ما الحكمة من رؤية سيدنا آدم في السماء الأولى، ورؤية سيدنا يحيى وسيدنا عيسى في السماء الثانية، ورؤية سيدنا يوسف في السماء الثالثة، ورؤية سيدنا إدريس في السماء الرابعة، ورؤية سيدنا هارون في السماء الخامسة، ورؤية سيدنا موسى في السماء السادسة، ورؤية سيدنا إبراهيم في السماء السابعة؟
---------------
أولاً هذه أمورٌ توقيفية لا ينبغي لمؤمن أن يبحث عنها بعقله أو فكره، لأن العقل والفكر لا يصل إلى ذلك، لأنها أمورٌ غيبية تتعلق بالنبوة والأنبياء.
ولكن للصالحين إلهامات تكون على سبيل الإشارات تُفصح عن هذه الأسباب. وهذه الإشارات تختلف على حسب مقام الرجل الصالح، فقد يقول إشارات في مقام ثم يأتي بإشارات في مقامٍ آخر، دليلٌ على أنها ليست أمورٌ يقينية، ولكنها أمورٌ إلهامية نتيجة الشفافية والإمدادات الربانية، وأيضاً كل رجلٌ من العارفين له إلهامات لا يتفقون جميعاً على مخرج واحد من هذا الأمر أو إشارات متفقٌ عليها بينهم، فكلٌ يقول بلسانه ما يشرح الله عزَّ وجلَّ به صدره، ويُلهمه سبحانه وتعالى من أسرار ذاته العلية، وآياته القرآنية، وأسرار النبوة وخاتم النبوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وشلم.
ونحن نكشف سرًّا من هذه الأسرار لاح للأخيار والأبرار والأطهار، لكنه لا يذاع على الملأ في المنابر، ولا يُشاع في المساجد، وإنما تنتفع به في نفسك إن أردتَ، لتعلو همتك ثم تحاول أن تصفي فؤادك لله، وتُقوى صلتك بكتاب الله، ثم تستمد الأنوار من رسول الله، ليلهمك الله أنت أيضاً كما ألهم عباده الصالحين.
فنحن نرى أن رحلة الإسراء والمعراج فيها إشارة لمن أراد أن يتقرب إلى الله
ويسلك الطريق الموصل إلى رضاء الله.
فإذا إنتهى من المهمة الأرضية المتعلقة بالجسم وما يحويه، وطهَّر الفؤاد وغسله بالعلوم الوهبية، كما غسل فؤاد المصطفى صلى اللصلى الله عليه وسلم بالمياه الزمزمية، ثم حشاه من أفواه العارفين علماً مباشراً إلهامياً فيه الإيمان والحكمة، لا يحشيه من بطون الكتب ولا من القراءة والإطلاع، بعد ذلك تبدأ حقائقه الباطنة في العروج إلى الله عزَّ وجلَّ، وبداية العروج أن يكون الإنسان في مقام الآدمية.
ومقام الآدمية يعني خرج من الأخلاق الحيوانية والوساوس والهواجس الشيطانية، فلم تعد نفسه الحيوانية تتحكم فيه وتطالبه بمطالبها من طعام وشراب ونكاح وغيره، وتخلص من الأهواء الإبليسية، فلم تعد نفسه الإبليسية تدعوه إلى الرياسة أو الشُّهرة أو الزعامة أو حب الظهور، وهنا يكون قد استوى في الآدمية وأصبح إنساناً آدمياً نُزِّه عن الشهوات الحيوانية مع وجودها، كذلك حُفظ من الوساوس الشيطانية مع تواجدها: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (42الحجر).
إذا وصل إلى هذا المقام ينفخ الله عزَّ وجلَّ فيه من روحه: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) (15غافر) وهذه هي الإشارة إلى المقام العيسوى، ويحييه الله بعد نفخ الروح الحياة الإيمانية وهو مقام يحيَ، فيكونان معاً متلازمان، ويقال له: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) (12مريم)، وإلى ذلك كان قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (24الأنفال).
فيجمله الله بعد ذلك بعد أن أحياه بالجمال الروحاني اليوسُفي، وليس الجمال الطيني أو الجمال البشري، فترى له جمالاً في حديثه، وفي مجالسته، وفي مؤانسته، وفي السفر معه؛ ترى له جمالاً روحانياً يُنعَّم به القلب، وتُنعَّم به الروح، ويُنعَّم به الفؤاد فضلاً عن الجسم.
ثم بعد ذلك يبدأ مقام المدارسة، فتارةً يدرس مع الملائكة ليتعلم من علومهم، وتارةً يجلس مع الأنبياء ليطالعوه ويكاشفوه من أسرارهم، وتارة يجلس مع الكائنات كلهم حتى يكشف له الله خواص هذه الكائنات، ويعلم الأسرار التي استودعها فيها مُبدع الكائنات عزَّ وجلَّ، فيكون في مقام المدارسة.
ثم يزيد عُلوه فيتفضَّل الله عليه فيؤتيه الحكمة: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (269البقرة) وهذا مقام هارون أخِيِ موسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمُّ السلام، فقد كان يُقال في هارون حكيم بني إسرائيل، فإذا انتهي من مقام الحكمة ارتفع إلى مقام يناجي فيه الرحمن بكلامه ويتملق إليه بإنعامه، فيكون كأنه يتكلم مع الرحمن عزَّ وجلَّ. ثم تتخلل محبة الله والشوق إلى حضرة الله في كل حواسه الظاهرة والباطنة فيرتقي إلى مقام الخُلة.
ثم إذا أكرمه الله عزَّ وجلَّ بعد ذلك يغيب عن كل الذي أعطاه له مولاه، ويُصلح شأنه في مقام العبودية لأنه هو المقام الذي يحبه الله، فيكون على أثر حبيب الله ومصطفاه، لأنه هو العبد الذي قال فيه الله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) (1الإسراء). لم يقل الله: بنبيه ولا برسوله، فلو قال: بنبيه أو برسوله كان الإسراء أو المعراج خصوصية له، لكن كلمة (بِعَبْدِهِ) تقتضي أن كل من وصل إلى مقام العبودية يشرف بروحه على أسرار الربوبية بإذنٍ من رب البرية، ويكون له إسراء ومعراج لكنه روحاني.
الإسراء والمعراج بالجسم خصوصية لحضرة النبي، وكل عبدٍ بلغ مقام العبودية له معراج معنوي، ومعراج كشفي، ومعراج إلهي، إما أن يكون في مقام الكشف وتصعد روحه ولا نراها ولا نطلع عليها، وإما أن يكون نائماً وهذه هي البداية. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفعنا بذلك أجمعين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
http://www.fawzyabuzeid.com/%D9%83%D8%AA%D8%A8/%D8%AA%D8%AC%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D8%AC
منقول من كتاب {تجليات المعراج} لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
اضغط هنا لقراءة أو تحميل الكتاب مجاناً