درجات الحج
الحمد لله ربِّ العالمين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وجبار القلوب على فطرتها، فالشقي من أبعده وأشقاه، والسعيد من ملأ قلبه بالتقوى والعمل بما يرضي الله.
سبحانه ... سبحانه!! عفو كريم يحب العفو عن عباده، فيدعوهم إلى التوبة، ويكرر لهم النداء لطلب الغفران، يدعوهم مرة كل ليلة - فينادي من ثلث الليل الآخر من السماء الدنيا - فيقول: {هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، حَتىٰ يَطْلُعَ الْفَجْرُ}[2].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخليله، بعثه الله عزَّ وجلَّ رحمة للعالمين، ونوراً للأولين والآخرين، وجعل على يديه غفران الذنوب وستر العيوب، ودخول الجنة للمؤمنين والمؤمنات بغير تعب أو لغوب.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، صلاةً تبلغنا بها مراضيك ومراضيه، وتوفقنا بها للعمل بما تحبه وتبتغيه، وترفعنا بها إلى درجة أتباعه الصادقين وذويه، آمين آمين يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
فيا أيها الإخوة المؤمنون: في هذا اليوم الكريم، اجتمعت من كل بقاع الأرض في حرم الله، وفي بيت الله، وفي أرض الله، أفواج الحجيج، يرجون غفران الله، ورحمة الله عزَّ وجلَّ. ذهبوا وقد أعطوا أعزَّ ما يملكون فجمعوا أموالهم للنفقات، وتركوا أعزَّ ما يخلفون وهم الأهل والأولاد. لماذا ذهبوا إلى هناك؟ إن هذا أمرٌ يطول شرحه، وسنتكلم فيه باختصار شديد على حسب المناسبة إن شاء الله.
فإن هذا البيت لبناءه غاية من أجلها أمر الله عزَّ وجلَّ الملائكة ببنائه ثم أمر بعد ذلك الخليل إبراهيم بتجديد بنائه وهي أن الله عزَّ وجلَّ أوحى إلى الملائكة بعد أن تقبل توبتهم وغفر لهم زلتهم أن اهبطوا إلى الأرض فابنوا لعبادي هناك بيتاً. إذا أخطأوا كما أخطأتم يذهبون إليه فيطوفون حوله كما طفتم فاغفر لهم كما غفرت لكم.
فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يكرم قوماً بالغفران أظهر لهم التبيان، ووفقهم للعمل بأركان الحج التي يحبها الديان، وإذا غضب الله عزَّ وجلَّ على قوم أخفاه عنهم أو أخفى عنهم تعاليم الحج وشعائر الحج حتى يفعلونها على وفق أهوائهم، فلا تنالهم الرحمة ولا التوبة من ربهم عزَّ وجلَّ. ولذلك عندما جاء طوفان نوح عليه السلام أغرق الله هذا البيت، وحملت الملائكة منه الحجر الأسعد وجعلوه أمانة ووديعة عند جبل أبي قبيس المطل على الكعبة، حتى لا يعرف الناس مكانه ولا يذهب الناس إليه طلباً للغفران.
فلما جاءت إرادة السماء أن يعلن الله عزَّ وجلَّ برفع هذا البناء، أذهب إليه إبراهيم وإسماعيل، فجاء جبريل ومعه البراق وقال يا إبراهيم: إن الله يأمرك أن تذهب إلى مكة لأنه سيخرج من صلب هذا الولد نبيٌّ يدعو الناس جميعاً إلى الله عزَّ وجلَّ. فأركبه البراق وأخذ إسماعيل بين يديه، وأركب هاجر خلفه، وكلما مر بأرض بها زرع وماء قال: أننزل هنا يا جبريل؟ يقول: لا، حتى وصل إلى مكان البيت فقال: انزل ها هنا، فوجدها - كما قال الله: } بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ { (37-إبراهيم).
أي: لا زرع ولا ضرع فيها، فقال: يا جبريل لا زرع هنا ولا ماء!! قال: هكذا أمر الله عزَّ وجلَّ، وذلك حتى يكون الذاهب إلى هذا المكان لا طالباً للمجد أو للمال، أو للجاه أو للكساء، ولا طالباً للشهرة أو المنزلة بين الناس، وإنما يذهب وهمُّه الخالص رضاء الله عزَّ وجلَّ: } وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ { (196-البقرة)، فيكون هدفه رضاء الله وسفره طلباً لغفران الله وهمه كله الإقبال على الله عزَّ وجلَّ.
فلو جعله في مكانٍ هواؤه نظيف، وماؤه عذب غدير، وزرعه نضير، لكان الناس يذهبون إليه للسياحة، وبجانبها زيارة البيت، لكن الله جعل البيت في مكان قفر، لا زرع فيه ولا ماء فيه، ولا جو تستحسنه الأجسام فيه، لكي يتحمل الناس كل هذه المشقات فينالوا الغفران وارتفاع الدرجات عند الله عزَّ وجلَّ.
فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أمره الله عزَّ وجلَّ أن ينادي على الناس بالحج للبيت فقال: يا ربَّ وما يبلغ صوتي. قال: عليك الآذان وعلينا البلاغ: } وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ { (27، 28-الحج). فوقف سيدنا إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس وأمر الله عزَّ وجلَّ الأرواح أن تخرج من مستقرها وأمر الجبال أن تهبط والوديان أن ترتفع وأمر الهواء أن يوصل صوته إلى الناس جميعاً. فنادى إبراهيم مرة جهة المشرق ومرة جهة المغرب ومرة جهة الشمال ومرة جهة الجنوب وفي كل مرة يقول: أيها الناس إن الله قد بنى لكم بيتاً وأمركم بالحج فحجوا، فلبَّى الناس في زمانه، ولبَّتْ الأرواح من عصره إلى يوم الدين، وقالوا جميعاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.
منهم من ردَّدها مرة، ومنهم من ردَّدها مرتين، ومنهم من زاد على مرتين، والملائكة يسجلون قال صلى الله عليه وسلم: {فمن لبَّى مرَّة حجَّ مرة، ومَنْ لبَّى مرتين حج مرتين ومن زاد على ذلك فبحساب ذلك}[3]. فإذا كانت ليلة النصف من شعبان يظهر في اللوح المحفوظ أسماء حجاج بيت الرحمن في هذا العام، فتحمل الملائكة النبأ إلى قلوبهم وإلى أرواحهم، فيحسون بالشوق إلى بيت الله، وبالحنين إلى حج بيت الله، ويهيئ الله عزَّ وجلَّ الأسباب، وهو سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب.
منهم من يوفقه الله عزَّ وجلَّ ويأتيه ملك في المنام يبشره بحج بيت الله الحرام، ومنهم من يوفقه الموفق فيأتيه الحبيب المختار صلى الله عليه وسلم فيدعوه بذاته الشريفة للحج وللزيارة، وناهيك بهذا الشرف العظيم!!
فعندما جاء صلى الله عليه وسلم إلى هارون الرشيد يدعوه، قام من نومه مستبشراً، وأقسم أن يحج ماشياً على قدميه من بغداد حتى يؤدي المناسك، لماذا؟ لأن الذي بشَّره ودعاه هو حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.
وهذه امرأة من الجزائر جاءها صلى الله عليه وسلم فدعاها للحج وللزيارة، فقامت من نومها فرحة مستبشرة، وأقسمت أن تذهب إلى البيت على عينيها، وبعد القسم احتارت في كيفية التنفيذ!! فذهبت وأرسلت إلى العلماء لتستفتيهم، فأفتوها: أن تصلي ركعتين عند كل خطوة تخطوها في طريقها إلى بيت الله عزَّ وجلَّ. فذهبت بهذه الطريقة في ثلاث سنوات، حتى وصلت إلى بيت الله الحرام، لتوفي بالوعد الذي أقسمت عليه لله عزَّ وجلَّ.
ومنهم من يرى في منامه أنه يطوف مع الطائفين، ومنهم من يرى نفسه واقفاً على عرفات مع الحجيج، ومنهم من يرى أنه يسعى بين الصفا والمروة، ومنهم من يرى أنه في الروضة النبوية الشريفة، تأتيهم الدعوات بأي كيفية من الله عزَّ وجلَّ!!
ومنهم من يخبره ملك الإلهام الموجود على قلبه، فيهيئ له الشوق الحار لزيارة الله في بيته، والظمأ الشديد لأداء المناسك، فيعلن إلى مَنْ حوله أنه ذاهب إلى بيت الله. فلا يذهب إلى هناك على الحقيقة رَجُلٌ ماله حلال، إلا إذا سبق له التوفيق من الموفق عزَّ وجلَّ. أما الذي يذهب وماله حرام، فليس لنا شأن به، ومثلما راح سيعود، ولن يناله إلا التعب والمشقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثله: {مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ: لاَ لَبَّيْكَ وَلاَ سَعْدَيْكَ وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ}[4].
أما لماذا يذهبون؟ بعضهم ينال النصيب الأوفر فيأخذ حظَّه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :{مَن حَجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ، رجَعَ كما ولَدَتْهُ أمُّه}[5]. وبعضهم ينال نصيباً أكبر من هذا، ويكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: {الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةِ}[6].
فالذي عليه ذنوب يرجع وقد طهَّره الله من الذنوب والعيوب، والذي يحجُّ وليس عليه ذنوب ولا له عيوب، يأخذ كارت ضمان من علاَّم الغيوب بدخوله الجنة، والأمان يوم الموقف العظيم، ويدخل في قول الرحمن الرحيم: } ِ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا { (97-آل عمران). آمناً من عذاب الله، وآمناً من غضب الجبار، وآمناً من شرار الناس في هذه الحياة الدنيا، وآمناً من فزع يوم القيامة، لأنه يدخل في قول الله: }فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ{ (13-الأحقاف)، ودرجات لا نستطيع عدها في هذا الوقت. قال صلى الله عليه وسلم: { إن الله وعد مَنْ حجَّ البيت أن يردَّه إلى بيته غانماً سالماً مغفوراً له ذنبه، وإنْ توفاه عنده أن يقيِّضَ له مَلَكاً يَحُجُّ عنه ويلبِّي عنه إلى يوم القيامة }[7]، وقال صلى الله عليه وسلم: { التائب حبيب الرحمن، والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ }[8].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين الذي هدانا للإيمان وجعلنا مسلمين، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يثبتنا على هذا حتى يتوفانا مسلمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر، ونجنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا، يا ربَّ العالمين. (أما بعد)..
فيا أيها الأخوة المؤمنون: ما هذه المغفرة التي ينالها حجاج بيت الله؟ ومن ينالونها هل يتبقى عليهم شئ بعدها؟ أم يغفر الله عزَّ وجلَّ لهم جميع ذلك؟ إن الله عزَّ وجلَّ يغفر لهم مغفرة عامة شاملة لكل ما قالوه أو فعلوه، أو اقترفوه أو جنوه، يقول فيها صلى الله عليه وسلم: {إِذَا أَفَاضَ الْقَوْمُ مِنْ عَرَفَاتٍ أَتَوْا جَمْعاً فَوَقَفُوا، قَالَ اللهُ تعالى: انْظُرُوا يَا مَلاَئِكَتِي إِلَى عِبَادِي عَاوَدُونِي فِي الْمَسْأَلَةِ، أُشْهِدُكُمْ أَني قَدْ أَجَبْتُ دَعْوَتَهُمْ، وَشَفَعْتُ رَغْبَتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنَهُمْ جَمِيع مَا سَأَلَ، وَتَحَمَّلْتُ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ}[9].
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفقنا جميعًا لزيارة بيته الحرام، وأن يكتب لنا الحج إلى بيت الله الحرام، وأن يرزقنا جميعًا زيارة روضة المصطفى عليه أفضل وأتم السلام، وأن يهيئ لنا مالاً حلالاً لأداء ذلك، وأن يجعلنا من الذين يوفقهم في هذه الأيام المباركة لطاعة الله والإكثار من ذكر الله، وأن يوفقنا لصيام يوم عرفة، ويغفر لنا به الذنوب، ويحلِّق بأرواحنا فيه مع الواقفين على جبل عرفات.
اللهم اكتب السلامة لحجاج بيت الله الحرام، واحفظهم جميعًا من الأمراض والآفات، والعاهات والعلات، وردُّهم إلى أهلهم سالمين غانمين يا رب العالمين، واقبل سؤالهم، وتقبل دعائهم، وشفِّعهم فينا وفي المسلمين أجمعين، يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا رب العالمين.
اللهم انصر عبادك المسلمين المقاتلين في البوسنة وأذربيجان، وأيد عبادك المؤمنين في كل بلد ومكان، واجمع قلوب إخواننا المسلمين المتفرقين في سائر الأركان، وأعلِ الإسلام بنا وأعلِ بنا الإسلام يا حيُّ يا قيوم.
اللهم أصلح أحوال ولاة أمور المسلمين أجمعين، ووفِّقهم لبطانة الخير، وأبعد عنهم بطانة السوء، يا أرحم الراحمين.
اللهم بارك لنا في أرزاقنا، وفي ثمارنا، وفي أولادنا، وفي كل شئ لنا أو حولنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، يا أرحم الراحمين.
عباد الله: اتقوا الله، } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { (90-النحل).
******************
[1] كانت هذه الخطبة بالمسجد الكبير بمدينة قها- محافظة القليوبية في يوم 5/5/1995م الموافق 6 ذو الحجة 1415هـ.
[2] (حم، بز، ع، عن جبير بن مُطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).
[3] أخرجه ابن اسحاق في سيرته والأرزقي في أخبار مكة.
[4] رواه الطبراني في الأوسط والأصبهاني والبزار عن أبي هريرة.
[5] رواه الدار قطنى في سننه وأحمد في مسنده والبخاري في صحيحه عن أبي هريرة.
[6] رواه أحمد في مسنده والبيهقي في سننه ومسلم في صحيحه والطبراني والحاكم عن جابر.
[7] رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة.
[8] أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود والديلمي عن أنس وابن عباس والطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري.
[9] الْخطيب في المتفق والمفترق عن أنسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ.
اعلان في الاسفل
الحمد لله ربِّ العالمين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وجبار القلوب على فطرتها، فالشقي من أبعده وأشقاه، والسعيد من ملأ قلبه بالتقوى والعمل بما يرضي الله.
سبحانه ... سبحانه!! عفو كريم يحب العفو عن عباده، فيدعوهم إلى التوبة، ويكرر لهم النداء لطلب الغفران، يدعوهم مرة كل ليلة - فينادي من ثلث الليل الآخر من السماء الدنيا - فيقول: {هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، حَتىٰ يَطْلُعَ الْفَجْرُ}[2].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخليله، بعثه الله عزَّ وجلَّ رحمة للعالمين، ونوراً للأولين والآخرين، وجعل على يديه غفران الذنوب وستر العيوب، ودخول الجنة للمؤمنين والمؤمنات بغير تعب أو لغوب.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، صلاةً تبلغنا بها مراضيك ومراضيه، وتوفقنا بها للعمل بما تحبه وتبتغيه، وترفعنا بها إلى درجة أتباعه الصادقين وذويه، آمين آمين يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
فيا أيها الإخوة المؤمنون: في هذا اليوم الكريم، اجتمعت من كل بقاع الأرض في حرم الله، وفي بيت الله، وفي أرض الله، أفواج الحجيج، يرجون غفران الله، ورحمة الله عزَّ وجلَّ. ذهبوا وقد أعطوا أعزَّ ما يملكون فجمعوا أموالهم للنفقات، وتركوا أعزَّ ما يخلفون وهم الأهل والأولاد. لماذا ذهبوا إلى هناك؟ إن هذا أمرٌ يطول شرحه، وسنتكلم فيه باختصار شديد على حسب المناسبة إن شاء الله.
فإن هذا البيت لبناءه غاية من أجلها أمر الله عزَّ وجلَّ الملائكة ببنائه ثم أمر بعد ذلك الخليل إبراهيم بتجديد بنائه وهي أن الله عزَّ وجلَّ أوحى إلى الملائكة بعد أن تقبل توبتهم وغفر لهم زلتهم أن اهبطوا إلى الأرض فابنوا لعبادي هناك بيتاً. إذا أخطأوا كما أخطأتم يذهبون إليه فيطوفون حوله كما طفتم فاغفر لهم كما غفرت لكم.
فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يكرم قوماً بالغفران أظهر لهم التبيان، ووفقهم للعمل بأركان الحج التي يحبها الديان، وإذا غضب الله عزَّ وجلَّ على قوم أخفاه عنهم أو أخفى عنهم تعاليم الحج وشعائر الحج حتى يفعلونها على وفق أهوائهم، فلا تنالهم الرحمة ولا التوبة من ربهم عزَّ وجلَّ. ولذلك عندما جاء طوفان نوح عليه السلام أغرق الله هذا البيت، وحملت الملائكة منه الحجر الأسعد وجعلوه أمانة ووديعة عند جبل أبي قبيس المطل على الكعبة، حتى لا يعرف الناس مكانه ولا يذهب الناس إليه طلباً للغفران.
فلما جاءت إرادة السماء أن يعلن الله عزَّ وجلَّ برفع هذا البناء، أذهب إليه إبراهيم وإسماعيل، فجاء جبريل ومعه البراق وقال يا إبراهيم: إن الله يأمرك أن تذهب إلى مكة لأنه سيخرج من صلب هذا الولد نبيٌّ يدعو الناس جميعاً إلى الله عزَّ وجلَّ. فأركبه البراق وأخذ إسماعيل بين يديه، وأركب هاجر خلفه، وكلما مر بأرض بها زرع وماء قال: أننزل هنا يا جبريل؟ يقول: لا، حتى وصل إلى مكان البيت فقال: انزل ها هنا، فوجدها - كما قال الله: } بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ { (37-إبراهيم).
أي: لا زرع ولا ضرع فيها، فقال: يا جبريل لا زرع هنا ولا ماء!! قال: هكذا أمر الله عزَّ وجلَّ، وذلك حتى يكون الذاهب إلى هذا المكان لا طالباً للمجد أو للمال، أو للجاه أو للكساء، ولا طالباً للشهرة أو المنزلة بين الناس، وإنما يذهب وهمُّه الخالص رضاء الله عزَّ وجلَّ: } وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ { (196-البقرة)، فيكون هدفه رضاء الله وسفره طلباً لغفران الله وهمه كله الإقبال على الله عزَّ وجلَّ.
فلو جعله في مكانٍ هواؤه نظيف، وماؤه عذب غدير، وزرعه نضير، لكان الناس يذهبون إليه للسياحة، وبجانبها زيارة البيت، لكن الله جعل البيت في مكان قفر، لا زرع فيه ولا ماء فيه، ولا جو تستحسنه الأجسام فيه، لكي يتحمل الناس كل هذه المشقات فينالوا الغفران وارتفاع الدرجات عند الله عزَّ وجلَّ.
فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أمره الله عزَّ وجلَّ أن ينادي على الناس بالحج للبيت فقال: يا ربَّ وما يبلغ صوتي. قال: عليك الآذان وعلينا البلاغ: } وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ { (27، 28-الحج). فوقف سيدنا إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس وأمر الله عزَّ وجلَّ الأرواح أن تخرج من مستقرها وأمر الجبال أن تهبط والوديان أن ترتفع وأمر الهواء أن يوصل صوته إلى الناس جميعاً. فنادى إبراهيم مرة جهة المشرق ومرة جهة المغرب ومرة جهة الشمال ومرة جهة الجنوب وفي كل مرة يقول: أيها الناس إن الله قد بنى لكم بيتاً وأمركم بالحج فحجوا، فلبَّى الناس في زمانه، ولبَّتْ الأرواح من عصره إلى يوم الدين، وقالوا جميعاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.
منهم من ردَّدها مرة، ومنهم من ردَّدها مرتين، ومنهم من زاد على مرتين، والملائكة يسجلون قال صلى الله عليه وسلم: {فمن لبَّى مرَّة حجَّ مرة، ومَنْ لبَّى مرتين حج مرتين ومن زاد على ذلك فبحساب ذلك}[3]. فإذا كانت ليلة النصف من شعبان يظهر في اللوح المحفوظ أسماء حجاج بيت الرحمن في هذا العام، فتحمل الملائكة النبأ إلى قلوبهم وإلى أرواحهم، فيحسون بالشوق إلى بيت الله، وبالحنين إلى حج بيت الله، ويهيئ الله عزَّ وجلَّ الأسباب، وهو سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب.
منهم من يوفقه الله عزَّ وجلَّ ويأتيه ملك في المنام يبشره بحج بيت الله الحرام، ومنهم من يوفقه الموفق فيأتيه الحبيب المختار صلى الله عليه وسلم فيدعوه بذاته الشريفة للحج وللزيارة، وناهيك بهذا الشرف العظيم!!
فعندما جاء صلى الله عليه وسلم إلى هارون الرشيد يدعوه، قام من نومه مستبشراً، وأقسم أن يحج ماشياً على قدميه من بغداد حتى يؤدي المناسك، لماذا؟ لأن الذي بشَّره ودعاه هو حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.
وهذه امرأة من الجزائر جاءها صلى الله عليه وسلم فدعاها للحج وللزيارة، فقامت من نومها فرحة مستبشرة، وأقسمت أن تذهب إلى البيت على عينيها، وبعد القسم احتارت في كيفية التنفيذ!! فذهبت وأرسلت إلى العلماء لتستفتيهم، فأفتوها: أن تصلي ركعتين عند كل خطوة تخطوها في طريقها إلى بيت الله عزَّ وجلَّ. فذهبت بهذه الطريقة في ثلاث سنوات، حتى وصلت إلى بيت الله الحرام، لتوفي بالوعد الذي أقسمت عليه لله عزَّ وجلَّ.
ومنهم من يرى في منامه أنه يطوف مع الطائفين، ومنهم من يرى نفسه واقفاً على عرفات مع الحجيج، ومنهم من يرى أنه يسعى بين الصفا والمروة، ومنهم من يرى أنه في الروضة النبوية الشريفة، تأتيهم الدعوات بأي كيفية من الله عزَّ وجلَّ!!
ومنهم من يخبره ملك الإلهام الموجود على قلبه، فيهيئ له الشوق الحار لزيارة الله في بيته، والظمأ الشديد لأداء المناسك، فيعلن إلى مَنْ حوله أنه ذاهب إلى بيت الله. فلا يذهب إلى هناك على الحقيقة رَجُلٌ ماله حلال، إلا إذا سبق له التوفيق من الموفق عزَّ وجلَّ. أما الذي يذهب وماله حرام، فليس لنا شأن به، ومثلما راح سيعود، ولن يناله إلا التعب والمشقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثله: {مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ: لاَ لَبَّيْكَ وَلاَ سَعْدَيْكَ وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ}[4].
أما لماذا يذهبون؟ بعضهم ينال النصيب الأوفر فيأخذ حظَّه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :{مَن حَجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ، رجَعَ كما ولَدَتْهُ أمُّه}[5]. وبعضهم ينال نصيباً أكبر من هذا، ويكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: {الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةِ}[6].
فالذي عليه ذنوب يرجع وقد طهَّره الله من الذنوب والعيوب، والذي يحجُّ وليس عليه ذنوب ولا له عيوب، يأخذ كارت ضمان من علاَّم الغيوب بدخوله الجنة، والأمان يوم الموقف العظيم، ويدخل في قول الرحمن الرحيم: } ِ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا { (97-آل عمران). آمناً من عذاب الله، وآمناً من غضب الجبار، وآمناً من شرار الناس في هذه الحياة الدنيا، وآمناً من فزع يوم القيامة، لأنه يدخل في قول الله: }فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ{ (13-الأحقاف)، ودرجات لا نستطيع عدها في هذا الوقت. قال صلى الله عليه وسلم: { إن الله وعد مَنْ حجَّ البيت أن يردَّه إلى بيته غانماً سالماً مغفوراً له ذنبه، وإنْ توفاه عنده أن يقيِّضَ له مَلَكاً يَحُجُّ عنه ويلبِّي عنه إلى يوم القيامة }[7]، وقال صلى الله عليه وسلم: { التائب حبيب الرحمن، والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ }[8].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين الذي هدانا للإيمان وجعلنا مسلمين، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يثبتنا على هذا حتى يتوفانا مسلمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر، ونجنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا، يا ربَّ العالمين. (أما بعد)..
فيا أيها الأخوة المؤمنون: ما هذه المغفرة التي ينالها حجاج بيت الله؟ ومن ينالونها هل يتبقى عليهم شئ بعدها؟ أم يغفر الله عزَّ وجلَّ لهم جميع ذلك؟ إن الله عزَّ وجلَّ يغفر لهم مغفرة عامة شاملة لكل ما قالوه أو فعلوه، أو اقترفوه أو جنوه، يقول فيها صلى الله عليه وسلم: {إِذَا أَفَاضَ الْقَوْمُ مِنْ عَرَفَاتٍ أَتَوْا جَمْعاً فَوَقَفُوا، قَالَ اللهُ تعالى: انْظُرُوا يَا مَلاَئِكَتِي إِلَى عِبَادِي عَاوَدُونِي فِي الْمَسْأَلَةِ، أُشْهِدُكُمْ أَني قَدْ أَجَبْتُ دَعْوَتَهُمْ، وَشَفَعْتُ رَغْبَتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنَهُمْ جَمِيع مَا سَأَلَ، وَتَحَمَّلْتُ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ}[9].
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفقنا جميعًا لزيارة بيته الحرام، وأن يكتب لنا الحج إلى بيت الله الحرام، وأن يرزقنا جميعًا زيارة روضة المصطفى عليه أفضل وأتم السلام، وأن يهيئ لنا مالاً حلالاً لأداء ذلك، وأن يجعلنا من الذين يوفقهم في هذه الأيام المباركة لطاعة الله والإكثار من ذكر الله، وأن يوفقنا لصيام يوم عرفة، ويغفر لنا به الذنوب، ويحلِّق بأرواحنا فيه مع الواقفين على جبل عرفات.
اللهم اكتب السلامة لحجاج بيت الله الحرام، واحفظهم جميعًا من الأمراض والآفات، والعاهات والعلات، وردُّهم إلى أهلهم سالمين غانمين يا رب العالمين، واقبل سؤالهم، وتقبل دعائهم، وشفِّعهم فينا وفي المسلمين أجمعين، يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا رب العالمين.
اللهم انصر عبادك المسلمين المقاتلين في البوسنة وأذربيجان، وأيد عبادك المؤمنين في كل بلد ومكان، واجمع قلوب إخواننا المسلمين المتفرقين في سائر الأركان، وأعلِ الإسلام بنا وأعلِ بنا الإسلام يا حيُّ يا قيوم.
اللهم أصلح أحوال ولاة أمور المسلمين أجمعين، ووفِّقهم لبطانة الخير، وأبعد عنهم بطانة السوء، يا أرحم الراحمين.
اللهم بارك لنا في أرزاقنا، وفي ثمارنا، وفي أولادنا، وفي كل شئ لنا أو حولنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، يا أرحم الراحمين.
عباد الله: اتقوا الله، } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { (90-النحل).
******************
[1] كانت هذه الخطبة بالمسجد الكبير بمدينة قها- محافظة القليوبية في يوم 5/5/1995م الموافق 6 ذو الحجة 1415هـ.
[2] (حم، بز، ع، عن جبير بن مُطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).
[3] أخرجه ابن اسحاق في سيرته والأرزقي في أخبار مكة.
[4] رواه الطبراني في الأوسط والأصبهاني والبزار عن أبي هريرة.
[5] رواه الدار قطنى في سننه وأحمد في مسنده والبخاري في صحيحه عن أبي هريرة.
[6] رواه أحمد في مسنده والبيهقي في سننه ومسلم في صحيحه والطبراني والحاكم عن جابر.
[7] رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة.
[8] أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود والديلمي عن أنس وابن عباس والطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري.
[9] الْخطيب في المتفق والمفترق عن أنسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ.
اعلان في الاسفل