار ويقذفونه صلوات ربي وسلامه عليه بالأحجار وهو خارج من قريتهم ومدينتهم، حتى دميت قدماه، حتى لم يستطع السير عليها من شدة الألم، وذلك لأنه يدعو الخلق إلى الله جلَّ وعلا.
ورغم كل ما لاقاه صلى الله عليه وسلم لم يضعف يقينه بالله ولم يقل أمله ولا رجاؤه في الله
ماذا فعل؟
وهذا الدرس الذي يجب ان نتعلمه
🤲لجأ إلى الله، ودعا الله جلَّ في علاه؛ لأن الله قال للمؤمنين أجمعين في أي ضيق، وفي أي شدة، وفي أي ملمة، وفي أي نكبة، وفي أي همٍّ، وفي أي غمّ، وفي أي ضنك:
🤲🤲﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [60غافر].
وتدعو الله جلَّ في علاه وتضرع إليه. وكان مما قاله:
{ اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك (الطبراني وابن عدي وابن عساكر عن عبد الله بن جعفر)
ماذا فعل وصنع به مولاه؟!!
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [2، 3الطلاق].
قيَّض الله عزَّ وجلَّ له رجلاً في هذه المدينة، ذهب إليه بقطف من العنب، فأخذه صلى الله عليه وسلم وقال: بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال الرجل إن هذه الكلمة لا تقال في هذه الأرض، ولا في هذه البلاد: فقال صلى الله عليه وسلم: ومن أي بلد أنت؟
قال: من نينوى - قرية قريبة من الموصل في بلاد العراق - قال: بلدة أخي يونس.
فقال الرجل لقد تركت نينوى وليس فيها أربعة نفر يعرفون شيئاً عن يونس وهم أكابر البلدة وشيوخها، فقال: أنه نبيٌّ وأنا نبيّ، فما كان من الرجل إلا أن ألقى نفسه على أقدامه، وأخذ يقبل أقدامه ويمسح بها وجهه وأعلن إيمانه بالله، وكان مؤمنا بالله جلَّ في علاه) (سيرة ابن هشام)
حتى لا يخرج النَّبِيُّ خائبا من سفرته، وأنه رجع برجل يؤمن بالله عزَّ وجلَّ. فجبره الله وطيِّب خاطره، وآمن بالنَّبِيِّ رجل واحد، فقد فاز بالفوز العظيم، والأجر الكبير لأنه صلى الله عليه وسلم يقول
{لأن يهدي بك الله رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم} وفي رواية ( خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت ) (البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه)
ثم سار النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خطواته في طريق رجوعه إلى مكة، وأخذ يتلو كتاب الله عزَّ وجلَّ، فإذا بطائفة من الجِنِّ من بلدة تسمى نصيبين من بلاد الشام يستمعون إلى هذا القرآن، فقالوا كما قال الرحمن:
﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ [1، 2الجن]. فجاءوا إلى حضرة النَّبِيِّ وأعلنوا إيمانهم بدعوته وتصديقهم برسالته، وأنهم رسلٌ إلى قومهم سيدعونهم جميعاً إلى هذا الدِّين ليكونوا مسلمين، فكان ذلك فتحاً لدعوة سيد الأولين والآخرين في عوالم الجِنِّ،
فقد كان إلى هذا الوقت يدعو في عالم الإنس، ففتح الله له عوالم الجنِّ ليؤمنوا به أجمعين، لأن دعوته للإنس والجنِّ والملائكة وكل الخلق أجمعين، قال له الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [28سبأ].
فكان في هذا التقرير الإلهي، والإخراج الرباني، شرحاً لصدره، وتفريجاً لكربه، وكأن الله يقول له بفعله:
إن لم يؤمن لك الإنس فقد آمن بك عوالم الجن، لأنك رسول الثقلين ولست مرسلاً للإنس فقط،
ثم زاده الله عزَّ وجلَّ تكريمًا وتعظيما، وبيَّن جلَّ جلاله مكانته، ورقَّي درجته وعظيم نبوته ورسالته، فأخذه في رحلة الإسراء والمعراج، وجَمَعَ له النبيِّين والمرسلين السابقين أجمعين، وأمسك بيده الأمين جبريل - بعد أن اصطف النبيون والمرسلون - وقال: يا محمد تقدَّم فصلِّ بهم فأنت الإمام لهم.
فأعلمه الله عزَّ وجلَّ وأعلمهم أنه إمام النبيِّين، وزعيم المرسلين، لأنه هو الذي صلَّى بهم إمامًا، وصلوا خلفه أجمعين. بل وزاده فرفعه إلى العوالم العلوية، وكاشفه بالملائكة في كلِّ العوالم السماوية، ذلك ليعلم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم قَدْرَهُ عند ربِّه، ومكانته عند الله عزَّ وجلَّ. وصدق الله إذ يقول:
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [113النساء].
قال صلى الله عليه وسلم:
(أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر) (روى الترمذي والدارمي وأحمد عن أنس رضي الله عنه)
او كما قال
🤲ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين الذي اختارنا لدينه وجعلنا من عباده المسلمين، وزادنا من فيض فضله وبرِّه وزيَّن لنا الإيمان في قلوبنا، وملأ قلوبنا بالنور واليقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من أحبَّه رضي له الإسلام دينا، والحبيب المصطفى رسولا، والقرآن كتابا، ووفَّقه في حياته لما يحبُّه ويرضاه، وختم له بخاتمة السعادة يوم يلقاه. نسأل الله أن نكون من أهل هذا المقام أجمعين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، جعله الله عزَّ وجلَّ فارقاً بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال.
اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هداه ووفقنا للعمل بشرعه في الدنيا يا الله وألحقنا به يوم لقائه واجعلنا من أهل جواره في جنات النعيم أجمعين.
أما بعد فيا أيها الأخوة المؤمنون:
الدرس والعظة والعبرة الذي نأخذها مما ذكرناه، أن المؤمن والمسلم إذا أراد أن يعمل عملاً، أو أراد شيئاً، أو أراد تحقيق أمر، لابد أن يجعل نيته في هذا الأمر لله جلَّ في علاه.
لا ينوي عملاً إن كان لنفسه أو كان لأهل بيته أو كان لعائلته أو كان لمجتمعه، أو كان لوطنه، إلا إذا كانت النية في هذا العمل
أولاً إرضاء الله، ابتغاء وجه الله، ثم بعد ذلك خُلق الله على اختلاف صورهم وأجسامهم.
فإذا صدق في هذه النيَّة، وجعله قوله وفعله وعمله كلَّه لله أولاً، ثم لخلق الله ثانياً، أعانه الله وقوَّاه، وبولايته تولاه، وجعل له دائماً وأبداً توفيقاً وحفظاَ وصيانة من الله، فلا يخيب مسعاه، ولا يرد رجاءه الذي ارتجاه، ولا يستغلق في وجهه أبواب الأمل في تحقيق ما يتمناه، لأنه يريد بعمله وقوله وفعله وجه الله عزَّ وجل،
وذاك هو الإخلاص الذي يعلمه لنا الله في القرآن، وكان يسير عليه النبي العدنان، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى في حديثه القدسي: ﴿الإخلاص سر من أسراري أستودعه قلب من أحب من عبادي لا يطلع عليه شيطان فيفسده أو ملكا فيكتبه﴾ (البخاري عن جابر رضي الله عنه)
ويقول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: {يا أبا ذر، أخلص يكفك القليل من العمل} (أحمد والبيهقي عن أبي ذر رضي الله عنه)
فإذا أخلص المرء العمل لله يعني جعل نيته في أي عمل أن تكون لله، حقَّق الله له الأمل، وبلَّغه ما يرجوه من وراء هذا العمل، وجنَّبه كل ذلل.
وورد أن رجلاً وامرأة متزوجان حدث بينهما خلافٌ شديد، فذهبا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: انتخبوا رجلاً من أهلها ورجلاً من أهله يقوما بالإصلاح بينهما، فانتدب الرجلين، وذهبا للصلح بينهما، ثم رجعا ولم يتم الصلح. فقال عمر رضي الله عنه: هل أتممتم الصلح بينهما؟. قالا: لا، قال: إنكما لم تكونوا تريدا صلحاً!! لأن الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [35النساء].
توبا إلى الله، وجدِّدا النية، واجعلوا نيتكم إصلاح ما بينهما، ثم اذهبا. فذهبا وعادا مستبشرين، فقالا: أبشر يا أمير المؤمنين فقد اصطلحا!! فعلم المؤمنون أجمعون أن الصلح يكون حسب النوايا.
بل إن الأرزاق في الأرض تكون على حسب النوايا قال فيها الله: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾ [58الأعراف].
(إذا صدقت النيَّة حقَّقت الأمنية)،
أي أمنية يريدها المرء في دنياه وأخراه لابد أولاً من إخلاص القصد، ويتحقق من طِيبِ النية، وطِيبُ النية أن يريد بها وجه الله ورضاء الله والدار الآخرة، لا يريد بها شهرة ولا سمعة ولا رياء، ولا مالاً ولا جاهاً ولا منصباً، ولا شيئا من خلق الله، وإنما يريد بها وجه الله جلاَّ في علاه.
من تحقق بذلك فله في الدنيا كل ما يريده من الله:
﴿لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [34الزمر]،
وله في الآخرة كل ما يرجوه من مولاه!! لأنه صدق مع الله فصدق الله معه.
🤲نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوحد شمل أمة الإسلام وأن يجمع شتاتها وأن يجعلنا في كل ربوع الوطن أخوة متكاتفين متعاونين متباذلين عاملين بالبر والتقوى كما يحبه الله منا في كل وقت وحين.
🤲🤲ثم الدعاء 🤲🤲
وللمزيد من الخطب
متابعة صفحة الخطب الإلهامية
أو
الدخول على موقع فضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد