تأسيس النبي صلى الله عليه وسلم
للمجتمع الإسلامي
—— خطبة الجمعة ——
لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
الحمد لله رب العالمين أنزل لعباده المؤمنين في القرآن ما يصلح شئونهم أفراداً وجماعات وقرىً وبلداناً إلى آخر الزمان
،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله قوى الفعال شديد المحال لا يعجزه شيءٌ في السماوات ولا في الأرض .
وأشهد ان سيدنا محمداً عبد الله ورسوله أيده الله عز وجلّ بتأييده، ونصره بنصره وأحاطه برعايته وسخّر الوجود كله علواً وسفلاً لحضرته
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي التقى النقي الذى خلّص العرب من شرورها وقسوتها وغلظتها وآثامها وجعلها خير أمة تعبد الله وتنفذ كتاب الله ..
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وكل من سار على هديه ومشى على دربه إلى يوم الدين وعلينا معهم أجمعين
آمين آمين يا رب العالمين
أيها الخوة جماعة المؤمنين :
تعالوا بنا ننظر إلى ترتيب حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم للمجتمعات وتأسيسه للمدن والجماعات،
هذا التأسيس الذى جعل المؤمنين أجمعين مع تباعد أنسابهم وتباعد أوطانهم، واختلاف لغاتهم وأشكالهم معنيين بقول الله في كتاب الله :
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ ( الحجرات:10 )
فآخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بين صحابته من الأنصار وبين المهاجرين من كل الأقطار، وأسّس مدينة الأبرار على هدى العزيز الغفار عزوجلّ،
ما الأسس التي أسس النبي صلى الله عليه وسلم هذه المدينة؟ حتى كانوا فيما بينهم لا مشكلات فردية ولا خصومات جماعية ولا غشٌ ولا تدليس في الأسواق ولا مكان في المدينة كلها للكذابين والفساق، بل كانوا جميعا كما قال في شأنهم :
"ترى المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عُضوٌ منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"(البخاري عن النعمان بن بشير)
نظر النبي صلّى الله عليه وسلّم ببصيرته النورانية فوجد أعتى المشكلات التي تؤدى إلى الخلافات والمنازعات، وتؤدى لزيادة المشكلات فوضّحها وبينّها ثم عالج مجتمع المدينة منها، اسمع إليه صلوات ربى وتسليماته عليه وهو يُشخّص الداء ويصف الدواء
قال صلّى الله عليه وسلّم :
(دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبَغْضَاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشِّعر، ولكن تحلق الدِّين، ــ
هذا هو الداء وهو البغض والحسد ..
ثم استرسل فوصف الشفاء فقال صلّى الله عليه وسلّم :
والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أُنبِّئكم بما يثبِّت ذلك لكم؟ أفشوا السَّلام بينكم (الترمذي واحمد والبيهقي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه)
الداء هو البغضاء من الإنسان لأخيه
أو من المرء لأحد ذويه
أو من الجار لجاره
أو من الزميل لزميله فى العمل
والمؤمنون في كل زمان ومكان صدورهم يقول فيها الرحمن :
﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ (الحجر:47)
لا ينبغي لأى مسلم أن يكون في قلبه غلٌ ولو قليل لأى رجل من المسلمين ولو كان يتنافس معه في تجارة أو يتنافس معه في عملٍ من أعمال الآخرة فإن التنافس لا يوجد التباغض ولا التحاسد،
والبغضاء تجعل في الصدر شحناء وتجعل الصدر يعمر الأعضاء فتعبّر عن هذه الشحناء فيحصل التوتر ويزيد العداء ويحدث ما نراه في كل وقت وحين من منازعات من سُباب من شتائم من خلافات من تعديات من شكاوى في الأقسام أو في القضاء كل ذاك سببه الأول هو الشحناء والبغضاء التي وجدت في صدر المؤمن لأخيه
مع أن صدور المؤمنين يجب أن تكون دوماً سليمة من هذا الداء .
قال صلّى الله عليه وسلّم موصياً أنس بن مالك رضى الله عنه :
"يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة"(الترمذي عن انس رضي الله عنه)
هنيئاً لأصحاب هذا المقام من يريد أن يكون مع الحبيب المختار في الآخرة وجنة النعيم لابد أن يكون معياره الأول ووصفه الأوحد :
﴿ إِلا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ (الشعراء:89)
لابد أن يكون قلبه سليماً من البغض والكره والحقد لإخوانه المؤمنين أجمعين ويجعل مكان ذاك المحبة والمودة والصِلات والشفقة والعطف والحنان والمعاملة بالخير والإحسان لجميع بنى الإنسان
فضلا عن المؤمنين الذين أوصى بهم الله وبين حقوقهم في أحاديثه سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .
وشرط الحبيب صلّى الله عليه وسلّم الإيمان بشرط الحب :
(لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ)(صحيح مسلم عن أبو هريرة رضي الله عنه)
طبّق النبي صلّى الله عليه وسلّم ذاك على مجتمعه في المدينة المنورة ولذلك نجد أن الله قد مدح هذه المدينة وسكانها ..
فبم مدحهم الله ؟
لم يمدحهم بالصلاة، مع أنهم كانوا أكثر الناس صلاةً وطاعةً لله،
ولم يمدحهم بالصيام
ولم يمدحهم بتلاوة القرآن
ولم يمدحهم بمواطن العبادات لأن كل هذه الأعمال يقول فيها الله جلّ في علاه :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ (الجاثية:15)
لكن مدحهم بالوجه الذى بدا منهم للخلق بتعاملهم مع إخوانهم
اسمع معي إلى وصف الله عز وجلّ لهم :
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالايمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ (الحشر:9)
مدحهم بالحب
ومدحهم عز وجلّ بسلامة الصدور
ومدحهم بخلق الإيثار
أخلاقٌ كريمة لا تظهر إلا مع الخلق وفى التعامل بين الناس لأن هذه هي الروشتة القرآنية لسعادة أي بيئة وأي مدينة وأي وطنٍ
لن ينصلح حالها إلا إذا طبقّت هذه الروشتة القرآنية الإلهية .
أن تؤسس العلاقات أولاً على الحب،
والحب هو حبٌ لله
وحبٌ لرسول الله
وحبٌ لخلق الله
لا يكون الإنسان محباً لحضرة الله إلا إذا آثر الله عز وجلّ وشرعه وأحكامه على جميع من سواه،
ولا يكون المرء محباً صادقاً لرسول الله إلا إذا عمل بقوله صلوات ربى وتسليماته عليه :
( والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين ) (البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه)
وحب الناس جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم له ترمومترٌ نبوي نعلم به قدر الإيمان في قلوبنا ودرجتنا في القرب عند ربنا
اسمع إلى هذا الحديث وقس نفسك لتعرف مالك عند الله عز وجلّ من المقام الكريم،
قال صلّى الله عليه وسلّم :
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ( البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه)
فإذا كان يحب نفسه ويحب الخير لنفسه فقط ويحب الضر والشر لإخوانه المؤمنين فإيمانه فيه دخن وإيمانه فيه نقصٌ وزللٌ، ويحتاج إلى تجديد الإيمان على هدى النبي العدنان حتى يُحب الخير لنفسه ولجميع إخوانه المؤمنين، وإذا وصلنا إلى هذه الغاية
لا نحتاج إلى أمنٍ له موظفين،
ولا نحتاج في أي أمرٍ إلى مفتشين
ولا نحتاج في خلافاتٍ إلى مصلحين
لأن الأمور ستكون دائماً بين الصلاح والإصلاح كما كان مجتمع المؤمنين .
نحن في هذا الزمان أحوج ما نكون الآن إلى الحب الذى بينه القرآن ووصفه النبي العدنان حتى نقضى على الأمراض التي فرقّت المجتمعات، وشقّت صفوف الجماعات وأكثرت فيما بيننا الخلافات وجعلت المجتمع كأنه يمشى في طريقٍ مسدود ..
قال صلّى الله عليه وسلّم :
(ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان:
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،
وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله،
وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار )(البخاري عن أنس رضي الله عنه
وقال صلّى الله عليه وسلّم :
( التائب حبيب الرحمن والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ) ..
أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ..
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي منَّ علينا بهداه وجعلنا من عباده المسلمين، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يزيدنا من النور والهُدى واليقين، وأن يوفِّقنا للعمل الصالح وطاعته وذكره وشكره في كل وقتٍ وحين، حتى يتوفانا مسلمين ويُلحقنا بالصالحين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إلهٌ يُحِقُّ الحقَّ ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، أدَّى الرسالة، وبلَّغ الأمانة، وتركنا على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ بعده عنها إلا هالك،
اللهم صلِّ وسلّم وبارك على سيدنا محمد خير النبيين، وإمام المرسلين، والرحمة العُظمى للخلق أجمعين في الدنيا، والشفيع الأعظم للخلق اجمعين يوم الدين. صلى الله عليه وعلى آله الغُرِّ الميامين، وصحابته المباركين، وكل من اهتدى بهديه إلي يوم الدين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
أسّس النبيُّ صلى الله عليه وسلّم مجتمع المؤمنين على أمرٍ بالغ الأهمية وضروري لو وعيناه وعملنا به واتبعناه، لانصلحت كل أحوالنا في أنفسنا، وفيما بيننا وبين إخواننا، وفيما بيننا وبين الله عزَّ وجلَّ.
أسَّس هذا المجتمع على أن ينشد كلُّ أمرئ فيه - عند أي عملٍ أو حركة أو سكنة - أن يكون هذا العمل لله،
لا لدنيا يرجوها،
ولا لمنصبٍ يحرص عليه،
ولا لظهورٍ أو رياء،
ولا لبلدٍ أو قبيلة،
وإنما يعمل العمل طلباً لرضا الله، لا يريد فيه إلاَّ وجه الله جلَّ في عُلاه.
كل أسباب المشاكل في مجتمعنا أن العمل فيها لغير الله، لو كان الإنسان عمله لله واجتمعنا على هذا الأمر جميعنا وتوحدّت نوايانا، وما وُجد في مجتمعنا مشكلة قطّ.
علَّمنا النبيُّ صلى الله عليه وسلّم. ان ننوي بأي عملٍ أو حركة أو قولٍ أو سكنة وجه الله،
ويوزن بميزان الإخلاص لله، إذا كان العمل خالصاً لله أمضاه، وإن كان فيه حظٌ للنَّفْسِ، أو طلبٌ للشُهرة، أو ميلٌ للسمعة، أو فيه إرضاءٌ للخلق وإغضابٌ للحقّ، توقف عن هذا العمل!!
ما أحوجنا جماعة المؤمنين الآن إلى مراقبة الله عزَّ وجلَّ، والتوجه إليه بالإخلاص في الأعمال:
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ (5البينة).
إذا عبدنا الله مخلصين، وطهَّرْنَا نفوسنا من الحقد والغلِّ للمسلمين، وملأنا قلوبنا بالمودَّة والمحبَّة لجميع المؤمنين، وقلنا - كما قال النبيُّ الأمين - كلُّ رجلٍ منا مَعْنِيًّا بالحديث الشريف: (المؤمن إلفٌ مألوفٌ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف) (رواه البيهقي والقضاعي والعسكري عن جابر مرفوعاً)،
نألف إخواننا ونمُدُّ أيدينا لهم دائماً بالمودّة والمحبة والكلمة الطيبة، غيَّر الله حالنا فوراً إلي أحسن حال:
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ﴾ (96الأعراف).
🤲اللهم طهِّرْ نفوسنا، وصَفِّ قلوبنا، وحبِّبنا في بعضنا، واجعلنا دوماً إخوة متعاونين متباذلين متكاتفين، وانزع الشحناء من صدورنا ومن صدور جميع إخواننا المؤمنين .....
🤲ثم الدعاء 🤲
وللمزيد من الخطب
الدخول على موقع فضيلة الشيخ
فوزي محمد ابوزيد