إن شهر رمضان هو مدرسة التقوى التي يقول فيها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مبيناً لنا المنهاج فيها: {إذا صمت ليصم سمعك وبصرك ولسانك ويدك}(1)، وتقوم المدرسة الإيمانية بالتدريب العملي على هذه الأعمال التقية النقية لمدة شهر كامل
تأمرك فيه تعاليم المدرسة ألا تغضب إذا استغضبت، وألا ترد إذا شتمت، حتى إذا شتمت تقول لك لا ترد بالمثل بل قل: { إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ }(2)، أي إني طالب فى هذه المدرسة الإيمانية، ومشترك في هذه الدورة الروحانية،
ومن مواد دراستي التى ألتزم بها وبتطبيقها أننى صائم عن الخطايا، وصائم عن الدنايا وصائم عن الأخلاق الفاسدة بالإضافة بالطبع إلى صيام المعدة عن الطعام والشراب. فإذا خرجت من هذا الشهر وقد طبقت هذا البرنامج التدريبى شهراً كاملا
كنت كذلك إذا خاطبك إنسان بالقبيح انصرفت عنه ولم تقابله إلا بكل خير ومليح، وكنت كما قال ربُّ العالمين (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (63الفرقان).
ولذا دعونا ننظر إلى رجل واحد من الذين تخرجوا من هذه المدرسة، والذي فيه الأسوة لنا أجمعين، نأخذ مثالاً واحداً من الصف الأول الذين تخرجوا من هذه المدرسة،
والذين نجد أوسمتهم معلقة في صدور الملكوت الأعلى لمن خلفهم، وهو الإمام عليٌّ رضي الله عنه وكرم الله وجهه، يأتي إليه رجل ويأخذ يسبّه ويشتمه ويزيد عليه، وهو لا يلتفت إليه ولا يكلمه، حتى إذا وصل إلى الشارع الذي به نزله التفت إليه وقال: يا أخا الإسلام إن كان عندك شئ آخر فأت به قبل أن يراك أحد من الأولاد فيؤذيك، فتعجب إنسان كان يراقب الموقف من بعيد، وقال: يا أمير المؤمنين إلى هذا الحد قال وأكثر من هذا:
يخاطبني السفيه بكل قبح
فأكره أن أكون له مُجيباً
يزيد سفاهة وأزيد حلماً
كعود زاده الإحراق طيباً
إنه تعلم في مدرسة الصوم: ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (134آل عمران)، انظروا إلى العالم أجمع من يعلِّم هذه التعاليم؟ من يُدرِّب عملياً أبناءه وطلابه على هذه الأخلاق العلية وعلى هذه التعاليم الربانية إلا ربّ البرية ونبيُّه المصطفى خير البرية صلَّى الله عليه وسلَّم في شهر التقوى والدورة الإيمانية
ثم انظروا إلى موقف آخر في تقواه حتى مع عدو من أعداء الله، هذا كان موقف مع رجل من أهل الإيمان، وهذا موقف مع رجل من أعداء الرحمن عزَّ وجلَّ، التقى مع فارس من فرسان الكفار في معركة حربية، وحدث بينهما مبارزة فتقاتلا حتى وقع فرسهما، ثم نزلا وتقاتلا بالسيف حتى تكسر سيفيهما، ثم دخلا في مصارعة وانتهت بأن حمله الإمام عليٌّ وأوقعه على ظهره وبرك فوقه، وأخرج خنجره ليقتله بعد هذه المعركة الشرسة، وإذا الرجل يتْفل في وجهه (يبصق)3) ماذا فعل الإمام عليّ؟ قام وترك الرج
فتعجب الرجل وقال: كيف تركتني بعد أن تمكنت مني؟، اسمعوا إلى خريج مدرسة الإيمان والتقوى ماذا يقول؟ قال: كنت أقاتلك لله سبحانه وتعالى فلما تفلت في وجهي خفتُ أن أقتلك انتقاماً لنفسي فأحرم الأجر من ربي سبحانه وتعالى، فقال: وهل تراقبون الله في هذه المواطن؟، قال: وفي أدّق منها.
خرجوا من مدرسة التقوى ومعهم الرقيب ومعهم قول الرجل الصالح:
- إذا ما خلوْتَ ، الدّهرَ، يوْماً، فلا تَقُلْ
- خَلَوْتُ، ولكِنْ قُلْ عَليّ رَقيبُ
- ولا تَحسبَنّ اللّهَ يُغْفِلُ ما مضَى
- وَلا أنّ ما يَخفَى عَلَيهِ يَغيبُ
- فَيا لَيتَ أنّ اللّهَ يَغفِرُ ما مضَى
- ويأذَنُ في تَوْباتِنَا، فنَتُوبُ
- فأحْسِنْ جَزاءً ما اجْتَهَدتَ فإنّما
- بقَرْضِكَ تُجزَى والقُرُوضُ ضُرُوبُ
ولذا أكرمهم الله وجعل لهم حفل تكريم إلهي في يوم الجائزة، وهو يوم الفطر، فيستعدون للتكريم ويجلسون بين يدي المولى سبحانه وتعالى بالخشوع والتعظيم، فيحضر معهم الملائكة الكرام! ويحفّونهم بأجنحتهم ويوقظونهم من بيوتهم، ويخرجون في صبيحة هذا اليوم ويقفون على أبواب الطرقات ويقولون: يا أمة محمد، أخرجوا إلى ربٍّ كريم يعطي الأجر الجزيل ويغفر الذنب العظيم. وآخرون يجلسون على أبواب المساجد ومعهم سجلات التشريفات الإلهية يسجلون فيها كل من حضر إلى ديوان ربِّ البرية، ليسجل اسمه في القصر الإلهي في بيت الله وبيت الله هو المسجد وزواره هم ضيوف الله، وهم عمار المساجد، يسجلون أسماءهم في ديوان التشريفات.
فإذا دخل الإمام غلقت الصحف وطويت وجفت الأقلام، وجلسوا معهم يصلون معهم صلاة الشكر لله، وهي صلاة العيد، فما هي إلا شكر لله على نعمة التوفيق للصيام، وعلى نعمة التوفيق للقيام، وعلى نعمة المغفرة للذنوب، وعلى نعمة رفع المقامات عند الحبيب المحبوب،
فيشكرونه فإذا شكروه استمعوا إلى الواعظ وهو يذكرهم بفضله سبحانه وتعالى عليهم، وبنعمه السابغة عليهم، فإذا انتهوا من هذا المقام، وشكروا الله على ما أولاهم، وعظموه على ما أعطاهم، استمعوا إليه وهو يقول: { يَا عِبَادِي سَلُونِي، فَوَعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئاً فِي جَمْعِكُمْ لآِخِرَتِكُمْ إلاَّ أَعْطَيْتُكُمْ، وَلاَ لِدُنْيَاكُمْ إلاَّ نَظَرْتُ لَكُمْ، انصرفوا مغفوراً لكم، لقد أرضيتموني ورضيت عنكم )(.4)
هذا الموقف الكريم هو صلاة العيد؛ حفل تكريم للمؤمنين، يشهده ربُّ العالمين ويشهده الملائكة المقربون، ويشهده جميع عباد الله الصالحون في ملك الله وملكوته، فإذا دُعيت لهذا الحفل فأحيي ليلة العيد لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: { مَنْ أَحْيَا ليلةَ الفِطرِ وليلةَ الأضحى لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يومَ تَمُوتُ القُلُوبُ }(5)
لا تحييها بجوار التليفزيون، أو تحييها بالانهماك في الملذات، ولكن أحييها بالاستغفار على ما فات، وأحييها بالشكر على ما هو آت.
فأنت مقبل على حفل تكريم الله على ما صنعت في هذا الشهر الكريم وأنت في هذا الشهر الكريم ربما قصرت وربما هفوت وربما أذنبت فتقضي هذه الليلة في التوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، والاستغفار بين يدي الله على ما حدث منك من ذنوب وسيئات في هذا الشهر فإذا أصبح الصباح اغتسلت، ولبست أحسن ما عندك من الثياب، وتطيبت وخرجت من بيتك، وأنت تلبي نداء الله، وتكرر ما أخبرك به رسول الله، تخرج من البيت وأنت تعظم الله وتقول:
{ الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً } وتكرر هذا الكلام في بيتك وفي طريقك حتى تصل إلى بيت الله، فتجد إخوانك في انتظارك يكررون هذا الكلام، ولذا يكون حال المسلمين في تلك الساعة في بيوتهم وفي شوارعهم وفي مساجدهم الكل يلهجون بالتكبير للعلي الكبير سبحانه وتعالى.
وقبل أن تخرج لأداء هذه الصلاة تتأكد من إخراج الزكاة لأنها حق الفقراء والمساكين، وبها يطيب عملك ويُرْفع ديوانك إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، فلا تخرج من بيتك إلا وقد تأكدت بأنك قد وفيتها حقها وأخرجتها إلى مستحقها،
فإذا صليت مع المسلمين فاجلس لسماع الوعظ من العلماء العاملين فتلك سنة خير المرسلين، وبعد هذه السنة الحميدة تذهب إلى إخوانك المسلمين تصافحهم وتسلِّم عليهم.
وعبادة هذا اليوم المخصوصة هي المصافحة ليست قراءة القرآن، وليست الصلوات النّفلية، وليست أي أنواع أخرى من العبادات عبادة يوم العيد هي مصافحة المسلمين وتهنئتهم بهذه المناسبة الكريمة، والمصافحة نفسها ما أجرها؟ يقول فيها صلَّى الله عليه وسلَّم: { إنَّ المُسْلِمَ إذَا صَافَحَ أَخَاهُ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا - أي نزلت ذنوبهما - كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ}05)، أى كما ينزل ورق الشجر
والعبادة الثانية هى النظر، إذا نظر المسلم في وجه أخيه نظرة حب وصفاء ومودة كم في هذه من الأجر؟ استمع إلى الرسول الكريم وهو يقول: { نظرة في وجه أخ في الله على شوق خير من اعتكاف في مسجدي هذا عاماً }(6). فعبادتكم في ذلك اليوم النظر في وجوه المسلمين بالبشاشة وبالمحبة والسرور، بالبشر والترحاب، ومصافحة المؤمنين، والتواد بين المؤمنين، وصلة الأرحام، والعطف على الفقراء والمساكين والأيتام.
تلك هي عبادتكم طوال هذا اليوم الكريم، فإذا رجعت إلى بيتك ترجع إليه من طريق غير الطريق الذي ذهبت منه إلى المسجد لأداء صلاة العيد.
تلك هي سنن العيد نجملها فيما يلي: إحياء ليلة العيد في طاعة الله، الحلق والتقصير، تقليم الأظافر، الاغتسال ليلة العيد أو في صبيحة العيد، التطيب يعني وضع الرائحة العطرة، التكبير من بعد صلاة الفجر إلى حين رقي الإمام إلى المنبر، مصافحة المسلمين والتوادد والتحابب بين المؤمنين، العطف على الفقراء والمساكين كسُنَّة خير المرسلين،
فإنه مرَّ في يوم العيد فوجد غلاماً منتبذاً وحيداً لا يلعب مع بقية الصبيان، فقال له: يا غلام لم لا تلعب مع الصبيان؟، قال: لأني يتيم ليس لي أب ولا أم، فأخذه صلَّى الله عليه وسلَّم وربَّت عليه قائلاً: أما ترضى أن أكون لك أباً، وعائشة لك أماً، وفاطمة لك أختاً؟
فأخذه وأبدله بالسرور والحبور، وجعله يحس ببهجة العيد وبمعنى العيد كما يحس به جموع المؤمنين. ثم يرجع إلى بيته من طريق آخر، تلك هي سنة العيد فحافظوا عليها، وقوموا بها، يرحمنا الله وإياكم، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى جعل للصائم دعوة لا ترد.
]
(1)عن جابر في مصنف ابن أبي شيبة.
(2)عن أبي هريرة في مسند أبي يعلى.
(3)عن ابن عباس، رواه الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب والبيهقي.
(4)عن أبي الدرداء. رواه البيهقي في السنن الكبرى.
(5)عن البراء بن عازب، رواه أبو داود في السنن والبيهقي.
(6)عن ابن عمرو، رواه السيوطي.
http://www.fawzyabuzeid.com/table_books.php?name=%C7%E1%CE%D8%C8%20%C7%E1%C5%E1%E5%C7%E3%ED%C9_%CC5_%D1%E3%D6%C7%E4_%E6%DA%ED%CF_%C7%E1%DD%D8%D1&id=39&cat=3
[URL="http://www.fawzyabuzeid.com/downbook.php?ft=pdf&fn=Book_Khotab_elhameya_V5_Ramadan_Eid_elfeter.pdf&id=39"]
منقول من كتاب {الخطب الإلهامية_ج5_رمضان_وعيد_الفطر}
اضغط هنا لقراءة أو تحميل الكتاب مجاناً
[/URL]
https://www.youtube.com/watch?v=yyLeveAWfA8