الدروس المستفاد من
خطبة الوداع
خطبة الجمعة
لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
الحمد لله ربِّ العالمين، أنزل لنا كتاباً عربياً مبيناً، فصَّل لنا فيه أجمل الأحوال التي ينبغي أن نكون عليها في الدنيا، والطريق القويم الذي يبلِّغنا أعلى المنازل العُلوية يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أرسل حبيبه ومصطفاه بخير دينٍ أنزله إلى خلق الله، وجعل على يديه كلَّ صلاحٍ ونجاحٍ في الدنيا، وبسببه وشفاعته كلَّ فوزٍ وفلاحٍ في الدار الآخرة.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ اللهِ ورسولُه، حفظ الله لسانه عن الغيِّ والقبيح، وجعل قوله هو وحيٌ من الله عزَّ وجلَّ صريح، وقال فيما نطق به لسانه
(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (3: 5النجم)
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد، الذي كان قوله بلاغاً عن الحقّ، وفعله هو المراد الذي يريده الحقُّ من الخلق، وأحواله كلها تدعو الخلق إلى المنهج الحقّ
صلى الله عليه وعلى آله الذين آمنوا به واتبعوه، وأصحابه الذين آزروه ونصروه، وأتباعه الذين أحيوا سنَّته وساروا على شريعته إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين،
🤲 آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين🤲
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
وضع النبي صلى الله عليه وسلَّم لنا وللمسلمين أجمعين - في حجَّة الوداع - قواعد إلهية، وسنناً نبوية، لو سرنا عليها واتبعناها لانصلحت كل أحوالنا الفردية والجماعية والأُسرية والدولية.
يقول سيدنا أنس بن مالكٍ رضي الله عنه:
”خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن بمنى، فَفُتِحَت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا وكنا جموع قريب من مئة ألف“.(أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، وابن سعد في طبقاته عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي رضي الله عنه)
أسمع الله الجميع، ليكون حُجَّة عليهم وعلى مَنْ بعدهم إلى يوم الدين. وخطبهم مرةً ثانيةً يوم التاسع من ذي الحجة يوم عرفة في مسجد نمرة، وخطبهم مرةً ثالثةً في منى يوم العيد السعيد، وخطبهم أكثر من خطبة؛ ونجد لو لاحظنا عبارةً يُردِّدها في كل هذه الخطب جميعها، مع تنوِّع أساليبها واختلاف ألفاظها، إلا أن هناك عبارةً فذَّة بألفاظها وعباراتها كرَّرها في جميع خطبه، فكان يقول لهم:
(أيها الناس: أى يومٍ هذا؟ فيقولون: يومٌ حرام، فيقول: وأى شهرٍ هذا؟ فيقولون: شهرٌ حرام، فيقول: وأى بلدٍ هذا؟ فيقولون: بلدٌ حرام، فيقول صلى الله عليه وسلَّم: إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم حرامٌ عليكم، كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، فلا ترجعوا بعدي كُفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض)(رواه البخاري من حديث أبو بكرة نفيع بن الحارث، رَضِيَ الله عنه)
عبارة جامعة لسعادة المجتمعات الإسلامية، فإن الله عزَّ وجلَّ جعل لكل مسلمٍ حُرمة
ولكل مسلمٍ حصانة، ينبغي أن يُراعيها كل إخوانه من المسلمين،
هذه الحُرمة تكون له بمجرد أن ينطق بالشهادتين،
أما عمله فبينه وبين مولاه هو الذي سيتقبله منه ويُحاسبه عليه يوم العرض والجزاء، وفيه قال رب العزِّة عزَّ شأنه:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (15الجاثية)
الحصانة الأولى
من الذي يكون له الحصانة والحماية بين المؤمنين؟.
قال فيه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم:
(من قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه) ( البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)
ما دام قد نطق بالشهادتين أصبح معصوم الدم، محفوظ المال، محفوظ العرض من جميع المؤمنين والمؤمنات، لا ينبغي لأى مسلمٍ مهما كان شأنه أن يتعدَّى هذه الحُرمات، لأن الله يحذِّر تحذيراً شديداً فيقول:
(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (229البقرة).
أول هذه الحرمات: القتل.
لا ينبغي لمسلمٍ أن يقتل مسلماً قطّ،
القتل لا يحلُّ في الإسلام إلا في ثلاثة مواضع قال فيها صلى الله عليه وسلَّم:
(لا ينبغي لأى إمرئٍ مسلمٍ أن يُقتل إلا بإحدى ثلاث:
الثيِّب الزاني - يعني الرجل المتزوج الذي يثبت عليه الزنا بالأدلة القرآنية التشريعية –
والقاتل - الذي يقتل عامداً متعمداً ويثبت عليه القتل –
والتارك لدينه المفارق للجماعة) ( روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
وهؤلاء لا يتولى قتلهم إلا وليُّ الأمر بعد صدور أحكام القضاء التشريعية الإسلامية، وإلا كانت مجتمعات المسلمين كغابة دهماء، يقتل القويُّ الضعيف، ويأخذ القويُّ حقَّ الضعيف، وهذه لا تكون مجتمعات السلام التي دعا إليها نبي السلام صلى الله عليه وسلَّم.
أما من يقتل مسلماً من نفسه، فاسمعوا معي إلى قول الله عز وجل في شأنه:
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (93النساء).
أما من لم يقتل بيده ولكن شارك ولو بكلمة في الحضِّ على القتل فقد قال فيه صلى الله عليه وسلَّم:
(من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عزَّ وجلَّ مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله) ( رواه ابن ماجه والبيهقي في سننه وأبو يعلى في مسنده، عن أبي هريرة رضي الله)
لأن المسلم يحرص دوماً على حُرمة أخيه المسلم،
الحصانة الثانية
(مال المؤمن)
جعل النبي صلى الله عليه وسلَّم للمسلم حُرمةً في ماله، فلا ينبغي لمسلمٍ أن يأخذ مال مسلمٍ إلا بطيب نفسٍ،
قال صلى الله عليه وسلَّم:
(إن هذه الدنيا حُلوةٌ خضرة وإن هذا المال لا يحلُّ إلا بطيب نفسٍ، فمن أخذ مالاً من أخيه رغماً عنه أو قهراً له فهو حرام)( رواه أبو داود عن حنيفة الرقاشي رضي الله عنه)
فمن يغتصب نصيب إخوته في التركة فهو حرامٌ حرمَّه الله،
ومن يخُصُّ بعض أبنائه في التركة بغير حقٍّ ويترك الباقين، فهذا مخالف لشرع الله
لأنها حقوقٌ فرضها الله، ولابد أن يطبقها المؤمنون
ومن أخذ مال أخيه بغير حق - كأن يغشه في كيل، أو يغشه في وزن، أو يغشه في سعر، أو يخدعه في بيعٍ أو شراء
كل هؤلاء يجمعون أمولاً من حرام، ولذلك لو تدبرتم لوجدتم أن كل مالٍ يُجمع من حرام، لابد أن يُنفق في الذنوب والآثام، ولا يتقبل الله من صاحبه عملاً،
فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:
(إن العبد ليقذف باللقمة الحرام في جوفه لا يقبل الله منه عملاً أربعين يوماً)( الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما)
حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلَّم عن أخذ المال بسيف الحياء،
بأن يَحرِج رجلاً - في عملٍ أو في مسجدٍ أو في أي مكان أمام مجموعة - ويقول له: أريد منك كذا، ويضطر أن يدفعها حرجاً وهو غير راضٍ، يقول في ذلك صلى الله عليه وسلَّم:
(لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) (أخرجه البيهقي والنسائي عَنْ حَنِيفَةَ الرَّقَاشِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ)
حتى الرجل الذي وهب زوجته ذهبها، وأصبح باعترافه يخصُّها، وأراد أن يأخذه رغماً عنها، فإن ذلك لا يبيحه له الله.
أو يضغط عليها لتذهب إلى أهلها وتأتي بميراثها فهذا نهى عنه الله، وقال للمؤمنين:
( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) (4النساء).
فلا نبغي أن تأخذ منها ما وهبته لها رغماً عنها، أو تجبرها إلى الإتيان بمالها الذي ورثته وهي كارهة، فإن هذا المال لا ينبغي إلا بطيب نفسٍ.
الحصانة الثالثة للمؤمن
(وهي عرض المؤمن)
فلا ينبغي لمؤمن ان ينتهك عِرْضَ مؤمن، أو يتكلم في حقِّه بكلامٍ لا يليق، أو يغتابه أو يقول في حقه كلمة ليست فيه ليشينه ويعيبه بها، وإنما المؤمن دائماً وأبداً يردُّ الغِيبة عن أخيه، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(من ردَّ الغيبة عن أخيه ردَّ الله عزَّ وجلَّ عنه النار يوم القيامة)( رواه الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه)
ينبغي أن تدافع عن أخيك المؤمن، ولا تؤاخذه بالظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تؤاخذه بما تسمعه من أقوال، ولكن تتثبَّت كما أمر الواحد المتعال:
(إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (6الحجرات).
وفي قراءةٍ: (فتثبتوا). ما دمت لم تر عيناك، ولم تسمع أذناك، فلا تأخذ بالظن، فإن الظن قال فيه صلى الله عليه وسلَّم:
(إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) (البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه)
فعليَّ أن أُحسن الظن، فإن حُسن الظن من الإيمان، ولا يستطيع أحدٌ ضرِّي إلا بإذنٍ من الرحمن عز وجل.
قال صلى الله عليه وسلَّم:
(من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال) ( رواه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما)
وهذا ما يُسمَّى في عالم اليوم التشنيع، يشنِّع عليه بأمرٍ يعلم علم اليقين أنه ليس فيه، هذه الأمور ركَّز عليها النبيُّ، وجعلها أساس حياة المؤمنين،
وقال صلى الله عليه وسلَّم في الحديث الجامع لنا أجمعين:
(كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (رواه أبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه)
أو كما قال:
(أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).
****الخطبة الثانية ****
الحمد لله رب العالمين الذي أنعم علينا بهداه وملأ قلوبنا بتقواه وجعلنا من عباده المسلمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنِّجي قائلها في الدنيا وترفعه يوم الدين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، أسَّس الله به قواعد هذا الدين المتين، وجعله في الدنيا أُسوةً وفي الآخرة شفيعاً لنا أجمعين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله الطيبين، وصحابته المباركين، وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين،
آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
من جملة خطبة الوداع المباركة - التي خطبها سيد الأولين والآخرين - مقياسٌ إلهيّ، قدمه لنا حضرة النبيّ، لو عملنا به سعدنا أجمعين.
وللأسف فإن الناس في عصرنا تركوا هذا المقياس خلف ظهورهم، فساءت الأحوال وضاعت الأوضاع.
أمرنا النبي صلى الله عليه وسلَّم أن نُميِّز الناس بتقوى الله، لا نميزهم بما معهم من مال، ولا بما وصلوا إليه من منصبٍ ولا جاه، ولا بما معهم من أولاد وعائلات، ولا بما تمتعوا به من حسبٍ ونسبٍ،
وإنما أمرنا أن نميِّز بين الناس بحسب ما في القلوب من تقوى علام الغيوب عزَّ وجلَّ،
فقال صلى الله عليه وسلَّم:
(أيها الناس: إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود إلا بتقوى الله والعمل الصالح)( البيهقي عن جابر رضي الله عنه)
وهذا الذي ذكره الله في القرآن فقال:
( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ ) (13الحجرات).
الكريم عند الله هو التَّقي.
وضرب النبي صلى الله عليه وسلَّم لأصحابه مثالاً عمليًّا، كان جالساً معهم ومرَّ عليهم رجلٌ من الوجهاء يبدو عليه أثر النعمة، فقال صلى الله عليه وسلَّم لمن حوله:
(ما رأيكم في هذا؟
قالوا: هذا حريٌّ إن خطب - يعني تقدم لزوجة - أن يُنكح، وإن استأذن على الأمراء أن يؤذن له، وإن تكلم يُنصت له.
ثم مرَّ بعده رجلٌ رثُّ الهيئة من الذين يقول فيهم الحبيب:
(إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبرَّه)( روى الترمذي عن حارثة بن وهب الخزاعي)
فقال: ما رأيكم في هذا؟،
قالوا: هذا حريٌّ إن خطب أن لا يُنكح، وإن استأذن على الأمراء لم يؤذن له، وإن تكلم لم يُنصت له،
قال صلى الله عليه وسلَّم قولته الخالدة:
(إن هذا ـ وأشار إلى الرجل الفقير ـ خيرٌ وأعظم عند الله من ملء الأرض من مثل هذا)( رواه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه)
فأساس التفاضل عند الله بالتقوى والعمل الصالح،
فالمال زائل، ومن عنده مالٌ لا ينفع به نفسه إلا اذا أنفقه في الصالحات،
وصاحب الجاه جاهه كبيرٌ عند الله إذا استخدمه في قضاء مصالح الفقراء والضعفاء من المسلمين، وإذا قصره على منافعه الشخصية ولم يسعى في منافع الأمة المحمدية، فحسابه عسيرٌ يوم يلقى الله عزَّ وجلَّ.
والحسب والنسب يقول فيه الله في الدار الاخرة:
(يا عبادي وضعتُ نسباً ووضعتم نسباً، قلتُ:
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وأبيتم إلا فلان وفلان بن فلان وفلان،
اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي،
أين المتقون؟ فيُنصب للقوم لواء ثم يؤمر بهم إلى الجنة)( أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبى هريرة مرفوعاً)
(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (61الزمر).
لو تعاملنا بهذا الميزان النبوي، والتقوى في القلوب؛ كما أشار نبيُّنا، ولا يعلمها إلا إلهنا وخالقنا وربنا تبارك وتعالى.
(التقوى ها هنا)( روى أحمد والبزار وابن أبي شيبة عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه) -
فينبغي على المسلم احترام كل المسلمين، وتقدير كل المسلمين، وتقديم كل الخير للمسلمين، ما داموا ملتزمين بتعاليم الله، ومقتدين بسنة حبيب الله ومصطفاه، ويسعون لنفع جماعة المؤمنين على الدوام
🤲 ثم الدعاء🤲
وللمزيد من الخطب
الدخول على موقع
فضيلة الشيخ فوزي محمد ابوزيد
خطبة الوداع
خطبة الجمعة
لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
الحمد لله ربِّ العالمين، أنزل لنا كتاباً عربياً مبيناً، فصَّل لنا فيه أجمل الأحوال التي ينبغي أن نكون عليها في الدنيا، والطريق القويم الذي يبلِّغنا أعلى المنازل العُلوية يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أرسل حبيبه ومصطفاه بخير دينٍ أنزله إلى خلق الله، وجعل على يديه كلَّ صلاحٍ ونجاحٍ في الدنيا، وبسببه وشفاعته كلَّ فوزٍ وفلاحٍ في الدار الآخرة.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ اللهِ ورسولُه، حفظ الله لسانه عن الغيِّ والقبيح، وجعل قوله هو وحيٌ من الله عزَّ وجلَّ صريح، وقال فيما نطق به لسانه
(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (3: 5النجم)
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد، الذي كان قوله بلاغاً عن الحقّ، وفعله هو المراد الذي يريده الحقُّ من الخلق، وأحواله كلها تدعو الخلق إلى المنهج الحقّ
صلى الله عليه وعلى آله الذين آمنوا به واتبعوه، وأصحابه الذين آزروه ونصروه، وأتباعه الذين أحيوا سنَّته وساروا على شريعته إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين،
🤲 آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين🤲
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
وضع النبي صلى الله عليه وسلَّم لنا وللمسلمين أجمعين - في حجَّة الوداع - قواعد إلهية، وسنناً نبوية، لو سرنا عليها واتبعناها لانصلحت كل أحوالنا الفردية والجماعية والأُسرية والدولية.
يقول سيدنا أنس بن مالكٍ رضي الله عنه:
”خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن بمنى، فَفُتِحَت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا وكنا جموع قريب من مئة ألف“.(أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، وابن سعد في طبقاته عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي رضي الله عنه)
أسمع الله الجميع، ليكون حُجَّة عليهم وعلى مَنْ بعدهم إلى يوم الدين. وخطبهم مرةً ثانيةً يوم التاسع من ذي الحجة يوم عرفة في مسجد نمرة، وخطبهم مرةً ثالثةً في منى يوم العيد السعيد، وخطبهم أكثر من خطبة؛ ونجد لو لاحظنا عبارةً يُردِّدها في كل هذه الخطب جميعها، مع تنوِّع أساليبها واختلاف ألفاظها، إلا أن هناك عبارةً فذَّة بألفاظها وعباراتها كرَّرها في جميع خطبه، فكان يقول لهم:
(أيها الناس: أى يومٍ هذا؟ فيقولون: يومٌ حرام، فيقول: وأى شهرٍ هذا؟ فيقولون: شهرٌ حرام، فيقول: وأى بلدٍ هذا؟ فيقولون: بلدٌ حرام، فيقول صلى الله عليه وسلَّم: إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم حرامٌ عليكم، كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، فلا ترجعوا بعدي كُفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض)(رواه البخاري من حديث أبو بكرة نفيع بن الحارث، رَضِيَ الله عنه)
عبارة جامعة لسعادة المجتمعات الإسلامية، فإن الله عزَّ وجلَّ جعل لكل مسلمٍ حُرمة
ولكل مسلمٍ حصانة، ينبغي أن يُراعيها كل إخوانه من المسلمين،
هذه الحُرمة تكون له بمجرد أن ينطق بالشهادتين،
أما عمله فبينه وبين مولاه هو الذي سيتقبله منه ويُحاسبه عليه يوم العرض والجزاء، وفيه قال رب العزِّة عزَّ شأنه:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (15الجاثية)
الحصانة الأولى
من الذي يكون له الحصانة والحماية بين المؤمنين؟.
قال فيه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم:
(من قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه) ( البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)
ما دام قد نطق بالشهادتين أصبح معصوم الدم، محفوظ المال، محفوظ العرض من جميع المؤمنين والمؤمنات، لا ينبغي لأى مسلمٍ مهما كان شأنه أن يتعدَّى هذه الحُرمات، لأن الله يحذِّر تحذيراً شديداً فيقول:
(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (229البقرة).
أول هذه الحرمات: القتل.
لا ينبغي لمسلمٍ أن يقتل مسلماً قطّ،
القتل لا يحلُّ في الإسلام إلا في ثلاثة مواضع قال فيها صلى الله عليه وسلَّم:
(لا ينبغي لأى إمرئٍ مسلمٍ أن يُقتل إلا بإحدى ثلاث:
الثيِّب الزاني - يعني الرجل المتزوج الذي يثبت عليه الزنا بالأدلة القرآنية التشريعية –
والقاتل - الذي يقتل عامداً متعمداً ويثبت عليه القتل –
والتارك لدينه المفارق للجماعة) ( روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
وهؤلاء لا يتولى قتلهم إلا وليُّ الأمر بعد صدور أحكام القضاء التشريعية الإسلامية، وإلا كانت مجتمعات المسلمين كغابة دهماء، يقتل القويُّ الضعيف، ويأخذ القويُّ حقَّ الضعيف، وهذه لا تكون مجتمعات السلام التي دعا إليها نبي السلام صلى الله عليه وسلَّم.
أما من يقتل مسلماً من نفسه، فاسمعوا معي إلى قول الله عز وجل في شأنه:
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (93النساء).
أما من لم يقتل بيده ولكن شارك ولو بكلمة في الحضِّ على القتل فقد قال فيه صلى الله عليه وسلَّم:
(من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عزَّ وجلَّ مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله) ( رواه ابن ماجه والبيهقي في سننه وأبو يعلى في مسنده، عن أبي هريرة رضي الله)
لأن المسلم يحرص دوماً على حُرمة أخيه المسلم،
الحصانة الثانية
(مال المؤمن)
جعل النبي صلى الله عليه وسلَّم للمسلم حُرمةً في ماله، فلا ينبغي لمسلمٍ أن يأخذ مال مسلمٍ إلا بطيب نفسٍ،
قال صلى الله عليه وسلَّم:
(إن هذه الدنيا حُلوةٌ خضرة وإن هذا المال لا يحلُّ إلا بطيب نفسٍ، فمن أخذ مالاً من أخيه رغماً عنه أو قهراً له فهو حرام)( رواه أبو داود عن حنيفة الرقاشي رضي الله عنه)
فمن يغتصب نصيب إخوته في التركة فهو حرامٌ حرمَّه الله،
ومن يخُصُّ بعض أبنائه في التركة بغير حقٍّ ويترك الباقين، فهذا مخالف لشرع الله
لأنها حقوقٌ فرضها الله، ولابد أن يطبقها المؤمنون
ومن أخذ مال أخيه بغير حق - كأن يغشه في كيل، أو يغشه في وزن، أو يغشه في سعر، أو يخدعه في بيعٍ أو شراء
كل هؤلاء يجمعون أمولاً من حرام، ولذلك لو تدبرتم لوجدتم أن كل مالٍ يُجمع من حرام، لابد أن يُنفق في الذنوب والآثام، ولا يتقبل الله من صاحبه عملاً،
فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:
(إن العبد ليقذف باللقمة الحرام في جوفه لا يقبل الله منه عملاً أربعين يوماً)( الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما)
حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلَّم عن أخذ المال بسيف الحياء،
بأن يَحرِج رجلاً - في عملٍ أو في مسجدٍ أو في أي مكان أمام مجموعة - ويقول له: أريد منك كذا، ويضطر أن يدفعها حرجاً وهو غير راضٍ، يقول في ذلك صلى الله عليه وسلَّم:
(لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) (أخرجه البيهقي والنسائي عَنْ حَنِيفَةَ الرَّقَاشِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ)
حتى الرجل الذي وهب زوجته ذهبها، وأصبح باعترافه يخصُّها، وأراد أن يأخذه رغماً عنها، فإن ذلك لا يبيحه له الله.
أو يضغط عليها لتذهب إلى أهلها وتأتي بميراثها فهذا نهى عنه الله، وقال للمؤمنين:
( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) (4النساء).
فلا نبغي أن تأخذ منها ما وهبته لها رغماً عنها، أو تجبرها إلى الإتيان بمالها الذي ورثته وهي كارهة، فإن هذا المال لا ينبغي إلا بطيب نفسٍ.
الحصانة الثالثة للمؤمن
(وهي عرض المؤمن)
فلا ينبغي لمؤمن ان ينتهك عِرْضَ مؤمن، أو يتكلم في حقِّه بكلامٍ لا يليق، أو يغتابه أو يقول في حقه كلمة ليست فيه ليشينه ويعيبه بها، وإنما المؤمن دائماً وأبداً يردُّ الغِيبة عن أخيه، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(من ردَّ الغيبة عن أخيه ردَّ الله عزَّ وجلَّ عنه النار يوم القيامة)( رواه الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه)
ينبغي أن تدافع عن أخيك المؤمن، ولا تؤاخذه بالظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تؤاخذه بما تسمعه من أقوال، ولكن تتثبَّت كما أمر الواحد المتعال:
(إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (6الحجرات).
وفي قراءةٍ: (فتثبتوا). ما دمت لم تر عيناك، ولم تسمع أذناك، فلا تأخذ بالظن، فإن الظن قال فيه صلى الله عليه وسلَّم:
(إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) (البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه)
فعليَّ أن أُحسن الظن، فإن حُسن الظن من الإيمان، ولا يستطيع أحدٌ ضرِّي إلا بإذنٍ من الرحمن عز وجل.
قال صلى الله عليه وسلَّم:
(من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال) ( رواه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما)
وهذا ما يُسمَّى في عالم اليوم التشنيع، يشنِّع عليه بأمرٍ يعلم علم اليقين أنه ليس فيه، هذه الأمور ركَّز عليها النبيُّ، وجعلها أساس حياة المؤمنين،
وقال صلى الله عليه وسلَّم في الحديث الجامع لنا أجمعين:
(كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (رواه أبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه)
أو كما قال:
(أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).
****الخطبة الثانية ****
الحمد لله رب العالمين الذي أنعم علينا بهداه وملأ قلوبنا بتقواه وجعلنا من عباده المسلمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنِّجي قائلها في الدنيا وترفعه يوم الدين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، أسَّس الله به قواعد هذا الدين المتين، وجعله في الدنيا أُسوةً وفي الآخرة شفيعاً لنا أجمعين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله الطيبين، وصحابته المباركين، وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين،
آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
من جملة خطبة الوداع المباركة - التي خطبها سيد الأولين والآخرين - مقياسٌ إلهيّ، قدمه لنا حضرة النبيّ، لو عملنا به سعدنا أجمعين.
وللأسف فإن الناس في عصرنا تركوا هذا المقياس خلف ظهورهم، فساءت الأحوال وضاعت الأوضاع.
أمرنا النبي صلى الله عليه وسلَّم أن نُميِّز الناس بتقوى الله، لا نميزهم بما معهم من مال، ولا بما وصلوا إليه من منصبٍ ولا جاه، ولا بما معهم من أولاد وعائلات، ولا بما تمتعوا به من حسبٍ ونسبٍ،
وإنما أمرنا أن نميِّز بين الناس بحسب ما في القلوب من تقوى علام الغيوب عزَّ وجلَّ،
فقال صلى الله عليه وسلَّم:
(أيها الناس: إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود إلا بتقوى الله والعمل الصالح)( البيهقي عن جابر رضي الله عنه)
وهذا الذي ذكره الله في القرآن فقال:
( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ ) (13الحجرات).
الكريم عند الله هو التَّقي.
وضرب النبي صلى الله عليه وسلَّم لأصحابه مثالاً عمليًّا، كان جالساً معهم ومرَّ عليهم رجلٌ من الوجهاء يبدو عليه أثر النعمة، فقال صلى الله عليه وسلَّم لمن حوله:
(ما رأيكم في هذا؟
قالوا: هذا حريٌّ إن خطب - يعني تقدم لزوجة - أن يُنكح، وإن استأذن على الأمراء أن يؤذن له، وإن تكلم يُنصت له.
ثم مرَّ بعده رجلٌ رثُّ الهيئة من الذين يقول فيهم الحبيب:
(إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبرَّه)( روى الترمذي عن حارثة بن وهب الخزاعي)
فقال: ما رأيكم في هذا؟،
قالوا: هذا حريٌّ إن خطب أن لا يُنكح، وإن استأذن على الأمراء لم يؤذن له، وإن تكلم لم يُنصت له،
قال صلى الله عليه وسلَّم قولته الخالدة:
(إن هذا ـ وأشار إلى الرجل الفقير ـ خيرٌ وأعظم عند الله من ملء الأرض من مثل هذا)( رواه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه)
فأساس التفاضل عند الله بالتقوى والعمل الصالح،
فالمال زائل، ومن عنده مالٌ لا ينفع به نفسه إلا اذا أنفقه في الصالحات،
وصاحب الجاه جاهه كبيرٌ عند الله إذا استخدمه في قضاء مصالح الفقراء والضعفاء من المسلمين، وإذا قصره على منافعه الشخصية ولم يسعى في منافع الأمة المحمدية، فحسابه عسيرٌ يوم يلقى الله عزَّ وجلَّ.
والحسب والنسب يقول فيه الله في الدار الاخرة:
(يا عبادي وضعتُ نسباً ووضعتم نسباً، قلتُ:
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وأبيتم إلا فلان وفلان بن فلان وفلان،
اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي،
أين المتقون؟ فيُنصب للقوم لواء ثم يؤمر بهم إلى الجنة)( أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبى هريرة مرفوعاً)
(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (61الزمر).
لو تعاملنا بهذا الميزان النبوي، والتقوى في القلوب؛ كما أشار نبيُّنا، ولا يعلمها إلا إلهنا وخالقنا وربنا تبارك وتعالى.
(التقوى ها هنا)( روى أحمد والبزار وابن أبي شيبة عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه) -
فينبغي على المسلم احترام كل المسلمين، وتقدير كل المسلمين، وتقديم كل الخير للمسلمين، ما داموا ملتزمين بتعاليم الله، ومقتدين بسنة حبيب الله ومصطفاه، ويسعون لنفع جماعة المؤمنين على الدوام
🤲 ثم الدعاء🤲
وللمزيد من الخطب
الدخول على موقع
فضيلة الشيخ فوزي محمد ابوزيد