الحج وغفران الذنوب
الحمد لله ربِّ العالمين، أسمع أَذَانَ قُلُوبِ عبادِهِ المؤمنين آذانَ إبراهيم الخليل، فلبُّوا مسرعين مجيبين للتلبية بزيارته سبحانه وتعالى في بيته الجليل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزه عن الزمان والمكان، والعلو والحيطة والإمكان، لا يَشْغَلُهُ مكان ولا يحيط به مكان، لأنه سبحانه وتعالى ربُّ الزمان وخالق المكان.
سبحانه .. سبحانه!! كُلُّ ما سواه يفوت ويموت، وهو سبحانه في عظمته وجلاله وكبريائه وحده الحيُّ الذي لا يموت. وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وحبيبه، أرسله الله رحمة للعالمين، وهداية وبشرى للمؤمنين، وقال في حقِّه: } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ { (128-التوبة).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين، وعلى صحابته المباركين، وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين. آمين .. يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
فيا أيها الأخوة المؤمنون: ما أجمل وفود المؤمنين وقد استعدوا اليوم وبدأوا يتجهزون، يغتسلون ويتطيبون ويحرمون، ويخرجون للوقوف في ساحة الفضل والجود، والكرم الإلهي، للمثول في ساحة الإكرام الرباني. الإكرام الذي ليس بعده إكرام!! والإنعام الذي ليس بعده إنعام!! لو قيل للواحد منا بماذا تشترى المغفرة؟ لقال: أشتريها بكل ما أملك من مال ومن ممتلكات ومن مقتنيات!! فإن المغفرة إذا حصَّلها الإنسان وخرج للقاء الديان، فقد فاز فوزاً مبيناً، ولو ملك الإنسان الدنيا بأكملها، وكانت كلها في قبضة يده، ولكنه خرج منها بدون الحصول على المغفرة، ماذا أخذ؟!! وماذا فعل؟!!
إنه يخرج منها بحسرة يموت منها الأولون والآخرون لو يعرفونها!! لأنه ملكها كلها، وتركها كلها، ويحاسب عليها كلها، ويبوء بخزيها والندامة عليها جميعها، ولم يحصل على ثمرة المغفرة التي هى كلُّ ما يبغيه الإنسان في دنياه، وكل ما يطلبه لينال به السعادة في أخراه!!
إخواني وأحبابي: إنَّ الأمر الصريح من ربِّ العالمين لنا، هو أن نسارع ونتسارع، ونجري ونتنافس، في ماذا يا ربَّ العالمين؟ في الدنيا؟!! كلا. في الأموال؟!! كلا وألف كلا. في المناصب والدرجات الدنيوية؟!! كلا. فِيمَ نتنافس يا رب؟ } خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ { (26-المطففين) ،
نتنافس في منابر الأبرار، ونتنافس في مقامات الصالحين، ونتنافس في منازل جنات النعيم، ونتنافس في النعيم المقيم، ونتنافس في البعد عن الجحيم - وما أدراك ما الجحيم؟ ونتنافس في البعد عن الخزى والندامة، يوم الحسرة يوم القيامة. نتنافس في الجلوس على الآرائك - وما أدراك ما الآرائك؟ } عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ. خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ { (23: 26-المطففين). نتنافس في الصالحات، ونتنافس في الطاعات، ونتنافس في القربات، ونتنافس في كل ما يوصلنا إلى الله، ويقربنا إلى معية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو تنافس المؤمنين، وهذا هو تسابق المؤمنين، وهذا هو صراع الموحدين!! فليس صراعهم على شئ يبلى، لأنهم علموا أن كل ما على الدنيا يفنى، ولا يبقى مع الإنسان إلا ما عبَّر عنه الديان وقال: } وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً { (46-الكهف).
عرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم:{ أيُّكُمْ مالُ وارثِهِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، قالُوا: ما مِنَّا أَحَدٌ إلاَّ مالُهُ أَحَبُّ إليهِ مِنْ مَالِ وارِثِهِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: إعْلَمُوا أنهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلاَّ ومالُ وارثِهِ أحَبُّ إليهِ من مالِه، مالُكَ ما قَدَّمْتَ، ومالُ وارِثِكَ ما أَخَّرْتَ} [2]. إن الذي خلَّفته إنما هو لورثتك، ولكن الذي قدمته هو العمل الذي فيه سعادتك، والخير الذي فيه رفع درجتك، والبرُّ الذي فيه رفعة شأنك في الميعاد، والوصول إلى مقام يقول فيه ربُّ العزة سبحانه وتعالى: } إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ{ (54،55-القمر). فالمؤمن يتنافس في الحصول على المغفرة.
شهادة محو الأمية أصبحت هي الأساس في التعيينات الحكومية وغير الحكومية - ولله المثل الأعلى - وشهادة المغفرة هي أدنى الدرجات التي لابد لك من الحصول عليها عند الخروج من هذه الحياة، حتى تدخل - على الأقل - في قوله: } فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ { (185-آل عمران)، حتى نتزحزح عن النار وندخل الجنة مع الأبرار. وإذا لم تخرج من هذه الحياة ومعك شهادة من العزيز الغفار بأنه قد غفر لك ذنوبك، وستر عليك عيوبك، فبماذا خرجت؟!! لكنك إذا خرجت من الدنيا ومعك شهادة بالمغفرة - وليس معك إلا حسنة واحدة - فقد فُزْتَ وسعدتَ لأنه ليس عليك أوزار، وليس عليك ذنوب تثقل كفة السيئات، وليس عليك ذنوب تجعلك تزل في المشي على الصراط، وليس عليك ذنوب تجعلك تتناول كتابك بشمالك، وليس عليك ذنوب تجعلك تمشي على وجهك، وليس عليك ذنوب تجعلك تجلس في أرض القيامة - والمؤمنون تحت ظلِّ عرش الرحمن يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه.
شهادة المغفرة هي ذخيرة المؤمنين، وهي ركيزة الموحدين، لأنها هي السعادة العظمى مع رب العالمين سبحانه وتعالى. ولذلك يقيم المولى سبحانه وتعالى للمؤمنين مواسم للحصول على هذه الشهادة - والمواسم تلو المواسم - فإذا صاموا رمضان سلَّم للصائمين شهادة بالمغفرة، وإذا قاموا رمضان سلَّم القائمين شهادة بالمغفرة، وإذا حافظوا على الصلوات الخمس في جماعة - من الجمعة إلى الجمعة - سلَّم المحافظين على الفرائض في أوقاتها - من الجمعة إلى الجمعة - شهادة بالمغفرة، والمحافظ على صلاة الفجر أربعين يوماً في جماعة أعطاه الله شهادة بالمغفرة، ولو ترك الأهل والأموال والأولاد وخرج من بيته مهاجراً لزيارة ربِّ العباد في بيته المحرم، في بيته المعظم، في بيته المكرم - وقد حصل المال بطريق حلال، لأن هذا شرط القبول - فإذا كان المال من طريق حلال، وقال: لبيك اللهم لبيك، قالت الملائكة له: لبيك وسعديك، والخير كله لك وبين يديك، أما إذا كان المال من طريق حرام، أو من طريق الشبهات، وقال: لبيك اللهم لبيك، تقول الملائكة: لا لبيك ولا سعديك، وحجك هذا مردود عليك.
فإذا حجَّ من نفقة حلال، وخرج يبغي وجه الله، لا يريد شهرة بين الناس، أي: لم يخرج حتى إذا رجع يقولون له: الحاج فلان!! فإنَّ عمر رضى الله عنه حَجَّ، وأبو بكر رضى الله عنه حَجَّ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - جميعاً حَجُّوا، ولم نسمع من يقول: الحاج أبو بكر، أو الحاج عمر، أو الحاج عثمان!! وإلاَّ فإنَّ الصلاة أعظم من الحج، هل يجوز أن نقول: المصلي فلان؟!! أو المزكي فلان؟!! أو الصائم فلان؟!! إن هي إلا ألقاب سميناها ما أنزل الله بها من سلطان.
فإذا حجَّ فَلْيُخْلِصْ النيَّة، وليَنْوِّ بحجِّه هذا الحصول على مغفرة من الله ورضوان - يوم الحصول على الفوائد التي أعدها الله لمن يقوم بأداء هذه الفريضة، وينوِّ مشاهدة البقاع المقدسة التي شاهدت نزول الوحي الإلهي، والتي شاهدت الأنبياء عليهم السلام وهم يمشون يبلغون رسالات السماء، ويتعرضون للأذى من هنا ومن هناك، لا يخافون في الله لومة لائم، حتى أعزَّهم ونصرهم ونشر دينهم، وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
فإذا خرج الحاج بنفقة حلال، ويبغي رضاء ذي الجلال، لا يرفع قدماً ولا يضعها إلا وكتب له حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة. فإذا وصل إلى هناك وطاف حول البيت - كان كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كمن يخوض في رحمة الله}، أي: كمن يسبح أو يخوض في رحمة الله، وأنتم تعلمون أن من يسبح في المياه هل يخرج وعليه أوساخ؟!! هل يخرج وعليه أوزار؟!! فما بالك بمن يخوض في رحمة الله!! هل يخرج وعليه ذنب أو خطيئة؟ هل يخرج وعليه عقوبة؟ إنه يخرج برحمة الله، والملائكة يقولون لمن يدخلون جنة الله - برحمة الله - هم فيها خالدون. يدخلون في الجنة برحمة الله، التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلٍ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أَنا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ }[3].
فإذا وقفوا على عرفات، فهذا يوم المغفرة الأعظم، يوم الغفران، يوم تجَلِّي الغفور، يوم تجلِّي التَّوَّاب، يوم تجَلِّي العفو عن المذنبين وعن المسيئين وعن الخطائين، لأنه يقول في حديثه القدسي: { يا عِبَادي: إِنَّكُمُ الَّذِيْنَ تُـخْطِئونَ باللـيلِ والنهارِ، وأَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذنوبَ ولا أُبَالِـي، فاسْتَغْفِرُونـي أَغْفِرْ لَكُمْ. يا عِبَادِي: لو لقيتموني بقراب الأرض خطايا - يعني بملء الأرض ذنوب - ثم لقيتموني لا تشركون بي شيئاً، غفرت لكم ما كان منكم ولا أبالي }[4].
إنه هو الغفور الرحيم، إنه (يحب التوابين ويحب المتطهرين). فإذا وقفوا بين يديه ملبِّين - وقد وضعوا ذنوبهم بين أيديهم، وتضرعوا بألسنتهم وقلوبهم إلى خالقهم وبارئهم، يرجون رحمته، ويطلبون مغفرته - يقول الكريم لعباده الملائكة: { يا ملائكتي: انظروا إلى عِبَادِي جَاءُونَى شُعْثَاً غُبْرَاً مِنْ كُل فَجَ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ جَنَّتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ عَدَدَ الرَّمْلِ، أَوْ كَقَطْرِ المَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ، لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورَاً لَكُمْ وَلِمَنْ شَفِعْتُمْ لَهُ }[5].
بل إن الله يتفضل عليهم فيستجيب لهم الدعاء، ويتحمل عنهم الحقوق، ويباعد بينهم وبين المعاصي، ويباعد بينهم وبين الشياطين، ولذلك يقول سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: {مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمَاً هُوَ أَصْغَرُ وَلاَ أَحْقَرُ وَلاَ أَدْحَرُ وَلاَ أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ }[6]. لماذا؟ لما يرى من مغفرة الله لعباد الله!! فيندم على ما فعل، لأنه وسوس لهم طول الأعوام، وزين لهم الأعمال السيئة طول الأعوام، ثم يغفرها الغفور سبحانه وتعالى في نفس وأقل، لأنهم وقفوا بين يديه خاشعين، ووقفوا بين يديه ضارعين، وقد عبَّروا عن ذلك في حالهم، عندما لبسوا أكفانهم، وتجردوا من أفعالهم، وتجردوا من دنياهم، ووقفوا بين يديه كما يقفون بين يديه في أخراهم، ليس عليهم إلا الملابس البيضاء، والكلُّ يتساوى أمام ربِّ الأرض والسماء!!! لا فرق بين غنيٍّ ولا فقير، ولا رئيس ولا وضيع، الكلُّ متساوون أمام الله، لا يظهر الفارق إلا بالتَّقوى - وتلك في صدورهم، لا يراها إلا الله، ولا يطلع عليها إلا الله.
فإذا وقفوا بين يديه هكذا خاشعين، متذكرين لذنوبهم، تائبين من أوزارهم، غفر الله سبحانه وتعالى لهم. بل يقول صلى الله عليه وسلم: {يَغْفِرُ الله للحَاجِّ ولمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الحَاجُّ}[7]، ويقول صلى الله عليه وسلم: {إِذَا أَفَاضَ الْقَوْمُ مِنْ عَرَفَاتٍ أَتَوْا جَمْعاً فَوَقَفُوا، قَالَ: انْظُرُوا يَا مَلاَئِكَتِي إِلَى عِبَادِي عَاوَدُونِي فِي الْمَسْأَلَةِ، أُشْهِدُكُمْ أَني قَدْ أَجَبْتُ دَعْوَتَهُمْ، وَشَفَعْتُ رَغْبَتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنَهُمْ جَمِيع مَا سَأَلَ، وَتَحَمَّلْتُ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ}[8].
ونحن أيضاً في هذه البلاد - وإن كنا لم نوفق للمثول بين يدي الله في هذه الأماكن المباركة - إلا أن الله لم يحرمنا من هذا الفضل، بل جعلنا شركاء لهم في الأجر إذا وفقنا للعمل بهدي رسول الله، والمتابعة لسنته صلى الله عليه وسلم. فإذا دققنا في إتباع السنة في ذلك اليوم -والسنة هي صيام ذلك اليوم - وفيه يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: { صومِ يومِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ والبَاقِيَةَ } [9].
ويقول صلى الله عليه وسلم: { مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَىٰ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُل يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُل لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ }[10].
ويقول صلى الله عليه وسلم: { مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هذِهِ الأَيَّامِ، قِيلَ: وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ: وَلاَ الْجَهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُهْرَاقَ دَمُهُ فلم يرجع من ذلك بشئ }[11]
فإذا صمنا في هذا اليوم لله، وعشنا في هذا اليوم بأرواحنا وأجسادنا بين يدي الله، مستقبلين عظمة الله، ومستحضرين توبة الله، ومستحضرين أن الله سبحانه وتعالى تنزه عن المكان - ورحمته وسعت كل شئ، فستسع جميع بني الإنسان، والذين يقفون بين يديه في هذا الزمان، يلبُّون ويضرعون، ويصرخون ويستجيرون، لأنه سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعاً - إذا وقفنا بين يدي الله في هذا اليوم على هذه الشاكلة، جَبَرَ الله كسر قلوبنا، وغفر ذنبنا، وكنا مشاركين لأهل عرفات في مغفرة الله سبحانه وتعالى، وإن تفاوت الأجر والثواب، ولكن حسبنا المغفرة من العلىِّ الوهَّاب سبحانه وتعالى.
عباد الله: اعلموا أن هذا اليوم - يوم عرفة - يوم برٍّ، ويوم كرم، والله سبحانه وتعالى هو الربُّ الكريم الذي ليس لكرمه حدود، وهو الوهاب الذي ليس لهباته نهاية، وهو المنان الذي يعطي ولا يمنُّ على عباده، يعطي بلا حدود، ويشمل بعطائه الجميع بشرط أن يكون الجميع في مقام التضرع والخشوع، في مقام الإنابة والتوبة لله، في مقام السجود بين يدي الله، في مقام الرجاء في كرم الله، في مقام الخوف من قهر الله وعظمة الله. فإذا كنا كذلك شملنا الله برحمته، ووسعنا بمغفرته. قال صلى الله عليه وسلم: {التائب حبيب الرحمن، والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ}[12].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر، ونجِّنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا، يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
فيا إخواني ويا أحبابي: علينا أيضاً في هذه الأيام المباركة عبادات خاصة، سنَّها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من هذه العبادات: التكبير لله عقب الصلوات، منذ فجر يوم عرفة إلى عصر اليوم الرابع من أيام العيد، علينا أن نكبِّر عقب كل صلاة، وألفاظ التكبير: الله أكبر الله أكبر الله أكبر .. الله أكبر ولله الحمد.
إذا صلينا في جماعة نكبِّر جميعاً، وإذا فاتتنا الجماعة فصلينا مفردين علينا أن نكبِّر أيضاً، وإذا صلينا نافلة منفصلة عن الجماعات كبَّرنا أيضاً، ونُعَلِّمُ ذلك لنسائنا ولصبياننا، ولكن نعلم نساءنا أن يكبرن بصوت خافت، لا يسمعن إلا أنفسهن. أما الرجال فيكبِّروا بصوت جهوري، لأنها أيام تكبيرٍ يقول فيها صلى الله عليه وسلم: {زَيِّنُوا أَعْيَادَكُمْ بالتَّكْبِير لله}[13]، فالتكبير هو زينة العيد، ليست زينة العيد فيما نفعله من أضواء، وفيما نفعله من زينات، ولكن كما قال الله: } وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { (185-البقرة).
أيضاً علينا في هذه الأيام بالأضحية، لأنه فيها أجر لا يعلمه إلا الله، بيَّن بعضه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال لابنته فاطمة: {يَا فَاطِمَةُ: قُومِي فاشْهَدِي أُضْحِيَتَكِ، فَإنَّ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ، أَمَا إنَّهُ يُجَاءُ بِلَحْمِهَا وَدَمِهَا تُوضَعُ فِي مِيزَانِكِ سَبْعِينَ ضِعْفاً. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هذَا لآِلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، فَإنَّهُمْ أَهْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: لآِلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً }[14].
وقال صلى الله عليه وسلم: {مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْساً}[15].
وفى رواية: { قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِي؟ قَالَ: سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ، قَالُوا: مَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ، قَالُوا: فالصُّوفُ ؟ قَالَ: بِكِلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوَفِ حَسَنَةٌ }[16]. هذا الأجر والثواب لمَنْ يضحي كما كان يضحي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالشروط التي وضَّحَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما هي؟
أن يُضَحِّي بعد صلاة العيد، لقول الحميد المجيد: } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { (2-الكوثر)، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: { أَوَّل ما نبدأ يومنا هذا أنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ ننحر، فَمَنْ فَعَلَ ذٰلِكَ، فَقَدْ أَصابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ تَعَجَّلَ، فَإِنَّما هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ }[17].
فلابد أن يكون الذبح بعد الصلاة لمن يريد أن ينال هذا الثواب من الله، وأن تكون الأضحية مستوفية للشروط الشرعية، لقول الله: } لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ { (92-آل عمران)، ثم يخرج منها شيئاً للفقراء، وشيئاً للأهل والأصحاب على هيئة هدية، ويستحسن أن نقسمها إلى ثلاثة: ثلث لأهلك، وثلث للفقراء، وثلث للأهل والأقارب. وإذا كنت محتاجاً فلا عليك أن تأكلها كلها، وأيضاً لك الأجر لأنك فقير ومحتاج.
هذه الأضحية هي سنة عن أبيكم إبراهيم عليه السلام، عندما ضحى عن إسماعيل عليه السلام عندما رأى في رؤياه أنه يذبح فتاه - ورؤيا الأنبياء وحيٌّ من الله - ولذلك عندما قال لفتاه: } يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى { - وكان الابن يعلم أن رؤيا الأنبياء أمرٌ ووحيٌّ من الله، فقال - } يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ { (102-الصافات). ثم أخذه بعيداً ... وقال: يا أبتاه، انزع قميصي حتى لا يقع عليه الدم فتراه أمي فتحزن على ذلك، واجعل وجهي إلى الأرض حتى لا تنظر إلى وجهي فتأخذك الشفقة فتتردد في تنفيذ أمر الله، واشحذ السكين حتى تذبح بسرعة حتى لا أتألم من آلام الذبح. فأراد أن ينفذ قضاء الله، ووضع ابنه ووحيده بين يديه - وقد شحذ السكين - وأراد أن يقطع فإذا بالسكين لا تقطع!! وعجب الخليل من ذلك!!
وإذا بأمين الوحي جبريل عليه السلام ينزل من السماء بكبش من الجنة، وبخطاب من ربِّ الأرض والسماء، بتلغراف عاجل من الله، بعد أن بكت ملائكة الله وقالت: يا ربنا كيف تطلب من الخليل أن يذبح وحيده إسماعيل؟!! وهو أعلم بما قدَّر فى سابق علمه!! فقال تعالى: } يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا { (103،104-الصافات)، وفداه الله بِذِبْحٍ عظيم، فتلك هي سُنَّةُ إبراهيم، ولذلك جعلها رسول الله سُنَّةً سارية إلى يوم الدين.
وقد ضحَّى صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين وذبحهما بيده، فقد ورد فى الحديث الشريف:{ كَانَ إِذَا ضَحَّى اشْتَرٰى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ أَتى بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ فِي مَصَلاَّهُ فَذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ: ( اللَّهُمَّ هذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعَاً مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلاَغِ)، ثُمَّ يُؤْتى بِالآْخَرِ فَيَذْبَحَهُ وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ هذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّد)،ٍ فَيُطْعِمُهُمَا جَمِيعَاً المَسَاكِينَ، وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا } [18]. فهو صلى الله عليه وسلم قد ضحَّى عن فقراء الأمة حتى لا يحزنوا، وحتى لا يجزعوا. لقد ضحَّى عنهم النبي الشفيع صلى الله عليه وسلم.
ويسنُّ أيضاً أن نجعل رأسها تجاه القبلة، وأن نسقيها قبل الذبح، وأن نريحها، وأن نشحذ السكين - ولا تشحذها أمامها - وأن تقول عند الأضحية: (اللهم هذا عن فلان وأهل بيته، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين).
تلك - يا إخوة الإيمان - بعض أحكام الهدي التي أوجبها الله على المستطيع، وعطف رسول الله بالفقراء والمساكين، بذبحه عنهم سنة أبينا إبراهيم عليه السلام، وما جعله الله إلا للمغفرة – أي: إلا لننال بها المغفرة، والأجر الكريم من الله. ولا يفوتنا في هذه الأيام المباركة أن نصل أرحامنا، وأن نزور أقاربنا، لقول رسولكم الكريم: {لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا}[19].
وحتى لا يتحجج أحد منا ويقول: أنا أحسن إلى أقربائى، ولكنهم لايقابلون الإحسان بمثله. فهل تحسن إليهم أولاً ليحسنوا إليك؟ أم تحسن إليهم إقتداء بسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم ورغبة فى مرضاة الله؟ هذه واحدة، والثانية: فقد أَتَى رَجُلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالَ: {يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ: ( لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المَلَّ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ )}[20]، يعني: كأنما تطعمهم الجمر الذي يتبقى بعد النار. فعلينا بصلة ذوي الأرحام لأنها العبادة التي ترضي الملك العلام في هذا اليوم الكريم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلي شأن الإسلام، وأن يحبب إلينا الإسلام ويزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين.
اللهم اكتب لنا الحج إلى بيتك الكريم.
اللهم اجعلنا من الذين توفقهم للوقوف بعرفات، ولرمي الجمرات، والطواف والسعي يا رب العالمين.
اللهم ابْدِ لنا الرزق الحلال، وأَنِرْ لنا السبيل، وأَدِمْ لنا الصحة والعافية يا رب العالمين، واجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهك الكريم.
اللهم احفظ الحجاج والمسافرين، وردهم لنا سالمين غانمين يا رب العالمين.
اللهم اغفر لهم ذنوبهم، واستجب دعاءهم، ولا تخيب رجاءهم، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اتقوا الله، } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { (90-النحل).
اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.
****************
[1] كانت هذه الخطبة بمسجد الحريري بمدينة الزقازيق 8 من ذي الحجة 1408هـ الموافق 22/7/1988م.
[2] رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شَيْبَةَ وغيرِهِ عن أبي معاويةَ. وأخرجه البخاري من وجهٍ آخرَ عن الأعمشِ، سنن الكبرى للبيهقي
[3] رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة.
[4] رواه مسلم والحاكم في المستدرك عن أبي ذر.
[5] البزار عن ابن عمر.
[6] رواه الإمام مالك في الموطأ والبيهقي من طريقه وغيرهما عن طلحة بن عبيد الله.
[7] رواه البزار والطبراني في الصغير عن أبي هريرة.
[8] الْخطيب في المتفق والمفترق عن أنسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ.
[9] رواه مسلم وأحمد في مسنده عن أبي قتادة الأنصاري.
[10] (ت هـ) عن أَبي هُرَيْرَةَ رضَي اللَّهُ عنهُ
[11] رواه ابن ماجة في سننه وابن أبي شيبة في مصنفه وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس.
[12] أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود والديلمي عن أنس وابن عباس والطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري.
[13] رواه الطبراني في الصغير والأوسط والسيوطي في الفتح الكبير عن أبي هريرة.
[14] (رواه البزار)
[15] الترمذى وابن ماجه والحاكم فى مستدركه عن عائشةَ رضَي اللَّهُ عنهَا.
[16] رواه أحمد وابن ماجه، عن زيد بن أرقم t
[17] رواه البخاري ومسلم والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب t.
[18] أحمد فى مسنده عن أَبي رافعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وغيرها جامع المسانيد والمراسيل
[19] رواه أحمد في مسنده والبيهقي في سننه والبخاري في صحيحه وأبو داود عن عبد الله بن عمرو.
[20] رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة
الحمد لله ربِّ العالمين، أسمع أَذَانَ قُلُوبِ عبادِهِ المؤمنين آذانَ إبراهيم الخليل، فلبُّوا مسرعين مجيبين للتلبية بزيارته سبحانه وتعالى في بيته الجليل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزه عن الزمان والمكان، والعلو والحيطة والإمكان، لا يَشْغَلُهُ مكان ولا يحيط به مكان، لأنه سبحانه وتعالى ربُّ الزمان وخالق المكان.
سبحانه .. سبحانه!! كُلُّ ما سواه يفوت ويموت، وهو سبحانه في عظمته وجلاله وكبريائه وحده الحيُّ الذي لا يموت. وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وحبيبه، أرسله الله رحمة للعالمين، وهداية وبشرى للمؤمنين، وقال في حقِّه: } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ { (128-التوبة).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين، وعلى صحابته المباركين، وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين. آمين .. يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
فيا أيها الأخوة المؤمنون: ما أجمل وفود المؤمنين وقد استعدوا اليوم وبدأوا يتجهزون، يغتسلون ويتطيبون ويحرمون، ويخرجون للوقوف في ساحة الفضل والجود، والكرم الإلهي، للمثول في ساحة الإكرام الرباني. الإكرام الذي ليس بعده إكرام!! والإنعام الذي ليس بعده إنعام!! لو قيل للواحد منا بماذا تشترى المغفرة؟ لقال: أشتريها بكل ما أملك من مال ومن ممتلكات ومن مقتنيات!! فإن المغفرة إذا حصَّلها الإنسان وخرج للقاء الديان، فقد فاز فوزاً مبيناً، ولو ملك الإنسان الدنيا بأكملها، وكانت كلها في قبضة يده، ولكنه خرج منها بدون الحصول على المغفرة، ماذا أخذ؟!! وماذا فعل؟!!
إنه يخرج منها بحسرة يموت منها الأولون والآخرون لو يعرفونها!! لأنه ملكها كلها، وتركها كلها، ويحاسب عليها كلها، ويبوء بخزيها والندامة عليها جميعها، ولم يحصل على ثمرة المغفرة التي هى كلُّ ما يبغيه الإنسان في دنياه، وكل ما يطلبه لينال به السعادة في أخراه!!
إخواني وأحبابي: إنَّ الأمر الصريح من ربِّ العالمين لنا، هو أن نسارع ونتسارع، ونجري ونتنافس، في ماذا يا ربَّ العالمين؟ في الدنيا؟!! كلا. في الأموال؟!! كلا وألف كلا. في المناصب والدرجات الدنيوية؟!! كلا. فِيمَ نتنافس يا رب؟ } خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ { (26-المطففين) ،
نتنافس في منابر الأبرار، ونتنافس في مقامات الصالحين، ونتنافس في منازل جنات النعيم، ونتنافس في النعيم المقيم، ونتنافس في البعد عن الجحيم - وما أدراك ما الجحيم؟ ونتنافس في البعد عن الخزى والندامة، يوم الحسرة يوم القيامة. نتنافس في الجلوس على الآرائك - وما أدراك ما الآرائك؟ } عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ. خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ { (23: 26-المطففين). نتنافس في الصالحات، ونتنافس في الطاعات، ونتنافس في القربات، ونتنافس في كل ما يوصلنا إلى الله، ويقربنا إلى معية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو تنافس المؤمنين، وهذا هو تسابق المؤمنين، وهذا هو صراع الموحدين!! فليس صراعهم على شئ يبلى، لأنهم علموا أن كل ما على الدنيا يفنى، ولا يبقى مع الإنسان إلا ما عبَّر عنه الديان وقال: } وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً { (46-الكهف).
عرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم:{ أيُّكُمْ مالُ وارثِهِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، قالُوا: ما مِنَّا أَحَدٌ إلاَّ مالُهُ أَحَبُّ إليهِ مِنْ مَالِ وارِثِهِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: إعْلَمُوا أنهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلاَّ ومالُ وارثِهِ أحَبُّ إليهِ من مالِه، مالُكَ ما قَدَّمْتَ، ومالُ وارِثِكَ ما أَخَّرْتَ} [2]. إن الذي خلَّفته إنما هو لورثتك، ولكن الذي قدمته هو العمل الذي فيه سعادتك، والخير الذي فيه رفع درجتك، والبرُّ الذي فيه رفعة شأنك في الميعاد، والوصول إلى مقام يقول فيه ربُّ العزة سبحانه وتعالى: } إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ{ (54،55-القمر). فالمؤمن يتنافس في الحصول على المغفرة.
شهادة محو الأمية أصبحت هي الأساس في التعيينات الحكومية وغير الحكومية - ولله المثل الأعلى - وشهادة المغفرة هي أدنى الدرجات التي لابد لك من الحصول عليها عند الخروج من هذه الحياة، حتى تدخل - على الأقل - في قوله: } فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ { (185-آل عمران)، حتى نتزحزح عن النار وندخل الجنة مع الأبرار. وإذا لم تخرج من هذه الحياة ومعك شهادة من العزيز الغفار بأنه قد غفر لك ذنوبك، وستر عليك عيوبك، فبماذا خرجت؟!! لكنك إذا خرجت من الدنيا ومعك شهادة بالمغفرة - وليس معك إلا حسنة واحدة - فقد فُزْتَ وسعدتَ لأنه ليس عليك أوزار، وليس عليك ذنوب تثقل كفة السيئات، وليس عليك ذنوب تجعلك تزل في المشي على الصراط، وليس عليك ذنوب تجعلك تتناول كتابك بشمالك، وليس عليك ذنوب تجعلك تمشي على وجهك، وليس عليك ذنوب تجعلك تجلس في أرض القيامة - والمؤمنون تحت ظلِّ عرش الرحمن يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه.
شهادة المغفرة هي ذخيرة المؤمنين، وهي ركيزة الموحدين، لأنها هي السعادة العظمى مع رب العالمين سبحانه وتعالى. ولذلك يقيم المولى سبحانه وتعالى للمؤمنين مواسم للحصول على هذه الشهادة - والمواسم تلو المواسم - فإذا صاموا رمضان سلَّم للصائمين شهادة بالمغفرة، وإذا قاموا رمضان سلَّم القائمين شهادة بالمغفرة، وإذا حافظوا على الصلوات الخمس في جماعة - من الجمعة إلى الجمعة - سلَّم المحافظين على الفرائض في أوقاتها - من الجمعة إلى الجمعة - شهادة بالمغفرة، والمحافظ على صلاة الفجر أربعين يوماً في جماعة أعطاه الله شهادة بالمغفرة، ولو ترك الأهل والأموال والأولاد وخرج من بيته مهاجراً لزيارة ربِّ العباد في بيته المحرم، في بيته المعظم، في بيته المكرم - وقد حصل المال بطريق حلال، لأن هذا شرط القبول - فإذا كان المال من طريق حلال، وقال: لبيك اللهم لبيك، قالت الملائكة له: لبيك وسعديك، والخير كله لك وبين يديك، أما إذا كان المال من طريق حرام، أو من طريق الشبهات، وقال: لبيك اللهم لبيك، تقول الملائكة: لا لبيك ولا سعديك، وحجك هذا مردود عليك.
فإذا حجَّ من نفقة حلال، وخرج يبغي وجه الله، لا يريد شهرة بين الناس، أي: لم يخرج حتى إذا رجع يقولون له: الحاج فلان!! فإنَّ عمر رضى الله عنه حَجَّ، وأبو بكر رضى الله عنه حَجَّ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - جميعاً حَجُّوا، ولم نسمع من يقول: الحاج أبو بكر، أو الحاج عمر، أو الحاج عثمان!! وإلاَّ فإنَّ الصلاة أعظم من الحج، هل يجوز أن نقول: المصلي فلان؟!! أو المزكي فلان؟!! أو الصائم فلان؟!! إن هي إلا ألقاب سميناها ما أنزل الله بها من سلطان.
فإذا حجَّ فَلْيُخْلِصْ النيَّة، وليَنْوِّ بحجِّه هذا الحصول على مغفرة من الله ورضوان - يوم الحصول على الفوائد التي أعدها الله لمن يقوم بأداء هذه الفريضة، وينوِّ مشاهدة البقاع المقدسة التي شاهدت نزول الوحي الإلهي، والتي شاهدت الأنبياء عليهم السلام وهم يمشون يبلغون رسالات السماء، ويتعرضون للأذى من هنا ومن هناك، لا يخافون في الله لومة لائم، حتى أعزَّهم ونصرهم ونشر دينهم، وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
فإذا خرج الحاج بنفقة حلال، ويبغي رضاء ذي الجلال، لا يرفع قدماً ولا يضعها إلا وكتب له حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة. فإذا وصل إلى هناك وطاف حول البيت - كان كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كمن يخوض في رحمة الله}، أي: كمن يسبح أو يخوض في رحمة الله، وأنتم تعلمون أن من يسبح في المياه هل يخرج وعليه أوساخ؟!! هل يخرج وعليه أوزار؟!! فما بالك بمن يخوض في رحمة الله!! هل يخرج وعليه ذنب أو خطيئة؟ هل يخرج وعليه عقوبة؟ إنه يخرج برحمة الله، والملائكة يقولون لمن يدخلون جنة الله - برحمة الله - هم فيها خالدون. يدخلون في الجنة برحمة الله، التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلٍ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أَنا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ }[3].
فإذا وقفوا على عرفات، فهذا يوم المغفرة الأعظم، يوم الغفران، يوم تجَلِّي الغفور، يوم تجلِّي التَّوَّاب، يوم تجَلِّي العفو عن المذنبين وعن المسيئين وعن الخطائين، لأنه يقول في حديثه القدسي: { يا عِبَادي: إِنَّكُمُ الَّذِيْنَ تُـخْطِئونَ باللـيلِ والنهارِ، وأَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذنوبَ ولا أُبَالِـي، فاسْتَغْفِرُونـي أَغْفِرْ لَكُمْ. يا عِبَادِي: لو لقيتموني بقراب الأرض خطايا - يعني بملء الأرض ذنوب - ثم لقيتموني لا تشركون بي شيئاً، غفرت لكم ما كان منكم ولا أبالي }[4].
إنه هو الغفور الرحيم، إنه (يحب التوابين ويحب المتطهرين). فإذا وقفوا بين يديه ملبِّين - وقد وضعوا ذنوبهم بين أيديهم، وتضرعوا بألسنتهم وقلوبهم إلى خالقهم وبارئهم، يرجون رحمته، ويطلبون مغفرته - يقول الكريم لعباده الملائكة: { يا ملائكتي: انظروا إلى عِبَادِي جَاءُونَى شُعْثَاً غُبْرَاً مِنْ كُل فَجَ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ جَنَّتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ عَدَدَ الرَّمْلِ، أَوْ كَقَطْرِ المَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ، لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورَاً لَكُمْ وَلِمَنْ شَفِعْتُمْ لَهُ }[5].
بل إن الله يتفضل عليهم فيستجيب لهم الدعاء، ويتحمل عنهم الحقوق، ويباعد بينهم وبين المعاصي، ويباعد بينهم وبين الشياطين، ولذلك يقول سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: {مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمَاً هُوَ أَصْغَرُ وَلاَ أَحْقَرُ وَلاَ أَدْحَرُ وَلاَ أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ }[6]. لماذا؟ لما يرى من مغفرة الله لعباد الله!! فيندم على ما فعل، لأنه وسوس لهم طول الأعوام، وزين لهم الأعمال السيئة طول الأعوام، ثم يغفرها الغفور سبحانه وتعالى في نفس وأقل، لأنهم وقفوا بين يديه خاشعين، ووقفوا بين يديه ضارعين، وقد عبَّروا عن ذلك في حالهم، عندما لبسوا أكفانهم، وتجردوا من أفعالهم، وتجردوا من دنياهم، ووقفوا بين يديه كما يقفون بين يديه في أخراهم، ليس عليهم إلا الملابس البيضاء، والكلُّ يتساوى أمام ربِّ الأرض والسماء!!! لا فرق بين غنيٍّ ولا فقير، ولا رئيس ولا وضيع، الكلُّ متساوون أمام الله، لا يظهر الفارق إلا بالتَّقوى - وتلك في صدورهم، لا يراها إلا الله، ولا يطلع عليها إلا الله.
فإذا وقفوا بين يديه هكذا خاشعين، متذكرين لذنوبهم، تائبين من أوزارهم، غفر الله سبحانه وتعالى لهم. بل يقول صلى الله عليه وسلم: {يَغْفِرُ الله للحَاجِّ ولمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الحَاجُّ}[7]، ويقول صلى الله عليه وسلم: {إِذَا أَفَاضَ الْقَوْمُ مِنْ عَرَفَاتٍ أَتَوْا جَمْعاً فَوَقَفُوا، قَالَ: انْظُرُوا يَا مَلاَئِكَتِي إِلَى عِبَادِي عَاوَدُونِي فِي الْمَسْأَلَةِ، أُشْهِدُكُمْ أَني قَدْ أَجَبْتُ دَعْوَتَهُمْ، وَشَفَعْتُ رَغْبَتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنَهُمْ جَمِيع مَا سَأَلَ، وَتَحَمَّلْتُ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ}[8].
ونحن أيضاً في هذه البلاد - وإن كنا لم نوفق للمثول بين يدي الله في هذه الأماكن المباركة - إلا أن الله لم يحرمنا من هذا الفضل، بل جعلنا شركاء لهم في الأجر إذا وفقنا للعمل بهدي رسول الله، والمتابعة لسنته صلى الله عليه وسلم. فإذا دققنا في إتباع السنة في ذلك اليوم -والسنة هي صيام ذلك اليوم - وفيه يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: { صومِ يومِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ والبَاقِيَةَ } [9].
ويقول صلى الله عليه وسلم: { مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَىٰ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُل يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُل لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ }[10].
ويقول صلى الله عليه وسلم: { مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هذِهِ الأَيَّامِ، قِيلَ: وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ: وَلاَ الْجَهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُهْرَاقَ دَمُهُ فلم يرجع من ذلك بشئ }[11]
فإذا صمنا في هذا اليوم لله، وعشنا في هذا اليوم بأرواحنا وأجسادنا بين يدي الله، مستقبلين عظمة الله، ومستحضرين توبة الله، ومستحضرين أن الله سبحانه وتعالى تنزه عن المكان - ورحمته وسعت كل شئ، فستسع جميع بني الإنسان، والذين يقفون بين يديه في هذا الزمان، يلبُّون ويضرعون، ويصرخون ويستجيرون، لأنه سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعاً - إذا وقفنا بين يدي الله في هذا اليوم على هذه الشاكلة، جَبَرَ الله كسر قلوبنا، وغفر ذنبنا، وكنا مشاركين لأهل عرفات في مغفرة الله سبحانه وتعالى، وإن تفاوت الأجر والثواب، ولكن حسبنا المغفرة من العلىِّ الوهَّاب سبحانه وتعالى.
عباد الله: اعلموا أن هذا اليوم - يوم عرفة - يوم برٍّ، ويوم كرم، والله سبحانه وتعالى هو الربُّ الكريم الذي ليس لكرمه حدود، وهو الوهاب الذي ليس لهباته نهاية، وهو المنان الذي يعطي ولا يمنُّ على عباده، يعطي بلا حدود، ويشمل بعطائه الجميع بشرط أن يكون الجميع في مقام التضرع والخشوع، في مقام الإنابة والتوبة لله، في مقام السجود بين يدي الله، في مقام الرجاء في كرم الله، في مقام الخوف من قهر الله وعظمة الله. فإذا كنا كذلك شملنا الله برحمته، ووسعنا بمغفرته. قال صلى الله عليه وسلم: {التائب حبيب الرحمن، والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ}[12].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر، ونجِّنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا، يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
فيا إخواني ويا أحبابي: علينا أيضاً في هذه الأيام المباركة عبادات خاصة، سنَّها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من هذه العبادات: التكبير لله عقب الصلوات، منذ فجر يوم عرفة إلى عصر اليوم الرابع من أيام العيد، علينا أن نكبِّر عقب كل صلاة، وألفاظ التكبير: الله أكبر الله أكبر الله أكبر .. الله أكبر ولله الحمد.
إذا صلينا في جماعة نكبِّر جميعاً، وإذا فاتتنا الجماعة فصلينا مفردين علينا أن نكبِّر أيضاً، وإذا صلينا نافلة منفصلة عن الجماعات كبَّرنا أيضاً، ونُعَلِّمُ ذلك لنسائنا ولصبياننا، ولكن نعلم نساءنا أن يكبرن بصوت خافت، لا يسمعن إلا أنفسهن. أما الرجال فيكبِّروا بصوت جهوري، لأنها أيام تكبيرٍ يقول فيها صلى الله عليه وسلم: {زَيِّنُوا أَعْيَادَكُمْ بالتَّكْبِير لله}[13]، فالتكبير هو زينة العيد، ليست زينة العيد فيما نفعله من أضواء، وفيما نفعله من زينات، ولكن كما قال الله: } وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { (185-البقرة).
أيضاً علينا في هذه الأيام بالأضحية، لأنه فيها أجر لا يعلمه إلا الله، بيَّن بعضه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال لابنته فاطمة: {يَا فَاطِمَةُ: قُومِي فاشْهَدِي أُضْحِيَتَكِ، فَإنَّ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ، أَمَا إنَّهُ يُجَاءُ بِلَحْمِهَا وَدَمِهَا تُوضَعُ فِي مِيزَانِكِ سَبْعِينَ ضِعْفاً. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هذَا لآِلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، فَإنَّهُمْ أَهْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: لآِلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً }[14].
وقال صلى الله عليه وسلم: {مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْساً}[15].
وفى رواية: { قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِي؟ قَالَ: سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ، قَالُوا: مَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ، قَالُوا: فالصُّوفُ ؟ قَالَ: بِكِلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوَفِ حَسَنَةٌ }[16]. هذا الأجر والثواب لمَنْ يضحي كما كان يضحي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالشروط التي وضَّحَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما هي؟
أن يُضَحِّي بعد صلاة العيد، لقول الحميد المجيد: } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { (2-الكوثر)، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: { أَوَّل ما نبدأ يومنا هذا أنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ ننحر، فَمَنْ فَعَلَ ذٰلِكَ، فَقَدْ أَصابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ تَعَجَّلَ، فَإِنَّما هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ }[17].
فلابد أن يكون الذبح بعد الصلاة لمن يريد أن ينال هذا الثواب من الله، وأن تكون الأضحية مستوفية للشروط الشرعية، لقول الله: } لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ { (92-آل عمران)، ثم يخرج منها شيئاً للفقراء، وشيئاً للأهل والأصحاب على هيئة هدية، ويستحسن أن نقسمها إلى ثلاثة: ثلث لأهلك، وثلث للفقراء، وثلث للأهل والأقارب. وإذا كنت محتاجاً فلا عليك أن تأكلها كلها، وأيضاً لك الأجر لأنك فقير ومحتاج.
هذه الأضحية هي سنة عن أبيكم إبراهيم عليه السلام، عندما ضحى عن إسماعيل عليه السلام عندما رأى في رؤياه أنه يذبح فتاه - ورؤيا الأنبياء وحيٌّ من الله - ولذلك عندما قال لفتاه: } يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى { - وكان الابن يعلم أن رؤيا الأنبياء أمرٌ ووحيٌّ من الله، فقال - } يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ { (102-الصافات). ثم أخذه بعيداً ... وقال: يا أبتاه، انزع قميصي حتى لا يقع عليه الدم فتراه أمي فتحزن على ذلك، واجعل وجهي إلى الأرض حتى لا تنظر إلى وجهي فتأخذك الشفقة فتتردد في تنفيذ أمر الله، واشحذ السكين حتى تذبح بسرعة حتى لا أتألم من آلام الذبح. فأراد أن ينفذ قضاء الله، ووضع ابنه ووحيده بين يديه - وقد شحذ السكين - وأراد أن يقطع فإذا بالسكين لا تقطع!! وعجب الخليل من ذلك!!
وإذا بأمين الوحي جبريل عليه السلام ينزل من السماء بكبش من الجنة، وبخطاب من ربِّ الأرض والسماء، بتلغراف عاجل من الله، بعد أن بكت ملائكة الله وقالت: يا ربنا كيف تطلب من الخليل أن يذبح وحيده إسماعيل؟!! وهو أعلم بما قدَّر فى سابق علمه!! فقال تعالى: } يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا { (103،104-الصافات)، وفداه الله بِذِبْحٍ عظيم، فتلك هي سُنَّةُ إبراهيم، ولذلك جعلها رسول الله سُنَّةً سارية إلى يوم الدين.
وقد ضحَّى صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين وذبحهما بيده، فقد ورد فى الحديث الشريف:{ كَانَ إِذَا ضَحَّى اشْتَرٰى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ أَتى بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ فِي مَصَلاَّهُ فَذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ: ( اللَّهُمَّ هذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعَاً مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلاَغِ)، ثُمَّ يُؤْتى بِالآْخَرِ فَيَذْبَحَهُ وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ هذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّد)،ٍ فَيُطْعِمُهُمَا جَمِيعَاً المَسَاكِينَ، وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا } [18]. فهو صلى الله عليه وسلم قد ضحَّى عن فقراء الأمة حتى لا يحزنوا، وحتى لا يجزعوا. لقد ضحَّى عنهم النبي الشفيع صلى الله عليه وسلم.
ويسنُّ أيضاً أن نجعل رأسها تجاه القبلة، وأن نسقيها قبل الذبح، وأن نريحها، وأن نشحذ السكين - ولا تشحذها أمامها - وأن تقول عند الأضحية: (اللهم هذا عن فلان وأهل بيته، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين).
تلك - يا إخوة الإيمان - بعض أحكام الهدي التي أوجبها الله على المستطيع، وعطف رسول الله بالفقراء والمساكين، بذبحه عنهم سنة أبينا إبراهيم عليه السلام، وما جعله الله إلا للمغفرة – أي: إلا لننال بها المغفرة، والأجر الكريم من الله. ولا يفوتنا في هذه الأيام المباركة أن نصل أرحامنا، وأن نزور أقاربنا، لقول رسولكم الكريم: {لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا}[19].
وحتى لا يتحجج أحد منا ويقول: أنا أحسن إلى أقربائى، ولكنهم لايقابلون الإحسان بمثله. فهل تحسن إليهم أولاً ليحسنوا إليك؟ أم تحسن إليهم إقتداء بسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم ورغبة فى مرضاة الله؟ هذه واحدة، والثانية: فقد أَتَى رَجُلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالَ: {يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ: ( لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المَلَّ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ )}[20]، يعني: كأنما تطعمهم الجمر الذي يتبقى بعد النار. فعلينا بصلة ذوي الأرحام لأنها العبادة التي ترضي الملك العلام في هذا اليوم الكريم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلي شأن الإسلام، وأن يحبب إلينا الإسلام ويزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين.
اللهم اكتب لنا الحج إلى بيتك الكريم.
اللهم اجعلنا من الذين توفقهم للوقوف بعرفات، ولرمي الجمرات، والطواف والسعي يا رب العالمين.
اللهم ابْدِ لنا الرزق الحلال، وأَنِرْ لنا السبيل، وأَدِمْ لنا الصحة والعافية يا رب العالمين، واجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهك الكريم.
اللهم احفظ الحجاج والمسافرين، وردهم لنا سالمين غانمين يا رب العالمين.
اللهم اغفر لهم ذنوبهم، واستجب دعاءهم، ولا تخيب رجاءهم، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اتقوا الله، } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { (90-النحل).
اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.
****************
[1] كانت هذه الخطبة بمسجد الحريري بمدينة الزقازيق 8 من ذي الحجة 1408هـ الموافق 22/7/1988م.
[2] رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شَيْبَةَ وغيرِهِ عن أبي معاويةَ. وأخرجه البخاري من وجهٍ آخرَ عن الأعمشِ، سنن الكبرى للبيهقي
[3] رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة.
[4] رواه مسلم والحاكم في المستدرك عن أبي ذر.
[5] البزار عن ابن عمر.
[6] رواه الإمام مالك في الموطأ والبيهقي من طريقه وغيرهما عن طلحة بن عبيد الله.
[7] رواه البزار والطبراني في الصغير عن أبي هريرة.
[8] الْخطيب في المتفق والمفترق عن أنسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ.
[9] رواه مسلم وأحمد في مسنده عن أبي قتادة الأنصاري.
[10] (ت هـ) عن أَبي هُرَيْرَةَ رضَي اللَّهُ عنهُ
[11] رواه ابن ماجة في سننه وابن أبي شيبة في مصنفه وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس.
[12] أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود والديلمي عن أنس وابن عباس والطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري.
[13] رواه الطبراني في الصغير والأوسط والسيوطي في الفتح الكبير عن أبي هريرة.
[14] (رواه البزار)
[15] الترمذى وابن ماجه والحاكم فى مستدركه عن عائشةَ رضَي اللَّهُ عنهَا.
[16] رواه أحمد وابن ماجه، عن زيد بن أرقم t
[17] رواه البخاري ومسلم والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب t.
[18] أحمد فى مسنده عن أَبي رافعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وغيرها جامع المسانيد والمراسيل
[19] رواه أحمد في مسنده والبيهقي في سننه والبخاري في صحيحه وأبو داود عن عبد الله بن عمرو.
[20] رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة