الحمد الله الذى جمع قلوب احباءه على قلوب الصالحين من أولياه ليشهدهم بهم جلال جماله ومجده وبهاءه، والصـلاة والسـلام على سـيدنا محمد بـن عبد الله ، كنز الهدى للصاحين، وسرّ السعادة للمتقين، وباب الفتح لأهل الإخلاص والصدق لله فى كل وقت وحين. صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته المباركين، وكلِّ مَنْ اهتدى بهديه إلى يوم الدين..آمين يارب العالمين. (أما بعد)
فيا إخوانى فى الله ويا أحبابى فى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكرمنا الله عزَّ وجلَّ فى هذه الليلة، فجمع شملنا، ووحَّد قلوبنا، وصفَّى نفوسنا، وطهَّر قلوبنا، لنجتمع جميعاً على إحياء نهج رَجُلٍ من الصالحين، ولا نزكِّيه على الله عزَّ وجلَّ، ولكن إقراراً بالحقيقة كما علمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التربية الروحية
ونَهْجُ الصالحين- لمن خفى شأنه عنده - هو التربية الروحية الصافية، التى تبلغ بالعبد إلى المنازل الراقية فى حضرة القرب عند الله، وفى أُنْسِ الوصال مع سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالعبد الذى يصطفيه الله، ويؤهله - عزَّ وجلَّ - روحانيًّا وباطنياً لمقام الشهود والمناجاة، يجمعه مولاه على رَجُلٍ تقىٍّ نقىٍّ - فاز بكمال الشهود فى حضرة الله - ليأخذ بيده، فيرقِّيه ويصفِّيه، ومن جميع الأمراض الباطنة يداويه ويشفيه، حتى يصير بصيراً بعين البصير، سميعاً بأذن السميع، متكلماً بلسان المتكلم عزَّ وجلَّ، مع كمال وجوده بحياته الظاهرة الدنيوية، فيقوم بجسمه وبنفسه بما عليه لأهله وللخلق أجمعين، ويقوم بروحه وقلبه وحقائقه الباقية ليشهد ما أعدَّ الله عزَّ وجلَّ فى جنات خلده، وفى حضرات قربه، لعباد الله الصالحين والمتقين، فينظر بالعينين، ويشهد بالمشهدين. ولا يكمل عبدٌ فى هذا المقام إلا إذا وهبه الله إماماً مكَّنه سيِّدُ الأنام صلى الله عليه وسلم فى هذا المقام، وأقامه داعياً بإذنه لسعادة جميع الأنام.
وإمامنا وسيدنا وزعيمنا وقائدنا إلى الله عزَّ وجلَّ فى حضرات القرب، هو فضيلة مولانا الشيخ/ محمد على سلامة رضى الله عنه وأرضاه. وقد أكرمنا الله عزَّ وجلَّ به فى الدنيا وفى الاخرة، بما لا نستطيع أن نصفه أو نتحدث عن جانب منه فى هذا المقام، ولكن كل ما نستطيع أن نبيح به هنا: يكفينا أن الله عزَّ وجلَّ عرَّفنا به حقائق علمية، إذا عَرَفَهَا المرء وعمل بها يصل - على أقصى مِنْ لمح البرق - إلى عين اليقين من القرب من ربِّ العالمين عزَّ وجلّ.
هذه الحقائق موجودة فى باطن كتاب الله، لكنها لا تلوح إلاَّ لقلبٍ هداه الله إلى أسرار كتاب الله، ولا تظهر إلاَّ فى مَظْهَرٍ جَمَّله الله عزَّ وجلَّ بأنوار ذاته، وحلاَّه بكمال أسمائه وصفاته، وأشرق على قلبه - بأنواع وأصناف لا عدَّ لها - من بحار فيوضاته وأنوار تجلياته عزَّ وجلّ.
طريق الصلاح
من ذلك: السؤال الذى يلحُّ على كثير من الأنام، كيف يصير المرء صالحاً لفضل الله؟ وكيف يصير قلبُه معدًّا لتَنَزُّلِ نفحات الله؟
هذا السؤال كثير منا سمعه، وسمع أكثر طلاسم فى الإجابة عنه من الناس!! مَنْ يسوق الإجابة عن السؤال فى صيغ فلسفية، ليُعَمِّى عن القوم، حتى يظنُّوا أنه وصل إلى حالة روحانية لم يصل إليها سواه، فيستخدم معميات الألفاظ، ويسوق فى كلامه الأحاجى والألغاز!! وكلما أَبْهَمَ فى الكلام ظنَّ العوام أنه زاد تَبَحُّراً فى الولاية عند الملك العلاَّم عزَّ وجلّ.
وبعضهم يسوق الطالبين لهذا السؤال، والراغبين فى الإجابة عنه، إلى أبواب العبادات والمجاهدات، والتى أحياناً قد لا تلائم أجسامهم وحقائقهم، فيتعدون الأطوار الكونية، ويصابون بأحوال مَرَضِيَّة، يظنُّها بعض الناس جذباً - ولكنها ليست بجذب - وإنما خيال نتيجة الأوهام التى أصابتهم، لأنهم لم يستخدموا الحكمة الروحانية فى المجاهدات القرآنية، والنوافل النبوية، للوصول إلى رضوان الله عزَّ وجلَّ.
ومنهم من يقيم القوم فى خدمته، ويَعِدُهُم ويُمَيِّنِهم بأنهم إذا بذلوا أقصى جهدهم فى خدمته، فَسَيَمُنُّ الله عليهم - جزاء هذه الخدمة - بمقامات الولاية، ويتفضل عليهم ويمنحهم درجات أهل العناية، ليزيدوا فى الخدمة فى البذل له والعطاء. وكلُّ ذلك - وغيره - بعيدٌ عن نَهْجِ السماء.
لكن ما أقصر الطريق الذى وضعه لنا إمامنا وشيخنا رضى الله عنه وأرضاه!! فقد جعل الطريق إلى الله عزَّ وجلّ، وإعداد القلب لنيل رضاه، والفوز بما وَعَدَ به الصالحين من عباد الله، من مناهل الإكرام، وأنواع الإتحاف والإنعام، من العلوم الوهبية، والإشراقات القرآنية، والأنوار الإلهية، والمكاشفات الربانية، وغيرها من أنواع الإكرام كلُّها أو جلُّها تحتاج إلى عملٍ واحدٍ وبسيط. ليس عملاً بالأبدان، وليس عملاً بالأموال، وليس جهاداً فى الطاعات والقربات، وإنما عملٌ فى مَحْوِ ما فى القلب من خصال مذمومات، أجملها الله عزَّ وجلَّ فى كتابه فقال: } وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ { (47- الحجر).
المعيَّـة الإلهيَّـة
كل ما يجعل المرء حقيقاً بفضل الله، ومؤهلاً لتَنَزُّلات رضوانه ونوره وبَهَاه، أن يكون داخلاً فى جملة الذين أنعم الله عليهم، لينطبق عليه القرار الذى قال فيه العزيز الغفار: } فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ { (69- النساء). يدخل فى هذه المعيَّة الإلهية فيكون معهم ومنهم. وهذه المعيَّة معيَّةٌ واحدة - من بدء البدء إلى نهاية النهايات -، فيها جميع النبيين وجميع المرسلين، وجميع الشهداء والصالحين.
هذه المعية التى اشتاق صلى الله عليه وسلم إلى أهلها وقال فيهم – ونرجوا الله أن نكون فيهم أجمعينواشوقاه لإخوانى الذين لما يأتوا بعد) فقالوا: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟!! قال: (أنتم أصحابى، إخوانى هم قوم يأتون فى آخر الزمان، آمنوا بى ولم يرونى، عمل الواحد منهم كسبعين منكم)، قالوا: بسبعين منا أم منهم يا رسول الله؟ قال: (بسبعين منكم، أنتم تجدون على الحقِّ أعواناً وهم لا يجدون) (رواه الإمام مالك فى الموطأ). وقد بشَّرنا الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه بأننا المعنيون بهذا الحديث الشريف، فقال رضى الله عنه:
مَنْ مِثْلُكُمْ والشَّوْقُ أَوْصَلَكُمْ إِلَى سِرِّ الإخُوَّةِ مَطْلَبِ الأَصْحَابِ
فغاية المراد أن يسلك المرء فى عقد الذين أنعم الله عليهم. بِمَ أنعم الله عليهم؟ أغمضت الآية، لإنها إجابة لا يطلع عليها إلا أهل العناية، ولا يراها ولا يكاشف بها إلاَّ خاصة أهل الولاية!! } فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم {، بماذا؟ أخفى ذلك الجواب، لأنه أمرٌ خاص من كنوز حضرة الوهَّاب. وكلٌّ يغترف على قدره، بما يشرح الله به صدره، وبما ظهر من نور النبوَّة فى قلبه.
الأخـوَّة النُّورانيّـَة
المهم أن ينضم فى هذا العقد الثمين، ويكون مع الذين أنعم الله عليهم. ومن الذى ينعم الله عليه بهذا الأمر؟ الذى ينال مقام القرب. وكنا نظنُّ - كما ظنَّ كثير من الناس حولنا وقبلنا - أن مقام الأخوة يتحقق بالمشاركة والمجالسة، أو أخذ البيعة والعهد فقط، حتى بيَّن لنا إمامُنا جليَّة الأمر، وأوضح لنا خالصة السرّ، وأماط اللثام عن نور مكنون آيات كتاب الملك العلاَّم عزَّ وجلّ، فبين أن مقام الأخوة مقامٌ راقى، لا يسلك المرء فى عداد الإخوان - والإخوان هنا: هم الذين يقول فيهم الإمام أبو العزائم رضى الله عنه:
إِخْوَانُهُ والنَّاصِرُونَ لِدِينِهِ وَالمُرْشِدُونَ بِحَضْرَةِ الفَتَّاحِ
متى ينضم إلى هذه الأخوة؟ إذا عالج ما فى قلبه من أحوال نفسيَّة، وتطلعات دنيويَّة، وآمال وهميَّة، وعمَّره بحُبِّ الله عزَّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم، والصالحين من عباد الله. فكانت الآية تتكون من شقين: }وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ{ - وَقِسْ على الغِلِّ الغشَّ والخديعة، والحقدَ والحسد، والكبرياء، وكل المنازعات النفسيَّة والصفات الكبريائيَّة، التى تجعل النفس ظلمانيَّة، لا تستطيع مهما تعددت أن تنظر بعين إلهية، أو تدخل فى نطاق أهل المعيَّة- بعد النزع مباشرة: }إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ{ (47 الحجر). يعنى أن الذى مازال عنده بقية من الغلِّ أو الحقد أو الحسد، أو الطمع أو الحرص، أو الشُّح أو البخل، أو الأثرة أو الأنانية، فما زال مُحِبًّا لأهل المعيَّة، لكنه لم ينضم رسميًّا فى عداد أهل المعيَّة، ولذلك فما زال لم يُفتح عليه بمفاتِحهم السَّنيَّة، ولم يسمح له بعطاءاتهم الوهبيَّة. فقد قال إمامنا أبو العزائم رضى الله عنه: (نحنُ قومٌ نَكْتُمُ أسرارنا عن الطالب حتَّى لا يكون له شهوةٌ إلاَّ فى الحقّ).
سِرُّ الوُصُول
وأظن بهذا الأمر اختصر الطريق، وأصبح التحقيق به سهلاً على كلِّ رفيق!! ما عليك إلاَّ أن تضع عين بصيرتك على نفسك وسريرتك، وتنظر إلى ما فيها من عيوب تحجبها عن حضرة علاَّم الغيوب عزَّ وجلّ، وتجاهد فى إزالة ذلك المطلوب حتى تكون إنساناً منظوراً بعين الغيوب، ويفتح لك كنز فضل الله عزَّ وجلّ، بعد دخولك ضمن هذه العُصبة والثُّلة المباركة.
مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَرْأهُمْ وَيَوُدُّهُمْ وَيَفُوزُ مِنْهُمْ بِالصَّفَا وَيُوَالِى
ولذلك قال صلوات الله وسلامه عليه: (مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر) (متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه)، وخاصة إذا كان هذا الكِبْرَ على إخوانه، لأن الله أمرنا أن نكون: } أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ– بعد ذلك- يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ { (54- المائدة).
فالجهاد لا يصح إلاَّ بعد التحقق فى المقامين المتقدمين: أن يكون متواضعاً ذليلاً، وهيِّناً وليِّناً، وبشوشاً لإخوانه المؤمنين أجمعين، وأن يكون عزيزاً يعزُّ نفسه عن الدنو من العظماء والمتكبرين - وإن كان لحاجة عاجلة - فإنَّ ربَّ الحوائج على كل شئ قدير: } وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ { (2، 3الطلاق).
فإذا تحقق المريد بكلام الحىِّ القيوم الحميد المجيد، وصفى قلبه، وطابت نفسه، ارتاح سره، ورقى فى عوالم القرب، ونظروا إليه نظر عطف وحنان، فبدَّلُوه إلى أحسن حال، فإذا جاهد يجاهد فى مقام الرجال. لا يجاهد بالفعال ولا بالأعمال، وإنما يجاهد فى مَحْوِ ما لا يحبُّه الله من خصال، والتجمل بالأحوال التى جعلها واضحة فى صورة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها يقول القائلليست الكرامة أن تطير فى الهواء، فإن الطيور فى السماء تفعل ذلك، وليست الكرامة أن تمشى على الماء لأن الأسماك والحيتان تصنع ذلك، ولكن الكرامة أن تغيِّر خُلُقاً سيئاً فيك بِخُلُقٍ حَسَنٍ). ذلك هو جهاد الرجال وهو الطور الثانى.
حقيقة الإنعام
فإذا انتهى من الطور الأول، وجهَّز ماعون قلبه بالصفاء والنقاء والبهاء، رقَّاه الله وجعله من جملة من أنعم عليهم الله. وأول ما ينعم عليه الله - ليس كما تظنون أو تعتقدون، يعنى يعطى له الكشف حتى يرى الرائح والقادم، أو يعرف ما فى نفوس الآخرين - أول إنعام ينعمه عليه الله: أن ينعم عليه بحفظ حدود الشريعة فى كل مقام، } وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ { (153-الأنعام)، لم يقل: (وأن هذا صراطى مستقيماً فامشوا عليه)، وإنما :}اتَّبِعُوهُ{، إشارة إلى حضرته صلوات الله وسلامه عليه، فهو الذى نمشى وراءه. وهل يستطيع الإنسان أن يتحقق بالسير على قدم رسول الله بغير توفيق وفضل خالص من مولاه عزَّ وجلّ؟
وهذا أيضا فتحٌ يفتح الله به على العبد، بأن يوفِّقه لإتباع الشرع فى كل حركاته وسكناته، وغدواته وروحاته، حتى فى لهوه ولعبه، فلا يلهو ويلعب إلاَّ بميزان الشرع الدقيق، ولا يحادث ولا يحدث إلاَّ على منوال أهل التحقيق، فتكون أوقاته كلها لله، لأن عمله مربوط بسيدنا ومولانا رسول الله، فيكون متحققا بقول الله عزَّ وجلّ: } قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ { (163،162الأنعام).
فيكون مقامه وصفاؤه بعده تحقق بشريعة سيد الأنبياء، بإلهام من الله وتوفيق من الله، بعد علم نافع من الوارث العالم الفرد الذى علَّمه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أبواب الشريعة الغراء كثيرة، والعمر للإنسان - مهما كان طويلاً - يجعله لا يستطيع أن يتحقق بعشر معشارها، لكن حسبه أن يتحقق بقدر يسير منها يوافق مراد الله فيه. المهم أن يوافق مراد الله فى العمل الذى يعمله فى هذه الحياة، فيمنُّ الله عزَّ وجلَّ عليه - بعد إتباع الشرع على التحقيق - بالأخلاق القرآنية، والمواهب المحمدية الخُلقية، وهى فضل من الله، وهى أعظم عطاء يتفضل به الله عزَّ وجلَّ على عبدٍ من عباد الله.
فأعظم منَّة، وأكبر منحة، وأفضل عطية يَمُنُّ الله بها على العبد، أن يجمِّله بأخلاقه العليَّة. والأخلاق ليس فيها سبيل محض إلى الإكتساب، وإنما على المرء إخلاص النيَّة، وصفاء الطويَّة، والصدق للذات العليَّة. ثم يمنُّ عليه المتفضل فيمنحه هذه الأخلاق عطيَّة من عنده عزَّ وجلَّ.
هِىَ الأَخْلاقُ أَسْرَارُ المَعَالِى تُفَاضُ عَلَى أُولِى الهِمَمِ العَوَالِى
إفاضة من الله عزَّ وجلّ. اسمع إليه عزوجل وهو يقول: (الإخلاص- وهو أعزُّها وأغلاها وأرقاها - الإخلاص سر من أسرارى أستودعه قلب من أحب من عبادى لا يطلع عليه شيطان فيفسده أو ملك فيكتبه) (رواه الإمام القزويني). إذن الإخلاص - وهو سرُّ الخلاص للخواص - فضلٌ من الله عزَّ وجلَّ ونعمةٌ والله عزيز حكيم.
وإذا منَّ الله على عُبيد بالإخلاص فقد أوقفه على قدم الصدق فى طريق الخواص، يفتح له المجالى الذاتية والطرق الرضوانية، ويواليه بالمنح الإلهية، لأن الله جعله من عباده المُخلصين. يكفيه إذا دخل فى عداد المُخلصين أنه فى أمان من الشيطان ووسوسته: } إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ { (42الحجر). ولذلك قال الله فيمن يريد الصدق، كيف يتحلى به؟ } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ { (119التوبة).
يتفضل الله عليكم ببركتهم بخلق الصدق. الصدق فى الأحوال، والصدق فى الأعمال، والصدق الأقوال، فضلاً من الله عزَّ وجلَّ يوليه لعباده المخلصين، وعباده الصالحين، ببركة مصاحبتهم لعباده الصادقين فى الدنيا.
الجهاد الموصل
إذن مثل هذه المعانى التى ترقق نفوس المريدين، وتصفى قلوب السالكين، وتُهيِّم فى الملكوت الأعلى أرواح المقربين، نتنسمها فى رياض مجالسة الصالحين والأولياء العاملين - كما قلت يا إخوانى.
فعندما سمعنا من شيخنا رضى الله عنه هذا المعنى العظيم: } وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ { (47 الحجر)، وعلمنا علم اليقين أن المرء لا يكون أخاً للصالحين، ولا يدخل معية الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والمرسلين والمتقين - إلاَّ إذا صفى نفسه وقلبه وسرَّه لربِّ العالمين - جاهد فى ذلك، وهذا هو الجهاد الموصل.
فجهاد العبادة جهاد لتكثير الحسنات ولنيل الدرجات، والفوز يوم القيامة بالمراتب فى الجنات، أما الجهاد الموصل للفضل والفتح والمكاشفات: جهاد القلب } إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ { (89الشعراء).
من يأت الله بقلب سليم - هنا – يرى - هنا عاجلاً - بشرى له ما ادخره له عزَّ وجلَّ، ولن يراه غيره إلاَّ فى الدار الآخرة، لأنه سَلِمَ قلبه- من هنا - من المنازعات، والمشاركة والآثام والذنوب القَبلية - التى ذكرنا أمثلة لها - فى هذا المقام، وإليها الإشارة بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم أيضا: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا يغتب بعضكم بعضا، ولا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه - إلى آخر هذه الصفات فإذا فعلتموها- وكونوا عباد الله إخواناً) (البخاري ومسلم عن أنس).
إذن الإخوان الذين تجاوزوا هذه المجاهدات، وصفوا نفوسهم من هذه الكادروات، فأنعم الله عليهم وسلكهم فى عباد الله الصالحين وحزبه المفلحين.
تلكم بعض المعانى التى أردت أن أبثها لنفسى وإخوانى، وقد سمعتها من شيخى فضيلة الشيخ محمد على سلامة وسمعتها فى قلبى وعملت بها فى نفسى، فمنَّ الله علينا بفضله ورضوانه وإكرامه وإنعامه.
نسأل الله أن يمنَّ علينا بخالص العطاء، وبواسع الفضل وكثير الجزاء، وأن يدخلنا فى الصالحين، وأن يجعلنا من أهل الفتح الأكبر فى كل وقت وحين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فيا إخوانى فى الله ويا أحبابى فى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكرمنا الله عزَّ وجلَّ فى هذه الليلة، فجمع شملنا، ووحَّد قلوبنا، وصفَّى نفوسنا، وطهَّر قلوبنا، لنجتمع جميعاً على إحياء نهج رَجُلٍ من الصالحين، ولا نزكِّيه على الله عزَّ وجلَّ، ولكن إقراراً بالحقيقة كما علمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التربية الروحية
ونَهْجُ الصالحين- لمن خفى شأنه عنده - هو التربية الروحية الصافية، التى تبلغ بالعبد إلى المنازل الراقية فى حضرة القرب عند الله، وفى أُنْسِ الوصال مع سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالعبد الذى يصطفيه الله، ويؤهله - عزَّ وجلَّ - روحانيًّا وباطنياً لمقام الشهود والمناجاة، يجمعه مولاه على رَجُلٍ تقىٍّ نقىٍّ - فاز بكمال الشهود فى حضرة الله - ليأخذ بيده، فيرقِّيه ويصفِّيه، ومن جميع الأمراض الباطنة يداويه ويشفيه، حتى يصير بصيراً بعين البصير، سميعاً بأذن السميع، متكلماً بلسان المتكلم عزَّ وجلَّ، مع كمال وجوده بحياته الظاهرة الدنيوية، فيقوم بجسمه وبنفسه بما عليه لأهله وللخلق أجمعين، ويقوم بروحه وقلبه وحقائقه الباقية ليشهد ما أعدَّ الله عزَّ وجلَّ فى جنات خلده، وفى حضرات قربه، لعباد الله الصالحين والمتقين، فينظر بالعينين، ويشهد بالمشهدين. ولا يكمل عبدٌ فى هذا المقام إلا إذا وهبه الله إماماً مكَّنه سيِّدُ الأنام صلى الله عليه وسلم فى هذا المقام، وأقامه داعياً بإذنه لسعادة جميع الأنام.
وإمامنا وسيدنا وزعيمنا وقائدنا إلى الله عزَّ وجلَّ فى حضرات القرب، هو فضيلة مولانا الشيخ/ محمد على سلامة رضى الله عنه وأرضاه. وقد أكرمنا الله عزَّ وجلَّ به فى الدنيا وفى الاخرة، بما لا نستطيع أن نصفه أو نتحدث عن جانب منه فى هذا المقام، ولكن كل ما نستطيع أن نبيح به هنا: يكفينا أن الله عزَّ وجلَّ عرَّفنا به حقائق علمية، إذا عَرَفَهَا المرء وعمل بها يصل - على أقصى مِنْ لمح البرق - إلى عين اليقين من القرب من ربِّ العالمين عزَّ وجلّ.
هذه الحقائق موجودة فى باطن كتاب الله، لكنها لا تلوح إلاَّ لقلبٍ هداه الله إلى أسرار كتاب الله، ولا تظهر إلاَّ فى مَظْهَرٍ جَمَّله الله عزَّ وجلَّ بأنوار ذاته، وحلاَّه بكمال أسمائه وصفاته، وأشرق على قلبه - بأنواع وأصناف لا عدَّ لها - من بحار فيوضاته وأنوار تجلياته عزَّ وجلّ.
طريق الصلاح
من ذلك: السؤال الذى يلحُّ على كثير من الأنام، كيف يصير المرء صالحاً لفضل الله؟ وكيف يصير قلبُه معدًّا لتَنَزُّلِ نفحات الله؟
هذا السؤال كثير منا سمعه، وسمع أكثر طلاسم فى الإجابة عنه من الناس!! مَنْ يسوق الإجابة عن السؤال فى صيغ فلسفية، ليُعَمِّى عن القوم، حتى يظنُّوا أنه وصل إلى حالة روحانية لم يصل إليها سواه، فيستخدم معميات الألفاظ، ويسوق فى كلامه الأحاجى والألغاز!! وكلما أَبْهَمَ فى الكلام ظنَّ العوام أنه زاد تَبَحُّراً فى الولاية عند الملك العلاَّم عزَّ وجلّ.
وبعضهم يسوق الطالبين لهذا السؤال، والراغبين فى الإجابة عنه، إلى أبواب العبادات والمجاهدات، والتى أحياناً قد لا تلائم أجسامهم وحقائقهم، فيتعدون الأطوار الكونية، ويصابون بأحوال مَرَضِيَّة، يظنُّها بعض الناس جذباً - ولكنها ليست بجذب - وإنما خيال نتيجة الأوهام التى أصابتهم، لأنهم لم يستخدموا الحكمة الروحانية فى المجاهدات القرآنية، والنوافل النبوية، للوصول إلى رضوان الله عزَّ وجلَّ.
ومنهم من يقيم القوم فى خدمته، ويَعِدُهُم ويُمَيِّنِهم بأنهم إذا بذلوا أقصى جهدهم فى خدمته، فَسَيَمُنُّ الله عليهم - جزاء هذه الخدمة - بمقامات الولاية، ويتفضل عليهم ويمنحهم درجات أهل العناية، ليزيدوا فى الخدمة فى البذل له والعطاء. وكلُّ ذلك - وغيره - بعيدٌ عن نَهْجِ السماء.
لكن ما أقصر الطريق الذى وضعه لنا إمامنا وشيخنا رضى الله عنه وأرضاه!! فقد جعل الطريق إلى الله عزَّ وجلّ، وإعداد القلب لنيل رضاه، والفوز بما وَعَدَ به الصالحين من عباد الله، من مناهل الإكرام، وأنواع الإتحاف والإنعام، من العلوم الوهبية، والإشراقات القرآنية، والأنوار الإلهية، والمكاشفات الربانية، وغيرها من أنواع الإكرام كلُّها أو جلُّها تحتاج إلى عملٍ واحدٍ وبسيط. ليس عملاً بالأبدان، وليس عملاً بالأموال، وليس جهاداً فى الطاعات والقربات، وإنما عملٌ فى مَحْوِ ما فى القلب من خصال مذمومات، أجملها الله عزَّ وجلَّ فى كتابه فقال: } وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ { (47- الحجر).
المعيَّـة الإلهيَّـة
كل ما يجعل المرء حقيقاً بفضل الله، ومؤهلاً لتَنَزُّلات رضوانه ونوره وبَهَاه، أن يكون داخلاً فى جملة الذين أنعم الله عليهم، لينطبق عليه القرار الذى قال فيه العزيز الغفار: } فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ { (69- النساء). يدخل فى هذه المعيَّة الإلهية فيكون معهم ومنهم. وهذه المعيَّة معيَّةٌ واحدة - من بدء البدء إلى نهاية النهايات -، فيها جميع النبيين وجميع المرسلين، وجميع الشهداء والصالحين.
هذه المعية التى اشتاق صلى الله عليه وسلم إلى أهلها وقال فيهم – ونرجوا الله أن نكون فيهم أجمعينواشوقاه لإخوانى الذين لما يأتوا بعد) فقالوا: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟!! قال: (أنتم أصحابى، إخوانى هم قوم يأتون فى آخر الزمان، آمنوا بى ولم يرونى، عمل الواحد منهم كسبعين منكم)، قالوا: بسبعين منا أم منهم يا رسول الله؟ قال: (بسبعين منكم، أنتم تجدون على الحقِّ أعواناً وهم لا يجدون) (رواه الإمام مالك فى الموطأ). وقد بشَّرنا الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه بأننا المعنيون بهذا الحديث الشريف، فقال رضى الله عنه:
مَنْ مِثْلُكُمْ والشَّوْقُ أَوْصَلَكُمْ إِلَى سِرِّ الإخُوَّةِ مَطْلَبِ الأَصْحَابِ
فغاية المراد أن يسلك المرء فى عقد الذين أنعم الله عليهم. بِمَ أنعم الله عليهم؟ أغمضت الآية، لإنها إجابة لا يطلع عليها إلا أهل العناية، ولا يراها ولا يكاشف بها إلاَّ خاصة أهل الولاية!! } فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم {، بماذا؟ أخفى ذلك الجواب، لأنه أمرٌ خاص من كنوز حضرة الوهَّاب. وكلٌّ يغترف على قدره، بما يشرح الله به صدره، وبما ظهر من نور النبوَّة فى قلبه.
الأخـوَّة النُّورانيّـَة
المهم أن ينضم فى هذا العقد الثمين، ويكون مع الذين أنعم الله عليهم. ومن الذى ينعم الله عليه بهذا الأمر؟ الذى ينال مقام القرب. وكنا نظنُّ - كما ظنَّ كثير من الناس حولنا وقبلنا - أن مقام الأخوة يتحقق بالمشاركة والمجالسة، أو أخذ البيعة والعهد فقط، حتى بيَّن لنا إمامُنا جليَّة الأمر، وأوضح لنا خالصة السرّ، وأماط اللثام عن نور مكنون آيات كتاب الملك العلاَّم عزَّ وجلّ، فبين أن مقام الأخوة مقامٌ راقى، لا يسلك المرء فى عداد الإخوان - والإخوان هنا: هم الذين يقول فيهم الإمام أبو العزائم رضى الله عنه:
إِخْوَانُهُ والنَّاصِرُونَ لِدِينِهِ وَالمُرْشِدُونَ بِحَضْرَةِ الفَتَّاحِ
متى ينضم إلى هذه الأخوة؟ إذا عالج ما فى قلبه من أحوال نفسيَّة، وتطلعات دنيويَّة، وآمال وهميَّة، وعمَّره بحُبِّ الله عزَّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم، والصالحين من عباد الله. فكانت الآية تتكون من شقين: }وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ{ - وَقِسْ على الغِلِّ الغشَّ والخديعة، والحقدَ والحسد، والكبرياء، وكل المنازعات النفسيَّة والصفات الكبريائيَّة، التى تجعل النفس ظلمانيَّة، لا تستطيع مهما تعددت أن تنظر بعين إلهية، أو تدخل فى نطاق أهل المعيَّة- بعد النزع مباشرة: }إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ{ (47 الحجر). يعنى أن الذى مازال عنده بقية من الغلِّ أو الحقد أو الحسد، أو الطمع أو الحرص، أو الشُّح أو البخل، أو الأثرة أو الأنانية، فما زال مُحِبًّا لأهل المعيَّة، لكنه لم ينضم رسميًّا فى عداد أهل المعيَّة، ولذلك فما زال لم يُفتح عليه بمفاتِحهم السَّنيَّة، ولم يسمح له بعطاءاتهم الوهبيَّة. فقد قال إمامنا أبو العزائم رضى الله عنه: (نحنُ قومٌ نَكْتُمُ أسرارنا عن الطالب حتَّى لا يكون له شهوةٌ إلاَّ فى الحقّ).
سِرُّ الوُصُول
وأظن بهذا الأمر اختصر الطريق، وأصبح التحقيق به سهلاً على كلِّ رفيق!! ما عليك إلاَّ أن تضع عين بصيرتك على نفسك وسريرتك، وتنظر إلى ما فيها من عيوب تحجبها عن حضرة علاَّم الغيوب عزَّ وجلّ، وتجاهد فى إزالة ذلك المطلوب حتى تكون إنساناً منظوراً بعين الغيوب، ويفتح لك كنز فضل الله عزَّ وجلّ، بعد دخولك ضمن هذه العُصبة والثُّلة المباركة.
مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَرْأهُمْ وَيَوُدُّهُمْ وَيَفُوزُ مِنْهُمْ بِالصَّفَا وَيُوَالِى
ولذلك قال صلوات الله وسلامه عليه: (مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر) (متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه)، وخاصة إذا كان هذا الكِبْرَ على إخوانه، لأن الله أمرنا أن نكون: } أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ– بعد ذلك- يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ { (54- المائدة).
فالجهاد لا يصح إلاَّ بعد التحقق فى المقامين المتقدمين: أن يكون متواضعاً ذليلاً، وهيِّناً وليِّناً، وبشوشاً لإخوانه المؤمنين أجمعين، وأن يكون عزيزاً يعزُّ نفسه عن الدنو من العظماء والمتكبرين - وإن كان لحاجة عاجلة - فإنَّ ربَّ الحوائج على كل شئ قدير: } وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ { (2، 3الطلاق).
فإذا تحقق المريد بكلام الحىِّ القيوم الحميد المجيد، وصفى قلبه، وطابت نفسه، ارتاح سره، ورقى فى عوالم القرب، ونظروا إليه نظر عطف وحنان، فبدَّلُوه إلى أحسن حال، فإذا جاهد يجاهد فى مقام الرجال. لا يجاهد بالفعال ولا بالأعمال، وإنما يجاهد فى مَحْوِ ما لا يحبُّه الله من خصال، والتجمل بالأحوال التى جعلها واضحة فى صورة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها يقول القائلليست الكرامة أن تطير فى الهواء، فإن الطيور فى السماء تفعل ذلك، وليست الكرامة أن تمشى على الماء لأن الأسماك والحيتان تصنع ذلك، ولكن الكرامة أن تغيِّر خُلُقاً سيئاً فيك بِخُلُقٍ حَسَنٍ). ذلك هو جهاد الرجال وهو الطور الثانى.
حقيقة الإنعام
فإذا انتهى من الطور الأول، وجهَّز ماعون قلبه بالصفاء والنقاء والبهاء، رقَّاه الله وجعله من جملة من أنعم عليهم الله. وأول ما ينعم عليه الله - ليس كما تظنون أو تعتقدون، يعنى يعطى له الكشف حتى يرى الرائح والقادم، أو يعرف ما فى نفوس الآخرين - أول إنعام ينعمه عليه الله: أن ينعم عليه بحفظ حدود الشريعة فى كل مقام، } وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ { (153-الأنعام)، لم يقل: (وأن هذا صراطى مستقيماً فامشوا عليه)، وإنما :}اتَّبِعُوهُ{، إشارة إلى حضرته صلوات الله وسلامه عليه، فهو الذى نمشى وراءه. وهل يستطيع الإنسان أن يتحقق بالسير على قدم رسول الله بغير توفيق وفضل خالص من مولاه عزَّ وجلّ؟
وهذا أيضا فتحٌ يفتح الله به على العبد، بأن يوفِّقه لإتباع الشرع فى كل حركاته وسكناته، وغدواته وروحاته، حتى فى لهوه ولعبه، فلا يلهو ويلعب إلاَّ بميزان الشرع الدقيق، ولا يحادث ولا يحدث إلاَّ على منوال أهل التحقيق، فتكون أوقاته كلها لله، لأن عمله مربوط بسيدنا ومولانا رسول الله، فيكون متحققا بقول الله عزَّ وجلّ: } قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ { (163،162الأنعام).
فيكون مقامه وصفاؤه بعده تحقق بشريعة سيد الأنبياء، بإلهام من الله وتوفيق من الله، بعد علم نافع من الوارث العالم الفرد الذى علَّمه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أبواب الشريعة الغراء كثيرة، والعمر للإنسان - مهما كان طويلاً - يجعله لا يستطيع أن يتحقق بعشر معشارها، لكن حسبه أن يتحقق بقدر يسير منها يوافق مراد الله فيه. المهم أن يوافق مراد الله فى العمل الذى يعمله فى هذه الحياة، فيمنُّ الله عزَّ وجلَّ عليه - بعد إتباع الشرع على التحقيق - بالأخلاق القرآنية، والمواهب المحمدية الخُلقية، وهى فضل من الله، وهى أعظم عطاء يتفضل به الله عزَّ وجلَّ على عبدٍ من عباد الله.
فأعظم منَّة، وأكبر منحة، وأفضل عطية يَمُنُّ الله بها على العبد، أن يجمِّله بأخلاقه العليَّة. والأخلاق ليس فيها سبيل محض إلى الإكتساب، وإنما على المرء إخلاص النيَّة، وصفاء الطويَّة، والصدق للذات العليَّة. ثم يمنُّ عليه المتفضل فيمنحه هذه الأخلاق عطيَّة من عنده عزَّ وجلَّ.
هِىَ الأَخْلاقُ أَسْرَارُ المَعَالِى تُفَاضُ عَلَى أُولِى الهِمَمِ العَوَالِى
إفاضة من الله عزَّ وجلّ. اسمع إليه عزوجل وهو يقول: (الإخلاص- وهو أعزُّها وأغلاها وأرقاها - الإخلاص سر من أسرارى أستودعه قلب من أحب من عبادى لا يطلع عليه شيطان فيفسده أو ملك فيكتبه) (رواه الإمام القزويني). إذن الإخلاص - وهو سرُّ الخلاص للخواص - فضلٌ من الله عزَّ وجلَّ ونعمةٌ والله عزيز حكيم.
وإذا منَّ الله على عُبيد بالإخلاص فقد أوقفه على قدم الصدق فى طريق الخواص، يفتح له المجالى الذاتية والطرق الرضوانية، ويواليه بالمنح الإلهية، لأن الله جعله من عباده المُخلصين. يكفيه إذا دخل فى عداد المُخلصين أنه فى أمان من الشيطان ووسوسته: } إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ { (42الحجر). ولذلك قال الله فيمن يريد الصدق، كيف يتحلى به؟ } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ { (119التوبة).
يتفضل الله عليكم ببركتهم بخلق الصدق. الصدق فى الأحوال، والصدق فى الأعمال، والصدق الأقوال، فضلاً من الله عزَّ وجلَّ يوليه لعباده المخلصين، وعباده الصالحين، ببركة مصاحبتهم لعباده الصادقين فى الدنيا.
الجهاد الموصل
إذن مثل هذه المعانى التى ترقق نفوس المريدين، وتصفى قلوب السالكين، وتُهيِّم فى الملكوت الأعلى أرواح المقربين، نتنسمها فى رياض مجالسة الصالحين والأولياء العاملين - كما قلت يا إخوانى.
فعندما سمعنا من شيخنا رضى الله عنه هذا المعنى العظيم: } وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ { (47 الحجر)، وعلمنا علم اليقين أن المرء لا يكون أخاً للصالحين، ولا يدخل معية الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والمرسلين والمتقين - إلاَّ إذا صفى نفسه وقلبه وسرَّه لربِّ العالمين - جاهد فى ذلك، وهذا هو الجهاد الموصل.
فجهاد العبادة جهاد لتكثير الحسنات ولنيل الدرجات، والفوز يوم القيامة بالمراتب فى الجنات، أما الجهاد الموصل للفضل والفتح والمكاشفات: جهاد القلب } إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ { (89الشعراء).
من يأت الله بقلب سليم - هنا – يرى - هنا عاجلاً - بشرى له ما ادخره له عزَّ وجلَّ، ولن يراه غيره إلاَّ فى الدار الآخرة، لأنه سَلِمَ قلبه- من هنا - من المنازعات، والمشاركة والآثام والذنوب القَبلية - التى ذكرنا أمثلة لها - فى هذا المقام، وإليها الإشارة بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم أيضا: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا يغتب بعضكم بعضا، ولا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه - إلى آخر هذه الصفات فإذا فعلتموها- وكونوا عباد الله إخواناً) (البخاري ومسلم عن أنس).
إذن الإخوان الذين تجاوزوا هذه المجاهدات، وصفوا نفوسهم من هذه الكادروات، فأنعم الله عليهم وسلكهم فى عباد الله الصالحين وحزبه المفلحين.
تلكم بعض المعانى التى أردت أن أبثها لنفسى وإخوانى، وقد سمعتها من شيخى فضيلة الشيخ محمد على سلامة وسمعتها فى قلبى وعملت بها فى نفسى، فمنَّ الله علينا بفضله ورضوانه وإكرامه وإنعامه.
نسأل الله أن يمنَّ علينا بخالص العطاء، وبواسع الفضل وكثير الجزاء، وأن يدخلنا فى الصالحين، وأن يجعلنا من أهل الفتح الأكبر فى كل وقت وحين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم