**من دروس الهجرة النبوية***
**** علاج مشكلات المجتمع ***
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبو زيد
*********************************
الحمد لله ربِّ العالمين، يعزُّ عباده المؤمنين في كل وقت وحين، باتباعهم لأوامر وسنَّة سيد الأولين والآخرين. فمن أعزَّ القرآن أعزَّه الله ومن تمسك بالسنَّة نصره الله، ومن ابتغى الهدى في غيرهما أضله الله وأعماه.
سبحانه سبحانه! هو العزيز الذي لا يزل أبداً، وهو الحكيم الذي لا يسهو أبداً، وهو الحي القيوم الذي لا يغفل ولا ينام: }
لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وهو العلي العظيم.(٢٥٥ - البقرة)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جمع الخير كله للأولين وللآخرين، وللإنس وللجن وللملائكة، وللشباب وللشيوخ وللنساء وللرجال، وللعرب وللعجم بين دفتي هذا الكتاب، الذي قال فيه وهو العليُّ الوهاب: }
لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا { (49-الكهف).
فسبحان من جعل في هذا الكتاب كل أسباب السعادة في الدنيا ويوم الحساب، وسبحان من نَمَّق في ألفاظ هذا الكتاب ما فيه خير الدنيا والآخرة لجميع الناس، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، ومناهجهم وبلدانهم، وهو عزَّ وجلّ العليُّ العزيز.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخليله. اختاره الله عزَّ وجلَّ لرسالته، وعلَّمه علوماً علوية من علوم حضرته، وجعله هو المعلم الأول لكافة بشريته، فعلمهم ما فيه نفعهم، وحذَّرهم ممَّا فيه ضُرُّهم، ونبههم إلى ما فيه بِرُّهم، وقال لهم في شأنه إلهـهم عزَّ وجلَّ:
"وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " (7-الحشر).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد الذي قام بالذكر والصلاة، وكان عمله خير شراب لمن استضاء به من الأصحاب، وقد كان ردُّه خير بيان لكل قلب يسمع عن الحنان المنان، وكانت توجيهاته هي التوجيهات السديدة للقلوب الرشيدة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وخيار صحبه، وكل من تمسّك بهديه إلى يوم الدين
آمين. (أما بعد)
فيا إخواني جماعة المؤمنين: يا من أغناكم الله بهذا الدين، ووضع لكم وبين أيديكم كنوز الغنى التي بها لا تحتاجون للأولين ولا للآخرين، فما من شئ يصيبكم في أنفسكم أو في مجتمعكم، أو في بيوتكم أو في أزواجكم، أو في أولادكم أو في أرزاقكم، أو شئ من أحوالكم، إلا وتجدون الشفاء التام فيه جاهزاً، إما في كتاب الله، وإما في سنة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإني لأعجب كيف يتيه عَبْدٌ عن علاج نفسه؟!!
أو كيف يتعب في علاج زوجه؟!!
أو كيف ييأس من إصلاح ولده؟!!
أو كيف يبحث عن سبيل لإصلاح مجتمعه؟!!
وبين يديه كتاب الله يُقْلِّبُه، وبين يديه سنة سيدناومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستوضحها، وهو القائل صلى الله عليه وسلم:
{ أَيُّها النَّاسُ إنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ الله وسنتي }[رواه ألإمام مالك في الموطأ عن أنس، ].
إذن من ضلَّ ومن ذلّ، ومن هوى ومن بَعُدَ ومن تعب، فإنما هو لأنه لم يتمسك بما أمره به صلى الله عليه وسلم.
ونحن نستقبل العام الهجري الجديد،
هل من جديد يصلح حالنا؟!!
أو هل من جديد يغير شأننا؟!! هل من جديد يحول أحوالنا إلى أحوال ترضي ربنا عزَّ وجلّ؟!!
تعالوا جميعاً نفتح كنز الهجرة، ونأخذ منه العبرة، فإن هجرة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها العبرة لمن اعتبر، وفيها الحل لكل مشكلات البَشَر!!
فمثلاً - وهو مثالٌ واحدٌ نسوقه كي لا نشق عليكم - ما نعاني منه الآن من مشكلات اقتصادية، ونفسية، واجتماعية، استشرت حتى وصلت إلينا جميعاً!! فلم يَنْجُ منها أحد، لأننا نحتاج إلى بعضنا في أمور الحياة.
فمِنَّا من يشكو من ماله، ومِنَّا من يشكو من رفيق في العمل، ومِنَّا من يشكو من التجار، ومِنَّا من يشكو من الزراع، ومِنَّا من يشكو من المرءوسين، ومِنَّا من يشكو من الحكام والمديرين، ومِنَّا من يشكو من أحوال المجتمع بالمرة.
نشكو من ماذا؟
أصبحنا وكل واحد مِنَّا مشغولٌ بنفسه، لا يفعل إلا عن نفسه، ولا يريد أن يجلب الخير إلا لنفسه، ولا يريد أن يدفع المكروه إلا عن نفسه، ونسى جاره، ونسى أخاه، بل ربما أحياناً ينسى أباه وأمه - حتى يضطرهما أن يرفعا ضده شكاوي في المحاكم، لأنه لا يهتم بأمرهما، ولا يحس بمشاعرهما، ولا يشاركهما في مشاكلهما.
فالتاجر لا يهتم إلا بالكسب السريع - سواء احتكر على المسلمين أو رفع السعر وغالى فيه على المؤمنين، أو غشهم في بيعه أو في وزنه، أو سلعته وصنفها ونوعها، أو في الجودة، لا يهتم بذلك، لأن همَّه كلَّه هو المكسب السريع ولا شأن له بذلك.
والموظف يريد أن يتسلق على أكتاف رفاقه وإخوانه، تارة بالكيد لهم، وأخرى بالتجسس على أحوالهم، وثانية بالقيل والقال لرؤسائه ومديريه ليغير قلوبهم على إخوانهم، ليأخذ مكانهم الذي جُعل لهم ولا يهتم إلا بنفسه! وهكذا يا إخواني.
هل لهذا الشأن من علاج فيما نحن فيه من أحكام وقوانين؟!!
لا والله، فلو سنَّتْ الدولة ألف قانون وقانون، فإنهم يتعلمون كيف يتهربون منها؟ وكيف يجدون المخرج فيها؟ لأن الغالب عليهم هو حب الذات والأثرة والأنانية التي أمتلأت بها النفوس، وأصبحت تعيش وكأنها في يوم الفيامة، والكل يقول نفسي نفسي لا أريد غيرها!!
ما العلاج؟!!
لا يوجد علاج إلا إذا نظرنا إلى كنز الهجرة، ونظرنا إلى ما فيه من علاج هؤلاء القوم!! تركوا دورهم وأموالهم، وأهليهم وزراعاتهم وتجاراتهم، وهاجروا - ولا يجدون حتى الكفاف، بل لا يجد الواحد منهم ما يستر عورته، أو ما يلبسه في قدمه - وذهبوا إلى الأنصار بالمدينة!! فأفاء الله عليهم الخير، ووجدوا عندهم الحدائق الغناء، وعندهم التجارة وعندهم الزراعة،
ماذا فعلوا؟ وماذا صنعوا؟
إن هذا ما يخبرنا عنه الله - وهو العلاج الأوحد لمجتمعنا يا أحباب الله ورسوله:
"يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (9-الحشر).
هذا هو العلاج!! العلاج
أننا نُصْلِحُ القلوب فَنُطَهِّرُهَا من الذنوب، ومن الأثرة ومن الأنانية، ومن حُبِّ الذات، ومن الغِلِّ والحقد، ومن الحرص على الدنيا الفانية، ونملؤها إيماناً بالله، ونملؤها ثقة في وعد الله - حتى تكون بما في يد الله أوثق منها بما في يد أنفسها - ونملؤها يقيناً أن ما قدر لها يكون، وأن الرزق لا يسوقه حرص الحريص، ولا يناله طالب إلا بما كتب له الواحد عزَّ وجلّ، ولن ينال بسعيه وحرصه، وكده وطلبه، ما يناله غيره إلا ما قدره وكتبه له ربه عزَّ وجلّ.
نملأها يقيناً بأن الآخرة خير وأبقى، فيؤثرون الآخرة على الحياة الدنيا، ويُقْبِلُوا على أعمال الآخرة، وأحوال الآخرة، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويفرح إذا رأى الخير عند إخوانه، ويُسَرُّ إذا رأى السرور والطرب عند جيرانه، ويحزن لحزن إخوانه، ويتألم لآلام جيرانه.
قال صلى الله عليه وسلم:
{ لَيْسَ بِالْمُؤْمِنِ الّذي يَبيتُ شَبْعاناً وَجَارُهُ جائِعٌ إِلى جَنْبِهِ وهو لا يشعر به }[رواه الطبراني والبزار عن أنس بن مالك.].
أي: لا يؤمن إيماناً صحيحاً عند الله، ينال به الدرجة العالية من الله، إلا إذا كان يحسُّ بإخوانه، ويشعر بآلام جيرانه، ويشارك أقاربه وخلانه!!
هذا ما صنعه لكم ومعكم الله على يد سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأصبح الرجل منهم يسارع فيما يرضي الله، حتى كان الرجل المهاجر عندما ينزل المدينة المنورة يحضر أهلها ويتنافسون ويتصارعون، وكل يريد أن يأخذه إلى بيته ليحظى بالفضل والرضوان من الله عزَّ وجلّ، ومن شدة تَهَافُتِهِم وصراعهم كان لا يذهب الرجل المهاجر إلى أحدهم إلا إذا أجروا القرعة والمساهمة فيما بينهم!!
فمن وقعت عليه القرعة فهو الذي يفوز بهذا الغُنْمِ الأكبر، وهذا الفوز الأعظم، وهذا الأخ الذي يأخذه ويواسيه، ويطعمه ويجالسه، ويقيمه في بيته، لأنه يعلم أن هذا هو الفضل الأعظم عند الله عزَّ وجلّ. وهذا
عكس ما نراه الآن - فيرى بعضنا أنه إذا أخذ شخصاً ضيفاً إلى بيته يراه غُرْماً!! يراه سيغرمه كوبَ شاي، وسيغرمه بضعَ أرغفة، وسيغرمه مبلغاً من النقود، يراها غرامة.
وهم كانوا يرونها غنيمة!! لأنهم يرجون الفضل من الله عزَّ وجلّ،
حتى أنه بلغ الأمر من أحدهم - لأنهم يتعاملون مع ربهم عزَّ وجلّ - أن أخذ أخاه، وكان هذا الرجل المهاجر هو عبد الرحمن بن عوف، والرجل الأنصاري هو سعد بن الربيع رضى الله عنه فأحضر ماله وقسَّمه نصفين، وقال له: اختر أيهما شئت!! وقسم بيته قسمين، وقال له: اختر أيهما شئت!! ثم قال له: هل تزوجت؟ قال: لا. قال: إن لي زوجتين، فانظر إليهما فأيهما أعجبتك أطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتها حلالاً !!ولأنهم رضى الله عنهم تربوا على مائدة القرآن، وكانوا كما وصفهم الحنان المنان:
"لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا" (273-البقرة).
هذا بالإيثار وهذا بالعفة، فزهدوا في الدنيا، فسُخِّرَتْ لهم الدنيا وكانت لهم الدنيا.
فقال له عبد الرحمن رضى الله عنه:
(بارك الله لك في زوجك، وبارك الله لك في بيتك، وبارك الله لك في مالك، ولكن دُلَّني على السوق).
بماذا كافأه الله على هذه العفّة؟!! كان كما قال رضى الله عنه وأرضاه: لو تاجرت في تراب لحوله الله إلى ذهب!! وعندما مات - وقد هاجر لا يملك قليلاً ولا كثيرا -ً ووزعوا الذهب الذي خلفه على زوجاته، من كثرة هذا الذهب أخذوا يضربونه بالفؤوس ليوزعوه على زوجاته وبنيه، لماذا؟!!
لأنه فتح بالعفة كنز فضل الله، وكنز أخلاق الله، وكنز خَيْرِ الله عزَّ وجلّ له ولزوجه وولده!!!
فهؤلاء تعاملوا بالإيثار، وهؤلاء تعاملوا بالعفة، والكُلُّ تربَّى على مائدة القرآن، وتأسى بالنبي العدنان، فلم يكن لهم في مجتمعهم مشكلة، ولم يكن لهم في مجتمعهم معضلة، ولم ينتابهم في جميع أمورهم أي شئ يعكر صفوهم، أو يشغلهم عن ربِّهم، أو عن عبادة الله، أو عن طاعة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم شغلوا أنفسهم بكتاب الله وبهدى سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلاج أمراضنا في هؤلاء الثلاث:
أولاً: الحُبّ
"يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ" (9-الحشر) : إذا أحببنا بعضنا، ويكفينا في هذا حديثٌ واحد لو طبقناه - على أنفسنا وفي مجتمعنا - ما وجدت مشكلة بيننا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
{ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }[رواه البخاري وأبو يعلي وأحمد عن أنس.].
فكما لا أحب أن يوشي أخي عليَّ وشاية فلا أَشِي على أخي، وكما لا أحب أن يستأثر أخي عليَّ فلا استأثر على أخي، وكما لا أحب أن يسبَّني أخي فلا أسبُّ أخي، وكما لا أحب أن تتطاول علي زوجة جاري فلا أسمح لزوجتي أن تتطاول على جاري، وكما لا أحب أن يؤذيني ابن أخي - أو جاري أو قريبي - فلا أسمح لابني أن يؤذي أخي - أو جاري أو قريبي - وكل شئ لا أرضاه لنفسي لا أرضاه لغيري. إذا فعلنا ذلك لم يكن هناك مشكلة ولا يصير بيننا مشكلة "وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا" (9-الحشر).
العلاج الثاني:
إذا وثقت أن المعطي هو الله، ويعطي بحكمة لا يعلمها إلا الله، فلماذا تحزن إذا لم يعطِ لك ولداً كفلان؟!! ولماذا أغتم إذا حلَّى زوجة هذا ولم يُحَلِّ زوجتي؟!! ولماذا أحمل الهمَّ فوق رأسي إذا جاء لزميلي في العمل ترقية ولم أنالها؟!! وقيل شعراً لأحدهم :
أَلا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِدًا
أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْت الأَدَبْ
أَسَأْت عَلَى اللَّهِ فِي حُكْمِهِ
لأَنَّك لَمْ تَرْضَ مَا قَدْ وَهَبْ
فَجَازَاك رَبِّي بِأَنْ زَادَنِي
وَسَدَّ عَلَيْك وُجُوهَ الطَّلَبْ
الحسود يعترض على المعطي عزَّ وجلّ لأنه هو الذي قسَّم الأرزاق، وهو الذي قسَّم الأخلاق، وهو الذي قسَّم العطاء، وهو الذي - أيضاً - قسَّم البلايا والعناء، ولو نظرت على التحقيق لوجدت أن الكل سواء. فكما أن هذا عنده عطاء فلابد أنه عنده جانب من البلاء - وإن كنت لا أراه ولا أشعر به - ولكن إعلم يقيناً أن الله عزَّ وجلّ
"وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" (46-فصلت).
فإذا رأيت على أخي نعمة، أو رأيته في مِنَّة، فيجب عليَّ أن أفرح وأن أشكر الله، وأن أحمد الله، وأن أدعو الله أن يزيده نعماً على نعمه، وخيراً وبرًّا على خيره وبرِّه، وفضلاً على فضله. ولا تطلب من الله عزَّ وجلّ أن يمحق هذا الفضل، أو أن يذهب هذا البرّ، لأن هذا ليس من خصال المؤمنين، وإنما من خصال الجاحدين والمنافقين - والعياذ بالله عزَّ وجلّ.
فالمؤمن لا يحمل في قلبه ضغينة لأحد، ولا حقداً على أحد، ولا حسداً لأحد، بل يتمنى الخير والبر لجميع عباد الله، حتى أنه يتمنى الهداية للكافرين، ويتمنى العناية للجاحدين، ويتمنى أن يوفق الله المشركين ليهتدوا لهذا الدين، ويحب الخير حتى للكافرين. يحب لهم أن يؤمنوا بالله، وأن يهتدوا بهدى الله، فما بالك بإخوانه المؤمنين؟!!! إنه يحب لهم الخير في الدنيا والسعادة في يوم الدين: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" (9-الحشر)، يفضل إخوانه على نفسه، لأنه يعلم أن الدنيا فانية، وأن النعم الحقيقية هي النعم الباقية في جوار الله عزَّ وجلّ: "وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً" (46-الكهف).
النعم الفانية تحتمل البلاء وتحتمل العطاء، فهي فتنة:
"إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ" (15-التغابن)، حتى المال والولد فتنة!!
" لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ " (40- النمل)،
فإذا وُفِّقَ لشكر الله على نعمة الولد فقد فاز وجاز، وإذا وُفِّقَ لشكر الله على نعمة الزوجة فقد فاز وجاز. ولكنه إذا نسى الله ولم يشكره على نعمه وعطاياه، فقد جحد ورسب في الاختبار الذي أجراه له الله: "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ -لماذا؟ لِيَبْلُوَكُمْ - أي يختبركم- أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ " (1: 2-الملك).
لكن النعم الخالصة - التي ليس فيها احتمال، وإنما هي محض عطاء - أن يوفقك للعبادات، وأن يفتح لك باب القبول على الطاعات والقربات، وأن يُلْهمَ لسانك ذكره وشكره وحُسن عبادته، وأن يحبِّب إليك تلاوة القرآن، وأن يحبِّب إليك متابعة النَّبِيِّ العدنان، وأن يحبِّب إليك فِعْلَ الخير في كل وقت وآن، وأن يذكِّرك بالدار الآخرة لتستعد لها، وأن يذكِّرك بالموت لتتأهب له.
هذه هي النعم الحقيقية التي يفرح بها المؤمنون، وليس فيها ابتلاء، وليس فيها فتن، وليس فيها اختبار، وإنما هي كما ورد فى الأثر:
{ إذا أَكْرَمَ اللهُ عَبْداً أَلْهَمَهُ ذِكْرَه، وألزمه بابه وآنسه به، يصرف إليه بالبِرِّ والفوائد، ويُمِدُّه مِنْ عند نفسه بالزوائد، ويصرف عنه أشغال الدنيا والبلايا، فيصير من خالص عباد الله وأحبابه، فطوبى له حيًّا وميتاً، لو علم المغترون بالدنيا ما فاتهم - من حظ المقربين، وتلذذ الذاكرين، وسرور المحبين - لمَاتُوا كَمَداً } [الزهد الكبير للبيهقي رواية عن ذى النون]
إذا أحب الله عبداً يلهمه بذكره وشكره وحسن عبادته عزَّ وجلّ، فإذا استطعنا أن نحيي في نفوسنا هذه المعاني: الحُبَّ لعباد الله، وأن نحمي نفوسنا من البغضاء والشحناء، والحقد والحسد لجميع عباد الله، وأن نملأ قلوبنا بالرغبة في العمل الدائم الذي ينفعنا بعد هذه الحياة، من الإيثار، ومن المعونة، ومن المساعدة، ومن المواصلة، ومن البرِّ ومن كظم الغيظ، ومن العفو عن الناس، ومن الإحسان إلى المظلومين، ومن مساعدة المنكوبين، ومن التفريج عن المكروبين. إذا أحببنا هذه الأعمال وقُمْنَا بها، فلن يكون في مجتمعنا مشكلة أبداً - يا إخواني جماعة المؤمنين!!
ورد عن أصحاب نبيِّكم الكريم: أن رجلاً ذبح شاة وتصدق برأسها على رجل من الفقراء، فجلس مع زوجته فنظر في أمر نفسه وأمر إخوانه ثم قال: يا أم فلان إن أخي فلان أحوج إليها مني، وذهب وأعطاها له. فجلس الثاني مع زوجته ونظر في أمر إخوانه المؤمنين وقال: يا أم فلان إن أخي فلان أحوج إلى هذه الرأس مني، وذهب وأعطاها إليه. فطافت الرأس على سبعة دور، ثم رجعت إلى الأول مرة ثانية!! لتثبت سلامة صدورهم، ورِقَّةِ شعورهم وإحساسهم، واستحقاقهم للوسام الذي وسَمَهم به ربُّهم: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (9-الحشر).
نسأل الله عزَّ وجلّ أن ينفعنا بتلك الآداب، وأن يخلقنا بتلك الأخلاق.
قال صلى الله عليه وسلم: {ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء}[رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عمر.]،
وقال صلى الله عليه وسلم:
{المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ، والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه}[رواه ابن حبان والطبراني والحاكم عن فضالة ابن عبيد رضي الله عنه]
أو كما قال: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونتوب إليه ونستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، السميع البصير، اللطيف الخبير.
وأشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر، ونجنا واشفنا وانصرنا على أنفسنا وعلى أعدائنا يا ربَّ العالمين.
(أما بعد)
فيا إخواني ويا أحبابي جماعة المؤمنين:
اعلموا علم اليقين أن آخر هذه الأمة لن يسعد إلا بما سعد به أولها، وأولها لم ينالوا السعادة بالعمارات الشاهقة، والأرصدة الزائدة، والمصانع الشامخة، وإنما نالوا السعادة بما في نفوسهم من حُبٍّ وشوق، وزُهْدٍ وورع، وتُقَى وغنى بالله، وعفافٍ عمَّا حرَّمه الله عزَّ وجلّ ، ولن ينصلح حال مجتمعنا إلا إذا عدنا لهذه الأخلاق النورانية، ولهذه الخصال الإلهية، التي أوصانا بها الله عزَّ وجلّ في كتابه، وبيَّنها لنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هديه وفي سنته صلى الله عليه وسلم.
فإن المجتمع الذي أسسوه أُسس على هذه الأخلاق، فكان الرجل منهم لو عرضت عليه كنوز الدنيا لا تلفته عن خُلُقٍ تَخَلَّقَ به لله، وهداه إلى التمسك به سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
انظروا إلى هؤلاء القوم وقد خرجوا من المدينة حفاة عراة، لا يملكون قليلاً ولا كثيراً، وفتح الله لهم كنوز كسرى وكنوز قيصر، وكانت شيئاً يدهش العيون، لم تفكر فيه عقولهم، ولم يرواد خيالهم مما فيه من مجوهرات، ومما فيه من ذهب وفضة، وما فيه من عسجد واستبرق، وما فيه من أصناف المباهج والرياش التي لم تخطر ببال واحد منهم قط في حياته كلها!!
ولكنهم عندما فُتِحَتْ لهم الكنوز لم تشغل بالهم، وما سلبت عقولهم، ولم تغيِّر طباعهم وأخلاقهم، وهذا هو المهم - فقد قال لهم القائد: مَنْ وَجَدَ شيئاً فليؤده لنا. فكانوا يُحضرون كل شئ، حتى أن الرجل الذي وجد إبرة - وليست بذات شأن - كان يأتي ويسلمها إليه!! لا يَدُسُّ شيئاً في ثيابه، ولا يخفي شيئاً في متاعه، لأنه يراقب الله، ويحرص على هذا الخُلُقِ الكريم الذي خلَّقه به الله، والذي وصَّاه به سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الأمانة، الأمانة في كل شئ.
فحُمِّلت الكنوز على جمال، كان أولها في المدينة المنورة وآخرها في بلاد فارس - كما يقول الرواة فى الأثر - وعندما وُضِعَتْ أمام عمر بن الخطاب لم تطرف عينه، ولم تشغل باله، ولم يجد صراعاً لاكتسابها أو للحصول عليها!! وإنما جلسوا متعجبين، ولسان حالهم يقول ، كما قال القائد عندما رآها:
" كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ " (25: 28-الدخان).
علموا أن هؤلاء ضاعت منهم النعم لأنهم لم يشكروا واهب النعم عزَّ وجلّ، فرجعوا إلى الله شاكرين حتى لا يشغلهم بالنعم عنه، لأنهم يريدون أن يكونوا مع المنعم عزَّ وجلّ في جميع أحوالهم، وفي جميع أوقاتهم.
فقال عمر بن الخطاب - عندما رأى هذه الكنوز الفارهة: (إن قوماً أدوا هذا لأمناء!! فقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه وكرم الله وجهه: (عففت فعفت رعيتك يا أمير المؤمنين).
هذا الذي نحتاجه، نحتاج إلى بناء الأمانة في أولادنا وفي أنفسنا وفي أزواجنا.
نحتاج إلى بناء الإخلاص في قلوبنا وفي قلوب عمالنا، ليكون خالصاً لله عزَّ وجلّ، لأنهم لا يرجون سواه ولا يراقبون إلا إياه.
نحتاج لبناء الصدق في قلوب أهل مجتمعنا حتى نطمئن في بيعنا وفي شرائنا، لأننا صرنا لا نثق في بعضنا، حتى ضاعت الثقة في الأمين، لأن الثقة أصبحت مفقودة بانتشار الكذب بين جماعة المسلمين.
حتى أنه لو جاء رجل منهم - وقد قرأ عن دين الله - ويريد أن يرى العباد الذين يتبعون هذا الدين، فيرى أحوال المسلمين، هل يعتقد أن هؤلاء اتباع سيد الأولين والآخرين؟!! هل يعرفهم بأوصافهم؟!!
إنه ينظر إلى وصفهم في القرآن أنهم لا يكذبون، ويرى أمام عينيه كل تعاملاتهم مبنية على الكذب!! يقرأ أنهم لا يخونون، ويرى أن كل همِّهم الخيانة وليست للأمانة عندهم صيانة!! يقرأ عن أمانتهم، ويقرأ عن شهامتهم، ويقرأ عن كرم ضيافتهم، وينظر إلى الموجودين، فيرى مسلمين بغير إسلام!! يرى مسلمين بالاسم وبشهادة الميلاد وبالبطاقات !! لكن أخلاقهم أخلاق الكافرين أو أخلاقهم أخلاق المنافقين أو أخلاقهم أخلاق غير المسلمين!!
فأخوك فى الدين هو كما قال سيد الأولين والاخرين: { من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته }[مسند الشهاب ، عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه]،
وكما ورد فى الأثر المشهور: الدين المعاملة، الدين المعاملة، الدين المعاملة ......... ثم الدعاء
*****************************
وللمزيد من الخطب الدخول على موقع فضيلة الشيخ فوزي محمد أبو زيد
ربما تحتوي الصورة على: شخص واحد، ووقوف
**** علاج مشكلات المجتمع ***
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبو زيد
*********************************
الحمد لله ربِّ العالمين، يعزُّ عباده المؤمنين في كل وقت وحين، باتباعهم لأوامر وسنَّة سيد الأولين والآخرين. فمن أعزَّ القرآن أعزَّه الله ومن تمسك بالسنَّة نصره الله، ومن ابتغى الهدى في غيرهما أضله الله وأعماه.
سبحانه سبحانه! هو العزيز الذي لا يزل أبداً، وهو الحكيم الذي لا يسهو أبداً، وهو الحي القيوم الذي لا يغفل ولا ينام: }
لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وهو العلي العظيم.(٢٥٥ - البقرة)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جمع الخير كله للأولين وللآخرين، وللإنس وللجن وللملائكة، وللشباب وللشيوخ وللنساء وللرجال، وللعرب وللعجم بين دفتي هذا الكتاب، الذي قال فيه وهو العليُّ الوهاب: }
لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا { (49-الكهف).
فسبحان من جعل في هذا الكتاب كل أسباب السعادة في الدنيا ويوم الحساب، وسبحان من نَمَّق في ألفاظ هذا الكتاب ما فيه خير الدنيا والآخرة لجميع الناس، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، ومناهجهم وبلدانهم، وهو عزَّ وجلّ العليُّ العزيز.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخليله. اختاره الله عزَّ وجلَّ لرسالته، وعلَّمه علوماً علوية من علوم حضرته، وجعله هو المعلم الأول لكافة بشريته، فعلمهم ما فيه نفعهم، وحذَّرهم ممَّا فيه ضُرُّهم، ونبههم إلى ما فيه بِرُّهم، وقال لهم في شأنه إلهـهم عزَّ وجلَّ:
"وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " (7-الحشر).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد الذي قام بالذكر والصلاة، وكان عمله خير شراب لمن استضاء به من الأصحاب، وقد كان ردُّه خير بيان لكل قلب يسمع عن الحنان المنان، وكانت توجيهاته هي التوجيهات السديدة للقلوب الرشيدة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وخيار صحبه، وكل من تمسّك بهديه إلى يوم الدين
آمين. (أما بعد)
فيا إخواني جماعة المؤمنين: يا من أغناكم الله بهذا الدين، ووضع لكم وبين أيديكم كنوز الغنى التي بها لا تحتاجون للأولين ولا للآخرين، فما من شئ يصيبكم في أنفسكم أو في مجتمعكم، أو في بيوتكم أو في أزواجكم، أو في أولادكم أو في أرزاقكم، أو شئ من أحوالكم، إلا وتجدون الشفاء التام فيه جاهزاً، إما في كتاب الله، وإما في سنة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإني لأعجب كيف يتيه عَبْدٌ عن علاج نفسه؟!!
أو كيف يتعب في علاج زوجه؟!!
أو كيف ييأس من إصلاح ولده؟!!
أو كيف يبحث عن سبيل لإصلاح مجتمعه؟!!
وبين يديه كتاب الله يُقْلِّبُه، وبين يديه سنة سيدناومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستوضحها، وهو القائل صلى الله عليه وسلم:
{ أَيُّها النَّاسُ إنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ الله وسنتي }[رواه ألإمام مالك في الموطأ عن أنس، ].
إذن من ضلَّ ومن ذلّ، ومن هوى ومن بَعُدَ ومن تعب، فإنما هو لأنه لم يتمسك بما أمره به صلى الله عليه وسلم.
ونحن نستقبل العام الهجري الجديد،
هل من جديد يصلح حالنا؟!!
أو هل من جديد يغير شأننا؟!! هل من جديد يحول أحوالنا إلى أحوال ترضي ربنا عزَّ وجلّ؟!!
تعالوا جميعاً نفتح كنز الهجرة، ونأخذ منه العبرة، فإن هجرة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها العبرة لمن اعتبر، وفيها الحل لكل مشكلات البَشَر!!
فمثلاً - وهو مثالٌ واحدٌ نسوقه كي لا نشق عليكم - ما نعاني منه الآن من مشكلات اقتصادية، ونفسية، واجتماعية، استشرت حتى وصلت إلينا جميعاً!! فلم يَنْجُ منها أحد، لأننا نحتاج إلى بعضنا في أمور الحياة.
فمِنَّا من يشكو من ماله، ومِنَّا من يشكو من رفيق في العمل، ومِنَّا من يشكو من التجار، ومِنَّا من يشكو من الزراع، ومِنَّا من يشكو من المرءوسين، ومِنَّا من يشكو من الحكام والمديرين، ومِنَّا من يشكو من أحوال المجتمع بالمرة.
نشكو من ماذا؟
أصبحنا وكل واحد مِنَّا مشغولٌ بنفسه، لا يفعل إلا عن نفسه، ولا يريد أن يجلب الخير إلا لنفسه، ولا يريد أن يدفع المكروه إلا عن نفسه، ونسى جاره، ونسى أخاه، بل ربما أحياناً ينسى أباه وأمه - حتى يضطرهما أن يرفعا ضده شكاوي في المحاكم، لأنه لا يهتم بأمرهما، ولا يحس بمشاعرهما، ولا يشاركهما في مشاكلهما.
فالتاجر لا يهتم إلا بالكسب السريع - سواء احتكر على المسلمين أو رفع السعر وغالى فيه على المؤمنين، أو غشهم في بيعه أو في وزنه، أو سلعته وصنفها ونوعها، أو في الجودة، لا يهتم بذلك، لأن همَّه كلَّه هو المكسب السريع ولا شأن له بذلك.
والموظف يريد أن يتسلق على أكتاف رفاقه وإخوانه، تارة بالكيد لهم، وأخرى بالتجسس على أحوالهم، وثانية بالقيل والقال لرؤسائه ومديريه ليغير قلوبهم على إخوانهم، ليأخذ مكانهم الذي جُعل لهم ولا يهتم إلا بنفسه! وهكذا يا إخواني.
هل لهذا الشأن من علاج فيما نحن فيه من أحكام وقوانين؟!!
لا والله، فلو سنَّتْ الدولة ألف قانون وقانون، فإنهم يتعلمون كيف يتهربون منها؟ وكيف يجدون المخرج فيها؟ لأن الغالب عليهم هو حب الذات والأثرة والأنانية التي أمتلأت بها النفوس، وأصبحت تعيش وكأنها في يوم الفيامة، والكل يقول نفسي نفسي لا أريد غيرها!!
ما العلاج؟!!
لا يوجد علاج إلا إذا نظرنا إلى كنز الهجرة، ونظرنا إلى ما فيه من علاج هؤلاء القوم!! تركوا دورهم وأموالهم، وأهليهم وزراعاتهم وتجاراتهم، وهاجروا - ولا يجدون حتى الكفاف، بل لا يجد الواحد منهم ما يستر عورته، أو ما يلبسه في قدمه - وذهبوا إلى الأنصار بالمدينة!! فأفاء الله عليهم الخير، ووجدوا عندهم الحدائق الغناء، وعندهم التجارة وعندهم الزراعة،
ماذا فعلوا؟ وماذا صنعوا؟
إن هذا ما يخبرنا عنه الله - وهو العلاج الأوحد لمجتمعنا يا أحباب الله ورسوله:
"يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (9-الحشر).
هذا هو العلاج!! العلاج
أننا نُصْلِحُ القلوب فَنُطَهِّرُهَا من الذنوب، ومن الأثرة ومن الأنانية، ومن حُبِّ الذات، ومن الغِلِّ والحقد، ومن الحرص على الدنيا الفانية، ونملؤها إيماناً بالله، ونملؤها ثقة في وعد الله - حتى تكون بما في يد الله أوثق منها بما في يد أنفسها - ونملؤها يقيناً أن ما قدر لها يكون، وأن الرزق لا يسوقه حرص الحريص، ولا يناله طالب إلا بما كتب له الواحد عزَّ وجلّ، ولن ينال بسعيه وحرصه، وكده وطلبه، ما يناله غيره إلا ما قدره وكتبه له ربه عزَّ وجلّ.
نملأها يقيناً بأن الآخرة خير وأبقى، فيؤثرون الآخرة على الحياة الدنيا، ويُقْبِلُوا على أعمال الآخرة، وأحوال الآخرة، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويفرح إذا رأى الخير عند إخوانه، ويُسَرُّ إذا رأى السرور والطرب عند جيرانه، ويحزن لحزن إخوانه، ويتألم لآلام جيرانه.
قال صلى الله عليه وسلم:
{ لَيْسَ بِالْمُؤْمِنِ الّذي يَبيتُ شَبْعاناً وَجَارُهُ جائِعٌ إِلى جَنْبِهِ وهو لا يشعر به }[رواه الطبراني والبزار عن أنس بن مالك.].
أي: لا يؤمن إيماناً صحيحاً عند الله، ينال به الدرجة العالية من الله، إلا إذا كان يحسُّ بإخوانه، ويشعر بآلام جيرانه، ويشارك أقاربه وخلانه!!
هذا ما صنعه لكم ومعكم الله على يد سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأصبح الرجل منهم يسارع فيما يرضي الله، حتى كان الرجل المهاجر عندما ينزل المدينة المنورة يحضر أهلها ويتنافسون ويتصارعون، وكل يريد أن يأخذه إلى بيته ليحظى بالفضل والرضوان من الله عزَّ وجلّ، ومن شدة تَهَافُتِهِم وصراعهم كان لا يذهب الرجل المهاجر إلى أحدهم إلا إذا أجروا القرعة والمساهمة فيما بينهم!!
فمن وقعت عليه القرعة فهو الذي يفوز بهذا الغُنْمِ الأكبر، وهذا الفوز الأعظم، وهذا الأخ الذي يأخذه ويواسيه، ويطعمه ويجالسه، ويقيمه في بيته، لأنه يعلم أن هذا هو الفضل الأعظم عند الله عزَّ وجلّ. وهذا
عكس ما نراه الآن - فيرى بعضنا أنه إذا أخذ شخصاً ضيفاً إلى بيته يراه غُرْماً!! يراه سيغرمه كوبَ شاي، وسيغرمه بضعَ أرغفة، وسيغرمه مبلغاً من النقود، يراها غرامة.
وهم كانوا يرونها غنيمة!! لأنهم يرجون الفضل من الله عزَّ وجلّ،
حتى أنه بلغ الأمر من أحدهم - لأنهم يتعاملون مع ربهم عزَّ وجلّ - أن أخذ أخاه، وكان هذا الرجل المهاجر هو عبد الرحمن بن عوف، والرجل الأنصاري هو سعد بن الربيع رضى الله عنه فأحضر ماله وقسَّمه نصفين، وقال له: اختر أيهما شئت!! وقسم بيته قسمين، وقال له: اختر أيهما شئت!! ثم قال له: هل تزوجت؟ قال: لا. قال: إن لي زوجتين، فانظر إليهما فأيهما أعجبتك أطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتها حلالاً !!ولأنهم رضى الله عنهم تربوا على مائدة القرآن، وكانوا كما وصفهم الحنان المنان:
"لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا" (273-البقرة).
هذا بالإيثار وهذا بالعفة، فزهدوا في الدنيا، فسُخِّرَتْ لهم الدنيا وكانت لهم الدنيا.
فقال له عبد الرحمن رضى الله عنه:
(بارك الله لك في زوجك، وبارك الله لك في بيتك، وبارك الله لك في مالك، ولكن دُلَّني على السوق).
بماذا كافأه الله على هذه العفّة؟!! كان كما قال رضى الله عنه وأرضاه: لو تاجرت في تراب لحوله الله إلى ذهب!! وعندما مات - وقد هاجر لا يملك قليلاً ولا كثيرا -ً ووزعوا الذهب الذي خلفه على زوجاته، من كثرة هذا الذهب أخذوا يضربونه بالفؤوس ليوزعوه على زوجاته وبنيه، لماذا؟!!
لأنه فتح بالعفة كنز فضل الله، وكنز أخلاق الله، وكنز خَيْرِ الله عزَّ وجلّ له ولزوجه وولده!!!
فهؤلاء تعاملوا بالإيثار، وهؤلاء تعاملوا بالعفة، والكُلُّ تربَّى على مائدة القرآن، وتأسى بالنبي العدنان، فلم يكن لهم في مجتمعهم مشكلة، ولم يكن لهم في مجتمعهم معضلة، ولم ينتابهم في جميع أمورهم أي شئ يعكر صفوهم، أو يشغلهم عن ربِّهم، أو عن عبادة الله، أو عن طاعة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم شغلوا أنفسهم بكتاب الله وبهدى سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلاج أمراضنا في هؤلاء الثلاث:
أولاً: الحُبّ
"يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ" (9-الحشر) : إذا أحببنا بعضنا، ويكفينا في هذا حديثٌ واحد لو طبقناه - على أنفسنا وفي مجتمعنا - ما وجدت مشكلة بيننا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
{ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }[رواه البخاري وأبو يعلي وأحمد عن أنس.].
فكما لا أحب أن يوشي أخي عليَّ وشاية فلا أَشِي على أخي، وكما لا أحب أن يستأثر أخي عليَّ فلا استأثر على أخي، وكما لا أحب أن يسبَّني أخي فلا أسبُّ أخي، وكما لا أحب أن تتطاول علي زوجة جاري فلا أسمح لزوجتي أن تتطاول على جاري، وكما لا أحب أن يؤذيني ابن أخي - أو جاري أو قريبي - فلا أسمح لابني أن يؤذي أخي - أو جاري أو قريبي - وكل شئ لا أرضاه لنفسي لا أرضاه لغيري. إذا فعلنا ذلك لم يكن هناك مشكلة ولا يصير بيننا مشكلة "وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا" (9-الحشر).
العلاج الثاني:
إذا وثقت أن المعطي هو الله، ويعطي بحكمة لا يعلمها إلا الله، فلماذا تحزن إذا لم يعطِ لك ولداً كفلان؟!! ولماذا أغتم إذا حلَّى زوجة هذا ولم يُحَلِّ زوجتي؟!! ولماذا أحمل الهمَّ فوق رأسي إذا جاء لزميلي في العمل ترقية ولم أنالها؟!! وقيل شعراً لأحدهم :
أَلا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِدًا
أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْت الأَدَبْ
أَسَأْت عَلَى اللَّهِ فِي حُكْمِهِ
لأَنَّك لَمْ تَرْضَ مَا قَدْ وَهَبْ
فَجَازَاك رَبِّي بِأَنْ زَادَنِي
وَسَدَّ عَلَيْك وُجُوهَ الطَّلَبْ
الحسود يعترض على المعطي عزَّ وجلّ لأنه هو الذي قسَّم الأرزاق، وهو الذي قسَّم الأخلاق، وهو الذي قسَّم العطاء، وهو الذي - أيضاً - قسَّم البلايا والعناء، ولو نظرت على التحقيق لوجدت أن الكل سواء. فكما أن هذا عنده عطاء فلابد أنه عنده جانب من البلاء - وإن كنت لا أراه ولا أشعر به - ولكن إعلم يقيناً أن الله عزَّ وجلّ
"وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" (46-فصلت).
فإذا رأيت على أخي نعمة، أو رأيته في مِنَّة، فيجب عليَّ أن أفرح وأن أشكر الله، وأن أحمد الله، وأن أدعو الله أن يزيده نعماً على نعمه، وخيراً وبرًّا على خيره وبرِّه، وفضلاً على فضله. ولا تطلب من الله عزَّ وجلّ أن يمحق هذا الفضل، أو أن يذهب هذا البرّ، لأن هذا ليس من خصال المؤمنين، وإنما من خصال الجاحدين والمنافقين - والعياذ بالله عزَّ وجلّ.
فالمؤمن لا يحمل في قلبه ضغينة لأحد، ولا حقداً على أحد، ولا حسداً لأحد، بل يتمنى الخير والبر لجميع عباد الله، حتى أنه يتمنى الهداية للكافرين، ويتمنى العناية للجاحدين، ويتمنى أن يوفق الله المشركين ليهتدوا لهذا الدين، ويحب الخير حتى للكافرين. يحب لهم أن يؤمنوا بالله، وأن يهتدوا بهدى الله، فما بالك بإخوانه المؤمنين؟!!! إنه يحب لهم الخير في الدنيا والسعادة في يوم الدين: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" (9-الحشر)، يفضل إخوانه على نفسه، لأنه يعلم أن الدنيا فانية، وأن النعم الحقيقية هي النعم الباقية في جوار الله عزَّ وجلّ: "وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً" (46-الكهف).
النعم الفانية تحتمل البلاء وتحتمل العطاء، فهي فتنة:
"إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ" (15-التغابن)، حتى المال والولد فتنة!!
" لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ " (40- النمل)،
فإذا وُفِّقَ لشكر الله على نعمة الولد فقد فاز وجاز، وإذا وُفِّقَ لشكر الله على نعمة الزوجة فقد فاز وجاز. ولكنه إذا نسى الله ولم يشكره على نعمه وعطاياه، فقد جحد ورسب في الاختبار الذي أجراه له الله: "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ -لماذا؟ لِيَبْلُوَكُمْ - أي يختبركم- أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ " (1: 2-الملك).
لكن النعم الخالصة - التي ليس فيها احتمال، وإنما هي محض عطاء - أن يوفقك للعبادات، وأن يفتح لك باب القبول على الطاعات والقربات، وأن يُلْهمَ لسانك ذكره وشكره وحُسن عبادته، وأن يحبِّب إليك تلاوة القرآن، وأن يحبِّب إليك متابعة النَّبِيِّ العدنان، وأن يحبِّب إليك فِعْلَ الخير في كل وقت وآن، وأن يذكِّرك بالدار الآخرة لتستعد لها، وأن يذكِّرك بالموت لتتأهب له.
هذه هي النعم الحقيقية التي يفرح بها المؤمنون، وليس فيها ابتلاء، وليس فيها فتن، وليس فيها اختبار، وإنما هي كما ورد فى الأثر:
{ إذا أَكْرَمَ اللهُ عَبْداً أَلْهَمَهُ ذِكْرَه، وألزمه بابه وآنسه به، يصرف إليه بالبِرِّ والفوائد، ويُمِدُّه مِنْ عند نفسه بالزوائد، ويصرف عنه أشغال الدنيا والبلايا، فيصير من خالص عباد الله وأحبابه، فطوبى له حيًّا وميتاً، لو علم المغترون بالدنيا ما فاتهم - من حظ المقربين، وتلذذ الذاكرين، وسرور المحبين - لمَاتُوا كَمَداً } [الزهد الكبير للبيهقي رواية عن ذى النون]
إذا أحب الله عبداً يلهمه بذكره وشكره وحسن عبادته عزَّ وجلّ، فإذا استطعنا أن نحيي في نفوسنا هذه المعاني: الحُبَّ لعباد الله، وأن نحمي نفوسنا من البغضاء والشحناء، والحقد والحسد لجميع عباد الله، وأن نملأ قلوبنا بالرغبة في العمل الدائم الذي ينفعنا بعد هذه الحياة، من الإيثار، ومن المعونة، ومن المساعدة، ومن المواصلة، ومن البرِّ ومن كظم الغيظ، ومن العفو عن الناس، ومن الإحسان إلى المظلومين، ومن مساعدة المنكوبين، ومن التفريج عن المكروبين. إذا أحببنا هذه الأعمال وقُمْنَا بها، فلن يكون في مجتمعنا مشكلة أبداً - يا إخواني جماعة المؤمنين!!
ورد عن أصحاب نبيِّكم الكريم: أن رجلاً ذبح شاة وتصدق برأسها على رجل من الفقراء، فجلس مع زوجته فنظر في أمر نفسه وأمر إخوانه ثم قال: يا أم فلان إن أخي فلان أحوج إليها مني، وذهب وأعطاها له. فجلس الثاني مع زوجته ونظر في أمر إخوانه المؤمنين وقال: يا أم فلان إن أخي فلان أحوج إلى هذه الرأس مني، وذهب وأعطاها إليه. فطافت الرأس على سبعة دور، ثم رجعت إلى الأول مرة ثانية!! لتثبت سلامة صدورهم، ورِقَّةِ شعورهم وإحساسهم، واستحقاقهم للوسام الذي وسَمَهم به ربُّهم: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (9-الحشر).
نسأل الله عزَّ وجلّ أن ينفعنا بتلك الآداب، وأن يخلقنا بتلك الأخلاق.
قال صلى الله عليه وسلم: {ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء}[رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عمر.]،
وقال صلى الله عليه وسلم:
{المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ، والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه}[رواه ابن حبان والطبراني والحاكم عن فضالة ابن عبيد رضي الله عنه]
أو كما قال: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونتوب إليه ونستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، السميع البصير، اللطيف الخبير.
وأشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر، ونجنا واشفنا وانصرنا على أنفسنا وعلى أعدائنا يا ربَّ العالمين.
(أما بعد)
فيا إخواني ويا أحبابي جماعة المؤمنين:
اعلموا علم اليقين أن آخر هذه الأمة لن يسعد إلا بما سعد به أولها، وأولها لم ينالوا السعادة بالعمارات الشاهقة، والأرصدة الزائدة، والمصانع الشامخة، وإنما نالوا السعادة بما في نفوسهم من حُبٍّ وشوق، وزُهْدٍ وورع، وتُقَى وغنى بالله، وعفافٍ عمَّا حرَّمه الله عزَّ وجلّ ، ولن ينصلح حال مجتمعنا إلا إذا عدنا لهذه الأخلاق النورانية، ولهذه الخصال الإلهية، التي أوصانا بها الله عزَّ وجلّ في كتابه، وبيَّنها لنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هديه وفي سنته صلى الله عليه وسلم.
فإن المجتمع الذي أسسوه أُسس على هذه الأخلاق، فكان الرجل منهم لو عرضت عليه كنوز الدنيا لا تلفته عن خُلُقٍ تَخَلَّقَ به لله، وهداه إلى التمسك به سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
انظروا إلى هؤلاء القوم وقد خرجوا من المدينة حفاة عراة، لا يملكون قليلاً ولا كثيراً، وفتح الله لهم كنوز كسرى وكنوز قيصر، وكانت شيئاً يدهش العيون، لم تفكر فيه عقولهم، ولم يرواد خيالهم مما فيه من مجوهرات، ومما فيه من ذهب وفضة، وما فيه من عسجد واستبرق، وما فيه من أصناف المباهج والرياش التي لم تخطر ببال واحد منهم قط في حياته كلها!!
ولكنهم عندما فُتِحَتْ لهم الكنوز لم تشغل بالهم، وما سلبت عقولهم، ولم تغيِّر طباعهم وأخلاقهم، وهذا هو المهم - فقد قال لهم القائد: مَنْ وَجَدَ شيئاً فليؤده لنا. فكانوا يُحضرون كل شئ، حتى أن الرجل الذي وجد إبرة - وليست بذات شأن - كان يأتي ويسلمها إليه!! لا يَدُسُّ شيئاً في ثيابه، ولا يخفي شيئاً في متاعه، لأنه يراقب الله، ويحرص على هذا الخُلُقِ الكريم الذي خلَّقه به الله، والذي وصَّاه به سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الأمانة، الأمانة في كل شئ.
فحُمِّلت الكنوز على جمال، كان أولها في المدينة المنورة وآخرها في بلاد فارس - كما يقول الرواة فى الأثر - وعندما وُضِعَتْ أمام عمر بن الخطاب لم تطرف عينه، ولم تشغل باله، ولم يجد صراعاً لاكتسابها أو للحصول عليها!! وإنما جلسوا متعجبين، ولسان حالهم يقول ، كما قال القائد عندما رآها:
" كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ " (25: 28-الدخان).
علموا أن هؤلاء ضاعت منهم النعم لأنهم لم يشكروا واهب النعم عزَّ وجلّ، فرجعوا إلى الله شاكرين حتى لا يشغلهم بالنعم عنه، لأنهم يريدون أن يكونوا مع المنعم عزَّ وجلّ في جميع أحوالهم، وفي جميع أوقاتهم.
فقال عمر بن الخطاب - عندما رأى هذه الكنوز الفارهة: (إن قوماً أدوا هذا لأمناء!! فقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه وكرم الله وجهه: (عففت فعفت رعيتك يا أمير المؤمنين).
هذا الذي نحتاجه، نحتاج إلى بناء الأمانة في أولادنا وفي أنفسنا وفي أزواجنا.
نحتاج إلى بناء الإخلاص في قلوبنا وفي قلوب عمالنا، ليكون خالصاً لله عزَّ وجلّ، لأنهم لا يرجون سواه ولا يراقبون إلا إياه.
نحتاج لبناء الصدق في قلوب أهل مجتمعنا حتى نطمئن في بيعنا وفي شرائنا، لأننا صرنا لا نثق في بعضنا، حتى ضاعت الثقة في الأمين، لأن الثقة أصبحت مفقودة بانتشار الكذب بين جماعة المسلمين.
حتى أنه لو جاء رجل منهم - وقد قرأ عن دين الله - ويريد أن يرى العباد الذين يتبعون هذا الدين، فيرى أحوال المسلمين، هل يعتقد أن هؤلاء اتباع سيد الأولين والآخرين؟!! هل يعرفهم بأوصافهم؟!!
إنه ينظر إلى وصفهم في القرآن أنهم لا يكذبون، ويرى أمام عينيه كل تعاملاتهم مبنية على الكذب!! يقرأ أنهم لا يخونون، ويرى أن كل همِّهم الخيانة وليست للأمانة عندهم صيانة!! يقرأ عن أمانتهم، ويقرأ عن شهامتهم، ويقرأ عن كرم ضيافتهم، وينظر إلى الموجودين، فيرى مسلمين بغير إسلام!! يرى مسلمين بالاسم وبشهادة الميلاد وبالبطاقات !! لكن أخلاقهم أخلاق الكافرين أو أخلاقهم أخلاق المنافقين أو أخلاقهم أخلاق غير المسلمين!!
فأخوك فى الدين هو كما قال سيد الأولين والاخرين: { من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته }[مسند الشهاب ، عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه]،
وكما ورد فى الأثر المشهور: الدين المعاملة، الدين المعاملة، الدين المعاملة ......... ثم الدعاء
*****************************
وللمزيد من الخطب الدخول على موقع فضيلة الشيخ فوزي محمد أبو زيد
ربما تحتوي الصورة على: شخص واحد، ووقوف