الحلقة الثالثة
لقد بدأ الكاتب مقاله متعجبًا من سبب اهتمام العالَم بشخصيّة الأمير عبد القادر، وتحدَّث عن أفلام تبثُّها قناة العربيّة وغيرها ، وقال : ((وكأن الرجل إنما توفي عن وقتٍ قريب جداَّ)). وبصرف النظر عن صياغة عبارته ، فإنها عبارة عجيبة! وهل الاهتمام بالأشخاص يكون تَبَعًا لتاريخ وفاتهم أم بحسب مكانتهم وقَدْرِهم وما تركوه من أثر؟
وحتى لا أطيل أقول للأخ الكاتب ولغيره : لا تعجب أبدًا من اهتمام العالم العربي والغربي بالشخصيات المرموقة والفذّة في أي وقت وعصر ، فهذا أمر طبيعي ومطلوب .
ولكن تعجّب من فعلهم ومن خبثهم! نعم إنّ الذي يفعلونه اليوم هو مكرٌ شديد ، مستغلين جهل بعض أبناء أمّة الإسلام وغفلتهم .
ثمّ لماذا تتعجب والسيناريو الذي اعتمد عليه الفيلم قريب جدًا من محتوى مقال (فكّ الشفرة)؟!
أمّا قناة العربيّة فليس لها من ذلك الفيلم اللّعين أي دور سوى الترويج له . لأنّ الفيلم قد أعدته قناة أوربية (فرنسية ألمانية) وبثّته في الغرب موجهاً للجالية المسلمة هناك من أجل أغراض فاسدة سأبينها لاحقاً .
فمنذ سنوات اتصلت بي مندوبة تلك القناة وأخبرتني أنّ فريقاً من العاملين في القناة جاء إلى دمشق ويريدون أن يجتمعوا بي ليجروا معي لقاءً تلفزياً ، فقلت لها وما الموضوع؟ قالت فيلم وثائقي عن الأمير عبد القادر . قلت لها الأمير مات في القرن التاسع عشر (1883م) ونحن اليوم في القرن الواحد والعشرين فكيف تصورون فيلمًا وثائقيًا عنه؟! ولم يبق أحدٌ ممن عاصره على قيد الحياة! ولا توجد لديكم أي أفلام مصورة في حياته! فما معنى فيلم وثائقي؟ قالت نحن نجتمع مع أفراد من أسرته في عدّة بلدان ونسألهم عنه ثم يكون الفيلم!
قلت وبمن التقيتم؟ قالت لا عليك نحن نريد أن نتحدث معك الآن . قلت حسنًا فأين (سيناريو) الفيلم حتى أطلع عليه . قالت نأتيك به لاحقًا . قلت هل من الممكن أن أرى ما صورتموه إلى الآن؟
قالت سأسأل المدير وأردّ لك الجواب . وبعد أيام اتصلت بي وقالت هل أنت جاهز للتصوير؟ قلت لا حتى أرى ما عملتم سابقًا . قالت أعدك أن ترى كل شيء . قلت هذا لا ينفع . ثم ما جنسية من سيجري معي اللقاء عربي أم فرنسي؟ قالت فرنسي . قلت ومن سيترجم كلامي؟ قالت لدينا مختصون في هذا المجال سيعتنون بذلك . قلت هذا لا يروق لي لأنني أخشى من سوء الترجمة والموضوع حساس فأنتم تريدون الحديث عن تصوّف الأمير وعن سيرته في دمشق . قالت كن مطمئنًا . قلت ومع من سأجتمع؟ قالت مع (المدموزيل) الآنسة فلانة! وفريق التصوير . قلت لها والله أنا لا يمكن أن أجلس مع امرأة فرنسية أو غيرها للحديث أصلاً ، فكيف مع التصوير هذا لا يمكن . ثم عاودت الاتصال بي فرفضتُ الأمر جملةً .
ثمّ إنهم ذهبوا والتقوا ببعض أفراد الأسرة (الفاتح بن سعيد بن علي بن الأمير عبد القادر) والسيدة (بديعة بنت مصطفى بن محيي الدين بن مصطفى الأخ الأصغر للأمير عبد القادر)
وقد لامني بعض الأصحاب على امتناعي من اللقاء التلفزي في حينها .
وبعد مدّة ظهر الفيلم إلى الوجود وأذيع في أوربة ، ثمّ اشترته قناة العربيّة فيما يبدو.
وعندما شاهدتُ الفيلم حمدتُ الله أنني لم أقع في شَرَك هؤلاء الخبثاء .
فالفيلم لم يعرّج أبدًا على جهاد الأمير للفرنسيين في الجزائر سبعة عشر عامًا وتفاصيلِ ذلك ، وإنما بدأ الفيلم بالحديث عن الأمير ومساعدته للمسيحيين وحبّه ومساندته لهم ، وعن "ماسونيّته" ، ثم صاروا يصورون بعض الشبّان من السياح الفرنسيين في الجزائر فيقول له أحدهم : نعم أذكر أنّ الأمير كان يقول كن مع اليهودي يهوديًا ومع المسيحي مسيحيًا بل ومع المشرك مشركًا!!!
ثم زعموا أن الأمير دفن بجانب قبر الرئيس هواري بومدين!! وكأنّ هواري بومدين مات قبل الأمير! لقد حمل هواري بومدين رُفات الأمير عندما نقلوه من الشام إلى الجزائر ، وأوصى أن يُدفن هو بجانب الأمير .
وأما عن لقاءات الأسرة فلم يظهروا أيًا منها واكتفوا بمقطع مجتزأ مع السيد الفاتح يصرح فيه بأن الأمير ليس ماسونيًا ويطالب بالعناية بآثاره وأملاكه .
إذن الفيلم يريد أن يصور للعرب والمسلمين أنّ الأمير عبد القادر إنما هو رجل ماسوني يحب اليهود والمشركين ، فإذا كان له منزلة في قلوبكم فما عليكم إلاّ أن تتبعوه! أو تنبذوه وتعادوه!
ـ وللفائدة فإن الفرنسيين لمّا خسروا حربهم في الجزائر واضطروا إلى الخروج منها خائبين ، صاروا يدّعون أنّ خروجهم كان لأغراض سياسية أو لأسباب تكتيكية أو أو.... ثمّ صاح بهم أحد عقلائهم وقال مخاطبًا الشعب الفرنسي المصعوق بخروجه من الجزائر بعد 132سنة : (( باختصار القرآن أقوى من فرنسة)) فهذا اعتراف منه أنّ الثورة في الجزائر كانت ثورة دينيّة . لذلك عمدت السلطات الفرنسيّة بكل ما لديها من أدوات الإعلام لزرع فكرة معاكسة ، فما كان من الرئيس هواري بو مدين (واسمه الحقيقي محمد بو خروبة) إلاّ أن قرر نقل رُفات الأمير من دمشق إلى الجزائر ليُحْيي عند الناس ذكرى جهاد الأمير للفرنسيين ذلك الجهاد الإسلامي!! وليوصل رسالة للفرنسيين أن حربنا معكم كانت منذ البداية حرب جهاد وأن الشعب الجزائري شعب مسلم يعتز بدينه!
والحقيقة أن الغرب يحسب ألف حساب لشخصيّة الأمير بسبب أنه يرسم للمسلمين المثال الذي يمكن أن يحتذوا به في خلق الإمارة الإسلاميّة وإعلان الجهاد المسلح على الصليبيين والمعتدين ؛ لأنهم يعلمون أن الأمير استطاع مع ثلّة من الرجال المؤمنين أن يؤسس دولة دستورها الإسلام وينشئ جيشاً ضمن أرض الجزائر ، المحتلة أصلاً من قبل أكبر قوة عسكرية في ذلك الوقت (فرنسة) ، وأن يجاهدها ويكبدها الخسائر الفادحة ويحطم كبرياءها .
الغرب يخشى من شخصيّة الأمير عبد القادر لأنه أحد رواد ثورة الإصلاح الديني ، لقد حارب الأمير الصوفي بعض شيوخ الطرق الصوفية المنحرفين في الجزائر وقاومهم وحارب الشعوذة والتدجيل وعبادة الشيوخ ، وكل هذا مدوّن في كتب تاريخ الجزائر ومسجل بالوثائق ، ولكن من المؤسف أنّ أمّة {اقرأ} لا تقرأ!!
حتى إن بعض الكتّاب والمؤرخين عدّوا الأمير عبد القادر وعبد الكريم الخطابي من المتأثّرين بالحركة الوهّابيّة (انظر حاضر العالم الإسلامي ، والحركة الوطنية الجزائرية)، وهذا طبعًا بتعريفها العام كحركة إصلاح ديني لها جيش يدعمها ، لا من حيث الاتفاق على كل مبادئ الحركة ومعتقداتها.
فالأمير مشربه صوفي ويختلف مع الفكر الوهابي ، ولكنه متفق معه على وجوب إزالة الفساد الديني والجهل الشرعي.
((وكذلك الأمر كان مع الشيخ محمد بن علي السنوسي شيخ الطريقة السنوسية الذي رحل إلى مكّة وتأثّر بالإصلاح الوهابي دون تقليده ، والسنوسية تشبّعت بأفكار الشرق ، ولا سيما الفكر الوهّابي)) والكلام للدكتور أبي القاسم سعد الله .[انظر الحركة الوطنية الجزائرية لسعد الله ص373 و403]
وكذلك من المتأثرين بالفكر الوهابي من صوفية الجزائر (شريف ورقلة : إبراهيم بن أبي فارس)[المصدر السابق ص372]
على أيّة حال ، الدروس التي يمكن أن تستفاد من سيرة الأمير عبد القادر تمثل خطرًا كبيرًا على الغرب وأتباعه ، لذلك هم حريصون على تشويه هذه الشخصيّة ، فلا مسوغ لتعجّب كاتب المقال لأن كل تلك الأفلام التي تحدَّثَ عنها إنما هي للتشويه والتضليل.
قال بعض المؤرخين الفرنسيين ((...إنّ عبد القادر قد تحدّى أكبر الجيوش في وقته ، واخترع حرب العصابات ، ووضع أسس الوطنية الجزائرية ، وأعطى لغيره دروسًا في المهارة والالتزام للدبلوماسيين ...)) انتهى[لاتياد ص43] . وكما قيل : والفضل ما شهدت به الأعداء .
وقد علّق على هذا الكلام كبير المؤرخين في الجزائر الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله فقال : ((ولكن هذا الكاتب نسيَ أن ينبّه إلى أنّ عبد القادر هزَمَ أكبر جنرالات وماريشالات فرنسا عندئذ ، وأنها (أي فرنسا) نَكَبَته في وطنه وقومه وتآمرت عليه مع جيرانه وعزلته حتى عن علماء الدين ، ونصَبَت ضده شبكة من الجواسيس والخونة ، وتقوّلت عليه الأقاويل الكاذبة ، وخانت وعدها معه بتركه يذهب حيث اختار. ولكن هناك كتّاب آخرون يذكرون أن الأمير كان باعث الوطنية الجزائرية . فقد وصَلَ خطابه أعماق الشعب ، وحرّك نداؤه ضمير الأرض ، وهزّ صوته أركان الوطن فإذا بريح الوطنية تطوي المسافات وتجتاز الحدود القَبَلِيّة والطرق الصوفية والإقليمية لتصبح شعلة واحدة تحرق وجه العدو الدخيل ، لم يكن الجهاد وحده هو الذي جعل الناس يضحّون ويتبعون راية الأمير ، بل كانت هناك مشاعر متأججة حباً في الأرض وحباً للوطن الجديد الذي رسم حدوده الأمير، وجعل عليه قُضَاتَه وخلفاءه وممثليه ، واعترف له العدو بحدوده .
وكان الأمل أكبر من الواقع وكان الزمن أقصر من الأجل ، ولو طال العهد لازدهرت الدولة الجديدة وأثمرت الآمال العريضة ولأخصب الدِّين والفكر والعلم والفن في عصرٍ كان العالم الإسلامي كله فيه ينتظر مثلَ هذا الوليد .
لقد ظهرت قبل ذلك الحركة الوهّابية فإذا بها تُضرب قبل أن تكشف عن وجهها الحقيقي ، وكشَفت "نهضة" محمد علي عن وجهها فإذا هو وجهٌ علماني سلطاني يبتسم في وجه الأجنبي ويُكشّر في وجه المواطنين . وأخذ سلاطين آل عثمان " يُنظّمون" دولتهم المتداعية فإذا الإصلاحاتُ مفاسدٌ ، وإذا الأعداءُ هم المصلحون جالسين يملون على (السلطان) محمود وعبد المجيد وعبد العزيز وأنور(باشا) ومصطفى أتاتورك ما عليهم أن يفعلوا وما عليهم أن يتركوا .
إنّ دولة الأمير الوليدة لم تحاربها فقط جيوش فرنسا حبًا في التسلط والبطولة وطمعًا في إنشاء إمبراطوريّة ، ولم يقف ضدّها فقط "الكولون" (يعني المستوطنين الأوربيين) بمحاريثهم وأموالهم لكي يستغلوا الأرض المغتصبة ويَسْتَثْروا على حساب الجزائريين ، بل حاربتها أيضًا ظاهرًا وباطنًا ، الكنيسة والماسونية (الصهيونية) ، كما حاربها سلاطين المسلمين وحتى بعض علمائهم النائمين!
حاربتها الكنيسة لأنها اعتبرتها حركة جهاد إسلامي متوثب فيه انتعاش ونهضة للإسلام الراكد إذا انتصرت ، واعتبرت الكنيسةُ نفسُها عمَلَها ذلك استمراراً للصليبية التي خاضت في الشرق والغرب حروباً ضارية ضد الإسلام والمسلمين ، بما فيها الأندلس ووهران ، وتآمرت عليها الماسونية خصوصًا في الدوائر المحيطة بالحكومة الفرنسية وحاشية الملك وقطعان التراجمة والمستشرقين الذين توافدوا على الجزائر ، لأنّ دولة الأمير كانت دولة عربيّة سلفيّة ، شريفة ، لو انتصرت لكانت خطراً عظيماً على مخططات الماسونية ـ الصهيونية في الشرق!!، ولكانت أول دولة توحّد العرب على كلمة الجهاد كما وحّدتهم عليها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزمن الخلفاء الراشدين)).انتهى [(الحركة الوطنية الجزائرية) لأبي القاسم سعد الله ص274ـ275].[وأظنّ أن الدكتور سعد الله يقصد بالسلفية هنا المعنى العام لها ، لا المفهوم الذي استقرّت عليه اليوم].
ويتابع الأستاذ أبو القاسم فيقول : ((وقال فريق من الكتّاب الفرنسيين : إنّ الأمير رجل دين وجهاد وتصوّف ، وقالوا : إنّ الدِّين تغلّب على دولته في جميع مجالاتها ومظاهرها : الجيش ، المالية ، القضاء، حتى العملة والسكّة)) [بيسه شينار "عبد القادر وعبد الكريم" في مجلة الدراسات الآسيوية والإفريقية) ص143ـ 160] .
((ويرى فريقٌ آخر أنّ الأمير هو مؤسس الوطنية والسيادة في الجزائر ، وأنه جَدَّدَ في الاقتصاد بإبطال الخَرَاج على الرعيّة والامتيازات "للمخزن" ، والإبقاء فقط على الزكاة والعشور ، وجدد في القضاء فسوى بين الناس وطبّق نصوص القرآن على الجميع ، وخصص راتباً قارًّا للقاضي ، وجدد في العسكرية فجعل خدمة الوطن واجبة على الجميع ، وجدد في مفهوم الدين والتصوف فلم تعد القادريّة هي المثل وإنما جعل وحدة الشعب كله هي الهدف)).[رينيه كاليسو في (هيسبريس ـ ثمودا) ص120ـ 124] .
ثمّ يقول الدكتور سعد الله : (( إنّ الأمير في نظري هو موقظ الضمير الوطني الجزائري بأفعاله وأقواله طيلة عهد جهاده الذي بلغ سبعة عشر عامًا . لقد كان هدفه الأساسي إيقاظ وإذكاء ذلك الضمير بجعله الجهادَ في سبيل الله وسيلة ، والوحدة الشعبية هدفاً . ولعلّ الأمير قرأ جيداً واستفاد كثيراً من مقولة ابن خلدون :"إنّ العربَ لا تجتمع إلاّ على عصبيّة أو دين" فجعل الأمير العصبية نصب عينيه واستحضر عهد البعثة النبوية وعهد الصحابة ، ولم يكن يفرّق في ذلك بين أبناء الجزائر في الأصل فقد كانوا عنده جميعاً عرباً ومسلمين ، سواء كانوا سكان مدن أو جبال أو صحار ، وسواء كانوا يتكلّمون العربية أو لهجات محليّة . وإنما ظهر عليه أنه لم يرتح لبعض زعماء الكراغلة (وهم أبناء الأتراك من أمهات جزائريات) لأنهم بدؤوه بالإساءة إليه وتعاونوا مع عدوّه . وبينما لم يتدخل في العادات القبلية ولا في سلوكات الطرق الصوفية فإنه كان يُخاطب الجميع بلغة الدِّين والوطن والوحدة ويُذكرهم بماضيهم المجيد ويرغّبهم في التحرر والنهضة والاعتماد على النفس . ولذلك أحبّه الجميع وندم الذين خالفوه أحياناً على فعلهم وجاؤوه تائبين متوسلين . وقد عرفوا قدره أكثر بعد أن غاب عنهم وترك فراغاً لم تملأه أيّة شخصيّة من بعده ، لأنّ كل من ظهر بعده كان يفتقر إلى العناصر التي تمتع بها الأمير ، وهي تحديد الهدف وخدمته بكل الوسائل : الحرب والدبلوماسية والشجاعة والرأي والإخلاص .
ولعلّ هذه القِيَم هي التي جعلت الأمير هو البطل المغوار الذي تتحدث عنه قصص الفروسية العربية والفارس الغازي الذي ذكَّرَ الناس بعلي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعقبة بن نافع ، في وقت لم تبق من هؤلاء إلا ذكريات الكتب وأحاديث الأسمار . وقد لاحظ أعداؤه المعاصرون له أن الأمير لا يمكن خيانته مِمَّن تبعه ، رغم أن كثيرًا من عظماء الرجال انتهوا بخيانة بعض المخلصين لهم ، وقد حاول الفرنسيون أن يجدوا خائناً يغتال الأمير أو يضع له السم فباؤوا بالفشل . فهو محاربٌ مِقْدَام لا تجده إلاّ متقدّماً أمام الجميع ، وهو في نظر البعض مجاهدٌ يطلب الموت لتوهب له الحياة . ولذلك لم يكن بحاجة إلى حراسة ولا بوابين . وقد وصفه الواصفون عندئذ بأنه كان بسيط اللباس والأكل والمظهر ، وأن التواضع والزهد والذكاء والحزم من سماته ، وأن في إمكانه أن يأكل (الكسكسي) تحت أية خيمة (وهي أكلة جزائريّة مشهورة) ، وأن يشرب من أي نهر ومن أي كوب يشاء دون أن يخاف سماً ، وأن يضع رجله حيث يشاء دون أن يخشى كميناً من أحد [بوجولا (دراسات) 2/103] . فهو فارس الفوارس وحامي الذِّمار وربُّ السيف والشعر .
إنّ كبار العسكريين الفرنسيين الذين حاربوا الأمير (وكذلك وزيرهم للحربية ـ الماريشال سولت) قد فهموا جيداً خطّة الأمير ، وعملوا ما في وسعهم على عرقلة تنفيذها لأنها تُخرجهم من الجزائر ، وتُعيد مجدَ الإسلام ، وتبعثُ تيارًا جديدًا اسمه القوميّة العربية . وقد تعاونوا في ذلك ، كما قلنا ، مع الكنيسة والماسونية وأغبياء المسلمين (سلاطين وعلماء) لكسر شوكة الأمير ، الممثل لهذا الفجر الجديد . ولنرجع إلى كتابات بوجو ، وسولت ، وفاليه ، ودوفيفييه ، ولاموريسيير الخ . فإن فيها الجواب اليقين عمّا كانوا يحسونه منه ويلاحظونه عليه في هذا المجال ، وكيف خططوا وعملوا على إطفاء شعلته قبل أن تحرقهم)).انتهى كلام د. سعد الله.
ويقول هنري تشرشل (البريطاني المسيحي) : ((إن سياسة عبد القادر السامية لا تستطيع صبرًا على هذا الخرق الفاضح لمبادئ القرآن الواضحة الصريحة . إن ذلك الكتاب المقدس لم يُؤيّد ولم يُقرّ مبدأ الخضوع . فشعاره الذي لا يقبل المساومة ولا الرحمة هو الانتصار أو الموت والسيف في اليد في سبيل الله . ولمّا كان عبد القادر مفسِّراً غيوراً ، ومدافعاً جسوراً عن ذلك الكتاب المؤثر بكل عظمته البطولية ، فإنّه قد جعل واجبه الأساسي حمايةَ القرآن بيقظةٍ لا تعرف الكلل ولا التواني ، ومقابَلَةَ أبسط خروج عن مبادئه بشدة لا تعرف التراجع)).انتهى [(حياة الأمير لتشرشل) ترجمة سعد الله ص69]
ويروي تشرشل ردّ الأمير على الجنرال تريزل وفيه : ((.. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ ديني يمنعني من السماح لمسلم أن يكون تحت سلطة المسيحي)).انتهى [المصدر السابق ص96]
وفي جواب آخر ((إن العرب لا يمكن أن يقبلوا حتى أن يسمعوا بالعيش تحت سلطة المسيحيين ، ولو كانت سلطة اسمية ، وإذا كانت فرنسا ساعية لوضع العربي تحتها بالقوة فمعنى ذلك أنها ستدخل حرباً لا نهاية لها)).انتهى [المصدر السابق ص110 ؛ الكاتب البريطاني يصوغ كلام الأمير بطريقته الإنكليزية فهم يستعملون كلمة عربي مقابل مسلم فتنبّه]
ويقول تشرشل : ((لم يتردد الأمير في أن يطلب أن يكون كل مسلم مقيم في منطقة فرنسية يجب أن يكون تحت سلطته الشرعية هو فقط! وهو في هذا الطلب كان يسعى أن يُطبق ويُنفّذ مبدأً كان، في نظره، أولى من كل اعتبارات دنيوية ، لأنه مبدأ قائم على ماهية القرآن الأساسية وهو أنه لا يجوز لأي مسلم مهما كانت الظروف ، إذا أمكن ، أن يعترف عن طواعية أو يستسلم إلى حكم مسيحي)).انتهى [المصدر السابق ص113]
وجاء في جواب الأمير لأحد الفرنسيين قوله : ((سوف أنزل من هذه الصخرة الشماء ،كما ينزل النسر من عشه ، لكي أطهّر مدن الجزائر وعنّابة ووهران من المسيحيين)).انته� � [المصدر السابق ص139]
لقد ضرب الأمير نقودًا خاصّة بإمارته الإسلاميّة ، فهل تعلمون ما نُقِشَ عليها؟ أما القطعة الأولى فنُقش عليها الآية الكريمة {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه} ، وأما القطعة الأصغر منها فنُقش عليها الآية الكريمة {إنّ الدين عند الله الإسلام}.
والحديث في هذا الشأن طويل جدًا لا يمكن اختزاله في أسطر ضمن رد على مقال .
ومَن يريد التوسع في الموضوع فما عليه إلاّ الرجوع إلى كتاب "الحركة الوطنية الجزائرية" وكتاب "تاريخ الجزائر الثقافي" و"أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" و"محاضرات في تاريخ الجزائر"(بداية الاحتلال) كلّها لمؤرّخ الجزائر الكبير الدكتور أبي القاسم سعد الله ، وكتاب "كفاح الجزائر من خلال الوثائق" للدكتور يحيى بو عزيز ، وكتاب "حاضر العالم الإسلامي" للأمير شكيب أرسلان ، وكتاب "تحفة الزائر" لمحمد باشا ، وكتاب "المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر" لإسماعيل العربي ، وكتاب (حلية البشر) للعلاّمة عبد الرزاق البيطار. وهناك الكثير غيرها أيضًا . وكذلك يمكن للباحثين الرجوع للكثير من المخطوطات والوثائق التي حققها بعض العلماء ، مثل (منشور الهداية في كشف حال من ادَّعى العلم والولاية) للشيخ عبد الكريم الفكون الجزائري ؛ تحقيق د. أبو القاسم سعد الله .
وأنتقل الآن إلى الفقرة الثانية من المقال :
ذكر الكاتب في بداية مقاله في ترجمة الأمير فقال : هو الشيخ عبد القادر بن محيي الدين الحسني!!
ثمّ قال حيث يصل نسبه بالإمام [size=27]الحسين بن علي!! (وأظن هذا خطأً كتابيًا) والصواب : الحسن بن عليّ.[/size]
ثم نقل عمود النسب الخاص بالأمير فقال :".....عبد القادر ابن محي الدين ابن مصطفى ابن محمد ابن المختار ابن عبد القادر ابن أحمد ابن محمد ابن عبد القوي ابن يوسف ابن أحمد ابن شعبان ابن محمد ابن أدريس ابن أدريس ابن عبدالله ( المحض ) أبن الحسن ( المثنى ) أبن الحسن ( السبط )...... انظر :"الأمير عبد القادر" – سلسلة الفن والثقافة – وزارة الإعلام والثقافة الجزائرية – الجزائر / ص 1974" انتهى
العجيب حقًا أن ينقل سلسلة نسب الأمير من مجلة (سلسلة الفن والثقافة) من مقال كتبه أحدهم (لم يذكره لنا الكاتب) وساق فيه نسب الأمير على نحو لا وجود له في كتب التاريخ والأنساب التي كَتَبَت عن أسرة الأمير عبد القادر أو حياته ، وكل من ينظر في سلسلة النسب هذه يجدها مبتورة وقد سقط منها اثنا عشر جدًّا فقط!! وفيها أسماء محرّفة.
ثم عقد الكاتب المقارنة بين هذه السلسلة العجيبة وبين السلسلة الصحيحة التي ساقها محمد باشا مؤلّف كتاب (تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر) ، والعجيب أن الكاتب لا يعرف أنّ محمد باشا هو ابن الأمير عبد القادر ، فقال عنه إنه قريب الأمير!!
وبعد ذلك خرج الكاتب بنتيجة وهي أنّ نسب الأمير غير موثوق به!!
فقال : ((.إلاَّ أن قريبه الأمير محمد أورد سلسلة أخرى تختلف كلياً في كتابه :" تحفة الزائر في مآثر الأمير عبدالقادر وأخبار الجزائر " ، ممَّا يُضعف الثقة في هذه النسبة الشريفة ، لا سيما إذا عرفنا أ ن النسبة الشريفة من شروط الوصول الى مرتبة القطبية عند المتصوفة ، كما أننا إذا علمنا أيضاً أن الصوفية يجوِّزون الاكتساب الروحاني للنسبة الشريفة تقلُّ الثقة عندنا بتلك السلاسل النسبية المسبوكة)).انتهى
ثم زاد في التشكيك في نسب الأمير فقال (إن النسبة الشريفة هي من شروط الوصول للقطبية عند الصوفية) ، فهذا يعني أنه ربما ادعى الأمير هذه النسبة كي يدّعي القطبية فيما بعد! وكذلك زعم أن الصوفيّة يقولون بالاكتساب الروحاني للنسب!!
وأقول : ما هذا الكلام أيها الكاتب؟ وكيف رضيته لنفسك وأنت الذي صدّرت مقالك بعنوان فك الشفرة الجزائريّة؟!!
إنّ من يعتمد على مقالة في مجلة ثقافة وفنون ويقرأ فيها كلامًا فيه سقط طباعي وتصحيف شنيع ، عليه ألاّ يخوض في الأنساب!!
كيف يتكلم في الأنساب وهو لا يعرف أنّ مؤلف كتاب (تحفة الزائر) هو الابن الأكبر للأمير عبد القادر ، أمير الجزائر الذي يريد أن يفكّ شيفرته!!
وبعد كل هذا ذهب الكاتب يتدخّل بباطن الأمير ، ويزعم أنّه كان يسعى للوصول إلى القطبية الصوفية!! ولا أدري من أين أتى بتلك المعلومة؟!
إنّ قبيلة الأمير في الجزائر اسمها قبيلة بني هاشم ، وأسرة الأمير عبد القادر من أشهر الأسر الإدريسيّة في المغرب ورجال هذه الأسرة جلّهم من العلماء والشيوخ وأصحاب السيادة والوجاهة في تلك الأقطار ، وتراجمهم زاخرة في كتب ومؤلفات علماء المغرب والجزائر والشام ، وذِكْرُ نسبهم وفروعهم أشهر من أن يدلّ عليه ، لا في عهد الأمير عبد القادر بل قبله بقرون!!
فإذا كان الكاتب لا يريد أن يقرّ بنسب الأمير ، فماذا سيفعل في كتب العلماء التي ألّفت قبل أن يولد الأمير بل وقبل أن يولد جدّه وجدّ جدّه وجدّهم!!
كل ما على الكاتب أن يفعله هو أن يرجع إلى الكتب التالية ليعلم فداحة خطئه .
1. كتاب "عِقْدُ الجُمان النَّفيس في ذكر الأعيان من أشراف غَريس" للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله التوجيني .
2. كتاب "جوهرة العقول في ذكر آل الرّسول" للشيخ عبد الرحمن بن محمد الفاسي .
3. كتاب "فتح الرحمن شرح عقود الجمان" للشيخ محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم الجوزي الراشدي المزيلي .
4. كتاب "البستان في ذكر العلماء الأعيان" للفقيه عبد الله الونشريسي .
5. كتاب "رياض الأزهار في عدد آل النبي المختار" للمَقَّرِيِّ التلمساني .
6. كتاب "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر" للشيخ عبد الرزاق البيطار .
7. كتاب "تعطير المَشام في مآثر دمشق الشام" للعلاّمة جمال الدين القاسمي .
وغيرها ....
هذه الكتب ذكرتْ عمود النسب الخاص بأسرة الأمير باتفاق ، وأمّا الكتب التي ترجمت للأمير أو لإخوته أو لآبائه واكتفت بالتنبيه على نسبه الإدريسي الحسني فهي بالعشرات .
وإليكم عمود النسب الخاص بالأمير عبد القادر والمتفق عليه عند أهل العلم ، والذي لا يجوز اعتماد غيره : ]هو عبد القادر بن محي الدّين بن مصطفى بن محمد بن المختار بن عبد القادر بن أحمد المختار ابن عبد القادر بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن علي بن أحمد بن عبد القوي بن خالد بن يوسف بن أحمد بن بشّار بن محمد بن مسعود بن طاوس بن يعقوب بن عبد القوي بن أحمد بن محمد بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله المحض ابن الحسن المثنّى ابن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه].
فلو أنّ باحثًا متخصصًا بالتاريخ والأنساب قرأ هذه الكتب وغيرها ثم قرّر صحة نسب الأمير من عدمها بطريقة علمية لكان كلامه مقبولاً ومحترمًا .
أما أن يأتي شخص لا خبرة له بالأنساب فيقرأ سلسلة نسب مغلوطة في جريدة أو مجلة ثم يقرر من تلقاء نفسه صحة ذلك النسب أو عدمها ، فهذا لا يمكن القَبول به أو السكوت عنه.
ثمّ من أين أتى الكاتب بمسألة ادعاء القطبية عند الأمير؟ نريد مرجعًا!
وكما أسلفت فلا حاجة بالأمير إلى أن يدعي النَّسب ونَسَبُه ثابت قبل أن يولد هو وأبوه وجدّه!!
ولقد غفل الكاتب عن حقيقة دامغة وهي أنّ الشعب الجزائري التفّ حول السيد محيي الدين والد الأمير ، لأنه مِنْ أشهر الأدارسة في تلك الأقطار ، وهذا مدوّن في كل الكتب التي وثّقت تلك المرحلة!!
وليس للأخ الكاتب أي سلف من العلماء والمؤرّخين! فيما ذهب إليه من التشكيك بنسب الأمير .
وللفائدة فإن درجة القطبية عند المتصوفة لا يشترط فيها النسب أبدًا ، وهذا معروف في كتبهم الكبرى ، وهناك بعض جهلة الصوفية المتأخرين اشترطوا ذلك فردّ عليهم علماء الصوفية أنفسهم (انظر رسالة الشيخ عبد الله الغماري الصوفي ((كرامات وأولياء)) التي بيّن فيها بطلان قول من قال بشرط النسب الشريف للقطبيّة)
ثم إن ادعاء الكاتب بجواز اكتساب النسب روحانيًا عند الصوفية ، ادعاءٌ بدون بيّنة ، فليته ذكر لنا مرجعًا من مراجع الصوفيّة ينص على ذلك .
أيها الإخوة إنّ الله تعالى يقول في كتابه العزيز : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } [النساء : 135]
والحمد لله ربّ العالمين
خلدون بن مَكِّي الحسني
للبحث صِلَة
خلدون بن مَكِّي الحسني
للبحث صِلَة