الحمد لله ربِّ العالمين، ألَّفَ بين قلوب عباده المؤمنين وجعلهم أخوةً متآلفين متوادِّين متحابين، ورزقهم بعد ذلك النصر والتمكين. سبحانه .. سبحانه، هو الواحد في فعله، الأحد في صُنعه، الذي جعل كل شئٍ في الكون كلِّه بإذنه، فلا يحدث شئٌ في الكون عالٍ أو دانٍ إلا بأمره، لأنه مالك الملك والملكوت والدنيا والآخرة، وهو على كل شئٍ قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرادته في الكون نافذة، وأمره في الكون واجب النفاذ، وأمره بين الكاف النون: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (82يس).
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، وحبيبه من خلقه وصفيُّه وشفيعه، ألَّف به بين القلوب المتنافرة، وجعل العرب به بعد أن كانوا كالوحوش الكاسرة إخوةً متآلفين متحابين، ساعين بكل ما يملكون لرفعة كتاب الله ونصرة هذا الدين.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد، الذي جمعتنا به بعد فُرقة، وأعززتنا به بعد ذلة، وأغنيتنا به بعد فاقة، وجعلتنا بفضله وببركة شرعه خير أمة أخرجت للناس. صلَّى الله عليه وعلى آله الذين آمنوا به واتبعوه، وصحابته الذين آزروه وناصروه، وأتباعه الذين مشوا على هذا النهج الكريم وتابعوه، واجعلنا منهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
ونحن في مطلع عامٍ هجريٍّ جديد، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يكون فيه تجديداً لأحوال المسلمين، وجمع شمل المؤمنين، وتوحيداً لصفوف الأمة الإسلامية أجمعين، وإعلاءً لشعائر الله في كل بلدان الدنيا، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
ما الذي يعنيني من هجرة النَّبِيِّ؟. وأنا وأنتم - والحمد لله - قرأنا عنها وسمعنا عن تفاصيلها الكثير، الدرس الذي نحتاجه اليوم وكل يوم في كل بلدةٍ من بلدان المسلمين أن نعمل بقول رب العالمين: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاولِي الالْبَابِ) (111يوسف).
لماذا هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم من مكة إلى المدينة؟
لأسباب كثيرة، أهمها وأجلُّها أن يُرسي دعائم المجتمع الإسلامي القائمُ على كتاب الله، وعلى تنفيذ ومتابعة سنة رسول الله، وجعل هذا النموذج صالحاً للتطبيق في كل زمان ومكان في دنيا الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ويعاني المسلمون وإخواننا المؤمنون في كل قرية وفي كل بلد، من المشاكل التي لا عدَّ لها، والفتن التي لا نهاية لها بين المسلمين، وبين الأخوة من الأب والأم، وبين الجيران وبين الأحبة، وإذا ذهبت إلى المحاكم في أي بلد من بلدان المسلمين تجد آلاف القضايا لا يجد القضاة الوقت للفصل فيها!!، كلُّها بين مسلمٍ ومسلم!!.
بينما عيَّن أبو بكرٍ الصديق قاضياً واحداً للمسلمين - في الدولة الإسلامية كلِّها - وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت المحكمة هي بيت الله، وليس له حُجَّاب ولا سكرتارية، وليس هناك مكاتب للمحامين المدافعين، وليس هناك أرشيف لتسجيل القضايا وترتيبها، وكان الراتب يُصرف كل عامٍ.
وفي الميعاد بعد عام صرف خليفة المؤمنين - أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم - الراتب للقاضي الوحيد في دولته – عمر - فرفض أن يأخذ راتبه، قال له: ولِـمَ؟ قال: يا خليفة رسول الله لم يُعرض عليَّ في هذا العام كلِّه قضيةٌ واحدة، قضية واحدة في مملكة جامعة؟!!!. قال: ولـمَ؟ قال: [إن قوماً آمنوا بربهم، واقتدوا بنبيِّهم، وجعلوا كتاب الله حكماً بينهم، وأحبوا إخوانهم ما يحبونه لنفسهم، لا يحتاجون إلى قاضٍ يفصل بينهم].
هذا هو المجتمع الذي نريد تحقيقه جماعة المؤمنين، كما حقَّقه النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلَّم، بمشورة ومعونةٍ من ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ. جعل مجتمع المدينة المنورة مجتمعاً مثالياً!!!!.
ذهب إلى المدينة المنورة، وكان أهل المدينة من عائلتين أولاد عم: الأوس والخزرج، وأصلهم من اليمن، وكانت الحروب بينهما مستمرة!! - حتى أنه في إحدي المرات استمرَّت الحروب بينهم مائةً وأربعين عاماً، وقتلى بين الجانبين، وأحقادٌ وأحسادٌ وتقاتل وتشاحن - ماذا فعل حضرة الحبيب صلى الله عليه وسلَّم؟
ألَّف بينهم، وجعلهم أخوةً متآلفين متكاتفين، وقال في ذلك ربُّ العزة عزَّ وجلَّ ناسباً الفضل لذاته، حتى نعلم أن الأمر كله في البدء وفي الختام لله: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الارْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (63الأنفال).
أراد النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يطهِّر هذه القلوب من العيوب التي تباعدها عن حضرة علام الغيوب، فطهَّرها من الشرك بالله، ثم طهَّرها بعد ذلك من الأحقاد والأحساد، والبُغض والكراهية، والأثرة والأنانية وحب الذات، وجعلهم كما قال الله عن المؤمنين في كل زمانٍ ومكانٍ في كتاب الله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (47الحجر).
وجعل أساس قبول العبادات، وأساس رفعة الدرجات، وأساس الفوز بفضل الله يوم العرض والميقات: (إِلا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (89الشعراء).
القلب السليم!!، أى: سلمت القلوب لبعضها، فبدأ يحبِّبهم في بعضهم، ويجعل ذلك من شرط الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلَّم وهو الذي لا ينطق عن الهوى بنص صريح القرآن: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .
جعل من شرط الإيمان أن المؤمن يحب لإخوانه المؤمنين أجمعين - إن كانوا إخوانه من النسب، أو إخوانه في الجِيرة، أو إخوانه في البلد، أو إخوانه في الوطن، أو إخوانه في الإسلام، على العموم لا يتم إيمانه، ولا يكمل إيمانه حتى يحبَّ لهم ما يحب لنفسه.
وهذا مقياسٌ نبويّ، جعله النبيُّ الصفيّ، استنباطاً من كتاب الله عزَّ وجلَّ، فإن الأنصار الذين مدحهم الله، وأثني عليهم الله، لم يُثنِ عليهم الله بالصلاة، ولا بالصيام!!، ولا بالجد والإجتهاد في تلاوة القرآن وذكر الله وفعل الطاعات التي هي خصيصاً بينهم وبين بارئ الأرض والسماوات، وإنما ... اسمع إلى ثناء الله في هؤلاء لعل الله يتجلى علينا من هذا الإرث الإلهي الذي نزل في كتاب السماء: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالايمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (9الحشر).
ذكر الله عزَّ وجلَّ في هذا النص الإلهي المقدَّس المنهج الذي يداوي كل أمراض المجتمعات، والعلاج الذي يبرئ النفوس والقلوب من الخلافات والنزاعات، وهو المحبة: المحبة أولاً لله، والمحبة بعد ذلك لحبيب الله ومصطفاه، ثم المحبة ثالثاً لكل عباد الله الذين يؤمنون بالله جلَّ في علاه.
وقد ربَّاهم الحبيب صلى الله عليه وسلَّم على هذه المحبة - ونحن جميعاً في هذا الوقت وهذا الحين وهذا الزمان يا أحبة: أحوج ما نكون إلى الدواء الذي وضعه فالق الحَبَّة عزَّ وجلَّ في كتابه المكنون، ونفَّذه الطبيب الميمون, حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم بحكمته البالغة في القول والفعل والعمل.
فقد كان صلى الله عليه وسلَّم كما قيل في شأنه: [من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه معرفةً أحبَّه] . كل من يخالطه لابد أن يحبه!!، لماذا؟!!!. من الأخلاق الكريمة التي جمَّله بها الله، والأوصاف العظيمة التي كان عليها في التعامل مع خلق الله.
هل يعقل أحد أن ولداً يرفض أن يذهب مع أبيه وعمه وأخواته ويبقى عبداً مع النبي صلى الله عليه وسلَّم؟!!. إن هذا لأمرٌ عُجاب!!!. ولكنه حدث مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، وكان عبداً عند حضرة النبيِّ وهبته له السيدة خديجة.
وقصته أنه كان مسافراً مع أمه فأخذه قطَّاع الطريق وباعوه، وأخذ أبوه وأعمامه وأخواته يبحثون عنه، وأخيراً علموا أنه عند محمد بن عبدِ الله - قبل تكليفه بالرسالة من الله جلَّ في علاه. فذهبوا إليه وقالوا: يا ابن عبد المطلب، إنكم قومٌ كذا وكذا وكذا، وإن لنا ولداً عندك، فخذ فيه ما شئت ودعه لنا، فقال صلى الله عليه وسلَّم: (أوَأدلُّكم على شئٍ خيرٍ من هذا؟، قالوا: وما ذاك؟، قال: اجلسوا معه وفاوضوه، فإن رضي بكم فخذوه بلا ثمن).
فأخذوا يفاوضون العبد الذي في ثياب العبودية، وهو شابٌ فتى، فيقولون له: أتعرف هذا؟، فيقول: هذا أبي. أتعرف هذا؟، فيقول: هذا عمي. أتعرف هؤلاء؟، فيقول: هؤلاء أخواتي. ألا تريد أن تنصرف معنا إلى الحرية؟، يقول: لا أترك هذا الرجل أبداً، ولم يُنبَّأ بعد، ولم ينزل عليه الوحي، فأخذوا يتفاوضون معه ثلاثة أيام، وفي كلها يرفض أن يترك الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
ولذلك قال بعض الحكماء: [اجعل من يراك, يثني على من رباك].
كيف يكون ذلك؟!!. إذا رأى منك الأخلاق الكريمة، والأوصاف الحميدة، والشمائل المجيدة، فيُثني على من أحسن هذه التربية وقام بهذه الرباية.
هكذا كان الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم في نفسه أولاً، ثم ربَّى أصحابه على هذا الحب لله ولرسوله ثانياً، والحب لبعضهم ثالثاً، حتى كان المؤمنون أخوةً متآلفين متكاتفين على الدوام، اسمع إليه صلى الله عليه وسلَّم وهو يصفهم فيقول: (تري المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) .
أو كما قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي أشرق في قلوبنا بنور الهدى واليقين وجعلنا من عباده المسلمين، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يثبتنا على الإيمان واليقين ما حيينا حتى يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ واحدٌ أحد، فردٌ صمد، لا في شئ ولا من شئ ولا على شئ، ولا مفتقراً إلى شئ، ولا محمولاً على شئ، هو كما وصف نفسه بنفسه في كتابه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (11الشورى). وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، السراج المنير الذي أنار الله به القلوب، وطهرَّها من العمى واللغوب، وجعله صلى الله عليه وسلَّم إماماً لنا في الدنيا، وشفيعاً لنا يوم الدين.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد، وارزقنا حُسن التأسي بحضرته، واجعلنا على الدوام مستمسكين بسنَّته، واحشرنا يوم القيامة تحت لواء شفاعته، واجعلنا في الجنة من أهل جوار حضرته أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
أيها الخوة جماعة المؤمنين: إن الكلام لا يسعنا فيما نتحدث فيه، ولكننا نحدد رءوس الموضوعات .. نحن في أمسِّ الحاجة إليها في حياتنا هذه، ليُصلح الله حالنا وحال مجتمعاتنا أجمعين.
إن مجتمعات المسلمين لن تنصلح إلا إذا رجعوا إلى ما كان عليه مجتمع الأنصار والمهاجرين؛ من محبة ومودة وأُلفة، نخرج من قلوبنا كل بغضاء وكل شحناء، وكل حقد وكل حسد، وكل بُغض وكل كُره، نخرج هذه الأوصاف التي بيَّن الله في كتاب الله أنه لا يحب من تخلَّق بها، ولا يرضى على من كان على أوصافها، ونتخلق بهذه الأوصاف الكريمة التي أعلن الله في قرآنه مدح أهلها والثناء على من تخلَّق بها.
نريد أن نكون في بداية هذا العام قلوبنا مملوءة بالمحبة للمؤمنين أجمعين، قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: إن أخاك فلان قد وقع في المعصية وفعل كذا، هل تبغضه؟ قال: [لا، .. أبغض خلقه فإذا تركه فهو أخي].
لا يبغض ذاته، لأن الذات الذي صنعها هو الله، وكيف يبغض صنعة الله؟!!، وكيف يعيب على تكوين كوَّنه وصوَّره الله؟!!. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (3التغابن).
لا يعيب عليه في هيئته، ولا في شكله ولا صورته، ولا في طوله ولا قصره، ولا في لونه ولا في حسبه ولا نسبه، لأنها كلها أمورٌ لا دخل له فيها، وإنما يعيب في خُلُقه إذا تخلَّق بغير الأخلاق الكريمة، واتصف بالأوصاف الذميمة التي نبَّه عليها الله وحذَّر منها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وإذا وقع في الذنب أو الخطيئة لا أتخلى عنه، ولا أتحادث ولا أشنِّع عليه، ولا أطرده، بل كما يقال: [كن أقرب إلى أخيك عندما يكون قريباً من إبليس]. لا أتركه للشيطان يسيطر عليه، ولكن أستخدم الشفاء الرباني في قول الله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (125النحل).
(بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ): قيل لعمر رضي الله عنه - وكان أمير المؤمنين: إن أخاك في الله - وكان النبي آخى بينه وبينه في الهجرة - بعدما ذهب إلى الشام شرب الخمر!!!، فقال: أعطوني ورقة وقلماً، ثم كتب إليه رسالة: [بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى فلان: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (3غافر)]. وأرسلها مع رجلٍ ليوصلها إليه.
فلما وصلت إليه وقرأها، قال: نصح عمر وأفاد، تُبتُ إلى الله ورجعت إلى الله وعزمت على أن ألا أعود إلى هذا الذنب مرةً أخرى. وتاب إلى الله بالنصيحة التي أسداها له عمر رضي الله عنه وأرضاه.
أما نحن فإذا وقع أحدنا في ذنب - ومن منا خالي من العيب؟ - نسارع بالتشنيع عليه!!!، ونسارع في تجريسه وفضيحته!!!، ونسارع بعد ذلك إذا أردنا أن ننصحه أن نلومه ونعاتبه بشدة أمام الخلق!!!، ومن عاتب أحداً أمام الخلق فإنما شانه وعابه، والنصيحة على الملأ فضيحة.
أين نحن من نهج النبي وأصحابه الأسوياء؟
قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: إن أخاك فلان قد وقع في ذنب، فماذا أنت فاعل؟، قال: (إذا وقع أحدكم في بئرٍ فماذا تفعلون؟!!). قالوا: نمد أيدينا إليه لنخرجه، قال: (كذلك أخوك إذا وقع في الخطيئة، يحتاج إلى من يمد اليد إليه!!). لا بغطرسة ولا بتكبُر، لأنه لا يكبر أحدٌ على الخطيئة إلا من حفظه الحفيظ عزَّ وجلَّ، ولا قوة لنا على طاعته إلا بقوته ومعونته، ولا حفظ لنا عن معصيته إلا بحفظه وصيانته.
كان عمر بن الفارض يمشي في بادية مكة وسمع قائلاً يقول:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحُسنى فقط
من ذا الذي لم يُسئ في حياته؟ كلنا كما قال النبي: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) .
والتوبة تحتاج إلى أن الإنسان يأخذه بالرفق واللين، والنبي ضرب لنا مثلاً: لو أن أحدكم شردت عليه دابته، ولم يستطع أحدٌ أن يُحلِّق عليها أو يمسك بها فماذا يفعل؟ يأخذ الطعام إليها في حجره ويذهب إليها برفقٍ ولينٍ حتى يردها.
ألا نفعل ذلك مع الشاردين عن طريق رب العالمين؟!!!!.
ألا نفعل ذلك مع البعيدين الذين نطلب هدايتهم إلى مالك الملك؟ ونؤجر على ذلك كما قال سيد الأولين والآخرين: (لِأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمر النعم) .
مجتمع المؤمنين هو الذي يرحم فيه المطيعين العصاة والمذنبين، ويأخذونهم برفقٍ ولين إلى ربِّ العالمين، ويحترم العصاة المذنبون المستقيمين والصالحين، ويقولون: اللهم تب علينا وألحقنا بهم على خيرٍ يا أرحم الراحمين.
(رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (29الفتح) - هذه هي الرحمة التي نرجوا أن تعمَّنا الآن، وأن تنتقل بين حنايا بُلداننا حتى يُصلح الله شئوننا.
نسأل الله عزَّ وجلَّ في هذا الوقت المبارك الميمون أن يوقظ المسلمين من نومة غفلتهم، وأن ينبههم إلى ما فيه مصلحتهم في الدنيا وسعادتهم في الآخرة، وأن يوفقنا ويوفق عباد الله المؤمنين إلى التوبة النصوح، وإلى حُسن الختام، وإلى العمل الصالح وصالح العمل، وأن يوفق قادة العباد والبلاد إلى العمل بكتاب الله، وإلى تنفيذ سنة رسول الله، وأن يجمع عليهم البطانة الصالحة، وأن يباعد بينهم وبين أهل المعاصي والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ارزق حكام المسلمين أجمعين السعي إلى ما تحب وترضى، واجعل على أيديهم قضاء مصالح العباد والبلاد، واقضِ على كل فساد في بلدان المسلمين، واجعلنا أجمعين صالحين مُصلحين.
اللهم تُب على العصاة والمذنبين، ورُدّهم إلى بابك تائبين، وزد في هداك للمهتدين، واجعلهم مجمَّلين بأحوال الصالحين وبأخلاق سيد الأولين والآخرين.
اللهم اقضِ على نار الحروب المشتعلة في بلدان المسلمين، اللهم أطفئ نار الحروب في ليبيا، وفي سوريا والعراق، وفي اليمن والصومال وأفغانستان، وفي كل مكان، واجعل بلاد الإسلام بلاد الأمن والسلام.
اللهم احفظ بيت المقدس وارض فلسطين من اليهود الغادرين، واجعل في فلسطين مقبرتهم، واهزم من عاونهم وساعدهم أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ما مضى من الذنوب والآثام في هذا العام، ووفقنا لصالح العمل والعمل الصالح فيما بقي لنا من الأيام.
اللهم اجعل أول هذا العام لنا صلاحاً، وأوسطه فلاحاً، وآخره نجاحاً، واجعله عام نصرٍ وتمكين للمسلمين في كل بلدٍ .. يا خير الناصرين.
عباد الله اتقوا الله: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (90النحل).
اذكروا الله يذكركم، واستغروه لكم يغفر لكم، وأقم الصلاة.
****************************
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرادته في الكون نافذة، وأمره في الكون واجب النفاذ، وأمره بين الكاف النون: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (82يس).
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، وحبيبه من خلقه وصفيُّه وشفيعه، ألَّف به بين القلوب المتنافرة، وجعل العرب به بعد أن كانوا كالوحوش الكاسرة إخوةً متآلفين متحابين، ساعين بكل ما يملكون لرفعة كتاب الله ونصرة هذا الدين.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد، الذي جمعتنا به بعد فُرقة، وأعززتنا به بعد ذلة، وأغنيتنا به بعد فاقة، وجعلتنا بفضله وببركة شرعه خير أمة أخرجت للناس. صلَّى الله عليه وعلى آله الذين آمنوا به واتبعوه، وصحابته الذين آزروه وناصروه، وأتباعه الذين مشوا على هذا النهج الكريم وتابعوه، واجعلنا منهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
ونحن في مطلع عامٍ هجريٍّ جديد، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يكون فيه تجديداً لأحوال المسلمين، وجمع شمل المؤمنين، وتوحيداً لصفوف الأمة الإسلامية أجمعين، وإعلاءً لشعائر الله في كل بلدان الدنيا، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
ما الذي يعنيني من هجرة النَّبِيِّ؟. وأنا وأنتم - والحمد لله - قرأنا عنها وسمعنا عن تفاصيلها الكثير، الدرس الذي نحتاجه اليوم وكل يوم في كل بلدةٍ من بلدان المسلمين أن نعمل بقول رب العالمين: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاولِي الالْبَابِ) (111يوسف).
لماذا هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم من مكة إلى المدينة؟
لأسباب كثيرة، أهمها وأجلُّها أن يُرسي دعائم المجتمع الإسلامي القائمُ على كتاب الله، وعلى تنفيذ ومتابعة سنة رسول الله، وجعل هذا النموذج صالحاً للتطبيق في كل زمان ومكان في دنيا الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ويعاني المسلمون وإخواننا المؤمنون في كل قرية وفي كل بلد، من المشاكل التي لا عدَّ لها، والفتن التي لا نهاية لها بين المسلمين، وبين الأخوة من الأب والأم، وبين الجيران وبين الأحبة، وإذا ذهبت إلى المحاكم في أي بلد من بلدان المسلمين تجد آلاف القضايا لا يجد القضاة الوقت للفصل فيها!!، كلُّها بين مسلمٍ ومسلم!!.
بينما عيَّن أبو بكرٍ الصديق قاضياً واحداً للمسلمين - في الدولة الإسلامية كلِّها - وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت المحكمة هي بيت الله، وليس له حُجَّاب ولا سكرتارية، وليس هناك مكاتب للمحامين المدافعين، وليس هناك أرشيف لتسجيل القضايا وترتيبها، وكان الراتب يُصرف كل عامٍ.
وفي الميعاد بعد عام صرف خليفة المؤمنين - أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم - الراتب للقاضي الوحيد في دولته – عمر - فرفض أن يأخذ راتبه، قال له: ولِـمَ؟ قال: يا خليفة رسول الله لم يُعرض عليَّ في هذا العام كلِّه قضيةٌ واحدة، قضية واحدة في مملكة جامعة؟!!!. قال: ولـمَ؟ قال: [إن قوماً آمنوا بربهم، واقتدوا بنبيِّهم، وجعلوا كتاب الله حكماً بينهم، وأحبوا إخوانهم ما يحبونه لنفسهم، لا يحتاجون إلى قاضٍ يفصل بينهم].
هذا هو المجتمع الذي نريد تحقيقه جماعة المؤمنين، كما حقَّقه النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلَّم، بمشورة ومعونةٍ من ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ. جعل مجتمع المدينة المنورة مجتمعاً مثالياً!!!!.
ذهب إلى المدينة المنورة، وكان أهل المدينة من عائلتين أولاد عم: الأوس والخزرج، وأصلهم من اليمن، وكانت الحروب بينهما مستمرة!! - حتى أنه في إحدي المرات استمرَّت الحروب بينهم مائةً وأربعين عاماً، وقتلى بين الجانبين، وأحقادٌ وأحسادٌ وتقاتل وتشاحن - ماذا فعل حضرة الحبيب صلى الله عليه وسلَّم؟
ألَّف بينهم، وجعلهم أخوةً متآلفين متكاتفين، وقال في ذلك ربُّ العزة عزَّ وجلَّ ناسباً الفضل لذاته، حتى نعلم أن الأمر كله في البدء وفي الختام لله: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الارْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (63الأنفال).
أراد النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يطهِّر هذه القلوب من العيوب التي تباعدها عن حضرة علام الغيوب، فطهَّرها من الشرك بالله، ثم طهَّرها بعد ذلك من الأحقاد والأحساد، والبُغض والكراهية، والأثرة والأنانية وحب الذات، وجعلهم كما قال الله عن المؤمنين في كل زمانٍ ومكانٍ في كتاب الله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (47الحجر).
وجعل أساس قبول العبادات، وأساس رفعة الدرجات، وأساس الفوز بفضل الله يوم العرض والميقات: (إِلا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (89الشعراء).
القلب السليم!!، أى: سلمت القلوب لبعضها، فبدأ يحبِّبهم في بعضهم، ويجعل ذلك من شرط الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلَّم وهو الذي لا ينطق عن الهوى بنص صريح القرآن: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .
جعل من شرط الإيمان أن المؤمن يحب لإخوانه المؤمنين أجمعين - إن كانوا إخوانه من النسب، أو إخوانه في الجِيرة، أو إخوانه في البلد، أو إخوانه في الوطن، أو إخوانه في الإسلام، على العموم لا يتم إيمانه، ولا يكمل إيمانه حتى يحبَّ لهم ما يحب لنفسه.
وهذا مقياسٌ نبويّ، جعله النبيُّ الصفيّ، استنباطاً من كتاب الله عزَّ وجلَّ، فإن الأنصار الذين مدحهم الله، وأثني عليهم الله، لم يُثنِ عليهم الله بالصلاة، ولا بالصيام!!، ولا بالجد والإجتهاد في تلاوة القرآن وذكر الله وفعل الطاعات التي هي خصيصاً بينهم وبين بارئ الأرض والسماوات، وإنما ... اسمع إلى ثناء الله في هؤلاء لعل الله يتجلى علينا من هذا الإرث الإلهي الذي نزل في كتاب السماء: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالايمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (9الحشر).
ذكر الله عزَّ وجلَّ في هذا النص الإلهي المقدَّس المنهج الذي يداوي كل أمراض المجتمعات، والعلاج الذي يبرئ النفوس والقلوب من الخلافات والنزاعات، وهو المحبة: المحبة أولاً لله، والمحبة بعد ذلك لحبيب الله ومصطفاه، ثم المحبة ثالثاً لكل عباد الله الذين يؤمنون بالله جلَّ في علاه.
وقد ربَّاهم الحبيب صلى الله عليه وسلَّم على هذه المحبة - ونحن جميعاً في هذا الوقت وهذا الحين وهذا الزمان يا أحبة: أحوج ما نكون إلى الدواء الذي وضعه فالق الحَبَّة عزَّ وجلَّ في كتابه المكنون، ونفَّذه الطبيب الميمون, حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم بحكمته البالغة في القول والفعل والعمل.
فقد كان صلى الله عليه وسلَّم كما قيل في شأنه: [من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه معرفةً أحبَّه] . كل من يخالطه لابد أن يحبه!!، لماذا؟!!!. من الأخلاق الكريمة التي جمَّله بها الله، والأوصاف العظيمة التي كان عليها في التعامل مع خلق الله.
هل يعقل أحد أن ولداً يرفض أن يذهب مع أبيه وعمه وأخواته ويبقى عبداً مع النبي صلى الله عليه وسلَّم؟!!. إن هذا لأمرٌ عُجاب!!!. ولكنه حدث مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، وكان عبداً عند حضرة النبيِّ وهبته له السيدة خديجة.
وقصته أنه كان مسافراً مع أمه فأخذه قطَّاع الطريق وباعوه، وأخذ أبوه وأعمامه وأخواته يبحثون عنه، وأخيراً علموا أنه عند محمد بن عبدِ الله - قبل تكليفه بالرسالة من الله جلَّ في علاه. فذهبوا إليه وقالوا: يا ابن عبد المطلب، إنكم قومٌ كذا وكذا وكذا، وإن لنا ولداً عندك، فخذ فيه ما شئت ودعه لنا، فقال صلى الله عليه وسلَّم: (أوَأدلُّكم على شئٍ خيرٍ من هذا؟، قالوا: وما ذاك؟، قال: اجلسوا معه وفاوضوه، فإن رضي بكم فخذوه بلا ثمن).
فأخذوا يفاوضون العبد الذي في ثياب العبودية، وهو شابٌ فتى، فيقولون له: أتعرف هذا؟، فيقول: هذا أبي. أتعرف هذا؟، فيقول: هذا عمي. أتعرف هؤلاء؟، فيقول: هؤلاء أخواتي. ألا تريد أن تنصرف معنا إلى الحرية؟، يقول: لا أترك هذا الرجل أبداً، ولم يُنبَّأ بعد، ولم ينزل عليه الوحي، فأخذوا يتفاوضون معه ثلاثة أيام، وفي كلها يرفض أن يترك الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
ولذلك قال بعض الحكماء: [اجعل من يراك, يثني على من رباك].
كيف يكون ذلك؟!!. إذا رأى منك الأخلاق الكريمة، والأوصاف الحميدة، والشمائل المجيدة، فيُثني على من أحسن هذه التربية وقام بهذه الرباية.
هكذا كان الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم في نفسه أولاً، ثم ربَّى أصحابه على هذا الحب لله ولرسوله ثانياً، والحب لبعضهم ثالثاً، حتى كان المؤمنون أخوةً متآلفين متكاتفين على الدوام، اسمع إليه صلى الله عليه وسلَّم وهو يصفهم فيقول: (تري المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) .
أو كما قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي أشرق في قلوبنا بنور الهدى واليقين وجعلنا من عباده المسلمين، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يثبتنا على الإيمان واليقين ما حيينا حتى يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ واحدٌ أحد، فردٌ صمد، لا في شئ ولا من شئ ولا على شئ، ولا مفتقراً إلى شئ، ولا محمولاً على شئ، هو كما وصف نفسه بنفسه في كتابه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (11الشورى). وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، السراج المنير الذي أنار الله به القلوب، وطهرَّها من العمى واللغوب، وجعله صلى الله عليه وسلَّم إماماً لنا في الدنيا، وشفيعاً لنا يوم الدين.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد، وارزقنا حُسن التأسي بحضرته، واجعلنا على الدوام مستمسكين بسنَّته، واحشرنا يوم القيامة تحت لواء شفاعته، واجعلنا في الجنة من أهل جوار حضرته أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
أيها الخوة جماعة المؤمنين: إن الكلام لا يسعنا فيما نتحدث فيه، ولكننا نحدد رءوس الموضوعات .. نحن في أمسِّ الحاجة إليها في حياتنا هذه، ليُصلح الله حالنا وحال مجتمعاتنا أجمعين.
إن مجتمعات المسلمين لن تنصلح إلا إذا رجعوا إلى ما كان عليه مجتمع الأنصار والمهاجرين؛ من محبة ومودة وأُلفة، نخرج من قلوبنا كل بغضاء وكل شحناء، وكل حقد وكل حسد، وكل بُغض وكل كُره، نخرج هذه الأوصاف التي بيَّن الله في كتاب الله أنه لا يحب من تخلَّق بها، ولا يرضى على من كان على أوصافها، ونتخلق بهذه الأوصاف الكريمة التي أعلن الله في قرآنه مدح أهلها والثناء على من تخلَّق بها.
نريد أن نكون في بداية هذا العام قلوبنا مملوءة بالمحبة للمؤمنين أجمعين، قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: إن أخاك فلان قد وقع في المعصية وفعل كذا، هل تبغضه؟ قال: [لا، .. أبغض خلقه فإذا تركه فهو أخي].
لا يبغض ذاته، لأن الذات الذي صنعها هو الله، وكيف يبغض صنعة الله؟!!، وكيف يعيب على تكوين كوَّنه وصوَّره الله؟!!. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (3التغابن).
لا يعيب عليه في هيئته، ولا في شكله ولا صورته، ولا في طوله ولا قصره، ولا في لونه ولا في حسبه ولا نسبه، لأنها كلها أمورٌ لا دخل له فيها، وإنما يعيب في خُلُقه إذا تخلَّق بغير الأخلاق الكريمة، واتصف بالأوصاف الذميمة التي نبَّه عليها الله وحذَّر منها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وإذا وقع في الذنب أو الخطيئة لا أتخلى عنه، ولا أتحادث ولا أشنِّع عليه، ولا أطرده، بل كما يقال: [كن أقرب إلى أخيك عندما يكون قريباً من إبليس]. لا أتركه للشيطان يسيطر عليه، ولكن أستخدم الشفاء الرباني في قول الله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (125النحل).
(بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ): قيل لعمر رضي الله عنه - وكان أمير المؤمنين: إن أخاك في الله - وكان النبي آخى بينه وبينه في الهجرة - بعدما ذهب إلى الشام شرب الخمر!!!، فقال: أعطوني ورقة وقلماً، ثم كتب إليه رسالة: [بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى فلان: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (3غافر)]. وأرسلها مع رجلٍ ليوصلها إليه.
فلما وصلت إليه وقرأها، قال: نصح عمر وأفاد، تُبتُ إلى الله ورجعت إلى الله وعزمت على أن ألا أعود إلى هذا الذنب مرةً أخرى. وتاب إلى الله بالنصيحة التي أسداها له عمر رضي الله عنه وأرضاه.
أما نحن فإذا وقع أحدنا في ذنب - ومن منا خالي من العيب؟ - نسارع بالتشنيع عليه!!!، ونسارع في تجريسه وفضيحته!!!، ونسارع بعد ذلك إذا أردنا أن ننصحه أن نلومه ونعاتبه بشدة أمام الخلق!!!، ومن عاتب أحداً أمام الخلق فإنما شانه وعابه، والنصيحة على الملأ فضيحة.
أين نحن من نهج النبي وأصحابه الأسوياء؟
قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: إن أخاك فلان قد وقع في ذنب، فماذا أنت فاعل؟، قال: (إذا وقع أحدكم في بئرٍ فماذا تفعلون؟!!). قالوا: نمد أيدينا إليه لنخرجه، قال: (كذلك أخوك إذا وقع في الخطيئة، يحتاج إلى من يمد اليد إليه!!). لا بغطرسة ولا بتكبُر، لأنه لا يكبر أحدٌ على الخطيئة إلا من حفظه الحفيظ عزَّ وجلَّ، ولا قوة لنا على طاعته إلا بقوته ومعونته، ولا حفظ لنا عن معصيته إلا بحفظه وصيانته.
كان عمر بن الفارض يمشي في بادية مكة وسمع قائلاً يقول:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحُسنى فقط
من ذا الذي لم يُسئ في حياته؟ كلنا كما قال النبي: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) .
والتوبة تحتاج إلى أن الإنسان يأخذه بالرفق واللين، والنبي ضرب لنا مثلاً: لو أن أحدكم شردت عليه دابته، ولم يستطع أحدٌ أن يُحلِّق عليها أو يمسك بها فماذا يفعل؟ يأخذ الطعام إليها في حجره ويذهب إليها برفقٍ ولينٍ حتى يردها.
ألا نفعل ذلك مع الشاردين عن طريق رب العالمين؟!!!!.
ألا نفعل ذلك مع البعيدين الذين نطلب هدايتهم إلى مالك الملك؟ ونؤجر على ذلك كما قال سيد الأولين والآخرين: (لِأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمر النعم) .
مجتمع المؤمنين هو الذي يرحم فيه المطيعين العصاة والمذنبين، ويأخذونهم برفقٍ ولين إلى ربِّ العالمين، ويحترم العصاة المذنبون المستقيمين والصالحين، ويقولون: اللهم تب علينا وألحقنا بهم على خيرٍ يا أرحم الراحمين.
(رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (29الفتح) - هذه هي الرحمة التي نرجوا أن تعمَّنا الآن، وأن تنتقل بين حنايا بُلداننا حتى يُصلح الله شئوننا.
نسأل الله عزَّ وجلَّ في هذا الوقت المبارك الميمون أن يوقظ المسلمين من نومة غفلتهم، وأن ينبههم إلى ما فيه مصلحتهم في الدنيا وسعادتهم في الآخرة، وأن يوفقنا ويوفق عباد الله المؤمنين إلى التوبة النصوح، وإلى حُسن الختام، وإلى العمل الصالح وصالح العمل، وأن يوفق قادة العباد والبلاد إلى العمل بكتاب الله، وإلى تنفيذ سنة رسول الله، وأن يجمع عليهم البطانة الصالحة، وأن يباعد بينهم وبين أهل المعاصي والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ارزق حكام المسلمين أجمعين السعي إلى ما تحب وترضى، واجعل على أيديهم قضاء مصالح العباد والبلاد، واقضِ على كل فساد في بلدان المسلمين، واجعلنا أجمعين صالحين مُصلحين.
اللهم تُب على العصاة والمذنبين، ورُدّهم إلى بابك تائبين، وزد في هداك للمهتدين، واجعلهم مجمَّلين بأحوال الصالحين وبأخلاق سيد الأولين والآخرين.
اللهم اقضِ على نار الحروب المشتعلة في بلدان المسلمين، اللهم أطفئ نار الحروب في ليبيا، وفي سوريا والعراق، وفي اليمن والصومال وأفغانستان، وفي كل مكان، واجعل بلاد الإسلام بلاد الأمن والسلام.
اللهم احفظ بيت المقدس وارض فلسطين من اليهود الغادرين، واجعل في فلسطين مقبرتهم، واهزم من عاونهم وساعدهم أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ما مضى من الذنوب والآثام في هذا العام، ووفقنا لصالح العمل والعمل الصالح فيما بقي لنا من الأيام.
اللهم اجعل أول هذا العام لنا صلاحاً، وأوسطه فلاحاً، وآخره نجاحاً، واجعله عام نصرٍ وتمكين للمسلمين في كل بلدٍ .. يا خير الناصرين.
عباد الله اتقوا الله: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (90النحل).
اذكروا الله يذكركم، واستغروه لكم يغفر لكم، وأقم الصلاة.
****************************