حسن أحمد حسين العجوز



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

حسن أحمد حسين العجوز

حسن أحمد حسين العجوز

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
حسن أحمد حسين العجوز

منتدى علوم ومعارف ولطائف وإشارات عرفانية



    الأمير عبد القادر والشيخ الأكبرابن عربي

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1942
    تاريخ التسجيل : 29/04/2015
    العمر : 57

    الأمير عبد القادر والشيخ الأكبرابن عربي Empty الأمير عبد القادر والشيخ الأكبرابن عربي

    مُساهمة من طرف Admin السبت يوليو 18, 2015 6:00 pm

    ثمّ ينتقل الأخ محمد بن حسن المبارك ؛ كاتب (فك الشفرة) إلى حَدَثٍ جديد وهو بيان مدى تصوّف الأمير عبد القادر ، فيقول : "الأمير تربَّى في بيئة صوفية ، بل قد نشأ على تقديس يصل إلى حد الجنون لشخصية ابن عربي الحلولي الاتحادي ، و أمثاله من الاتحادية الحلولية كالحلاج والتلمساني وابن الفارض وغيرهم".انتهى
    وأقول : لو اكتفى الكاتب بقوله إن الأمير تربّى في بيئة صوفية لسلّمنا له ذلك ، ولكنه أبى إلاّ أن يُضرِب عن كلامه الأول فقال : بل ... الخ
    وسؤالي للكاتب : من أين له أن الأمير نشأ على تقديس ابن عربي والحلاّج والتلمساني وابن الفارض تقديسًا يصل إلى حد الجنون؟!! إنه لم يكتف بذكر التقديس وحدَه ، بل وصل به إلى حدّ الجنون! وهذا والله من العجائب.
    والأمير بدأ اهتمامه بابن عربي وكتبه بعد قدومه إلى دمشق ، فمن أين للكاتب أنّ الأمير نشأ على تقديسه؟!
    لقد ألّف السيوطي ردًا على كتاب (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) يردّ فيه على الإمام البقاعي ، وكذلك ألّف ردًا مماثلاً على كتاب (المقراض القارض في تكفير ابن الفارض) يردّ فيه على البقاعي رحمه الله ، ومع ذلك لم نجد من يصف السيوطي بأنه يقدس ابن عربي إلى درجة الجنون! ونحن ليس لنا أن نقول سوى أنه دافع عن ابن عربي وردّ على من كفّره . وأما دعوى التقديس إلى حد الجنون فهذه تحتاج إلى برهان واضح . ولذلك كان على الكاتب أن يبرهن على دعواه!!

    ولكنه بدلاً من البرهنة على هذه الدعوى راح يأتي بأفكار ظنيّة تساعده على تقوية الموضوع وجعله من المسلمات . فقال :"بل قد أتمَّ الأمير تدريس كتاب الفتوحات لابن عربي على طلبته مرارا ، وألف كتابه "المواقف" على مذهب ابن عربي ، بل و قد اختار السكنى في دمشق لكونها بلد ابن عربي الذي أقام فيه ، ويقال أنه سكن في نفس البيت الذي عاش فيه ابن عربي بعد أن قام بإصلاحه و دُفِن ـ أيضاً ـ بجوار ابن عربي".انتهى

    وأقول : الذي ذكره المؤرّخون أن الأمير قرأ الفتوحات المكيّة مرّتين فقط!
    ثم هل كل من قرأ أو قرّأ الفتوحات يكون بالضرورة مقدِّسًا لابن عربي أو موافقًا له في كل مذهبه؟!!
    إنّ كتاب الفتوحات المكيّة ليس من الكتب التي يدرّسها الصوفية لطلابهم ، وإنما هو كتاب للخاصّة منهم ، وتجتمع تلك الخاصّة لقراءته محاولين فكّ معمّياته ورموزه كما يقولون!.
    وأنا لا أحب هذا النوع من الكتب ولا أرضى به أبدًا ، ولكن أريد أن أنبّه الإخوة على أنّ الإمام الذهبي قال في ترجمة ابن عربي: ((ولا ريب أن كثيرًا من عباراته له تأويل إلا كتاب "الفصوص"!)).انتهى[سير أعلام النبلاء]
    ومرّ معنا في الحلقة الأولى أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة قرأ الفتوحات وقال : ((وإنما كنتُ قديماً ممن يُحسن الظن بابن عربي ويُعظّمه : لِمَا رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثيرٍ من "الفتوحات"..)).انتهى [الفتاوى2/464]
    وللعلم فإنّ الأمير أَرْسَلَ إلى قونية في تركيا الشيخ محمد الطنطاوي (جد الشيخ علي رحمه الله) والشيخ محمد بن محمد المبارك الدلسي سنة 1289هـ ، لتصحيح نسخته من الفتوحات التي اقتناها في دمشق على نسخةٍ بخط ابن عربي نفسه موجودة هناك . وبعد عودتهما بدأ الأمير بقراءة الفتوحات ومات بعد ذلك سنة 1300هـ يعني بعد عشر سنوات من حصوله على النسخة المصححة! 
    وسبب إرسال الشيخين لتصحيح النسخة ، أنّ الأمير لمّا اقتنى نسخة الفتوحات استشكل بعض العبارات فيها ، وغلب على ظنّه أنها محرّفة أو مزيدة (هكذا ظن) ، وذلك لأنّ المشهور والثابت أنّ ابن عربي عالمٌ كبير , وفقيه أصوليّ، وهو ظاهري المذهب ، وهو الذي اختصر كتاب (المحلّى لابن حزم) ، وله رسائل في أصول المذهب الظاهري ، وكتبه ومؤلّفاته كثيرة جدًّا ، إذن هو ليس من الجهلاء والمشعوذين أو أدعياء العلم المخرّفين ، لذلك فإنّ الأمير شكّ في بعض العبارات فأراد أن يتيقّن من ثبوتها فأرسل من يطابق له المخطوط . فلمّا أتته النسخة محققةً ، سلك في شرح العبارات الخطيرة الواردة فيها مسلكَ كثير من أهل العلم ، الذين ذهبوا إلى قبول كلام ابن عربي الموافق للشرع، وأخذوا في تأويل كلامه الذي يخالف الشرع ، وحمْلِه على محامل حسنة ، وذلك من باب إحسان الظنّ به واستبعاد كون عالم مثله يتكلّم بما يُخالف الشريعة . هذا ما ذهب إليه القوم!
    وفي أيّامنا هذه اجتمعتُ بشيخ من شيوخ التصوف المعروفين في الشام ، وكان يمدح ويثني على ابن عربي كثيرًا ، فسألتُه : ما تقول في وحدة الوجود؟ فأجابني قائلاً : "وحدة الوجود بمعنى أنّ كل ما في الكون هو عينُ الله ، الشجر والبشر والحجر ، هي كفرٌ وقائلها كافر!! وكلام ابن عربي ليس على هذا المعنى".انتهى
    إذن هكذا يعتقد هذا الرجل المعظّم لابن عربي ، فهل يجوز لي بعد أن سمعتُ منه أن عقيدة وحدة الوجود كفرٌ وقائلها ومعتقدها كافر ، أن أصفه بأنه على عقيدة وحدة الوجود لأنّه يعظّم ويوقّر ابن عربي؟! لا يجوز هذا أبدًا 
    إنّ العلاّمة جمال الدين القاسمي ، رحمه الله ، أحد أكبر علماء السلف في بلاد الشام ، بل هو رائد التوجه السلفي فيها ، كان يستشهد في كتبه ومؤلّفاته بكلام ابن عربي في "الفتوحات المكّية"، ويصفه بالشيخ الأكبر قُدِّس سرّه! [انظر (قواعد التحديث) ص359] ، فهل سيجرؤ أحد على وصف العلاّمة القاسمي بأنّه على مذهب ابن عربي لأنه يحترمه ويستشهد بكلامه؟!!
    هذا سيكون من البلاء العظيم ، والشر الجسيم!
    وهذا المسلك الذي سلكه الأمير وغيره ، سلكَه مِنْ قبلهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنّه كان إذا وقف على كلام مُريب وفاسدٍ في ظاهره لأشخاص يرى أنهم من أهل الصلاح أو العلم ، يؤوله أو يلتمس لهم الأعذار ، ولا يطعن فيهم! 
    مثال : قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى : ((فهذا التوحيد:هو الذي جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين ؛ لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكرٌ وغيبة عن السِّوى ؛ والسكر وجدٌ بلا تمييز .
    فقد يقول في تلك الحال سبحاني أو ما في الجبة إلا الله أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبى يزيد البسطامي أو غيره من الأصحّاء ، وكلمات السكران تُطوى ولا تُروى ولا تؤدّى ؛ إذا لم يكن سكره بسببٍ محظور من عبادة أو وجه منهي عنه . فأما إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني فسكر الأجسام بالطعام والشراب ، وسكر النفوس بالصور ، وسكر الأرواح بالأصوات)).انتهى[الفتاوى 2/461]
    وفي معرض حديثه عن مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ، ووروده في كلام ابن عربي وغيره قال : ((وكثير من أهل السلوك ، الذين لا يعتقدون هذا المذهب : يسمعون شعر ابن الفارض وغيره، فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب ، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال ، ما حيّر كثيرًا من الرجال)).انتهى[الفتاوى 2/297]

    ويقول ابن تيمية : ((ولهذا قال أهل العلم والدين ،كأبي يزيد البسطامي وغيره ، لو رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي ، وقال الشافعي لو رأيتم صاحب بدعة يطير فى الهواء فلا تغتروا به)).انتهى[الفتاوى 11/666]
    وقال شيخ الإسلام : ((قد جمع أبو الفضل الفلكي كتابًا من كلام أبي يزيد البسطامي سمّاه "النور من كلام طيفور" فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي ، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد ، رحمة الله عليه ، وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد وكل أحد من الناس يؤخذ قوله ويترك إلا رسول الله)).انتهى[الفتاوى13/257]
    والأشد وضوحًا في هذا المسلك هو الإمام ابن القيّم ، وكتابه (مدارج السالكين) الذي شرح فيه كتاب "أبي إسماعيل الهروي" (منازل السائرين) أكبر برهان على ذلك . فإن القارئ يقف على كلامٍ للهروي ، مخالفٍ للشريعة ، وفيه عقيدة وحدة الوجود ، ومع ذلك فإنّ الإمام ابن القيّم كان يعتذر له ويؤوّله بحيث ينفي عن الهروي تهمة القول بوحدة الوجود أو غيرها . وحجّة ابن القيّم في ذلك هي أنّ الهروي من أهل الدين والصلاح ، ولا يُتصوّر منه أن يتكلّم بخلاف الشرع!(وهي حجّة الأمير نفسها مع ابن عربي) 
    قال الهروي : ((الدرجة الثالثة : صفاء اتصال . يُدْرِج حَظَّ العبودية في حق الربوبيّةويُغرق نهايات الخبر في بدايات العيان ، ويطوى خِسَّة التكاليف في عين الأزل))!!!
    فعلّق عليه الإمام ابن القيّم قائلاً : ((في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير ، يَجْبُرُه حُسْنُ حالِ صاحبه وصدقُه ، وتعظيمُه لله ورسوله . ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلاّ له . ولا ريب أن بين أرباب الأحوال وبين أصحاب التمكن تفاوتًا عظيمًا..)) إلى أن قال ((ولولا مقَامُه في الإيمان والمعرفة ، والقيام بالأوامر ، لكُنَّا نُسيء به الظنّ)).انتهى[مدارج السالكين3/150ـ155]

    وقال الهروي : ((وأمّا التوحيد الثالث : فهو توحيدٌ اختصّه الحقُّ لنفسه ، واستحقّه لقدره ، وألاح منه لائحًا إلى أسرار طائفةٍ مِنْ أهل صفوته ، وأخْرَسَهم عن نَعْته ، وأعجزهم عن بثِّه))!!!3/511
    ثم أنشد هذه القوافي الثلاثة 3/513 وهي :
    ما وحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحد * إذْ كلُّ مَنْ وحَّدَه جاحدْ
    توحيدُ مَنْ يَنْطِقُ عن نَعْتِه * عـاريّة أبطَلَها الواحد
    تـوحيده إيَّاه توحيده * ونَعْتُ مَنْ يَنْعَتُه لاحد

    فراح الإمام ابن القيّم رحم الله يؤول هذا الكلام والشعر ويحمله على محامل حسنة ، قال 3/515 Sad(فيُقال ـ وبالله التوفيق ـ : في هذا الكلام من الإجمال والحق والإلحادمالا يخفى))
    إلى أن قال : ((والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما: أعظم الباطل ، ويريد بها الآخر محض الحق ، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه. وقد كان شيخ الإسلام(يقصد الهروي) ـ قدس الله روحه ـ راسخًا في إثبات الصفات ، ونفي والتعطيل ، ومعاداة أهله وله في ذلك كتب مثل كتاب (ذم الكلام) وغير ذلك مما يخالف طريقة المعطلة والحلولية والاتحادية)).انتهى[مدارج السالكين3/521] 
    وكان ابن القيّم قال قبل ذلك : ((وقد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع ، وجاء بما يرغب عنه الكُمَّل من سادات السالكين والواصلين إلى الله. فقال : "الفكرةُ في عين التوحيد: اقتحامُ بحرٍ الجحود" ، وهذا بناءً على أصله الذي أصَّله ، وانتهى إليه كتابه في أمر الفناء ، فإنه لمّا رأى أن الفكرة في عين التوحيد تُبعِدُ العَبْدَ من التوحيد الصحيح عنده، لأن التوحيد الصحيح عنده :لا يكون إلا بعد فناء الفكرة والتفكّر ، والفكرة تدل على بقاء رسمٍ ، لاستلزامها مفكِّرًا ، وفعلاً قائمًا به ، والتوحيد التامّ عنده: لا يكون مع بقاء رسم أصلاً ، كانت الفكرة عنده علامة الجحود واقتحامًا لبحره ، وقد صرَّحَ بهذا في أبياته في آخر الكتاب)).انتهى[مدارج 1/147]
    إلى أن قال : ((فرحمة الله على أبي إسماعيل فتحَ للزنادقة باب الكفر والإلحاد ، فدخلوا منه وأقسموا بالله جهد أيمانهم: إنه لمنهم وما هو منهم وغَرَّه سراب الفناء ، فظن أنه لُجّة بحر المعرفة ، وغاية العارفين ، وبالغ في تحقيقه وإثباته ، فقاده قَسْرًا إلى ما ترى)).انتهى[مدارج1/148]
    وفي عبارة أوضح يقوا ابن القيّم : ((وأما صاحب "المنازل" ـ ومن سلك سبيله ـ فالتوحيد عندهم نوعان: أحدهما غير موجود ولا ممكن ، وهو توحيد العبد ربه فعندهم :
    ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد

    والثاني توحيدٌ صحيح ، وهو توحيد الربّ لنفسه ، وكل من ينعته سواه فهو ملحد ، فهذا توحيد الطوائف ، ومَن الناسُ إلاّ أولئك؟ والله سبحانه أعلم)).انتهى[مدارج السالكين 3/449]

    إذن عندما يغلب على ظنّ الإنسان صلاح وعلم وتديّن شخص ما ، فإنّه إذا وجد في كلامه عبارات تخالف الشريعة في ظاهرها ، يسارع إلى تحسين الظنّ به ، وحمل كلامه على محمل حسن والاعتذار له .
    وهذا هو عينُ ما فعله الأمير عبد القادر مع الشيخ ابن عربي، والأمير لم يكن مبتدعًا في ذلك وإنّما سبقه إلى ذلك الكثير من علماء الإسلام ، من زمن ابن عربي إلى زمن الأمير!!
    والذي يتّهم الأمير بأنه على معتقد وحدة الوجود لأجل احترامه لابن عربي ، فهو في الواقع يتّهم جماهير كبيرة من العلماء الذين أثنوا على ابن عربي أو على الهروي ، ودافعوا عنهما.
    روى المقَّري في كتابه (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) فقال : ((وفي الكتاب المسمى بـ "الاغتباط بمعالجة ابن الخيّاط" تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الشيرازي الفيروزآبادي الصدّيقي صاحب القاموس، قدّس الله تعالى روحه، الذي ألّفه بسبب سؤالٍ سئل فيه عن الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي الطائي قدّس الله تعالى سرّه العزيز في كتبه المنسوبة إليه، ما صورته:
    ما تقول السادة العلماء شدّ الله تعالى بهم أزر الدين، ولمَّ بهم شعث المسلمين، في الشيخ محيي الدين بن عربي في كتبه المنسوبة إليه كالفتوحات والفصوص، هل تحلّ قراءتها وإقراؤها ومطالعتها؟ وهل هي الكتب المسموعة المقروءة أم لا؟ أفتونا مأجورين جواباً شافياً لتحوزوا جميل الثواب، من الله الكريم الوهّاب، والحمد لله وحده.
    فأجابه بما صورته: الحمد لله، اللّهم أنطقنا بما فيه رضاك، الذي أعتقده في حال المسؤول عنه وأدين الله تعالى به، أنّه كان شيخ الطريقة حالاً وعلماً، وإمام الحقيقة حقيقة ورسماً، ومحيي رسوم المعارف فعلاً واسماً:
    إذا تغلغل فكر المرء في طرفٍ ... من بحره غرقت فيه خواطره
    وهو عباب لا تكدره الدّلاء، وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء، وكانت دعواته تخترق السبع الطّباق، وتفترق بركاته فتملأ الآفاق (...)
    وأما كتبه ومصنّفاته فالبحار الزواخر، التي لجواهرها وكثرتها لا يُعرف لها أول ولا آخر، ما وضع الواضعون مثلها (...) ومن خواص كتبه أن من واظب على مطالعتها والنظر فيها، وتأمّل ما في مبانيها، انشرح صدره لحل المشكلات، وفك المعضلات، وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصّه الله تعالى بالعلوم اللدنية الربانية، ووقفت على إجازة كتبها للملك المعظم فقال في آخرها: وأجزته أيضاً أن يروي عني مصنّفاتي، ومن جملتها كذا وكذا، حتى عد نيّفاً وأربعمائة مصنف، منها التفسير الكبير الذي بلغ فيه إلى تفسير سورة الكهف عند قوله تعالى " وعلّمناه من لدنّا علماً " وتوفّي ولم يكمل، وهذا التفسير كتاب عظيم، كل سفر بحر لا ساحل له، ولا غرو فإنّه صاحب الولاية العظمة، والصديقية الكبرى، فيما نعتقد وندين الله تعالى به. وثم طائفة، في الغي حائفة، يعظمون عليه النكير، وربّما بلغ بهم الجهل إلى حد التكفير، وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها، ولم تصل أيديهم لقصرها إلى اقتطاف مجانيها:

    عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر

    هذا الذي نعلم ونعتقد، وندين الله تعالى به في حقه، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصورة استشهاده: كتبه محمد الصديقي الملتجئ إلى حرم الله تعالى عفا الله عنه)).انتهى[نفح الطيب2/176]
    والمجد الفيروزآبادي هو شيخ الحافظ ابن حجر العسقلاني (والحافظ لم يطعن في شيخه لأجل هذا الكلام ، وإنّما كان يكتفي بالاعتراض على إيراد شيخه الفيروزآبادي لكلام ابن عربي في كتبه ، ومعلوم موقف الحافظ ابن حجر الرافض بحزم لمذهب ابن عربي!!) 
    فعندما يقرأ الأمير أو غيره مثل هذه الترجمة ، مضافًا إليها عشرات الإشادات والثناءات من علماء وفقهاء ، في شخص ابن عربي ، مع ما يتصف به الرجل من سعة العلم والأدب ، فإنهم لا شك سيحسنون الظن به . وهذا لا يعني أبدًا أنهم على معتقده .
    فكيف إذا كان في كلامهم ما يصرّحون فيه برفض هذه العقائد الفاسدة ، واستنكارهم لها؟
    وقد مرّ معنا في الحلقات السابقة ، تبرّؤ الأمير من عقائد الحلول والاتحاد والوحدة ، وانتقاده الدهريين والمعطلة ، والفلاسفة!!!
    قال الأمير: ((واحذر أن ترميَني بحلولٍ أو اتّحاد أو امتزاج أو نحو ذلك ، فإني بريء من جميع ذلك ومِنْ كل ما يُخالف كتابَ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ..)).انتهى [المواقف 2/869]
    وقال: ((... فإنّ هلاكه أقرب ، ونجاته أغرب ، إذ للشيطان فيه مدخلٌ واسع وشبهة قويّة فلا يزال أبو مُرّة (يعني إبليس) معه يستدرجه شيئاً فشيئاً يقول له : الحقُّ ـ تعالى ـ حقيقَتُكَ ، وما أنتَ غيرُه، فلا تُتْعِب نفسك بهذه العبادات ، فإنّها ما وُضعت إلا للعوام الذين لم يصلوا إلى هذا المقام ، فما عرفوا ما عَرَفت ، ولا وصلوا إلى ما إليه وصلت. ثمّ يُبيحُ له المحرّمات، ويقول له : أنتَ ممَّن قال لهم : اعملوا ماشئتم فقد وجبت لكم الجنّة ، فيُصبِحُ زنديقاً إباحيّاً حلوليّاً ، يمرقُ من الدِّين كما يمرق السهم من الرميَّة".انتهى [المواقف 3/1043]
    [ملاحظة: إنني سأتكلّم على كتاب المواقف بالتفصيل لاحقًا إن شاء الله ، ولكن حتى لا يلتبس على بعض الإخوة استشهادي بكتاب المواقف أقول : نعم إن كتاب المواقف المطبوع ليس من تأليف الأمير ، ولكن له فيه كلام كثير ، جمعه وضمّه إلى أمثاله حتى خرج في ثلاثة مجلدات الشيخ محمد الخاني ، لذلك فإنني أستشهد بكلام الأمير الموجود في المواقف! وألزم به الذين يقطعون بنسبته إليه] 

    وليس من الضروري أن يكون الأمير قرأ كلام الإمام الذهبي في ابن عربي ، ومع ذلك فإنّه إذا قرأه ربّما يجد فيه ما يدفعه لحسن الظن به! قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: ((ابن العربي : العلاّمة صاحب التواليف الكثيرة محيي الدين أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطائي الحاتمي المرسي ابن العربي، نزيل دمشق.
    ذكر أنه سمع من ابن بشكوال وابن صاف، وسمع بمكة من زاهر بن رستم، وبدمشق من ابن الحرستاني، وببغداد. وسكن الروم مدة، وكان ذكيًا كثير العلم، كتب الإنشاء لبعض الأمراء بالمغرب، ثم تزهد وتفرد، وتعبد وتوحد، وسافر وتجرد، وأتهم وأنجد، وعمل الخلوات وعلق شيئًا كثيرًا في تصوف أهل الوحدة.
    ومن أردئ تواليفه كتاب "الفصوص" فإن كان لاكفر فيه، فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة فواغوثاه بالله! وقد عظّمه جماعة وتكلّفوا لما صدر منه ببعيد الاحتمالات، وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا أنه سمع الشيخ عز الدين ابن عبد السلام يقول عن ابن العربي: شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم ولا يحرّم فرجًا.
    قلتُ: إن كان محيي الدين رجع عن مقالاته تلك قبل الموت، فقد فاز، وما ذلك على الله بعزيز.
    توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وست مئة.وقد أوردت عنه في "التاريخ الكبير".
    وله شعر رائق، وعلم واسع، وذهن وقاد، ولا ريب أن كثيرًا من عباراته له تأويل إلا كتاب "الفصوص"!)).انتهى


    وأما قول الأخ الكاتب إن الأمير اختار الإقامة بدمشق لأنها دار إقامة ابن عربي فهو ظنّ منه فيما يبدو ؛ وطبعًا ظنٌ غير صحيح ، وليته أتى بدليل على ذلك. وقد ذكرنا سابقًا أن الأمير اختار مكّة لإقامته ، والذي يُذكر في المراجع التاريخية أنه طلب من الحكومة الفرنسية تأمين سفينة توصله إلى ميناء الإسكندرية أو عكّا ، وذلك لأنّ هذين الميناءين هما المنفذ للوصول إلى مكّة المكرّمة.
    وما ذكره الكاتب من سكنى الأمير في دار ابن عربي بعد أن قام بإصلاحه فأيضًا غير صحيح ،
    إن الأمير بعد قدومه إلى دمشق استقبله واليها واستضافه في أحد الدور التابعة للحكومة ، وبعد بقائه في تلك الدار مدّةً قصيرة اشترى الأمير عدة دور صغيرة في حيّ العمارة بدمشق القديمة وهدمها وبنى مكانها دارًا واسعة وانتقل إليها وهي أبعد ما تكون عن مقام ابن عربي! [فمكان إقامة ابن عربي ومقامه يقعان خارج أسوار مدينة دمشق بمسافة بعيدة جدًا . في أعلى سفح جبل قاسيون] 

    وأما أنه دُفن بجانب قبر ابن عربي فصحيح ، ومازال قبره باقيًا إلى اليوم مع أنّ الحكومة الجزائريّة نقلت رفاته إلى الجزائر سنة 1966م .
    ولكن أحب أن أنبّه هنا على أمر هام جدًّا ، وهو أنّ الأمير كان قد اشترى أرضًا بجانب مقبرة الدحداح القريبة من حي العمارة شمال الجامع الأموي ، وجعلها مقبرة وأوقفها على أسرته ، ولمّا ماتت أمّه دفنها في وسطها ، وأوصى أن يُدفن إلى جوارها (وهذا ثابت ومشهور عند أفراد أسرته إلى اليوم) ، وحبّه لأمه وتعلقه بها معروف وذَكَرَه جلّ الذين ألّفوا عن حياته . ولكن عندما مات الأمير أشار بعض الشيوخ على أولاده أن يُدفن إلى جوار ابن عربي ، وترددوا في الأمر إلى أن اجتمعت الآراء على دفنه بجوار ابن عربي ، فاجتمع مجلس إدارة الولاية للمذاكرة في هذا الأمر ووافق عليه بعد ترخيصٍ من الباب العالي. 
    إذن من ادّعى أن الأمير أوصى أن يُدفن بجانب قبر ابن عربي فادّعاؤه باطل. ووصيّة الأمير موجودة وليس فيها هذا الطلب!
    من المعلوم كيف كان ـ وما زال ـ المعتقدون بابن عربي يعقِدون دروسهم في مقام ابن عربي!
    وللفائدة فإنّ الأمير عبد القادر لم يُدرّس أبدًا في مقام ابن عربي ، وإنما كانت دروسه في دار الحديث، أو في الجامع الأموي ، أو في المدرسة الجقمقيّة، أو في داره الخاصّة .
    وإذا كانت هذه الظنون من الكاتب إنما وضعها ليبرهن على شدة تقديس الأمير لابن عربي ، فماذا عن ادّعاءاته بخصوص تقديس الحلاج والتلمساني؟هل سكن في دورهم أيضًا أو رحل واستوطن في بلادهم؟!!
    ثمّ لماذا الزج بأمثال هؤلاء في معرض الحديث عن علاقة الأمير بابن عربي؟!!
    من المعلوم الفرق الكبير بين هذه الشخصيات الثلاثة ، وإذا كان البعض يلصق الأمير بابن عربي بحجة كتاب المواقف أو بتلك الظنون والأوهام ، فما هي حجّتهم عندما يلصقون به الحلاج والتلمساني؟؟
    مرَّ معنا سابقًا قول ابن القيّم في دفاعه عن الهروي: ((ولولا مقَامُه في الإيمان والمعرفة ، والقيام بالأوامر ، لكُنَّا نُسيء به الظنّ)) وكذلك قوله : ((والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما: أعظم الباطل ، ويريد بها الآخر محض الحق ، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه))
    إذن هناك قرائن تدل على حال الرجل وما يريد . والإنكار الذي وجّه إلى ابن عربي إنما هو في اشتمال عباراته وأشعاره لكلامٍ مخالف لظاهر الشرع ، ولا يجوز السكوت عنه.
    أمّا الحلاّج فكل من يقرأ سيرته يعلم أنه كان مشعوذًا ودجالاً، وليس من أهل العلم والتديّن ، وظهرت منه أفعال منافية للدين. [انظره في (سير أعلام النبلاء) للذهبي] ، وأما التلمساني فأمره أشد وأدهى ، فقد كان يتُهم بالخمر والفسق والقيادة. [انظره (تاريخ الإسلام) للذهبي] 
    وكذلك كل من اتهمهم العلماء بأنهم يقولون بالحلول والاتحاد أو وحدة الوجود حقيقةً، نجد في سيرهم أنهم كانوا إما تاركين للصلاة أو منتهكين للمحارم أو منحطين إلى أرذل الأخلاق .
    وأنا الآن لست بصدد الحديث عن ابن عربي ، والناس فيه على فرق ثلاث .
    وإنما أنا بصدد الحديث عن الأمير عبد القادر ، فإذا كان العلماء يدافعون عن أشخاص تلفّظوا بكلام مرفوض شرعًا ، بحجة أنهم أهل علم وصلاح ومقامهم في الإيمان عال . فكيف يكون موقفنا ممن يحترم أولئك الأشخاص فحسب ولم يتلفّظ بكلامهم بل تبرّئ من تلك المعتقدات؟ 
    والذي شُهِد له بالصلابة في الدين ، والتقوى والصلاح ، والذي حَفِظَ القرآن وعمره خمسة عشر سنة ، وتلقى الفقه والحديث ، وجاهد في سبيل الله ، وحكّم القرآن والسنة في شؤون إمارته كلها ، وواظب على حضور الجمع والجماعة إلى آخر يوم من حياته ، بل لم يفوّت الصلاة على وقتها جماعة وهو في بلاد الصليبيين وفي معاقلهم (قصر فرساي) وذلك أثناء زيارته لفرنسة مبعوثًا من قِبَل السلطان عبد المجيد خان ، يقول محمد باشا: ((ثم نزل الأمير إلى الجنينة في ساحة السراية وصلى الظهر بمن معه من رفاقه، ثمّ ودّع الجنرال ، وركب العربة المعدّة له وتوجه إلى غابة بلونيا وصلى العصر بمرأى من جموع كثيرة اجتمعت لرؤيته. أخبرني بعض من كان حاضرًا معه أنّ جميع من كان موجودًا في ذلك اليوم بتلك الغابة من الفرنساويين وغيرهم وقفوا صفوفًا ينظرون إلى صلاته ويمدحونه على إظهار شعائر دينه ، ثم قال : والحق يُقال إن منظر الأمير منتصبًا للصلاة أمام الجميع خاشعًا لحضرة الحق تعالى ، لَمِنَ المناظر التي تتحرك بها القلوب وتصرفها إلى جانب الحق تعالى، وبعد أن أتمّ صلاته توجّه إلى محلّ نزوله ؛ واتّخذت الحكومة على محل صلاته سياجًا من حديد احترامًا له ، وهو موجود لهذا العهد)).انتهى[تحفة الزائر2/158]
    و هو الذي درّس الفقه المالكي والحديث النبوي ، في الجامع الأموي ودار الحديث والمدرسة الجقمقيّة ، وأجاز العلماء وطلاب العلم بصحيح البخاري ومسلم وموطّأ مالك ، وإجازاتهم مازالت محفوظة إلى اليوم ، ودرّس كتاب (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي و(الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض ، و(الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني ، وراسل أكابر علماء عصره وراسلوه أمثال الإمام الفقيه علي بن عبد السلام التسولي المالكي المغربي (الذي وضع كتابًا يعرض فيه أسئلة الأمير والجواب عليها وهو مطبوع)، والشيخ محمد الهادي العلوي الحسني القاضي بفاس (وجوابه للأمير موجود في تحفة الزائر 1/251) ، ومفتي المالكية بمصر العلاّمة محمد عليش (الذي كان يُنكر بشدة على منحرفي الصوفيّة) وقد أثبت أسئلة الأمير في كتابه الشهير [فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك( ص 328)] ، والعلاّمة الشيخ حسن العدوي المالكي (وجوابه مثبت في تحفة الزائر 2/124) ، وغيرهم من علماء الشام والحجاز وتركيا ، ولم يرد أي طعن فيه من جميع علماء عصره!!! وكان محلّ تقدير عندهم ، وكل من ترجم له من العلماء في عصره أو قريبًا منه إنما كانوا يثنون عليه وعلى دينه؟ وأشرفَ على غسله وتكفينه الشيخ الأزهري عبد الرحمن عليش ابن الشيخ محمد المذكور آنفًا .
    يقول الشيخ جميل الشطي في وصف الأمير : ((هو السيد عبد القادر ابن السيد محيي الدين ابن السيد مصطفى الجزائري المغربي الحسني نزيل دمشق ، الأمير الشهير ، السيد الخطير ، العالم العارف ، بحر العلوم والمعارف .... وبالجملة فقد كان إمامًا جليلاً عالمًا عاملاً ، نبيلاً نبيهًا ، زاهدًا ورِعًا ، مُهابًا شجاعًا كريمًا حليمًا ، رحمه الله تعالى وجعل الجنّة مثواه)).انتهى[(أعيان دمشق) للشطي ص179]
    وهؤلاء العلماء الذين مدحوا الأمير وراسلوه أو لازموه ، وعرفوه عن قرب ، وحضروا دروسه في العقيدة والحديث ، كانوا لا يسكتون عن فضح المنحرفين والزنادقة ، بل يشنّعون فيمن ظهرت منه أفعال تعارض الشريعة ، فهذا الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه (حلية البشر) وفي الجزء الذي ترجم فيه لشيخه الأمير عبد القادر ؛ يترجم قبله لـ "سعيد الخالدي الدمشقي الشاذلي اليشرطي" فيقول عنه :
    ولد سنة إحدى وعشرين بعد المائتين والألف ونشأ من أول عمره في العبادة، والطاعة والزهادة، وزيارة الأولياء والجلوس في مجالس العلماء ...وقد بدأ المترجم بتعلم ما لا بد منه، وما لا يستغني المكلف عنه، ثم التفت إلى التعلم، والاستفادة والتفهم ... ولم يزل مستقيمًا على حاله متخلصًا من أوحاله، إلى أن حضر إلى "داريا"خليفة من خلفاء الشيخ علي المغربي اليشرطي الشاذلي وكان قد أرسله من عكا، واسمه الشيخ أحمد البقاعي، فأخذ المترجم عنه الطريق، ثم بعد ذلك ذهب إلى زيارة الشيخ في عكا فحضر من عنده وقد انعكست حالته، وانقلبت إلى ضدّها في الظاهر طاعته، وعلاه طيشٌ وجنون، ومن المعلوم أن الجنونَ فنون، فذهب رونقه، وبان نورقه، واستثقل أمره وانخفض قدره، فترك الفقه والأصول والمعقول والمنقول، واستخف بالعلماء، وجحد فضيلة الفضلاء، وأنكر العلم والعمل، وعن كثير من التكليفات اعتزل، وقال هذه واجبة على المحجوبين لا على المحبوبين؟! وكان كثيراً ما يتكلم بالكلام، الذي لا يرتضيه مَنْ في قلبه ذرةٌ مِنَ الإسلام، وصار لا يقول بواجب ولا مسنون، ويقول إن التمسك بذلك محض جنون، ومن دخل في الطريق وترقى في المقامات صارت ذاته عين الذات، وصفاته عين الصفات، وهل يجب على الله صلاة أو صيام بحال، وهل يقال في حقه عن شيء حرام أو حلال ، وأمثال ذلك كثير لا يرام، ولو أردنا أن نطيل به لخرجنا عما يقتضيه المقام. وقد وافقه على ذلك عدة أشخاص، قد خرجوا من الدين ولات حين مناص، فتجاهروا بالآثام، ولم يتقيدوا بحلال أو حرام مع أن شيخهم الأستاذ(يعني:علي المغربي) قد أنكر عليهم ، ووجه أشدّ الملام إليهم، وكتب لهم ينهاهم عن ذلك، ويزجرهم عن هذه المسالك، وهم يؤولون كلامه، حتى صاروا فرقة ذات متانة وحمية، وما زال يتفاقم أمرهم، ويكثر جمعهم، إلى أن نفى الحاكمُ بسببهم أستاذَهم إلى جزيرة قبرص، ناسبًا القصور إليه، وكان المترجم خطيبًا في قرية كفرسوسيا وهي قرية من الشام تبعد قيد ميل، وكان منها معاشه، مع التعظيم والتبجيل، ...
    ثم بعد مدة طويلة عفت الحكومة عنهم على أنهم لا يعودون إلى أمثال هذه الرذيلة، ولا إلى الملابس البذيلة، فعاد المترجم إلى قريته، ومحل إقامته وخدمته، ورجع إلى حاله الأول وما رجع عن زيغه ولا تحول، فأعرض عنه أهل البلد ونصبوا له شرك النكد، إلى أن فصلوه، ووضعوا مكانه تلميذه وبمصلحته وصلوه، فعاد المترجم بعياله إلى الشام، وتزايد أمره بما يقتضي الاعتراض والملام، إلا أنه قد ضاقت يده، وهبط قدره وسؤدده، وذهب جماله وسقط كماله، فذهب إلى داريا يقري الأولاد، ودنياه تعامله بعكس المراد، وذلك كله لاتّباعه الباطل، وتمسكه بما ليس تحته سوى الشقاء من طائل، وكنت أنصحه بالرجوع إلى المطلوب، فيقول لي أنت عن الحقيقة محجوب، لو قطع رأسي وتفصلت أوصالي لا رجعت عن طريقي وحالي. فمرة كنت أمشي وإياه في الصحراء فرأى امرأة قروية قد لبست لباساً أحمر فقال لها يا حبيبي عملتَ نفسكَ امرأة ولَبِسْتَ اللباس الأحمر! ومرة رأى هرًا فصرخ وقال له عملتَ نفسكَ هرًّا وتظن أني ما عرفتكوكان يقول عن إبليس إنسان كامل. وأمثال هذا كثير، مما لا يقول به جليل ولا حقير، ويقول للاّئمين أنتم أهل الرسوم، المتمسكون بظاهر العلوم، ونحن الصوفية أهل الطريقة، والوجدان والحقيقة. وما علم أن ذلك من أكبر الغلط، ومن قال به فقد سلك مسلك الشطط، وهل تجدي من غير شريعة طريقة، أو تصلح بما لا تمسك له بالقرآن والسنة حقيقة. قال صاحب الأسفار في شرحه على رسالة الخلوة للشيخ الأكبر قدس الله سرهما: (( "وصية" يا أخي رحمك الله قد سافرت إلى أقصى البلاد، وعاشرت أصناف العباد، فما رأت عيني، ولا سمعت أذني، أشرّ ولا أقبح ولا أبعد عن جناب الله من طائفة تدعي أنها من كمل الصوفية وتنسب نفسها إلى الكمال، وتظهر بصورتهم، ومع هذا لا تؤمن بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا تتقيد بالتكاليف الشرعية، وتقررُ أحوال الرسل وما جاءوا به بوجه لا يرتضيه مَنْ في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فكيف من وصل إلى مراتب أهل الكشف والعيان، ورأينا منهم جماعة كثيرة من أكابرهم في بلاد أذربيجان وشيروان وجيلان وخراسان لعن الله جميعهم* ، فالله الله يا أخي لا تسكن في قرية فيها واحد من هذه الطائفة، لقوله تعالى:{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ،وإن لم يتيسر لك ذلك فاجهد أن لا تراهم ولا تجاورهم فكيف أن تعاشرهم وتخالطهم؟ وإن لم تفعل فما نصحتَ نفسك والله الهادي)).انتهى ، وما زال المترجم على حاله خائضًا في أوحاله، إلى أن تمرض وتوفي رابع عشر جمادى الأولى سنة ألف ومائتين وأربع وتسعين. ودفن في جوار سيدنا بلال الحبشي نسأل الله أن يكون رجع عمّا كان عليه وتاب إلى الله وآب إليه)).انتهى[حلية البشر 2/669ـ673]
    *وقد علّق الشيخ محمد بهجة البيطار ، من شيوخ دمشق السلفيين ، على هذا الكلام فقال : ((أقول :وقد وصل شرّهم وضرّهم إلى أرض الشام ، وسمعنا ورأينا بعض من يرتكب تلك الآثام ، عليهم من الله ما يستحقّون)).انتهى
    والشيخ بهجة البيطار يصف الأمير عبد القادر فيقول : ((العالم المجاهد الكبير . وعين الشام وهامها وسيدها وهمامها)) وليس في كلامه عليه إلاّ الثناء والتوقير!![وذلك في تعليقاته على (حلية البشر)]

    وحين ترجم الشيخ عبد الرزاق للأمير : فإنه أثنى عليه الثناء كلّه وبالغ في مدحه، ولم يشر إلى أي شيء يخدش دينه . ولا أريد الإطالة في عرض وإيراد كل ما قيل في الأمير من الثناء والمدح.
    ولكن هناك هام أمرٌ أحب أن أنبّه عليه:
    وهو أنّ الشيخ عبد الرزاق البيطار يُعدُّ في ذلك العصر من أوائل علماء الشام الذين أخذوا بمذهب السلف ، ولاقى بسبب ذلك كثيرًا من الفتن والمصائب ، وعاداه كثير من شيوخ الشام ، واتّهموه بتأسيس مذهب جديد ، وكذلك كان الحال مع تلميذه العلاّمة جمال الدين القاسمي الذي سُجن وحُورِبَ بسبب عقيدته السلفيّة ، ومحاربته للخرافات والانحرافات!!
    يقول الشيخ محمد بهجة البيطار في ترجمة جدّه الشيخ عبد الرزاق: ((فهو في بلاد الشام من أوّل العلماء بلا شبهة ولا مراء ، لأنّه أوّل من أخذ بالدليل ، وجاهد في هذا السبيل ، ورفع فوق رؤوس أهل الحق راية السنّة والتنزيل)) ثمّ نقل قول العلاّمة القاسمي فيه : ((إن الشيخ عبد الرزاق البيطار ذاك العالم الجليل ؛ ممن اشتهر بالإنكار على أرباب الخرافات ، وممن يقاوم بلسانه وبراهينه تلك الخزعبلات ، فإنّه ممن لا تأخذه في إبانة الحق لومة لائم ، ولا يصده عتب عاتب ولا قومة قائم، وله صدع بالحق عجيب ، وعدم محاباة ومداراة ، وكل ما يروى من حكايات المتمفقرين فإنه يزنه بميزان العقل فإنْ أباه ردَّه جهارًا ، وقابل قائله بالصد إنكارًا ، وطالما صرّح بالإنكار على من يُنادي مَنْ يعتقد فيه العامّة من الأموات ويستشفع به في قضاء الحاجات ، ويعرّفهم ما قاله السلف في هذا الباب مِنْ أنه أمرٌ ما أَذِنَ اللهُ به ، إذ أمر بدعائه وحده ، فدعاء غيره مما لا يرضيه كما صرّح به في غير آية من كريم الكتاب ، وقصْده ترقية العامّة عن نداء أحدٍ إلاّ الله ، وعدم تعليق القلب إلاّ بالخالق تبارك وتعالى)).انتهى [انظر مقدمة (حلية البشر)1/12ـ17] 
    هذا العالمُ الصادع بالحق كتبَ مقالةً سنة 1296هـ إثر ذيوع خبر وفاة الأمير ، ثم ظهور بقائه حيًّا وإنما كان مريضًا ، يحمد الله فيها فقال : ((نحمدُك يا منعم على إحسانك ، ونشكرك على جزيل امتنانك ، حمدًا وافيًا بوافر آلائك ، وشكرًا مكافيًا لمُتكاثِر نَعْمائك ، يا راحم المتضرّعين ، ما أرأفك ، ويا منّان على المنقطعين ما أعطفك ، ويا ذا الرحمة والجود ما أحلمك ، ويا دافع النقمة بلطفك ما أحكمك وأعظمك ، قد غمرتنا بجميل المعروف ، وأغرقتنا في بحر لطفك الموصوف ، وأسبلت علينا سترك الجميل ، وأدمت لنا حصنك الجليل ، مَنْ أنقذتنا به من أودية الغواية ، إلى فسيح الرشاد والهداية ، وعرّفتنا به المطلوب ، وهديتنا بهدايته إلى الصراط المرغوب ، وكشفت به لنا عيوبًا كنّا نعتقدها طاعة ، ودللتنا به على نهج السنّة والجماعة ؛ الأمجد الأوحد ، والعَلَم المفرد ، بحر الأكارم، وحبر العوالم ،.... يد السماحة لكل طالب ، وباب الدخول لكل راغب ، الرافع بفضائله أعلام الرايات الدينيّة ، والقامع بدلائله معاندي الشريعة المحمديّة ، أمير الأمراء ، وقطب مدار الفضلاء، .... الحسيب النسيب ، والشريف الماجد الأريب ، السيد عبد القادر الحسني ، أدام الله بقاءه وجُوْدَه الهني، ....إلخ)).انتهى

    وليس غرضي من هذا النقل ذكر ما فيه من مبالغة في المديح وتعداد الأوصاف (على عادة أهل ذلك العصر) ، وإنما غرضي ما قاله الشيخ البيطار مِنْ كون الأمير عبد القادر هو الذي دلّهم على نهج السنة والجماعة ، ونفّرهم من البدع التي كانوا يظنون أنها طاعات!
    وإن شاء الله أتابع الحديث عن تطور فكر الأمير ، وأثره في تلامذته وأصحابه ، وآثاره في بعث الصحوة في بلاد الشام، لاحقًا. 
    والحمد لله ربّ العالمين

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 1:16 pm