دروس من الهجرة
خطبة الجمعة
لفضيلة الشيخ فوزي محمد ابوزيد
الحمد لله الذي أعزَّ حبيبه ومصطفاه ولحَظَهُ بعين عنايته، وسخَّر له جميع الأكوان ، وجعله فاتحاً خاتماً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الحكيم، العليُّ العليم، المُنزَّهُ في ملكه وملكوته عن الحادث والقديم.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، قَلْبُهُ بباب مولاه مُقيم، وفؤادُهٌ متعلق بِشُهُودِ وَجْهِهِ ونورِهِ العظيم.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا مُحَمَّدٍ بنِ عَبْدِ الله، الذي ألَّف الله به بين القلوب، وأزال به الإحن والأضغان بَيْنَ النفوس، وبيَّنَ به الطريق المستقيم الموصل إلى رياض الفردوس.
صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكل من انتمى إليه وسار على هديه، إلى يوم الدين.
أما بعد
فيا إخواني ويا أحبابي في الله ورسوله
إن أحداث الهجرة في ذاتها - والحمد لله - معظمنا بل أغلبنا يعلمها ويحفظها جيداً،
لكن الله عزَّ وجلّ أمرنا أن نستلهم العبر، ونأخذ المُثل والقدوة من سير الأنبياء والمرسلين، وذلك حين يقول عزَّ شأنه:
"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ" (111-يوسف).
وسنأخذ - بقدر الوقت، وبقدر ما تسمح به الفرصة ثُلَّة صغيرة من الدروس التي ينبغي على شبابنا وفتياتنا أن يتعلموها من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
جعل الله عزَّ وجلّ هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم عن طريق الأسباب التي هيأها الله للعالمين أجمعين، لأن الأسباب مهيئة للكُلّ، والكُلُّ يستطيع أن يستخدمها أو ينتفع بها، لأنها صنع الله الذي سخره لجميع الخلق.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف، فهو الذي لا يخاف إلا من الله،
لكنه خطط التخطيط السليم،
ليعلِّم كلَّ مؤمن أن أي عمل ينوي فعله لابد له من خطة!!!
سواء كان ذلك في استذكار دروس،
أو كان ينوي زواجاً،
أو كان ينوي بناء بيت،
أو كان ينوي تحقيق اختراع،
أو كان ينوي إحداث اكتشاف.
أي أمر لابد أن يبنيه المرء على خطة، والخطة لابد أن تكون محكمة، ومدبرة تدبيراً جيداً. ولا بأس أن يجعل في خطته نصيباً لأهل الخبرة - حتى ولو كانوا غير مسلمين، مادام هذا هو التخطيط المكين!!
️إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وضع الخطة الدقيقة، بأن يتوارى عن القوم هو وصاحبه في الغار لمدة ثلاثة أيام، كيف يعرف أخبار القوم؟!!
تستطيع أن تقول أنت عن طريق الوحي، لأن الله ينزله عليه،
لكنه يريد أن يجنِّد الشباب ويعلمهم المنهج السديد الذي يرضي الله عزَّ وجلّ، فجنَّد فتىً وفتاة، وهيأهما وعلمهما.
الفتى يجلس طوال النهار بجوار نادي القوم قرب الكعبة يتسمع الأخبار، والفتاة تصنع الطعام، وثالثٌ يمشي خلفهما إذا مشيا - في الذهاب أو في الرجوع - ومعه غَنَمُهٌ ليعفي على آثار القدمين، فلا يكتشف أقدامهما الكفار - وقد كانوا يجيدون ذلك!!!
فكان في كل ليلة يأتيه الفتى بالأخبار التي يتسمعها من قريش، وتأتيه الفتاة بالطعام، وبعد الثلاثة أيام كان قد جهَّز الراحلتين،
ولما لم يكن في وسط المسلمين خبيرٌ بالطريق، استدعى خبيراً كافراً - هو عبد الله بن أريقط، حتى أن أئمة السيرة الأعلام قالوا:
لم يصل إلينا خبرٌ هل أسلم بعد ذلك أم لا؟ لكنه تخيَّره أميناً، حتى لا يكشف سرَّه لأعدائه - فجاء الخبير الذي يستطيع أن يجتاز بهم طريقاً غير معروف بعد الثلاثة أيام!!
والحمد لله هو هذا الطريق المعروف الآن، الذي يسافر عليه الحجيج والمعتمرون من مكة إلى المدينة، وهو طريق الهجرة.
ولم ينس صلى الله عليه وسلم وهو في هذا العمل كله - يرجو تحصين الله، وحفظ الله، وعناية الله - أن يتمسك بأهداب الفضيلة التي جاء بها لنا من عند الله.
فالكافرون من أهل مكة أخرجوا المسلمين من بينهم بدون شيء من أموالهم أو متعلقاتهم!! فقد استولوا على بيوتهم، واستولوا على أموالهم، واستولوا على كل أشياء يتملكونها!!
والعجب أن هؤلاء القوم - مع كفرهم - إلا إنهم كانوا يقرون للداعي إلى الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة. فلو نطق بكلمة - قيل لهم: قال محمد كذا - قالوا: إن كان قال فقد صدق، لأنهم ما جرَّبوا عليه كذباً،
فكانوا يحفظون عنده أماناتهم التي يخشون عليها لعدم وجود البنوك في هذا الزمن،
ولما جاءه الأمر من الله بالهجرة
لقَّن فتيان المسلمين درساً عملياً عظيماً في الأمانة، فجاء بابن عمِّه علىِّ بن أبي طالب وأمره أن يبيت في مكانه، مع أن أربعين رجلاً مُدججين بالسيوف يحيطون بالمنزل، وينتهزون فرصة للدخول عليه في أي ساعة من الليل ويقضون عليه.
عرَّضه للموت في سبيل أن يتمسك بالأمانة، وأن يكون مثلاً فَذّاً في خُلُق الأمانة، وأمره أن يمكث ثلاثة أيام بعده حتى يؤدِّي لكُلِّ رجلٍ أو امرأةٍ أمانته أو أمانتها.
استوعب هؤلاء القوم هذا الدرس، فتربُّوا على فضيلة الأمانة، فكانت هي الصفة الأولى في نشر الإسلام في كافة ربوع العالم.
فالدرس الأول الذي نستوعبه من الهجرة النبوية - وما أحوج شبابنا جميعاً إليه الآن، -
هو التخطيط.
التخطيط السليم بالأسباب التي في استطاعتنا، وما دام الإنسان يخطِّط على حسب استطاعته فإن الله عزَّ وجلّ يعينه بقدرته، كما أعان حبيبه ومصطفاه في رحلة الهجرة.
على أن أخطط على حسب وسعي وطاقتي، وإمكاني وجهدي، واستخدم كل ما هو متاح لي من طريق حلال، وبعد ذلك يقول لي رب العزة:
"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ { (2: 3-الطلاق)،
الدرس الثاني
أن المؤمن لابد أن لا يفرق بين العادات والأخلاق والمعاملات في ظلال الإسلام،
فإن كل ما أصاب مجتمعنا من تدهور في الأخلاق،
ومن سوء المعاملات في الأسواق ولدى التجار،
ومن انتشار النفاق وصفاته وأمراضه،
سبب ذلك كله هو ضعف اليقين وعدم التمسك بِكُلِّيةِ هذا الدين!!
يظن الإنسان أنه أدَّى ما عليه لله - إذا حافظ على الفرائض في وقتها، وصام شهر رمضان، وتلا القرآن، أو تمسك بالسنن الظاهرة، كل هذا خير
لكن لابد مع ذلك كله من مكارم الأخلاق ومن حسن المعاملات الإسلامية.
وإلا خبِّروني لو أن تاجراً يغِشُّ في وزنه أو في كيله، أو في سعره أو في بضاعته، ويؤدي العمرة في شهر رمضان كل عام، ويحجُّ بيت الله الحرام كل عام، هل ينفع حجُّه وعمرتُه؟!! كلا. لقوله صلى الله عليه وسلم:
{ لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَه }[ رواه البيهقي في سننه وابن حبان في صحيحه عن أنس رضي الله عنه]،
وفى الأثر المشهور: { الدين المعاملة }. فلا يقبل الله من يصلي في الليل - ولو ألف ركعة - ثم في الصباح لا يتورع عن الكذب ولو في مباح، لأن ديننا لا يعرف كذبة بيضاء وأخرى حمراء أو سوداء،
فقد قال صلى الله عليه وسلم: { إِني لأَمْزَحُ وَلاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقّاً }[ رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما] حتى المزاح لا يكون إلا في الحقِّ وبالحقّ.
ديننا أيها المسلمون الكرام لا يفرق بين ثلاثة أمور:
العبادات، والأخلاق، والمعاملات.
فمن قال أنا على خُلُقٍ طيِّب، والمهم طهارة القلب، وتكاسل عن الصلاة نقول له: هذا لا ينفع!! إذا كان خُلُقُكَ طيباً، وقلبك طاهراً، فلماذا تتباطأ عن نداء الله؟!!
ولماذا لا تؤدي الصلاة لتفوز برضا الله عزَّ وجلّ،
ومن حافظ على الصلاة وارتكب ما لا يَحِلُّه الله في أخلاقه ومعاملاته مع عباد الله، نقول له:
قال صلى الله عليه وسلم:
{مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ الله إِلاَّ بُعْداً}[ رواه السيوطي في الفتح الكبير عن ابن عباس]
فالذي يستبيح الرشوة بحجة أنه يحتاج وأن دخله لا يكفيه نقول له:
هذه حجة واهية،
والذي يستبيح استغلال الناس بحجة أنه ينفق هذه الأموال على الدعوة الإسلامية، أو طباعة الكتب الدينية، أو نشر الشرائط الإسلامية، نقول له:
قال الحبيب صلى الله عليه وسلم:
{ إِنَّ الله طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً }[ رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه]،
والرسول صلى الله عليه وسلم كان هو المثل الأعلى في الأمانة في بعثته وفي هجرته صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم:
{لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ}.
او كما قال ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، ولا عدوان إلاَّ عَلَى الظالمين، والعاقبة للمتقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحقُّ الحقَّ ويبطِلَ البَاطِلَ ولو كره المجرمون.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، الصادق الوعد الأمين، والمبعوث رحمة للعالمين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا مُحَمَّدٍ بحر الصدق واليقين، والنور الأتم الأكمل للأولين والآخرين.
أما بعد
إخواني وأحبابي:
لماذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل؟
ولماذا اختبأ ولم يتوجه مباشرة إلى المدينة ويأخذها في لحظة؟
أو في لمح البصر؟ لماذا؟
من أجل أن يعطي الفرصة للضعفاء، وهذه هي السُّنَّةُ التي علَّمها الله للهداة المهديين والعلماء العاملين، في كل زمان ومكان، وهي:
{ اقدرِ النَّاسَ بأضعفِهم فإنَّ فيهمُ الْكبيرَ والصَّغيرَ والسَّقيمَ والبعيدَ وذا الحاجَةِ } [صحيح ابن ماجه]
وليس في التقدير عند المشى فقط، أو الحركة فقط، بل يتجاوز ذلك.
الذي يصلي قال له:
{ إِذَا صَلَّىٰ أَحَدُكُمْ بالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّىٰ أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ }[ أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن أبي هريرة بألفاظ متقاربة.].
هذه هي السنة، أن نأخذ الناس باليُسْرِ .
فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالعزيمة والقوة، ويأمر غيره باليُسْر.
اسمعوا له إذ يخاطب سيدنا أبا هريرة قائلاً:
{ يا أبا هريرة إذا كنت إماماً فقِسْ الناس بأضعفهم } وفي لفظ { فاقتد بأضعفهم }[ المقاصد الحسنة للسخاوي، عن أبي هريرة]
وعلَّم أصحابه على هذه الطريقة الإلهية، وعلى هذه الهداية الربانية، حتى يكونوا صورة من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق أجمعين.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يلهمنا رشدنا، ويفقهنا في ديننا، ويعلمنا ما لم نكن نعلم، ويعيننا على العمل بما علمنا، ويرزقنا الإخلاص في كل عمل، والصدق في كل قول، وإصابة السنة في كل حالة
🤲🤲ثم الدعاء 🤲🤲
وللمزيد من الخطب
الدخول على موقع فضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
خطبة الجمعة
لفضيلة الشيخ فوزي محمد ابوزيد
الحمد لله الذي أعزَّ حبيبه ومصطفاه ولحَظَهُ بعين عنايته، وسخَّر له جميع الأكوان ، وجعله فاتحاً خاتماً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الحكيم، العليُّ العليم، المُنزَّهُ في ملكه وملكوته عن الحادث والقديم.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، قَلْبُهُ بباب مولاه مُقيم، وفؤادُهٌ متعلق بِشُهُودِ وَجْهِهِ ونورِهِ العظيم.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا مُحَمَّدٍ بنِ عَبْدِ الله، الذي ألَّف الله به بين القلوب، وأزال به الإحن والأضغان بَيْنَ النفوس، وبيَّنَ به الطريق المستقيم الموصل إلى رياض الفردوس.
صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكل من انتمى إليه وسار على هديه، إلى يوم الدين.
أما بعد
فيا إخواني ويا أحبابي في الله ورسوله
إن أحداث الهجرة في ذاتها - والحمد لله - معظمنا بل أغلبنا يعلمها ويحفظها جيداً،
لكن الله عزَّ وجلّ أمرنا أن نستلهم العبر، ونأخذ المُثل والقدوة من سير الأنبياء والمرسلين، وذلك حين يقول عزَّ شأنه:
"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ" (111-يوسف).
وسنأخذ - بقدر الوقت، وبقدر ما تسمح به الفرصة ثُلَّة صغيرة من الدروس التي ينبغي على شبابنا وفتياتنا أن يتعلموها من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
جعل الله عزَّ وجلّ هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم عن طريق الأسباب التي هيأها الله للعالمين أجمعين، لأن الأسباب مهيئة للكُلّ، والكُلُّ يستطيع أن يستخدمها أو ينتفع بها، لأنها صنع الله الذي سخره لجميع الخلق.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف، فهو الذي لا يخاف إلا من الله،
لكنه خطط التخطيط السليم،
ليعلِّم كلَّ مؤمن أن أي عمل ينوي فعله لابد له من خطة!!!
سواء كان ذلك في استذكار دروس،
أو كان ينوي زواجاً،
أو كان ينوي بناء بيت،
أو كان ينوي تحقيق اختراع،
أو كان ينوي إحداث اكتشاف.
أي أمر لابد أن يبنيه المرء على خطة، والخطة لابد أن تكون محكمة، ومدبرة تدبيراً جيداً. ولا بأس أن يجعل في خطته نصيباً لأهل الخبرة - حتى ولو كانوا غير مسلمين، مادام هذا هو التخطيط المكين!!
️إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وضع الخطة الدقيقة، بأن يتوارى عن القوم هو وصاحبه في الغار لمدة ثلاثة أيام، كيف يعرف أخبار القوم؟!!
تستطيع أن تقول أنت عن طريق الوحي، لأن الله ينزله عليه،
لكنه يريد أن يجنِّد الشباب ويعلمهم المنهج السديد الذي يرضي الله عزَّ وجلّ، فجنَّد فتىً وفتاة، وهيأهما وعلمهما.
الفتى يجلس طوال النهار بجوار نادي القوم قرب الكعبة يتسمع الأخبار، والفتاة تصنع الطعام، وثالثٌ يمشي خلفهما إذا مشيا - في الذهاب أو في الرجوع - ومعه غَنَمُهٌ ليعفي على آثار القدمين، فلا يكتشف أقدامهما الكفار - وقد كانوا يجيدون ذلك!!!
فكان في كل ليلة يأتيه الفتى بالأخبار التي يتسمعها من قريش، وتأتيه الفتاة بالطعام، وبعد الثلاثة أيام كان قد جهَّز الراحلتين،
ولما لم يكن في وسط المسلمين خبيرٌ بالطريق، استدعى خبيراً كافراً - هو عبد الله بن أريقط، حتى أن أئمة السيرة الأعلام قالوا:
لم يصل إلينا خبرٌ هل أسلم بعد ذلك أم لا؟ لكنه تخيَّره أميناً، حتى لا يكشف سرَّه لأعدائه - فجاء الخبير الذي يستطيع أن يجتاز بهم طريقاً غير معروف بعد الثلاثة أيام!!
والحمد لله هو هذا الطريق المعروف الآن، الذي يسافر عليه الحجيج والمعتمرون من مكة إلى المدينة، وهو طريق الهجرة.
ولم ينس صلى الله عليه وسلم وهو في هذا العمل كله - يرجو تحصين الله، وحفظ الله، وعناية الله - أن يتمسك بأهداب الفضيلة التي جاء بها لنا من عند الله.
فالكافرون من أهل مكة أخرجوا المسلمين من بينهم بدون شيء من أموالهم أو متعلقاتهم!! فقد استولوا على بيوتهم، واستولوا على أموالهم، واستولوا على كل أشياء يتملكونها!!
والعجب أن هؤلاء القوم - مع كفرهم - إلا إنهم كانوا يقرون للداعي إلى الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة. فلو نطق بكلمة - قيل لهم: قال محمد كذا - قالوا: إن كان قال فقد صدق، لأنهم ما جرَّبوا عليه كذباً،
فكانوا يحفظون عنده أماناتهم التي يخشون عليها لعدم وجود البنوك في هذا الزمن،
ولما جاءه الأمر من الله بالهجرة
لقَّن فتيان المسلمين درساً عملياً عظيماً في الأمانة، فجاء بابن عمِّه علىِّ بن أبي طالب وأمره أن يبيت في مكانه، مع أن أربعين رجلاً مُدججين بالسيوف يحيطون بالمنزل، وينتهزون فرصة للدخول عليه في أي ساعة من الليل ويقضون عليه.
عرَّضه للموت في سبيل أن يتمسك بالأمانة، وأن يكون مثلاً فَذّاً في خُلُق الأمانة، وأمره أن يمكث ثلاثة أيام بعده حتى يؤدِّي لكُلِّ رجلٍ أو امرأةٍ أمانته أو أمانتها.
استوعب هؤلاء القوم هذا الدرس، فتربُّوا على فضيلة الأمانة، فكانت هي الصفة الأولى في نشر الإسلام في كافة ربوع العالم.
فالدرس الأول الذي نستوعبه من الهجرة النبوية - وما أحوج شبابنا جميعاً إليه الآن، -
هو التخطيط.
التخطيط السليم بالأسباب التي في استطاعتنا، وما دام الإنسان يخطِّط على حسب استطاعته فإن الله عزَّ وجلّ يعينه بقدرته، كما أعان حبيبه ومصطفاه في رحلة الهجرة.
على أن أخطط على حسب وسعي وطاقتي، وإمكاني وجهدي، واستخدم كل ما هو متاح لي من طريق حلال، وبعد ذلك يقول لي رب العزة:
"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ { (2: 3-الطلاق)،
الدرس الثاني
أن المؤمن لابد أن لا يفرق بين العادات والأخلاق والمعاملات في ظلال الإسلام،
فإن كل ما أصاب مجتمعنا من تدهور في الأخلاق،
ومن سوء المعاملات في الأسواق ولدى التجار،
ومن انتشار النفاق وصفاته وأمراضه،
سبب ذلك كله هو ضعف اليقين وعدم التمسك بِكُلِّيةِ هذا الدين!!
يظن الإنسان أنه أدَّى ما عليه لله - إذا حافظ على الفرائض في وقتها، وصام شهر رمضان، وتلا القرآن، أو تمسك بالسنن الظاهرة، كل هذا خير
لكن لابد مع ذلك كله من مكارم الأخلاق ومن حسن المعاملات الإسلامية.
وإلا خبِّروني لو أن تاجراً يغِشُّ في وزنه أو في كيله، أو في سعره أو في بضاعته، ويؤدي العمرة في شهر رمضان كل عام، ويحجُّ بيت الله الحرام كل عام، هل ينفع حجُّه وعمرتُه؟!! كلا. لقوله صلى الله عليه وسلم:
{ لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَه }[ رواه البيهقي في سننه وابن حبان في صحيحه عن أنس رضي الله عنه]،
وفى الأثر المشهور: { الدين المعاملة }. فلا يقبل الله من يصلي في الليل - ولو ألف ركعة - ثم في الصباح لا يتورع عن الكذب ولو في مباح، لأن ديننا لا يعرف كذبة بيضاء وأخرى حمراء أو سوداء،
فقد قال صلى الله عليه وسلم: { إِني لأَمْزَحُ وَلاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقّاً }[ رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما] حتى المزاح لا يكون إلا في الحقِّ وبالحقّ.
ديننا أيها المسلمون الكرام لا يفرق بين ثلاثة أمور:
العبادات، والأخلاق، والمعاملات.
فمن قال أنا على خُلُقٍ طيِّب، والمهم طهارة القلب، وتكاسل عن الصلاة نقول له: هذا لا ينفع!! إذا كان خُلُقُكَ طيباً، وقلبك طاهراً، فلماذا تتباطأ عن نداء الله؟!!
ولماذا لا تؤدي الصلاة لتفوز برضا الله عزَّ وجلّ،
ومن حافظ على الصلاة وارتكب ما لا يَحِلُّه الله في أخلاقه ومعاملاته مع عباد الله، نقول له:
قال صلى الله عليه وسلم:
{مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ الله إِلاَّ بُعْداً}[ رواه السيوطي في الفتح الكبير عن ابن عباس]
فالذي يستبيح الرشوة بحجة أنه يحتاج وأن دخله لا يكفيه نقول له:
هذه حجة واهية،
والذي يستبيح استغلال الناس بحجة أنه ينفق هذه الأموال على الدعوة الإسلامية، أو طباعة الكتب الدينية، أو نشر الشرائط الإسلامية، نقول له:
قال الحبيب صلى الله عليه وسلم:
{ إِنَّ الله طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً }[ رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه]،
والرسول صلى الله عليه وسلم كان هو المثل الأعلى في الأمانة في بعثته وفي هجرته صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم:
{لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ}.
او كما قال ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، ولا عدوان إلاَّ عَلَى الظالمين، والعاقبة للمتقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحقُّ الحقَّ ويبطِلَ البَاطِلَ ولو كره المجرمون.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، الصادق الوعد الأمين، والمبعوث رحمة للعالمين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا مُحَمَّدٍ بحر الصدق واليقين، والنور الأتم الأكمل للأولين والآخرين.
أما بعد
إخواني وأحبابي:
لماذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل؟
ولماذا اختبأ ولم يتوجه مباشرة إلى المدينة ويأخذها في لحظة؟
أو في لمح البصر؟ لماذا؟
من أجل أن يعطي الفرصة للضعفاء، وهذه هي السُّنَّةُ التي علَّمها الله للهداة المهديين والعلماء العاملين، في كل زمان ومكان، وهي:
{ اقدرِ النَّاسَ بأضعفِهم فإنَّ فيهمُ الْكبيرَ والصَّغيرَ والسَّقيمَ والبعيدَ وذا الحاجَةِ } [صحيح ابن ماجه]
وليس في التقدير عند المشى فقط، أو الحركة فقط، بل يتجاوز ذلك.
الذي يصلي قال له:
{ إِذَا صَلَّىٰ أَحَدُكُمْ بالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّىٰ أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ }[ أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن أبي هريرة بألفاظ متقاربة.].
هذه هي السنة، أن نأخذ الناس باليُسْرِ .
فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالعزيمة والقوة، ويأمر غيره باليُسْر.
اسمعوا له إذ يخاطب سيدنا أبا هريرة قائلاً:
{ يا أبا هريرة إذا كنت إماماً فقِسْ الناس بأضعفهم } وفي لفظ { فاقتد بأضعفهم }[ المقاصد الحسنة للسخاوي، عن أبي هريرة]
وعلَّم أصحابه على هذه الطريقة الإلهية، وعلى هذه الهداية الربانية، حتى يكونوا صورة من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق أجمعين.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يلهمنا رشدنا، ويفقهنا في ديننا، ويعلمنا ما لم نكن نعلم، ويعيننا على العمل بما علمنا، ويرزقنا الإخلاص في كل عمل، والصدق في كل قول، وإصابة السنة في كل حالة
🤲🤲ثم الدعاء 🤲🤲
وللمزيد من الخطب
الدخول على موقع فضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد