الحج ومشاهد القيامة
الحمد لله ربِّ العالمين، أكمل على عباده المسلمين المنَّة، وأتم عليهم النعمة، وفرض عليهم الحج إلى بيته المكرم. سبحانه ... سبحانه!! جعل هذه الأيام أيام المغفرة من الغفَّار لجميع المسلمين والمسلمات، فمن حجَّ البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه، ومن لم يستطع الحج فليضحِّ على حسب الشريعة المطهرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم :{يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَٱشْهَدِي أُضْحِيَتَكِ، فَإنَّ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ }[2]. فيغفر لمن سافر، ويغفر لمن قام، ويَعُمُّ بمغفرته جميع الأنام، فنسأله عزَّ وجلَّ أن نكون مِمَّنْ تشملهم مغفرته في هذه الأيام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكيم في فعاله، الكريم في خصاله، الذي لا يأمر عباده إلاَّ بما فيه نفعهم في الدنيا وسعادتهم يوم لقائه عزَّ وجلَّ. وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخليله. أظهر عزَّ وجلَّ به مناسك الإسلام، وأتم به وعلى يديه نزول الأحكام، وجعله صلى الله عليه وسلم فارقاً بين الأنام، فمن اتبعه واهتدى بهداه سعد في الدنيا ويوم الزحام، ومن خالف أمره ولم يمشِ على هداه خسر في الدنيا وكان من التعساء يوم لقاء الله.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وارزقنا جميعاً العمل بشريعته، والموافقة في أعمالنا بسنته، واحفظنا جميعاً بلِوَاءِ حضرته يوم الدين، حتى نكون أجمعين من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، نحن وإخواننا وأولادنا أجمعين. (أما بعد)
فيا أيها الإخوة المؤمنين: نحن هنا والحمد لله بأجسامنا بينكم، وأرواحنا في هذا الوقت وهذا الحين في بلد الله الحرام، مع حجاج بيت الله، نتابع خروجهم اليوم من مساكنهم في مكة إلى منى، ليُصَلُّوا هناك اليوم الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وبعد صلاتهم الصبح في يوم الغد يتوجهون جميعاً إلى عرفات الله عزَّ وجلَّ. ماذا يستحضرون في أعمالهم؟ إن الشريعة المطهرة أمرت المؤمن والمؤمنة أن يستحضر في كل عمل يعمله - بأعضائه وحركات جسمه - مشهداً قلبياً، يشهد فيه سرًّا من أسرار حكمة ربه عزَّ وجلَّ.
وسنسوق على حسب المقام بعض ما يشهده حجاج بيت الله الحرام في أداء مناسكهم رغبة في رضا الرحمن عزَّ وجلَّ: في صباح هذا اليوم يغتسلون، ويتذكرون بهذا الغسل آخر غسل لهم بعد وفاتهم للقاء ربهم عزَّ وجلَّ، ثم يخلعون ملابسهم ويلبسون ملابس الإحرام، ويتذكرون بها الأكفان التي يلبسونها يوم يدعوهم الديان عزَّ وجلَّ، فإذا خرجوا من ديارهم تذكروا صيحة الله عزَّ وجلَّ عندما ينادي: (يا أيتها العظام النخرة، ويا أيتها الأعضاء المتقطعة، ويا أيتها الشعور المتهالكة: اجتمعوا واخرجوا ليوم الجمع). فيتذكروا هذا النداء فيقولون ملبين لله: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك).
وكلمة (لَبَّيْكَ) يعني: جئتُ إليك مسرعاً طائعاً يا ربَّ العالمين. فهي تعني سرعة الإجابة، وسرعة التلبية لله عزَّ وجلَّ. فإذا وصلوا إلى عرفات تذكروا يوم الميقات: ] فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ [ (25-آل عمران). وقد تسارع الجميع!! لا شهرة لغني، ولا ظهور لفقير، ولا مكان مخصص لأمير أو وزير، بل الكلُّ سواسية أمام العلي الكبير عزَّ وجلَّ.
ملابس واحدة، وفي مكان واحد، وألسنة مختلفة، وأصوات متنوعة، ووجوه متباينة، كأنه يوم الحشر. فيضرع الإنسان إلى الله إذا تذكر يوم العرض على الله، وعلم أن هذا هو اليوم الذي سيحاسبه فيه مولاه على ما قدمت يداه، فيسارع إلى التوبة، ويبكي بدموع الندم على الذنوب، ويضرع إلى الله عزَّ وجلَّ أن يتغمده بغفرانه، وأن يشمله بعفوه ورضوانه.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: { أعظم الناس ذنباً، من وقف بعرفة فظنَّ أنَّ الله لم يغفر له}[3]. ثم يدعوهم الله عزَّ وجلَّ بعد خروجهم واعترافهم على عرفات بذنوبهم للقاء حضرته، فيتذكر الحاج بالذي يقطعه عن الله، والذي يباعد بينه وبين طريق الله، وهو إبليس اللعين، فيرجم الجمرات كأنه يعلن البراءة من وسوسة إبليس، ومن تلبيس إبليس، ويتذكر أن النفس تعوقه في مهمته، فيسارع إلى إراقة الدماء، وكأنه يقول: يا ربَّ إن لم يكن يرضيك إلا قتل نفسي في سبيل مرضاتك فها أنا ساعي في مرضاتك بكل ما أستطيع.
ثم يذهبون إلى بيت الله الحرام، والله عزَّ وجلَّ لايحدُّه بيت، ولا يحيط به مكان - ولكنه مِثَالٌ، جعله الله لنتذكر به يوم العرض على الله عزَّ وجلَّ - فيتذكر وقوفه بين يدي مولاه عندما يطوف ببيت الله عزَّ وجلَّ، وكيف يكون موقفه؟ وكيف يكون شأنه؟ في يوم يقول فيه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم: {إن الوجوه لتتهدل، حتى لا يكون عليها مزعة لحم، من شدة الخجل والحياء من الله عزَّ وجلَّ}، هذا للمسرفين والعصاة والمذنبين، أما المؤمنون الصالحون ففيهم يقول ربُّ العالمين جلَّ وعلا فى محكم التنزيل: ] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ (22، 23-القيامة).
ثم يطوف ويمشي بين الصفا والمروة، ويتذكر مشيه بين كفتي الميزان، فالصفا إشارة إلى كفة الحسنات، والمروة إشارة إلى كفة السيئات، وهو يمشي بينهما يتهادى تارة، ويسرع أخرى، ويتعشم أن تثقل كفة حسناته - ولو بحسنة واحدة - حتى يكون فيمن قال فيهم الله: ] فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [ (185-آل عمران).
هذه - باختصار شديد - بعض المعاني التي يستحضرها الحجيج، لكي يغفر الله لهم، ويقول لهم: انصرفوا لقد غفرت لكم. وقد أكرم الله عزَّ وجلَّ المسلمين أجمعين في هذا اليوم ووعدهم بالمغفرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {خَيْرُ الدّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ}[4]. لم يقل دعاء المؤمن على أرض عرفة، لكنه جعل دعاء يوم عرفة لمن هناك ولمن هنا - على أن يشاركهم في حالهم، ويهيئ نفسه لاستحضار أحوالهم - ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين والمؤمنات إلى صيام هذا اليوم وقال في شأنه: { صومِ يومِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ والبَاقِيَةَ }79، لأن الصيام يقوي الاستحضار، ويقوي الناحية الروحانية، فيعيش المؤمن في هذا اليوم - في أي زمان وفي أي مكان - وكأنه على عرفات الله عزَّ وجلَّ مع الحاج!! يدعو الله، أو يتلو كتاب الله، أو يستغفر الله، أو يبتهل ضارعاً إلى الله. المهم ألا يشغل نفسه في هذا اليوم إلا بطاعة الله عزَّ وجلَّ.
فإذا أكرم الله الحجيج بإجابة الدعوات، كان دعاؤه معهم!! وإذا أكرمهم الله بغفران الذنوب، غفر الله عزَّ وجلَّ له معهم، وإذا تفضل عليهم بشئ من الرحمات، عَمَّتْهُ الرحمة معهم، لأنه شاركهم بنفسه وبروحه، وإن لم يستطع أن يشاركهم بجسمه!! ويشهد لذلك قول رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه الإمام البخاري - عندما توجه بجيشه إلى تبوك ببلاد الشام، ووقف هناك وقال لمن حوله: { إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَقَوْماً، مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ، وَلاَ قَطَعْتمْ وَادِياً، إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ فِيهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟!! قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ }[5]. ولأن العذر حبسهم، فقد شاركوا إخوانهم في أجورهم، وفي مكافآتهم، وفي كل أحوالهم.
هكذا الأمر - يا جماعة المؤمنين - لِمَنْ حبسهم العذر عن الذهاب إلى بيت الله، لكنه عاش في هذه الأيام بروحه وبنفسه، وبعقله وبقلبه وبكُلِّه، في هذه البقاع المباركة، حتى أنه عندما ينام - من شدة شوقه لهذه الأماكن - قد يجد نفسه يطوف بالبيت، أو يسعى بين الصفا والمروة، أو يقف على عرفات، لشدة شوقه إلى هذه الأماكن المباركات.
فدعانا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن نصوم هذا اليوم، وإلى أن نكبر الله عزَّ وجلَّ من صبح الغد - وهو يوم عرفة - إلى عصر يوم الرابع من أيام العيد. نكبِّرُ الله بعد كل صلاة - سواء صلينا في جماعة أو صلينا فرادى - الرجال والنساء، وإن كانت النساء تكبر بصوت خافت، والرجال بصوت عالي، لكن الكل يكبِّرُ الله عقب كل صلاة، سواء كانت فريضة أو سُنَّة، فمن صلَّى ركعتي الضحى، عليه أن يكبِّر في هذه الأيام، حتى لو حضرتنا جنازة في هذه الأيام، علينا بعد الانتهاء من صلاة الجنازة أن نكبِّر الله عزَّ وجلَّ: ] وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ (185-البقرة).
قال صلى الله عليه وسلم: {مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمَاً هُوَ أَصْغَرُ وَلاَ أَحْقَرُ، وَلاَ أَدْحَرُ وَلاَ أَغْيَظُ مِنْهُ، فِي يَوْمِ عَرَفَةَ} [6]. وقال: {ما مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدَّنْيَا، فِيُبَاهِي بِأَهْلِ الأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عِتْقاً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ}[7]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: {صومِ يومِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ والبَاقِيَةَ }[8].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي هدانا لهذا الفضل ولهذا البرّ، وجعلنا من عباده المؤمنين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كَرَمُهُ لا يُحَدّ، ونعمه لا تُعَدّ. وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، إمام الهدى، ونبيُّ المتقين، وقائد الغر المحجلين، يوم لقاء رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر، ونجنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا، يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
فيا أيها الأخوة المؤمنون: يكرم الله عزَّ وجلَّ عباده المؤمنين في هذه الأيام، بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فالمؤمن الذي يقتدي بنبيِّ الله إبراهيم ونبيِّ الله إسماعيل، يشتري أضحية بشروطها الشرعية - إن كانت من الماعز، يشترط أن يكون مرَّ عليها عامان، وإن كانت من الأغنام يشترط أن يكون مرَّ عليها ستة أشهر، وإن كانت من الأبقار، يشترط أن يكون قد مرَّ عليها سنتان، وإن كانت من الجمال، يشترط أن يكون قد مرَّ عليها خمس سنوات. وألا تكون بها عيوب، لا عوراء، ولا جرباء، ولا هزيلة، ولا مريضة، ولا مشقوقة الأذن، ولا مكسورة القرن، لأن المؤمن لا ينال البر حتى يعطي أفضل ما يحبُّ لله عزَّ وجلَّ.
وأن يكون ذلك بعد صلاة العيد، وسماعه الخطبة، لقوله عزَّ وجلَّ: ]فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ[ (2-الكوثر)، ويجوز أن نذبحها في أول يوم، أو ثاني يوم، أو ثالث يوم، على أن يذبح بالنهار ويكره الذبح بالليل، وأيضاً لا يعطي الجزار شيئاً منها على سبيل الأجرة - كما يفعل الكثير منا، يحضر الجزار فيذبح الأضحية ثم يحمل الجلد على كتفه ويخرج على أنه أجرته - هذا ممنوع. فقد قال على رضى الله عنه وكرم الله وجهه: {أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ أَنْ أَقومَ عَلَىٰ بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَتِهَا، وَأَنْ لاَ أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا. قَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا}[9]. ماذا نفعل بالجلد؟ يمكن أن نبيعه ونتبرع بثمنه لأي مشروع من مشروعات الخير، أو عمل من أعمال البرّ.
فإذا وفَّى المسلم بهذه الشروط، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه، وليس هذا فقط، بل قال صلى الله عليه وسلم: { لصاحبها بكلِّ شعرةٍ حسنةٌ، ويُرْوَى بِقُرُونِها }[10]. من يستطيع أن يَعِدّ؟ {ولكم بكل قطرة من دمها حسنة، وإنها لتوضع في الميزان بقرونها وأظفارها، ولحومها ودمائها، فطيبوا بها نفساً، وأبشروا}.
ثم ماذا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: { إِسْتَفْرِهُوا ضَحَايَاكُمْ فَإنَّهَا مَطَايَاكُمْ عَلَى الصرَاطِ } [11] . أى: هي الركوبة التي تَرْكَبُهَا على الصراط يوم القيامة إن شاء الله.
فالأضحية سنة، على الموسر يفعلها في عمره كله ولو مرة، لكن لا يجب في سبيلها أن تحدث المشكلات في البيوت، كأن نريد أن نضحي حتى لا نكون أقل من الجيران!! ولا يجب أن يستدين المرء ليضحي لله عزَّ وجلَّ!! فالذي معه سعة عليه أن يُضَحِّيَ خوفاً من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: { مَنْ وَجَدَ سَعَةً لأَنْ يُضَحِّيَ فَلَمْ يُضََحِّ فَلاَ يَحْضُرْ مُصَلاَّنَا }[12].
لكن الذي ليس معه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لأن المؤمن لا يعمل العمل إلا لله، فإذا ضحَّى فإنما يضحي طمعاً في ثواب الله، ورغبة في رضاء الله، لا سمعةً بين جيرانه، ولا شهرةً بين أقرانه. و قد يحدث في البيوت ما لا تحمد عقباه، من هذا أن الزوجة قد تصرّ على الأضحية - ولو شكى لها الزوج ألف عذر لا ترحمه - لأنها تقول له: كيف أقابل الجيران، وأتحدث مع الإخوان، وليس عندنا أضحية؟ وهذا لا يرضي الرحمن عزَّ وجلَّ. فالمؤمن لا يعمل إلاَّ لله، ولا يعمل إلاَّ ابتغاء ثواب الله، وطلباً لرضوان الله عزَّ وجلَّ.
لكن المؤمن الذي ليس معه سعة عليه أن يحاول أن يضحي ولو مرة واحدة في عمره كله - وهذا ليس بالصعب العسير - ليحصل على هذا الثواب، يغفر الله له ولأهل بيته، وتوضع بكل ما فيها في كفة حسناته، وتكون له ركوبة يركبها على الصراط يوم لقاء الله. هذا فضلاً عن متابعته لسنة سيد الأنبياء، وإمام الأنبياء، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدنا إبراهيم عليه السلام.
فإذا ضحَّى فإن الأضحية يصلح شأنها، ويرفع ثوابها، أن يعطي المرء منها للفقراء والمساكين، وعليه أن يتحرى في ذلك، فإن كثيراً منَّا يعطي السائلين - وكثيرٌ منهم ليسوا محتاجين، وإنما يستكثرون من هذا الخير، لعلمهم أن الناس يعطون من سألهم - لكن المؤمن يتحرى موضع صدقته، وخير موضع يضعها فيه، الموظف الذي عنده أولاد ودخله لا يكفيه.
كيف يعطيها له؟ إن هذا أمرٌ لو هدى الله عزَّ وجلَّ العَبْدَ له لألهمه بالطريقة السليمة الرشيدة التي يستطيع بها أن يضع صدقته في موضعها، لقد قال صلى الله عليه وسلم: { لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلاَ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ أبا العيال }[13]. وقال الله عزَّ وجلَّ واصفاً الفقراء الذين يبحث عنهم الأغنياء: ] لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [ لا يقدر أن يَمُدَّ يده لأحد ] يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا[ (273-البقرة)، لا يشكو فقره إلاَّ إلى ربِّه عزَّ وجلَّ.
مثل هذا يجب علينا أن نغنيه في هذا اليوم، فإن السائل الذي يمد يده إليَّ وإليك، تعلمون جميعاً أنه يملأ ثلاجات العمارة كلها بما تَسَوَّلَهُ من اللحوم. أما الفقير المتعفف فقد لا يستطيع إحضار كيلو واحداً من اللحم لأولاده في هذا الوقت، ولا يستطيع أن يمد يده، ولا تطاوعه نفسه أن يسأل، لأنه رجل عفوف النفس، قوي الإيمان، وهذا الذي يجب علينا أن نبحث عنه جميعاً أيها المؤمنون.
وإياك - أخى المسلم - أن تقول أنه ليس بموجود، أو أنه أصبح مفقوداً، بل موجود وكثير، ولا يغرَّك المظهر، ولا يغرك الشأن العام، ولكن ابحث في جوهر الناس، وتحسس في طلبات الناس، بلا تجسس والتماس عورات، ولكن ابحث عن الفقير المتعفف ذو العيال الذى اغلق بابه، وكف لسانه، وسأل ربَّه، وليس الذين سدُّوا أبواب الطرقات، وغصَّت بهم ساحات المساجد - وإن أغلبهم لتجار، كما نَهَرَ عمر رضى الله عنه أحدهم لما رآه يسأل المرة تلو المرة، فقال له: إنك لتاجر. فلنبحث عن المتعففين المحتاجين، لنضع الصدقة في موضعها الحقيقي.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفقنا للعمل الصالح ولصالح العمل، وأن يجعلنا في هذه الأيام المباركة مِمَّنْ يتغمدهم برحمته، ويسعهم ببركته، ويتنزل لهم بموائد كرمه، وأن يجعلنا في هذه الأيام المباركة ممن يشملهم بمغفرته.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم حبِّبْ إلينا الإيمان وزيِّنْهُ في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم اغفر لنا ولأولادنا، ولأزواجنا وبناتنا، وآبائنا وأمهاتنا، والمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
اللهم وَلِّ أمورنا خيارنا ولا تُوَلِّ أمورنا شرارنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، وانظر إلينا نظرة عطف وشفقة وحنان، تبدل حالنا إلى أحسن حال.
عباد الله: } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { (90-النحل).
*******************
[1] كانت هذه الخطبة بمسجد النور بحدائق المعادي بالقاهرة يوم الجمعة 8 من ذي الحجة 1416هـ الموافق 26/4/1996م.
[2] رواه البزار وابن حبان في كتاب الضحايا والأصبهاني عن أبي سعيد.
[3] قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عمر بسند ضعيف، كشف الخفاء
[4] رواه الترمذي في سننه عن عمر بن شعيب ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمرو y.
[5] رواه البخارى وأحمد عن أنس t
[6] رواه الإمام مالك في الموطأ والبيهقي من طريقه وغيرهما عن طلحة بن عبيد الله بن كريزt.
[7] صحيح ابن حبان عن جابرt.
[8] رواه مسلم وأحمد في مسنده عن أبي قتادة الأنصاري t.
[9] صحيح مسلم
[10] رواه أحمد والترمذي وابن ماجة عن زيد بن أرقم
[11] رواه السيوطي في الكبير والديلمي عن أبي هريرة
[12] رواه ابن ماجة في سننه ورواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة.
[13] رواه ابن ماجة في السنن والسيوطي في الكبير عن عمران بن حصين.
الحمد لله ربِّ العالمين، أكمل على عباده المسلمين المنَّة، وأتم عليهم النعمة، وفرض عليهم الحج إلى بيته المكرم. سبحانه ... سبحانه!! جعل هذه الأيام أيام المغفرة من الغفَّار لجميع المسلمين والمسلمات، فمن حجَّ البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه، ومن لم يستطع الحج فليضحِّ على حسب الشريعة المطهرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم :{يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَٱشْهَدِي أُضْحِيَتَكِ، فَإنَّ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ }[2]. فيغفر لمن سافر، ويغفر لمن قام، ويَعُمُّ بمغفرته جميع الأنام، فنسأله عزَّ وجلَّ أن نكون مِمَّنْ تشملهم مغفرته في هذه الأيام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكيم في فعاله، الكريم في خصاله، الذي لا يأمر عباده إلاَّ بما فيه نفعهم في الدنيا وسعادتهم يوم لقائه عزَّ وجلَّ. وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخليله. أظهر عزَّ وجلَّ به مناسك الإسلام، وأتم به وعلى يديه نزول الأحكام، وجعله صلى الله عليه وسلم فارقاً بين الأنام، فمن اتبعه واهتدى بهداه سعد في الدنيا ويوم الزحام، ومن خالف أمره ولم يمشِ على هداه خسر في الدنيا وكان من التعساء يوم لقاء الله.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وارزقنا جميعاً العمل بشريعته، والموافقة في أعمالنا بسنته، واحفظنا جميعاً بلِوَاءِ حضرته يوم الدين، حتى نكون أجمعين من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، نحن وإخواننا وأولادنا أجمعين. (أما بعد)
فيا أيها الإخوة المؤمنين: نحن هنا والحمد لله بأجسامنا بينكم، وأرواحنا في هذا الوقت وهذا الحين في بلد الله الحرام، مع حجاج بيت الله، نتابع خروجهم اليوم من مساكنهم في مكة إلى منى، ليُصَلُّوا هناك اليوم الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وبعد صلاتهم الصبح في يوم الغد يتوجهون جميعاً إلى عرفات الله عزَّ وجلَّ. ماذا يستحضرون في أعمالهم؟ إن الشريعة المطهرة أمرت المؤمن والمؤمنة أن يستحضر في كل عمل يعمله - بأعضائه وحركات جسمه - مشهداً قلبياً، يشهد فيه سرًّا من أسرار حكمة ربه عزَّ وجلَّ.
وسنسوق على حسب المقام بعض ما يشهده حجاج بيت الله الحرام في أداء مناسكهم رغبة في رضا الرحمن عزَّ وجلَّ: في صباح هذا اليوم يغتسلون، ويتذكرون بهذا الغسل آخر غسل لهم بعد وفاتهم للقاء ربهم عزَّ وجلَّ، ثم يخلعون ملابسهم ويلبسون ملابس الإحرام، ويتذكرون بها الأكفان التي يلبسونها يوم يدعوهم الديان عزَّ وجلَّ، فإذا خرجوا من ديارهم تذكروا صيحة الله عزَّ وجلَّ عندما ينادي: (يا أيتها العظام النخرة، ويا أيتها الأعضاء المتقطعة، ويا أيتها الشعور المتهالكة: اجتمعوا واخرجوا ليوم الجمع). فيتذكروا هذا النداء فيقولون ملبين لله: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك).
وكلمة (لَبَّيْكَ) يعني: جئتُ إليك مسرعاً طائعاً يا ربَّ العالمين. فهي تعني سرعة الإجابة، وسرعة التلبية لله عزَّ وجلَّ. فإذا وصلوا إلى عرفات تذكروا يوم الميقات: ] فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ [ (25-آل عمران). وقد تسارع الجميع!! لا شهرة لغني، ولا ظهور لفقير، ولا مكان مخصص لأمير أو وزير، بل الكلُّ سواسية أمام العلي الكبير عزَّ وجلَّ.
ملابس واحدة، وفي مكان واحد، وألسنة مختلفة، وأصوات متنوعة، ووجوه متباينة، كأنه يوم الحشر. فيضرع الإنسان إلى الله إذا تذكر يوم العرض على الله، وعلم أن هذا هو اليوم الذي سيحاسبه فيه مولاه على ما قدمت يداه، فيسارع إلى التوبة، ويبكي بدموع الندم على الذنوب، ويضرع إلى الله عزَّ وجلَّ أن يتغمده بغفرانه، وأن يشمله بعفوه ورضوانه.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: { أعظم الناس ذنباً، من وقف بعرفة فظنَّ أنَّ الله لم يغفر له}[3]. ثم يدعوهم الله عزَّ وجلَّ بعد خروجهم واعترافهم على عرفات بذنوبهم للقاء حضرته، فيتذكر الحاج بالذي يقطعه عن الله، والذي يباعد بينه وبين طريق الله، وهو إبليس اللعين، فيرجم الجمرات كأنه يعلن البراءة من وسوسة إبليس، ومن تلبيس إبليس، ويتذكر أن النفس تعوقه في مهمته، فيسارع إلى إراقة الدماء، وكأنه يقول: يا ربَّ إن لم يكن يرضيك إلا قتل نفسي في سبيل مرضاتك فها أنا ساعي في مرضاتك بكل ما أستطيع.
ثم يذهبون إلى بيت الله الحرام، والله عزَّ وجلَّ لايحدُّه بيت، ولا يحيط به مكان - ولكنه مِثَالٌ، جعله الله لنتذكر به يوم العرض على الله عزَّ وجلَّ - فيتذكر وقوفه بين يدي مولاه عندما يطوف ببيت الله عزَّ وجلَّ، وكيف يكون موقفه؟ وكيف يكون شأنه؟ في يوم يقول فيه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم: {إن الوجوه لتتهدل، حتى لا يكون عليها مزعة لحم، من شدة الخجل والحياء من الله عزَّ وجلَّ}، هذا للمسرفين والعصاة والمذنبين، أما المؤمنون الصالحون ففيهم يقول ربُّ العالمين جلَّ وعلا فى محكم التنزيل: ] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ (22، 23-القيامة).
ثم يطوف ويمشي بين الصفا والمروة، ويتذكر مشيه بين كفتي الميزان، فالصفا إشارة إلى كفة الحسنات، والمروة إشارة إلى كفة السيئات، وهو يمشي بينهما يتهادى تارة، ويسرع أخرى، ويتعشم أن تثقل كفة حسناته - ولو بحسنة واحدة - حتى يكون فيمن قال فيهم الله: ] فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [ (185-آل عمران).
هذه - باختصار شديد - بعض المعاني التي يستحضرها الحجيج، لكي يغفر الله لهم، ويقول لهم: انصرفوا لقد غفرت لكم. وقد أكرم الله عزَّ وجلَّ المسلمين أجمعين في هذا اليوم ووعدهم بالمغفرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {خَيْرُ الدّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ}[4]. لم يقل دعاء المؤمن على أرض عرفة، لكنه جعل دعاء يوم عرفة لمن هناك ولمن هنا - على أن يشاركهم في حالهم، ويهيئ نفسه لاستحضار أحوالهم - ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين والمؤمنات إلى صيام هذا اليوم وقال في شأنه: { صومِ يومِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ والبَاقِيَةَ }79، لأن الصيام يقوي الاستحضار، ويقوي الناحية الروحانية، فيعيش المؤمن في هذا اليوم - في أي زمان وفي أي مكان - وكأنه على عرفات الله عزَّ وجلَّ مع الحاج!! يدعو الله، أو يتلو كتاب الله، أو يستغفر الله، أو يبتهل ضارعاً إلى الله. المهم ألا يشغل نفسه في هذا اليوم إلا بطاعة الله عزَّ وجلَّ.
فإذا أكرم الله الحجيج بإجابة الدعوات، كان دعاؤه معهم!! وإذا أكرمهم الله بغفران الذنوب، غفر الله عزَّ وجلَّ له معهم، وإذا تفضل عليهم بشئ من الرحمات، عَمَّتْهُ الرحمة معهم، لأنه شاركهم بنفسه وبروحه، وإن لم يستطع أن يشاركهم بجسمه!! ويشهد لذلك قول رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه الإمام البخاري - عندما توجه بجيشه إلى تبوك ببلاد الشام، ووقف هناك وقال لمن حوله: { إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَقَوْماً، مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ، وَلاَ قَطَعْتمْ وَادِياً، إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ فِيهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟!! قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ }[5]. ولأن العذر حبسهم، فقد شاركوا إخوانهم في أجورهم، وفي مكافآتهم، وفي كل أحوالهم.
هكذا الأمر - يا جماعة المؤمنين - لِمَنْ حبسهم العذر عن الذهاب إلى بيت الله، لكنه عاش في هذه الأيام بروحه وبنفسه، وبعقله وبقلبه وبكُلِّه، في هذه البقاع المباركة، حتى أنه عندما ينام - من شدة شوقه لهذه الأماكن - قد يجد نفسه يطوف بالبيت، أو يسعى بين الصفا والمروة، أو يقف على عرفات، لشدة شوقه إلى هذه الأماكن المباركات.
فدعانا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن نصوم هذا اليوم، وإلى أن نكبر الله عزَّ وجلَّ من صبح الغد - وهو يوم عرفة - إلى عصر يوم الرابع من أيام العيد. نكبِّرُ الله بعد كل صلاة - سواء صلينا في جماعة أو صلينا فرادى - الرجال والنساء، وإن كانت النساء تكبر بصوت خافت، والرجال بصوت عالي، لكن الكل يكبِّرُ الله عقب كل صلاة، سواء كانت فريضة أو سُنَّة، فمن صلَّى ركعتي الضحى، عليه أن يكبِّر في هذه الأيام، حتى لو حضرتنا جنازة في هذه الأيام، علينا بعد الانتهاء من صلاة الجنازة أن نكبِّر الله عزَّ وجلَّ: ] وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ (185-البقرة).
قال صلى الله عليه وسلم: {مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمَاً هُوَ أَصْغَرُ وَلاَ أَحْقَرُ، وَلاَ أَدْحَرُ وَلاَ أَغْيَظُ مِنْهُ، فِي يَوْمِ عَرَفَةَ} [6]. وقال: {ما مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدَّنْيَا، فِيُبَاهِي بِأَهْلِ الأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عِتْقاً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ}[7]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: {صومِ يومِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ والبَاقِيَةَ }[8].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي هدانا لهذا الفضل ولهذا البرّ، وجعلنا من عباده المؤمنين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كَرَمُهُ لا يُحَدّ، ونعمه لا تُعَدّ. وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، إمام الهدى، ونبيُّ المتقين، وقائد الغر المحجلين، يوم لقاء رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر، ونجنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا، يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
فيا أيها الأخوة المؤمنون: يكرم الله عزَّ وجلَّ عباده المؤمنين في هذه الأيام، بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فالمؤمن الذي يقتدي بنبيِّ الله إبراهيم ونبيِّ الله إسماعيل، يشتري أضحية بشروطها الشرعية - إن كانت من الماعز، يشترط أن يكون مرَّ عليها عامان، وإن كانت من الأغنام يشترط أن يكون مرَّ عليها ستة أشهر، وإن كانت من الأبقار، يشترط أن يكون قد مرَّ عليها سنتان، وإن كانت من الجمال، يشترط أن يكون قد مرَّ عليها خمس سنوات. وألا تكون بها عيوب، لا عوراء، ولا جرباء، ولا هزيلة، ولا مريضة، ولا مشقوقة الأذن، ولا مكسورة القرن، لأن المؤمن لا ينال البر حتى يعطي أفضل ما يحبُّ لله عزَّ وجلَّ.
وأن يكون ذلك بعد صلاة العيد، وسماعه الخطبة، لقوله عزَّ وجلَّ: ]فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ[ (2-الكوثر)، ويجوز أن نذبحها في أول يوم، أو ثاني يوم، أو ثالث يوم، على أن يذبح بالنهار ويكره الذبح بالليل، وأيضاً لا يعطي الجزار شيئاً منها على سبيل الأجرة - كما يفعل الكثير منا، يحضر الجزار فيذبح الأضحية ثم يحمل الجلد على كتفه ويخرج على أنه أجرته - هذا ممنوع. فقد قال على رضى الله عنه وكرم الله وجهه: {أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ أَنْ أَقومَ عَلَىٰ بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَتِهَا، وَأَنْ لاَ أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا. قَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا}[9]. ماذا نفعل بالجلد؟ يمكن أن نبيعه ونتبرع بثمنه لأي مشروع من مشروعات الخير، أو عمل من أعمال البرّ.
فإذا وفَّى المسلم بهذه الشروط، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه، وليس هذا فقط، بل قال صلى الله عليه وسلم: { لصاحبها بكلِّ شعرةٍ حسنةٌ، ويُرْوَى بِقُرُونِها }[10]. من يستطيع أن يَعِدّ؟ {ولكم بكل قطرة من دمها حسنة، وإنها لتوضع في الميزان بقرونها وأظفارها، ولحومها ودمائها، فطيبوا بها نفساً، وأبشروا}.
ثم ماذا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: { إِسْتَفْرِهُوا ضَحَايَاكُمْ فَإنَّهَا مَطَايَاكُمْ عَلَى الصرَاطِ } [11] . أى: هي الركوبة التي تَرْكَبُهَا على الصراط يوم القيامة إن شاء الله.
فالأضحية سنة، على الموسر يفعلها في عمره كله ولو مرة، لكن لا يجب في سبيلها أن تحدث المشكلات في البيوت، كأن نريد أن نضحي حتى لا نكون أقل من الجيران!! ولا يجب أن يستدين المرء ليضحي لله عزَّ وجلَّ!! فالذي معه سعة عليه أن يُضَحِّيَ خوفاً من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: { مَنْ وَجَدَ سَعَةً لأَنْ يُضَحِّيَ فَلَمْ يُضََحِّ فَلاَ يَحْضُرْ مُصَلاَّنَا }[12].
لكن الذي ليس معه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لأن المؤمن لا يعمل العمل إلا لله، فإذا ضحَّى فإنما يضحي طمعاً في ثواب الله، ورغبة في رضاء الله، لا سمعةً بين جيرانه، ولا شهرةً بين أقرانه. و قد يحدث في البيوت ما لا تحمد عقباه، من هذا أن الزوجة قد تصرّ على الأضحية - ولو شكى لها الزوج ألف عذر لا ترحمه - لأنها تقول له: كيف أقابل الجيران، وأتحدث مع الإخوان، وليس عندنا أضحية؟ وهذا لا يرضي الرحمن عزَّ وجلَّ. فالمؤمن لا يعمل إلاَّ لله، ولا يعمل إلاَّ ابتغاء ثواب الله، وطلباً لرضوان الله عزَّ وجلَّ.
لكن المؤمن الذي ليس معه سعة عليه أن يحاول أن يضحي ولو مرة واحدة في عمره كله - وهذا ليس بالصعب العسير - ليحصل على هذا الثواب، يغفر الله له ولأهل بيته، وتوضع بكل ما فيها في كفة حسناته، وتكون له ركوبة يركبها على الصراط يوم لقاء الله. هذا فضلاً عن متابعته لسنة سيد الأنبياء، وإمام الأنبياء، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدنا إبراهيم عليه السلام.
فإذا ضحَّى فإن الأضحية يصلح شأنها، ويرفع ثوابها، أن يعطي المرء منها للفقراء والمساكين، وعليه أن يتحرى في ذلك، فإن كثيراً منَّا يعطي السائلين - وكثيرٌ منهم ليسوا محتاجين، وإنما يستكثرون من هذا الخير، لعلمهم أن الناس يعطون من سألهم - لكن المؤمن يتحرى موضع صدقته، وخير موضع يضعها فيه، الموظف الذي عنده أولاد ودخله لا يكفيه.
كيف يعطيها له؟ إن هذا أمرٌ لو هدى الله عزَّ وجلَّ العَبْدَ له لألهمه بالطريقة السليمة الرشيدة التي يستطيع بها أن يضع صدقته في موضعها، لقد قال صلى الله عليه وسلم: { لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلاَ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ أبا العيال }[13]. وقال الله عزَّ وجلَّ واصفاً الفقراء الذين يبحث عنهم الأغنياء: ] لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [ لا يقدر أن يَمُدَّ يده لأحد ] يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا[ (273-البقرة)، لا يشكو فقره إلاَّ إلى ربِّه عزَّ وجلَّ.
مثل هذا يجب علينا أن نغنيه في هذا اليوم، فإن السائل الذي يمد يده إليَّ وإليك، تعلمون جميعاً أنه يملأ ثلاجات العمارة كلها بما تَسَوَّلَهُ من اللحوم. أما الفقير المتعفف فقد لا يستطيع إحضار كيلو واحداً من اللحم لأولاده في هذا الوقت، ولا يستطيع أن يمد يده، ولا تطاوعه نفسه أن يسأل، لأنه رجل عفوف النفس، قوي الإيمان، وهذا الذي يجب علينا أن نبحث عنه جميعاً أيها المؤمنون.
وإياك - أخى المسلم - أن تقول أنه ليس بموجود، أو أنه أصبح مفقوداً، بل موجود وكثير، ولا يغرَّك المظهر، ولا يغرك الشأن العام، ولكن ابحث في جوهر الناس، وتحسس في طلبات الناس، بلا تجسس والتماس عورات، ولكن ابحث عن الفقير المتعفف ذو العيال الذى اغلق بابه، وكف لسانه، وسأل ربَّه، وليس الذين سدُّوا أبواب الطرقات، وغصَّت بهم ساحات المساجد - وإن أغلبهم لتجار، كما نَهَرَ عمر رضى الله عنه أحدهم لما رآه يسأل المرة تلو المرة، فقال له: إنك لتاجر. فلنبحث عن المتعففين المحتاجين، لنضع الصدقة في موضعها الحقيقي.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفقنا للعمل الصالح ولصالح العمل، وأن يجعلنا في هذه الأيام المباركة مِمَّنْ يتغمدهم برحمته، ويسعهم ببركته، ويتنزل لهم بموائد كرمه، وأن يجعلنا في هذه الأيام المباركة ممن يشملهم بمغفرته.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم حبِّبْ إلينا الإيمان وزيِّنْهُ في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم اغفر لنا ولأولادنا، ولأزواجنا وبناتنا، وآبائنا وأمهاتنا، والمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
اللهم وَلِّ أمورنا خيارنا ولا تُوَلِّ أمورنا شرارنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، وانظر إلينا نظرة عطف وشفقة وحنان، تبدل حالنا إلى أحسن حال.
عباد الله: } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { (90-النحل).
*******************
[1] كانت هذه الخطبة بمسجد النور بحدائق المعادي بالقاهرة يوم الجمعة 8 من ذي الحجة 1416هـ الموافق 26/4/1996م.
[2] رواه البزار وابن حبان في كتاب الضحايا والأصبهاني عن أبي سعيد.
[3] قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عمر بسند ضعيف، كشف الخفاء
[4] رواه الترمذي في سننه عن عمر بن شعيب ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمرو y.
[5] رواه البخارى وأحمد عن أنس t
[6] رواه الإمام مالك في الموطأ والبيهقي من طريقه وغيرهما عن طلحة بن عبيد الله بن كريزt.
[7] صحيح ابن حبان عن جابرt.
[8] رواه مسلم وأحمد في مسنده عن أبي قتادة الأنصاري t.
[9] صحيح مسلم
[10] رواه أحمد والترمذي وابن ماجة عن زيد بن أرقم
[11] رواه السيوطي في الكبير والديلمي عن أبي هريرة
[12] رواه ابن ماجة في سننه ورواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة.
[13] رواه ابن ماجة في السنن والسيوطي في الكبير عن عمران بن حصين.