الصّـــــدق
ما العلامة التي أعرف بها أن هذا الرجل يمشي بصدق في طريق الصالحين؟
العلامات البدائية ذكرها الله في الآيات القرآنية، وفي الحقيقة هذه هي التي أطبقها، فليس لي علاقة بالمظاهر ولا بالظاهر، وأول هذه العلامات : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) } [ الزمر].
كيف يكون إنسان مُنتسباً إلى الصالحين، أو يمشي في طريق الله I ويسمح لنفسه بالكذب؟!! وليس في الدين كذب في المزاح، قال ﷺ:
{ إِنِّي لأَمْزَحُ وَلا أَقُولُ إِلا حَقًّا } [ رواه الطبراني ] .
وقال ﷺ : { أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا } [ رواه أبو داود ] .
يعني أنا ضمينٌ ببيت في أدنى الجنة لمن ترك الجدال ولو كان مُحقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحاً.
فليس هناك شيء اسمه كذب في مزاح، حتى ولو مع أطفاله وليس أطفال غيره!!
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ:{ دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ): وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ، قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) : أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذِبَةٌ } [ رواه أبو داود ] .
إذاً أول صفة يُوطِّن المريد نفسه عليها الصدق، لأنه يريد أن يمشي مع الذين أشار الله إليهم في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) } [ التوبة ].
لكن إذا نفسه ضحكت عليه، وأباح لنفسه الكذب ولو مزاحاً، ويظن أنه بهذا ليس عليه شيء، فهذا قد خرج من الدائرة وليس له علاقة بطريق الصالحين مطلقاً.
فالصالحون يقول فيهم الله: { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } .
فأول شيء يأخذه المريد على نفسه الصدق، وكان السادة الصالحين - ولا يزالوا إلى وقتنا هذا - لو جرَّبوا على المريد ولو كذبة واحدة يقولون له: اعتزلنا حتى تُصلح من نفسك أولاً ثم تأتينا بعد ذلك، لماذا؟ لأنه لا يضيع الثقة بين الناس إلا الكذب، إذا لم أثق في أقوال أخي الذي معي في طريق الله، فمن الذي أثق فيه؟!! فأنا آخذ كلمته كلمة ثقة مطلقة، ولذلك لا ينبغي للمؤمن أن يتهاون في ذلك أبداً.
وأنا ذكرتُ لكم قبل ذلك أن سيدنا الإمام عبد القادر الجيلاني - رضي الله تعالى عنه - وأرضاه قد مات أبوه وهو صغير، وكان له أخ، وحُبِّب إليه العلم، فطلب العلم في بلده حتى حصَّله من كل العلماء عنده في بلده، فطلب المزيد، فقالوا له: إن كنت تريد المزيد من العلم فاذهب إلى بغداد، وكان من بلدة اسمها جيلان في بلاد فارس الآن، مع أنه كان في الأصل عربي لكن كان أجداده يخرجون في الجيوش ويسكنون هناك.
فاستأذن أُمه، فقالت له: أبوك ترك لك أربعين ديناراً، وترك لأخيك أربعين ديناراً، وطالما أنت تريد طلب العلم فخذ معك الأربعين دينار لتستعين بهم على طلب العلم حتى لا تحتاج إلى أحد، لأنهم كانوا يشترطون لطالب العلم أن يكون عزيزاً، أي عنده العزة: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون ] .
قال لها: كيف أحملهم؟ لأن الأربعين ديناراً كانوا يعتبروا مبلغاً كبيراً في هذا الوقت، وكانت الدنانير ذهباً وليست ورقاً كما في عصرنا هذا، فأمه وضعت له الدنانير في مكان في جلبابه وخاطت عليهم بقطعة قماش، لأنهم كانوا يمشون مسافات طويلة وكانوا يمشون جماعات أي في قافلة، والقافلة كان لها حرس يحرسونهم من قُطَّاع الطريق، وقُطَّاع الطريق كانوا كثيرون في هذا الزمان.
وأثناء سيرهم في الطريق خرج عليهم قُطَّاع طريق وأخذوا كل ما مع القافلة، ثم جاءه بعضهم وسألوه: ماذا معك؟ قال لهم: معي أربعين ديناراً، فضحكوا منه ثم أخذوه إلى كبيرهم، وقالوا معنا ولد يقول أن معه أربعين ديناراً، فسأله: ماذا معك؟ قال: معي أربعين ديناراً، فقال: وأين هم؟ قال: هنا في جلبابي، قال له: ولِمَ لَمْ تكذب؟ قال: لأن أُمي أخذت عليَّ العهد قبل أن أسافر أن لا أكذب أبداً.
فقال الرجل: إذا كان هذا الولد أخذت عليه أُمه العهد أن لا يكذب، فماذا نفعل نحن وقد أخذ الله علينا العهد؟!! أنا سأتوب إلى الله فما رأيكم؟ فقالوا له: كلنا معك، فتابوا على يديه، وهو لم يزل يذهب لطلب العلم، لالتزامه بصفة الصدق.
فقال لهم كبيرهم: ما دمتم قد تبتم إلى الله فردُّوا للقافلة كلها ما أخذتموه منها.
وأُكرمت القافلة كلها ... بسبب صدق سيدنا عبد القادر الجيلاني ... الذي كان لم يزل صبياً صغيراً.
من كتاب : " همة المريد الصادق " .
لفضيلة مولانا الإمام: فوزي محمد أبوزيد
ما العلامة التي أعرف بها أن هذا الرجل يمشي بصدق في طريق الصالحين؟
العلامات البدائية ذكرها الله في الآيات القرآنية، وفي الحقيقة هذه هي التي أطبقها، فليس لي علاقة بالمظاهر ولا بالظاهر، وأول هذه العلامات : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) } [ الزمر].
كيف يكون إنسان مُنتسباً إلى الصالحين، أو يمشي في طريق الله I ويسمح لنفسه بالكذب؟!! وليس في الدين كذب في المزاح، قال ﷺ:
{ إِنِّي لأَمْزَحُ وَلا أَقُولُ إِلا حَقًّا } [ رواه الطبراني ] .
وقال ﷺ : { أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا } [ رواه أبو داود ] .
يعني أنا ضمينٌ ببيت في أدنى الجنة لمن ترك الجدال ولو كان مُحقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحاً.
فليس هناك شيء اسمه كذب في مزاح، حتى ولو مع أطفاله وليس أطفال غيره!!
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ:{ دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ): وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ، قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) : أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذِبَةٌ } [ رواه أبو داود ] .
إذاً أول صفة يُوطِّن المريد نفسه عليها الصدق، لأنه يريد أن يمشي مع الذين أشار الله إليهم في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) } [ التوبة ].
لكن إذا نفسه ضحكت عليه، وأباح لنفسه الكذب ولو مزاحاً، ويظن أنه بهذا ليس عليه شيء، فهذا قد خرج من الدائرة وليس له علاقة بطريق الصالحين مطلقاً.
فالصالحون يقول فيهم الله: { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } .
فأول شيء يأخذه المريد على نفسه الصدق، وكان السادة الصالحين - ولا يزالوا إلى وقتنا هذا - لو جرَّبوا على المريد ولو كذبة واحدة يقولون له: اعتزلنا حتى تُصلح من نفسك أولاً ثم تأتينا بعد ذلك، لماذا؟ لأنه لا يضيع الثقة بين الناس إلا الكذب، إذا لم أثق في أقوال أخي الذي معي في طريق الله، فمن الذي أثق فيه؟!! فأنا آخذ كلمته كلمة ثقة مطلقة، ولذلك لا ينبغي للمؤمن أن يتهاون في ذلك أبداً.
وأنا ذكرتُ لكم قبل ذلك أن سيدنا الإمام عبد القادر الجيلاني - رضي الله تعالى عنه - وأرضاه قد مات أبوه وهو صغير، وكان له أخ، وحُبِّب إليه العلم، فطلب العلم في بلده حتى حصَّله من كل العلماء عنده في بلده، فطلب المزيد، فقالوا له: إن كنت تريد المزيد من العلم فاذهب إلى بغداد، وكان من بلدة اسمها جيلان في بلاد فارس الآن، مع أنه كان في الأصل عربي لكن كان أجداده يخرجون في الجيوش ويسكنون هناك.
فاستأذن أُمه، فقالت له: أبوك ترك لك أربعين ديناراً، وترك لأخيك أربعين ديناراً، وطالما أنت تريد طلب العلم فخذ معك الأربعين دينار لتستعين بهم على طلب العلم حتى لا تحتاج إلى أحد، لأنهم كانوا يشترطون لطالب العلم أن يكون عزيزاً، أي عنده العزة: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون ] .
قال لها: كيف أحملهم؟ لأن الأربعين ديناراً كانوا يعتبروا مبلغاً كبيراً في هذا الوقت، وكانت الدنانير ذهباً وليست ورقاً كما في عصرنا هذا، فأمه وضعت له الدنانير في مكان في جلبابه وخاطت عليهم بقطعة قماش، لأنهم كانوا يمشون مسافات طويلة وكانوا يمشون جماعات أي في قافلة، والقافلة كان لها حرس يحرسونهم من قُطَّاع الطريق، وقُطَّاع الطريق كانوا كثيرون في هذا الزمان.
وأثناء سيرهم في الطريق خرج عليهم قُطَّاع طريق وأخذوا كل ما مع القافلة، ثم جاءه بعضهم وسألوه: ماذا معك؟ قال لهم: معي أربعين ديناراً، فضحكوا منه ثم أخذوه إلى كبيرهم، وقالوا معنا ولد يقول أن معه أربعين ديناراً، فسأله: ماذا معك؟ قال: معي أربعين ديناراً، فقال: وأين هم؟ قال: هنا في جلبابي، قال له: ولِمَ لَمْ تكذب؟ قال: لأن أُمي أخذت عليَّ العهد قبل أن أسافر أن لا أكذب أبداً.
فقال الرجل: إذا كان هذا الولد أخذت عليه أُمه العهد أن لا يكذب، فماذا نفعل نحن وقد أخذ الله علينا العهد؟!! أنا سأتوب إلى الله فما رأيكم؟ فقالوا له: كلنا معك، فتابوا على يديه، وهو لم يزل يذهب لطلب العلم، لالتزامه بصفة الصدق.
فقال لهم كبيرهم: ما دمتم قد تبتم إلى الله فردُّوا للقافلة كلها ما أخذتموه منها.
وأُكرمت القافلة كلها ... بسبب صدق سيدنا عبد القادر الجيلاني ... الذي كان لم يزل صبياً صغيراً.
من كتاب : " همة المريد الصادق " .
لفضيلة مولانا الإمام: فوزي محمد أبوزيد