** فضائل العشر ** وفضل الأضحية **
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
----------------------------------------------
- الحمد لله رب العالمين .. وسَّع الخيرات لعباده المؤمنين، وأكثر من النفحات في أيام وليالٍ مباركات لعباده المسلمين، فله الحمد على ما أعطى .. وله الشكر على جميل ما أولى .. ونسأله عزَّ وجلَّ دوام ذلك لنا .. والمزيد من ذلك لنا على الدوام.
وأشهد أن لا إله إلا الله .. وحده لا شريك له، اصطفى من الناس أنبياء ورسلاً، وجعلهم خير الناس عند الناس وعند رب الناس عزَّ وجلَّ؛ اصطفى من الشهور شهراً جعله أفضل الشهور هو شهر رمضان، واصطفى من الليالي عشر ليالٍ جعلها خير ليالي العام هي العشر الأواخر من رمضان، وجعل فيهن ليلة هي خيرٌ من ألف شهر .. هي ليلة القدر، واختار من الأيام أياماً جعلها أياماً معدودات، لنذكر الله عزَّ وجلَّ فيها، ونسارع فيها إلى الطاعات والقربات .. هي أيام شهر ذي الحجة الأُوَل، وجعل فيها خير يوم عند الله وعند ملائكة الله وعند الناس .. وهو يوم عرفة!!
فسبحان من فضل وله ذلك، ويا هناءة من رضي بما قدر الله وسارع في العمل بما يحبه ويرضاه .. فله البشرى في الحياة الدنيا والآخرة.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، إمام الأنبياء وتاج الأصفياء، الذي جمَّل الله عز وجل جسمه بالضياء، وقلبه بالنور والبهاء، وسرَّه ورُوحَه بأنوار المعراج والإسراء، وجعله في الدنيا إماماً لأهل الأرض والسماء، وفي الآخرة شفيعًا لجميع المخلوقات بما فيهم الرسل والأنبياء.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا جميعًا خالص محبته، واجعلنا من أهل جوار أحبته، وارزقنا في الدنيا العمل بخُلقه وشمائله وسيرته، واجعلنا في الآخرة من أهل شفاعته وفي الجنة من أهل جواره في جنته أجمعين، أمين .. آمين يا رب العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
من فضل الله عز وجل علينا جماعة المسلمين هذه الأيام المباركة التي تهل علينا أجمعين ليالي وأيام شهر ذي الحجة، والتي بلغ من فضلها ومنزلتها عند الله أن الله عز وجل أقسم بها في كتاب الله ليلفت نظرنا إلى فضلها، وليعرفنا مبلغها عند الله، فنسارع في إحياءِها بالطاعات والقربات التي يحبها الله جل في علاه.
قال الله تعالى فيها
(وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (الفجر-1: 3)
جعل الله هذه الأيام أفضل الأيام،
حتى قال فيها صلى الله عليه وسلم:
(أفضل أيام الدنيا أيام العشر - يعني عشر ذي الحجة - قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله، إلا من عفّر وجهه في التُراب) (رواه الهيثمي عن جابر).
لأن فيها كل الطاعات والقربات لله؛ فيها الصلاة، وفيها الصيام، وفيها الصدقة، وفيها الطواف والسعي والوقوف بعرفة، والحج لبيت الله الحرام، وفيها ذكر الله وتسبيح الله والاستغفار لله، وفيها الدعاء لله، فيها كل أعمال البر والخير التي طالبنا بها الله والتي ننال بها الفضل الكريم والثواب العظيم يوم لقاء حضرة الله جلَّ في علاه.
وربما يظن طائفة من المسلمين أن خصوصية هذه الأيام لمن كتب الله له هذا العام أداء فريضة الحج، لكن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم جعل هذا الفضل الإلهي للحجاج الذين يحجون بيت الله الحرام، ومن يتشبهون فيهم وبهم في العمل في بلاد المسلمين كافة خلال هذه الأيام،
قال صلى الله عليه وسلم:
(ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل منه في عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) ( رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس وابن ماجة في سننه ).
وبين فضل العمل الصالح فيها نبيُّنا صلوات ربي وتسليماته عليه، فقال صلى الله عليه وسلم في الروية الأخرى:
(مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُل يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُل لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (رواه الترمذي وابن ماجة عن ابي هريرة ).
... فأكثروا فيها التسبيح والتكبير والتهليل لله عز وجل، فهي أيام ذكر لله، وأيام المسارعة في الطاعات التي كلفنا بها الله، وتنافس في النوافل والقربات التي حثنا عليها رسول الله، وهي التي قال لنا فيها الله في كتاب الله:
(وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) [البقرة : 203]
فهي الأيام المعدودات التي أمرنا الله أن نجعلها كلها لذكر الله عز وجل؛ نصوم فيها ما تيسر، ولا نسهو عن صيام يوم عرفة لأنه يعدل صيام سنتين، ونكثر فيها من الذكر- التسبيح وتلاوة القرآن والصلاة على النبي العدنان، والاستغفار الدائم لحضرة الرحمن - ونكثر فيها من الصدقات على الفقراء والمساكين، وأعمال البر والصلة، سواء للأبوين أو لذوي الرحم أو الجيران أو الأقربين، نجعلها كلها أعمال طاعة ومبرة لله رب العالمين، طاعة لله عسى الله أن يعمنا فيها برحمته التي يتنزل بها على المسلمين، ويتفضل علينا بهباته وعطاءاته التي ينزلها على قلوب عباده المخلصين
وإذا كان الله عز وجل أوجب على الحجيج التلبية لله في هذه الأيام فقد أوصانا بقية المسلمين.
التكبير لله في هذه الأيام، فالتكبير لله عز وجل كان يبدؤه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصفوة الأصحاب من أول شهر ذي الحجة، كان يدخل السوق فيكبر ويكبر كل أهل السوق لتكبيره، و يسيرون في الطرقات يكبرون، وكلما خرجوا أو دخلوا يكبرون.
وجعل الله عز وجل المسلم في هذه الأيام العشر بالإضافة إلى التكبير يتشبه بالحج في أمور كثيرة - منها على سبيل الاستحباب:
- أن الله جعل على الحاج هديً يذبح في البيت الحرام، وجعل على المسلم المتيسر هنا الأضحية يذبحها عقب صلاة العيد - إلى اليوم الرابع - ويحاسبه إذا تركها وعنده سعة!! قال صلى الله عليه وسلم:
(من وجد سعة ولم يضحي فلا يقربن مصلانا)
( رواه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وغيرهم )
أما الفقير فيسر الله عز وجل عليه، فليس عليه أن يضحي إلا إذا وجد مالًا فائضًا عن حاجته وضروريات وحاجات أهله، لكنه لا يستدين ليفعل ذلك، ولا يكلف نفسه ليقوم بذلك،
وإنما يفعل ذلك إذا يسَّر الله له أمر هذه النسك الكريم، بأن وجد في بيت شيء يستطيع أن يضحي به، على أن يوافق شرع الله عز وجل، بأن يكون بلغ العام إن كان من الماعز أو الغنم، وأن يكون سمينًا، وأن لا يكون فيه عيب؛ لا عوراء ولا جعدا ولا غير قرناء ولا مريضة، وإنما ينبغي أن تكون سليمة خالية من العيوب، يضحي بها لله عز وجل، ويكون الذبح بعد صلاة العيد، لقول رب العزة عز وجل:
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر) (2 الكوثر )
قال صلى الله عليه وسلم في خطبة العيد في المدينة المنورة:
( أول ما نفعل في يومنا هذا أن نؤدي الصلاة لله، ثم نذبح هدينا، فمن ذبح قبل الصلاة فهو لحم قدمه لأهله) (رواه البخاري ومسلم والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب)
ليس من النسك في شيء، أي ليس له الأجر والثواب الذي جعله الله عز وجل لمن يضحي في هذا اليوم، والأجر والثواب يأتي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْساً) (رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم عن عائشة رضي الله عنها).
وقال لابنته التقية السيدة فاطمة رضي الله عنها:
(يَا فَاطِمَةُ، قُومِي فاشْهَدِي أُضْحِيَتَكِ، فَإنَّ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ، أَمَا إنَّهُ يُجَاءُ بِلَحْمِهَا وَدَمِهَا تُوضَعُ فِي مِيزَانِكِ سَبْعِينَ ضِعْفاً). قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذَا لآِلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، فَإنَّهُمْ أَهْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: (لآِلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً) (رواه البزار وابن حبان)
فيغفر بها الله الذنوب، ويجعل الله كلها حسنات في ميزان العبد يوم يجمع الله الناس لأجل معلوم وميقات محدود - وهو يوم القيامة إن شاء الله
فالمسلم هنا يضحي، والحاج هناك يذبح هديه،
والحاج يغفر الله عز وجل له الذنوب، والمسلم هنا إذا صام يوم عرفة غفر الله له ذنوب سنتين، وإذا ضحى يغفر الله له كل ذنب فعله
ويوم عرفة يوم إجابة الدعاء لمن يدعو الله بإخلاص وصدق نية، سواء كان هنا أو هناك، لأن الله عز وجل يجعل هذا اليوم يومًا يباهي به ملائكة السماء فيقول:
(يَا مَلائِكَتِي، انْظُرُوا إلى عِبَادِي شُعْثاً غُبْراً، أَقْبَلُوا يَضْرِبُونَ إليَّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، وَشَفَعْتُ رَعِيَّتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنِيهِمْ جَميعَ مَا سألوني) (رواه ابو يعلي في مسنده والخطيب في المتفق والمفترق عن أنس).
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
(أفضل الأيام يوم عرفة) (رواه ابن حبان عن جابر رضي الله عنه)
(ما من يوم أكثر لله فيه عتقاء من النار منه في يوم عرفة)
فسارعوا إلى إحياء هذه الليالي والأيام بما يحبه الله عز وجل حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم استحب للمسلم - فليس هذا بواجب لكن مستحب - للذي عنده أضحية بأن يتشبه بالحجيج، فإذا كان أول يوم من شهر ذي الحجة لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره تشبهاً بالحجيج، عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)
(أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي)
غير أن هذا كما قلت مستحب وليس واجب، فمن تركه فليس عليه شيء ولا ينقص من أجره شيء، وإن فعله فيفعله تشبهًا بحجاج البيت الحرام.
نسأل الله عز وجل أن يكتب لنا أجمعين الحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة روضة الحبيب المصطفي عليه أفضل الصلاة أتم السلام، قال صلى الله عليه وسلم:
(من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)
أو كما قال، (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)
الخطبة الثانية
-------------
- الحمد لله رب العالمين .. الذي أكرمنا بنعماه، وملأ قلوبنا بتقواه، ووفقنا لعمل البر والخير الذي يحبه ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بالخيرات والطاعات، وهو وحده الذي يوفقنا لعمل ذلك، ونهانا عن المعاصي والمخالفات، وبيده وحده عز وجل حفظنا من الوقوع في ذلك.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه، خير من صلى وصام، وحج واعتمر لبيت الله الحرام.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هداه، ووفقنا للعمل بشرعه في الدنيا واجعلنا من أهل شفاعته يوم نلقاك يا الله.
أيها الأخوة المؤمنون:
ما دام الله عز وجل قد رسم لنا منهجه لنتشابه فيه بالحجيج - لنحظى بإجابة الدعاء وتحقيق الرجاء، وغفران الذنوب وستر العيوب، وقضاء الحاجات -
يلزمنا أجمعين أن نتأدب - مع أنفسنا ومع إخواننا وكل من حولنا في هذه الأيام بالآداب التي فرضها الله عز وجل على حجاج بيت الله الحرام والتي يقول فيها الله عز وجل:
(فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197]
ينبغي في هذه الأيام أن نترك بالكلية الرفث
والرفث: هو الكلام الزائد عن الحاجة مع النساء، أو الكلام بين الرجال في شأن خاص بالنساء والجنس وما شابه ذلك، لا ينبغي للمسلم في هذه الأيام أن يتحدث في ذلك. وإنما يترك ذلك بالكلية ليتفضل الله عز وجل عليه بأجر حج بيت الله الحرام.
- والفسوق: هو الخروج عن طاعة إلى معصية. فنبتعد عن المعاصي بالكلية التي أمرنا الله عز وجل بتركها، ونهانا عن الاقتراب منها وعن فعلها، فنتوب إلى الله عز وجل في هذه الأيام من الكذب وقول الزور، ومن الغيبة ومن النميمة، ومن السرقة ومن ظلم العباد باليد وغيرها، ومن كل المعاصي التي كلفنا الله عز وجل إن أردنا النجاة بتركها، وننتهي عن الجدال بالكلية في الأيام.
والجدال هو النقاش الحاد الذي يصحبه عصبية، وكل واحد يريد أن ينتصر لرأيه وأن يسفه رأي غيره الذي يتحدث معه. فنترك الجدال بالكلية؛ إن كان في أمر من أمور الدين واختلفنا في قضية نرجع للعلماء العاملين يفصلوا بيننا دون وقوع بعضنا في بعض، ونتجنب الخلافات السياسية والحزبية، ونتجنب الخلافات بالكلية، حتى في البيع والشراء أو في أي أمر، لأن الجدال يورث الأحقاد والضغائن في القلوب.
وعلينا بعد ذلك أن نتزود بالزاد، وخير الزاد عند الله هي التقوى، والأعمال التي توصل للتقوى هي السنن والنوافل التي سنَّها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
نسأل الله أن يحفظنا أجمعين من المعاصي والفتن ما ظهر بها وما بطن، وأن يوفقنا لفعل الخيرات، واستباق الصالحات، والمسارعة في النوافل والقربات ....
... ثم الدعاء ...
---------------------------------------------------
للمزيد من الخطب الدخول على موقع فضيلة الشيخ فوزي محمد أبو زيد
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
----------------------------------------------
- الحمد لله رب العالمين .. وسَّع الخيرات لعباده المؤمنين، وأكثر من النفحات في أيام وليالٍ مباركات لعباده المسلمين، فله الحمد على ما أعطى .. وله الشكر على جميل ما أولى .. ونسأله عزَّ وجلَّ دوام ذلك لنا .. والمزيد من ذلك لنا على الدوام.
وأشهد أن لا إله إلا الله .. وحده لا شريك له، اصطفى من الناس أنبياء ورسلاً، وجعلهم خير الناس عند الناس وعند رب الناس عزَّ وجلَّ؛ اصطفى من الشهور شهراً جعله أفضل الشهور هو شهر رمضان، واصطفى من الليالي عشر ليالٍ جعلها خير ليالي العام هي العشر الأواخر من رمضان، وجعل فيهن ليلة هي خيرٌ من ألف شهر .. هي ليلة القدر، واختار من الأيام أياماً جعلها أياماً معدودات، لنذكر الله عزَّ وجلَّ فيها، ونسارع فيها إلى الطاعات والقربات .. هي أيام شهر ذي الحجة الأُوَل، وجعل فيها خير يوم عند الله وعند ملائكة الله وعند الناس .. وهو يوم عرفة!!
فسبحان من فضل وله ذلك، ويا هناءة من رضي بما قدر الله وسارع في العمل بما يحبه ويرضاه .. فله البشرى في الحياة الدنيا والآخرة.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، إمام الأنبياء وتاج الأصفياء، الذي جمَّل الله عز وجل جسمه بالضياء، وقلبه بالنور والبهاء، وسرَّه ورُوحَه بأنوار المعراج والإسراء، وجعله في الدنيا إماماً لأهل الأرض والسماء، وفي الآخرة شفيعًا لجميع المخلوقات بما فيهم الرسل والأنبياء.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا جميعًا خالص محبته، واجعلنا من أهل جوار أحبته، وارزقنا في الدنيا العمل بخُلقه وشمائله وسيرته، واجعلنا في الآخرة من أهل شفاعته وفي الجنة من أهل جواره في جنته أجمعين، أمين .. آمين يا رب العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
من فضل الله عز وجل علينا جماعة المسلمين هذه الأيام المباركة التي تهل علينا أجمعين ليالي وأيام شهر ذي الحجة، والتي بلغ من فضلها ومنزلتها عند الله أن الله عز وجل أقسم بها في كتاب الله ليلفت نظرنا إلى فضلها، وليعرفنا مبلغها عند الله، فنسارع في إحياءِها بالطاعات والقربات التي يحبها الله جل في علاه.
قال الله تعالى فيها
(وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (الفجر-1: 3)
جعل الله هذه الأيام أفضل الأيام،
حتى قال فيها صلى الله عليه وسلم:
(أفضل أيام الدنيا أيام العشر - يعني عشر ذي الحجة - قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله، إلا من عفّر وجهه في التُراب) (رواه الهيثمي عن جابر).
لأن فيها كل الطاعات والقربات لله؛ فيها الصلاة، وفيها الصيام، وفيها الصدقة، وفيها الطواف والسعي والوقوف بعرفة، والحج لبيت الله الحرام، وفيها ذكر الله وتسبيح الله والاستغفار لله، وفيها الدعاء لله، فيها كل أعمال البر والخير التي طالبنا بها الله والتي ننال بها الفضل الكريم والثواب العظيم يوم لقاء حضرة الله جلَّ في علاه.
وربما يظن طائفة من المسلمين أن خصوصية هذه الأيام لمن كتب الله له هذا العام أداء فريضة الحج، لكن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم جعل هذا الفضل الإلهي للحجاج الذين يحجون بيت الله الحرام، ومن يتشبهون فيهم وبهم في العمل في بلاد المسلمين كافة خلال هذه الأيام،
قال صلى الله عليه وسلم:
(ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل منه في عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) ( رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس وابن ماجة في سننه ).
وبين فضل العمل الصالح فيها نبيُّنا صلوات ربي وتسليماته عليه، فقال صلى الله عليه وسلم في الروية الأخرى:
(مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُل يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُل لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (رواه الترمذي وابن ماجة عن ابي هريرة ).
... فأكثروا فيها التسبيح والتكبير والتهليل لله عز وجل، فهي أيام ذكر لله، وأيام المسارعة في الطاعات التي كلفنا بها الله، وتنافس في النوافل والقربات التي حثنا عليها رسول الله، وهي التي قال لنا فيها الله في كتاب الله:
(وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) [البقرة : 203]
فهي الأيام المعدودات التي أمرنا الله أن نجعلها كلها لذكر الله عز وجل؛ نصوم فيها ما تيسر، ولا نسهو عن صيام يوم عرفة لأنه يعدل صيام سنتين، ونكثر فيها من الذكر- التسبيح وتلاوة القرآن والصلاة على النبي العدنان، والاستغفار الدائم لحضرة الرحمن - ونكثر فيها من الصدقات على الفقراء والمساكين، وأعمال البر والصلة، سواء للأبوين أو لذوي الرحم أو الجيران أو الأقربين، نجعلها كلها أعمال طاعة ومبرة لله رب العالمين، طاعة لله عسى الله أن يعمنا فيها برحمته التي يتنزل بها على المسلمين، ويتفضل علينا بهباته وعطاءاته التي ينزلها على قلوب عباده المخلصين
وإذا كان الله عز وجل أوجب على الحجيج التلبية لله في هذه الأيام فقد أوصانا بقية المسلمين.
التكبير لله في هذه الأيام، فالتكبير لله عز وجل كان يبدؤه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصفوة الأصحاب من أول شهر ذي الحجة، كان يدخل السوق فيكبر ويكبر كل أهل السوق لتكبيره، و يسيرون في الطرقات يكبرون، وكلما خرجوا أو دخلوا يكبرون.
وجعل الله عز وجل المسلم في هذه الأيام العشر بالإضافة إلى التكبير يتشبه بالحج في أمور كثيرة - منها على سبيل الاستحباب:
- أن الله جعل على الحاج هديً يذبح في البيت الحرام، وجعل على المسلم المتيسر هنا الأضحية يذبحها عقب صلاة العيد - إلى اليوم الرابع - ويحاسبه إذا تركها وعنده سعة!! قال صلى الله عليه وسلم:
(من وجد سعة ولم يضحي فلا يقربن مصلانا)
( رواه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وغيرهم )
أما الفقير فيسر الله عز وجل عليه، فليس عليه أن يضحي إلا إذا وجد مالًا فائضًا عن حاجته وضروريات وحاجات أهله، لكنه لا يستدين ليفعل ذلك، ولا يكلف نفسه ليقوم بذلك،
وإنما يفعل ذلك إذا يسَّر الله له أمر هذه النسك الكريم، بأن وجد في بيت شيء يستطيع أن يضحي به، على أن يوافق شرع الله عز وجل، بأن يكون بلغ العام إن كان من الماعز أو الغنم، وأن يكون سمينًا، وأن لا يكون فيه عيب؛ لا عوراء ولا جعدا ولا غير قرناء ولا مريضة، وإنما ينبغي أن تكون سليمة خالية من العيوب، يضحي بها لله عز وجل، ويكون الذبح بعد صلاة العيد، لقول رب العزة عز وجل:
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر) (2 الكوثر )
قال صلى الله عليه وسلم في خطبة العيد في المدينة المنورة:
( أول ما نفعل في يومنا هذا أن نؤدي الصلاة لله، ثم نذبح هدينا، فمن ذبح قبل الصلاة فهو لحم قدمه لأهله) (رواه البخاري ومسلم والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب)
ليس من النسك في شيء، أي ليس له الأجر والثواب الذي جعله الله عز وجل لمن يضحي في هذا اليوم، والأجر والثواب يأتي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْساً) (رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم عن عائشة رضي الله عنها).
وقال لابنته التقية السيدة فاطمة رضي الله عنها:
(يَا فَاطِمَةُ، قُومِي فاشْهَدِي أُضْحِيَتَكِ، فَإنَّ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ، أَمَا إنَّهُ يُجَاءُ بِلَحْمِهَا وَدَمِهَا تُوضَعُ فِي مِيزَانِكِ سَبْعِينَ ضِعْفاً). قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذَا لآِلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، فَإنَّهُمْ أَهْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: (لآِلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً) (رواه البزار وابن حبان)
فيغفر بها الله الذنوب، ويجعل الله كلها حسنات في ميزان العبد يوم يجمع الله الناس لأجل معلوم وميقات محدود - وهو يوم القيامة إن شاء الله
فالمسلم هنا يضحي، والحاج هناك يذبح هديه،
والحاج يغفر الله عز وجل له الذنوب، والمسلم هنا إذا صام يوم عرفة غفر الله له ذنوب سنتين، وإذا ضحى يغفر الله له كل ذنب فعله
ويوم عرفة يوم إجابة الدعاء لمن يدعو الله بإخلاص وصدق نية، سواء كان هنا أو هناك، لأن الله عز وجل يجعل هذا اليوم يومًا يباهي به ملائكة السماء فيقول:
(يَا مَلائِكَتِي، انْظُرُوا إلى عِبَادِي شُعْثاً غُبْراً، أَقْبَلُوا يَضْرِبُونَ إليَّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، وَشَفَعْتُ رَعِيَّتَهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنِيهِمْ جَميعَ مَا سألوني) (رواه ابو يعلي في مسنده والخطيب في المتفق والمفترق عن أنس).
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
(أفضل الأيام يوم عرفة) (رواه ابن حبان عن جابر رضي الله عنه)
(ما من يوم أكثر لله فيه عتقاء من النار منه في يوم عرفة)
فسارعوا إلى إحياء هذه الليالي والأيام بما يحبه الله عز وجل حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم استحب للمسلم - فليس هذا بواجب لكن مستحب - للذي عنده أضحية بأن يتشبه بالحجيج، فإذا كان أول يوم من شهر ذي الحجة لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره تشبهاً بالحجيج، عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)
(أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي)
غير أن هذا كما قلت مستحب وليس واجب، فمن تركه فليس عليه شيء ولا ينقص من أجره شيء، وإن فعله فيفعله تشبهًا بحجاج البيت الحرام.
نسأل الله عز وجل أن يكتب لنا أجمعين الحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة روضة الحبيب المصطفي عليه أفضل الصلاة أتم السلام، قال صلى الله عليه وسلم:
(من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)
أو كما قال، (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)
الخطبة الثانية
-------------
- الحمد لله رب العالمين .. الذي أكرمنا بنعماه، وملأ قلوبنا بتقواه، ووفقنا لعمل البر والخير الذي يحبه ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بالخيرات والطاعات، وهو وحده الذي يوفقنا لعمل ذلك، ونهانا عن المعاصي والمخالفات، وبيده وحده عز وجل حفظنا من الوقوع في ذلك.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه، خير من صلى وصام، وحج واعتمر لبيت الله الحرام.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هداه، ووفقنا للعمل بشرعه في الدنيا واجعلنا من أهل شفاعته يوم نلقاك يا الله.
أيها الأخوة المؤمنون:
ما دام الله عز وجل قد رسم لنا منهجه لنتشابه فيه بالحجيج - لنحظى بإجابة الدعاء وتحقيق الرجاء، وغفران الذنوب وستر العيوب، وقضاء الحاجات -
يلزمنا أجمعين أن نتأدب - مع أنفسنا ومع إخواننا وكل من حولنا في هذه الأيام بالآداب التي فرضها الله عز وجل على حجاج بيت الله الحرام والتي يقول فيها الله عز وجل:
(فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197]
ينبغي في هذه الأيام أن نترك بالكلية الرفث
والرفث: هو الكلام الزائد عن الحاجة مع النساء، أو الكلام بين الرجال في شأن خاص بالنساء والجنس وما شابه ذلك، لا ينبغي للمسلم في هذه الأيام أن يتحدث في ذلك. وإنما يترك ذلك بالكلية ليتفضل الله عز وجل عليه بأجر حج بيت الله الحرام.
- والفسوق: هو الخروج عن طاعة إلى معصية. فنبتعد عن المعاصي بالكلية التي أمرنا الله عز وجل بتركها، ونهانا عن الاقتراب منها وعن فعلها، فنتوب إلى الله عز وجل في هذه الأيام من الكذب وقول الزور، ومن الغيبة ومن النميمة، ومن السرقة ومن ظلم العباد باليد وغيرها، ومن كل المعاصي التي كلفنا الله عز وجل إن أردنا النجاة بتركها، وننتهي عن الجدال بالكلية في الأيام.
والجدال هو النقاش الحاد الذي يصحبه عصبية، وكل واحد يريد أن ينتصر لرأيه وأن يسفه رأي غيره الذي يتحدث معه. فنترك الجدال بالكلية؛ إن كان في أمر من أمور الدين واختلفنا في قضية نرجع للعلماء العاملين يفصلوا بيننا دون وقوع بعضنا في بعض، ونتجنب الخلافات السياسية والحزبية، ونتجنب الخلافات بالكلية، حتى في البيع والشراء أو في أي أمر، لأن الجدال يورث الأحقاد والضغائن في القلوب.
وعلينا بعد ذلك أن نتزود بالزاد، وخير الزاد عند الله هي التقوى، والأعمال التي توصل للتقوى هي السنن والنوافل التي سنَّها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
نسأل الله أن يحفظنا أجمعين من المعاصي والفتن ما ظهر بها وما بطن، وأن يوفقنا لفعل الخيرات، واستباق الصالحات، والمسارعة في النوافل والقربات ....
... ثم الدعاء ...
---------------------------------------------------
للمزيد من الخطب الدخول على موقع فضيلة الشيخ فوزي محمد أبو زيد