تابع القدوة
==============
كيف تُحفظ على المنهج القويم والطريق المستقيم؟
أن تتذكر دائماً أنك قدوة لأولادك ولزوجتك ولبناتك، ثم لجيرانك ولأحبابك من حولك ... لماذا لا تحضر مجالس الصالحين يا فلان؟ يقول: إن فلان وفلان لا يحضرون، فما شأنك أنت بهم؟!
أنت مسئول عن نفسك، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا:
{ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغَرِ الْإِسْلَامِ،
اللَّهَ اللَّهَ لَا يُؤْتَى الْإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِكَ } (١) .
وفي بعض الأثر روى:
( فإن تهاون إخوانك فاشدد أنت لئلا يُؤتي الإسلام من قِبَلِك ) .
أنا أحضر لأُنفذ أمر الله، وأمر رسول الله، فإذا حضر فلان أو لم يحضر لا شأن لي به، ولا أقتدي به، ولكن نقتدي بأهل الهُدى، وأهل المنهج القويم والصراط المستقيم.
أنا احتجت لمبلغ من المال، فهذا يوسوس لي، وهذا يُزين لي ويقول: اذهب إلى البنك واقترض منه، فأقول: إن القرض من البنك حرام، فيقول: وهل أنت أفضل من الشيخ فلان، فهو يخطب الجمعة واقترض، والشيخ فلان مدرس في الأزهر واقترض، فما شأني بفلان أو غيره، رب العزة قال في هذا الأمر في كتاب الله فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ). (279البقرة) وهل أقدر على حرب الله ورسوله؟!
فلماذا أضع نفسي في هذا الأمر؟ فليس لي شأن بغيري، لأن غيري غير منتبه، وألقى بنفسه تحت القطار أو تحت السيارة، فهل أقلده؟!!.
ولكن أمشي كالصالحين والمتقين والمفلحين، حتى يأتي يوم القيامة فينادون عليَّ ويقولون: امشي مع هؤلاء يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا ) (85 : مريم) فهذا وفدَك، وعند الجنة ينادون: امشي مع هؤلاء الذين اتقوا ربهم : ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) (73: الزمر) يعني جماعة مع بعضهم.
إذا يجب على الإنسان منا أن يزن دائماً نفسه بهذا الميزان، ولا يتركه من قلبه طرفة عينٍ ولا أقل، وهذا يقتضي بأنه يضع أمامه صورة الحبيب الأعظم، كيف أتكلم؟ كما كان يتكلم، كيف أعامل زوجتي؟ كما كان يعامل نساءه، كيف أعمل أولادي؟ كما كان يعامل أولاده، وكذلك جيراني وإخواني، وكيف أمشي؟ وكيف أنام؟ وكيف آكل؟ فأُراجع نفسي بالقدوة الأعظم صلى الله عليه وسلم .
فإذا مشيتُ على هذا المنهاج فقد مشيتُ على هُداه، وأصبحتُ صورة على قدري من معاني حضرته، وما دمتُ قد أصبحتُ صورة من معاني حضرته، فقد أصبح لي الحق في أن أكون في كشوف ورثته، أي صورة منه، وعلى الفور عندما يأتي إعلام الوراثة الإلهي أكون فيه ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ ) (32فاطر).
فأجد نفسي موجود في الكشف ويقال لي: هذا نصيبك من العلم النبوي، ونصيبك من النور الإلهي، ونصيبك من السر الرباني، ونصيبك من التجلي الأحدي، فتأخذ أنصبتك على قدرك، وكلما زدتَ في التخلق تزيد في التعلق، وتزيد في التحقق، وتزيد في حقوق الميراث التي تحصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحُسن الاقتداء بحضرته.
فهذا هو الميزان، .... وقد سُقت نماذج بسيطة ..... لكن التفصيل واسع ...
وهذا هو الباب لوصلة الأحباب
فإذا نسيت في أي لحظة أنك قدوة، فإنك ستخضع للنفس والأهواء وتقع في السهو والنسيان والخطأ وما أُستكره عليه، لأن هؤلاء سيلعبون بك، وإذا لامتك نفسك سيُئَوِّلون لك، وتظل ماشياً على هذا المنوال وأنت تظن أنك في عين القرب!، وأنت في الحقيقة في عين أعيان البُعد والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فالميزان الذي نريد أن نزن به أنفسنا - ولا نزن به غيرنا - أن أتذكر دائماً أنني قُدوة، فإذا أذن الأذان وأنا بين أولادي لا أتركهم وأذهب لأُصلي وحدي بل أقول لهم: هيا نصلي معاً في المسجد، ولكن باللطف وباللين، وهكذا.
سؤال: ما شأن من ينظر لعيوب غيره ولا يرى عيوب نفسه؟
قيل: (من نظر في عيب نفسه لم ير عيوب غيره) وحضرة الرسول قال ذلك:
{ طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ } (٢) .
وهل انتهيتُ من عيوبي حتى أبحث عن عيوب غيري؟! فكل واحد منَّا يُسلط كاميراته الظاهرة والباطنة التي فيه على نفسه، فينظر في عيوبه ويُصلحها، فإذا انتهيتُ من إصلاح نفسي أبحث عن إصلاح غيري، لكن النفس تشغلنا بأن فلان عيوبه كذا، وفلان عيوبه كذا، فانشغلتُ، وهل بحثتُ عن عيوبي؟ لا.
وإذا أهدى إنسان لي هدية، كما قال سيدنا عمر:
(( رحم الله امرُءاً أهدى إليَّ عيوب نفسي ))
جعلها هدية !!
فإذا أظهر لي عيوب نفسي فهل أتخذ منه موقفاً وأُخاصمه وأُقاطعه؟!!
وأقول: كيف يُظهر لي أن فيَّ عيوب؟!!
لكن رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوب نفسي،... !!! فالمؤمن دائماً مشغولٌ بعيوب نفسه.
ولذلك حتى الصالحون كانوا كذلك، فالإمام البوصيري رضى الله عنه وأرضاه، الذي كان يرى سيدنا رسول الله في المنام، والذي مسح عليه عندما أُصيب بالشلل فشُفي في الحال، وقال قصيدة البُردة التي لها الشهرة العظيمة .
وهذه الشهُرة تكون علامة رضا الله.
الإمام الشعراني رضى الله عنه وأرضاه عندما سُئل:
المذاهب الفقهية أكثر من ثلاثين، فلماذا اشتهر هؤلاء الأربعة؟
فقال: لصدق أصحابها وتقواهم ورضا الله تبارك وتعالى عنهم، أيدهم وشهرهم.
الصلوات على النبي كثيرة جداً .. فلماذا (دلائل الخيرات) للجازولي هي التي اشتهرت؟ قال أيضاً: لصدق صاحبها !!
لأنه صدق مع الله، مع أنها صلوات عادية، ولكنها رُزقت حب الناس، والحب رزقٌ من الله، فسيدنا رسول الله عندما تكلم عن السيدة خديجة رضي الله عنها قال:
{ إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا } (٣) .
فلكي أكون من هؤلاء الأقوام لا بد أن أشتغل بنفسي، والإمام البوصيري بعد أن قال هذه البُردة كلها قال:
أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به
وما استقمت فما قولي لك استقمِ.
هذا هو كلام الصالحين ..
وهو دليل الصلاح والتُقى:
يجاهد نفسه!
ومن يرى نفسه لن ينل أُنسه.
لكن لا بد للإنسان أن يجاهد نفسه، كيف؟ يُسلِّط عينه على عيوب نفسه، وعلى حسنات إخوانه، وليس لي شأنٌ بعيوبهم، وأُلقي وراء ظهري حسناتي حتى لا أراها فاغترُّ وأنضرُّ وكذلك عيوب إخواني، فا أنشغل بالبحث عن هذه العيوب، فهذه العيوب إذا كانت ذنوب فأمرها موكل إلى حضرة علام الغيوب.
وكان كثيرٌ من الصالحين نراهم ونسمعهم يعملون أعمالاً ظاهرها غير مقبولة، وهي عند الله أقرب الأعمال إلى حضرة الرسول، ولكن الناس مشغولين عنها، يقول فيها الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وارضاه:
لي نوايا صرفتها في الـشرور
غير أني أوَّلُتها بالنور .
سافر شيخٌ من المشايخ إلى ليبيا في شهر رمضان واستقبله آلاف مؤلفة، فلما رأى كل هؤلاء الناس مجتمعين حوله فرحت نفسه، فأحب أن يؤدب نفسه، فقال لأحدهم أريد أن أشرب، والمسافر له أن يُفطر، لكن الآخرين لا يعرفون هذا الكلام، ويريدون شيخاً كما يريدون.
ولذلك كثيرٌ من الأحباب يجعل الواحد منهم الشيخ فوق مرتبة البشرية، فالشيخ عندهم يعني لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا أي شيء، لماذا يا بني؟! وأين البشرية؟! فيطلبك بالتليفون الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً، لماذا؟ يقول: لأنه شيخ لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، فهذا فكر غريب وأحوال عجيبة.
فشرب الشيخ الماء، فانفضَّ الجمع من حوله، لأنهم لا يرون إلا الظاهر، فهل أحدٌ منهم قال: إن الشيخ على سفر؟ لا، لأنهم غير موفقين في هذه الناحية.
فمثل هذه الأمور يلجأ إليها الصالحون وخاصة الذين يسمونهم الملامتية، الذين يلومون أنفسهم، وهم أكبر الدرجات عند رفيع الدرجات بعد سيد السادات صلى الله عليه وسلم ، ومن يلوم نفسه يعني يفتش على نفسه، وهذا مشغول عن البحث في عيوب غيره.
فلو سألني أحدكم عن فلان ماذا كان يلبس؟ أقول له: لا أعرف، فلا أنتبه لمثل هذه الأمور التي لا تشغلني، فيقول لي بعضهم: الجلباب الذي كنت تلبسه اليوم كان شكله كذا، فأقول له: لماذا تشغل نفسك بمثل هذا الجلباب؟ فهل أنت مشغول بالجلباب أم بصاحب الجلباب؟! شيئٌ غريب.
فشُغل الصالح بنفسه، يلوم نفسه لكي يخرج من لبسه وينال أُنسه، ويكون من كُمَّل المقربين، ولذلك يقولون: الأخ الذي تجده دائماً يذكر عيوب الآخرين، اعلم علم اليقين أنه ساقط من نظر رب العالمين، ولذلك تجده يخوض في هذا، ويخوض في هذا، فماذا بقي لك؟! لو كان معه حسنات ليل نهار فالشيكات التي ستتحول للآخرين لن تكفيهم، وليس عندنا وقت لهذا الكلام.
ومثلها تماماً أن الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه قال:
(( من أكثر من الحديث عن نفسه، فاعلم أن ذلك من نقصٍ في عبوديته، وأنه لن تكمل مرتبته عند الله عز وجل إلا إذا نسي نفسه
وأخذ يتحدث عن ربه وعن حبيبه صلى الله عليه وسلم )).
فأي واحد فينا عنده شيء من العلم هل يدعو الناس لنفسه؟! فماذا معي لأعطيه لهم؟! وماذا أفعل لهم؟! لكن أنا أدعوهم إلى طريق النبي، وحضرة النبي يدعوهم لله رب العالمين ... وما الذي ضيَّع المسلمين؟
أن كل واحد يريد أن يدعو الناس لنفسه هو، وماذا يفعلون بك؟! لكن أنت وأنا لو اتفقنا على هذا المنهاج ودعونا الخلق إلى رسول الله، فهل تحدث فُرقة أو مشاكل أو فتن أو ما شابه ذلك؟ أبداً.
لكن كل واحد منهم يريد أن يقف الناس عنده هو!!
ويغضب من الواحد منهم عندما يتركه ويذهب لآخر أو ثالث، مع أن المهم أنه ذاهب لرسول الله ولشرع الله، فطالما أنه ذاهب لرسول الله فيا هناه.
ونحن كلنا هل سندخل الجنة من باب واحد؟
لا، سيدنا يعقوب قال لأولاده وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ) ((67يوسف)
لأن نفوسنا متباينة ..
فكل واحد يدخل من باب!!!
أنت تريد أن يدخل الناس كلهم من باب واحد، ولا يجوز ذلك !
فأنت ترى أن بابك هو باب الأبواب ... فهذا لك، ولا تُجبر عليه غيرك، ولا تلوم على عدم السير فيه غيرك ..
لكن أنت مشيت فيه، فاترك الآخر يمشي من الباب الذي يستريح فيه ..
وهذا حال الصالحين.
المهم أن الإنسان ينشغل بعيوب نفسه.
وأول شيء كما قلت في البداية:
أن يرى نفسه أنه قدوة ..
وهل هو الآن قدوة كما ينبغي أم يحتاج أن يُكمَّل؟؟
وذلك قبل أن يجعل نفسه شيخاً!!!، حتى إذا اقتدى به أحدٌ يقتدي به كما ينبغي!، وبهذا يمشي الإنسان على المنهج القويم إلى الرءوف الرحيم عز وجل
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
================================== .
(1) السُنَّة للمروزي .
(2) مسند البزار ومسند الشهاب عن أنس رضي الله تعالى عنه .
(3) صحيح مسلم وابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
=====================================
من كتاب ( همة المريد الصادق )
لفضيلة الشيخ / فوزى محمد أبوزيد
==============
كيف تُحفظ على المنهج القويم والطريق المستقيم؟
أن تتذكر دائماً أنك قدوة لأولادك ولزوجتك ولبناتك، ثم لجيرانك ولأحبابك من حولك ... لماذا لا تحضر مجالس الصالحين يا فلان؟ يقول: إن فلان وفلان لا يحضرون، فما شأنك أنت بهم؟!
أنت مسئول عن نفسك، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا:
{ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغَرِ الْإِسْلَامِ،
اللَّهَ اللَّهَ لَا يُؤْتَى الْإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِكَ } (١) .
وفي بعض الأثر روى:
( فإن تهاون إخوانك فاشدد أنت لئلا يُؤتي الإسلام من قِبَلِك ) .
أنا أحضر لأُنفذ أمر الله، وأمر رسول الله، فإذا حضر فلان أو لم يحضر لا شأن لي به، ولا أقتدي به، ولكن نقتدي بأهل الهُدى، وأهل المنهج القويم والصراط المستقيم.
أنا احتجت لمبلغ من المال، فهذا يوسوس لي، وهذا يُزين لي ويقول: اذهب إلى البنك واقترض منه، فأقول: إن القرض من البنك حرام، فيقول: وهل أنت أفضل من الشيخ فلان، فهو يخطب الجمعة واقترض، والشيخ فلان مدرس في الأزهر واقترض، فما شأني بفلان أو غيره، رب العزة قال في هذا الأمر في كتاب الله فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ). (279البقرة) وهل أقدر على حرب الله ورسوله؟!
فلماذا أضع نفسي في هذا الأمر؟ فليس لي شأن بغيري، لأن غيري غير منتبه، وألقى بنفسه تحت القطار أو تحت السيارة، فهل أقلده؟!!.
ولكن أمشي كالصالحين والمتقين والمفلحين، حتى يأتي يوم القيامة فينادون عليَّ ويقولون: امشي مع هؤلاء يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا ) (85 : مريم) فهذا وفدَك، وعند الجنة ينادون: امشي مع هؤلاء الذين اتقوا ربهم : ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) (73: الزمر) يعني جماعة مع بعضهم.
إذا يجب على الإنسان منا أن يزن دائماً نفسه بهذا الميزان، ولا يتركه من قلبه طرفة عينٍ ولا أقل، وهذا يقتضي بأنه يضع أمامه صورة الحبيب الأعظم، كيف أتكلم؟ كما كان يتكلم، كيف أعامل زوجتي؟ كما كان يعامل نساءه، كيف أعمل أولادي؟ كما كان يعامل أولاده، وكذلك جيراني وإخواني، وكيف أمشي؟ وكيف أنام؟ وكيف آكل؟ فأُراجع نفسي بالقدوة الأعظم صلى الله عليه وسلم .
فإذا مشيتُ على هذا المنهاج فقد مشيتُ على هُداه، وأصبحتُ صورة على قدري من معاني حضرته، وما دمتُ قد أصبحتُ صورة من معاني حضرته، فقد أصبح لي الحق في أن أكون في كشوف ورثته، أي صورة منه، وعلى الفور عندما يأتي إعلام الوراثة الإلهي أكون فيه ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ ) (32فاطر).
فأجد نفسي موجود في الكشف ويقال لي: هذا نصيبك من العلم النبوي، ونصيبك من النور الإلهي، ونصيبك من السر الرباني، ونصيبك من التجلي الأحدي، فتأخذ أنصبتك على قدرك، وكلما زدتَ في التخلق تزيد في التعلق، وتزيد في التحقق، وتزيد في حقوق الميراث التي تحصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحُسن الاقتداء بحضرته.
فهذا هو الميزان، .... وقد سُقت نماذج بسيطة ..... لكن التفصيل واسع ...
وهذا هو الباب لوصلة الأحباب
فإذا نسيت في أي لحظة أنك قدوة، فإنك ستخضع للنفس والأهواء وتقع في السهو والنسيان والخطأ وما أُستكره عليه، لأن هؤلاء سيلعبون بك، وإذا لامتك نفسك سيُئَوِّلون لك، وتظل ماشياً على هذا المنوال وأنت تظن أنك في عين القرب!، وأنت في الحقيقة في عين أعيان البُعد والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فالميزان الذي نريد أن نزن به أنفسنا - ولا نزن به غيرنا - أن أتذكر دائماً أنني قُدوة، فإذا أذن الأذان وأنا بين أولادي لا أتركهم وأذهب لأُصلي وحدي بل أقول لهم: هيا نصلي معاً في المسجد، ولكن باللطف وباللين، وهكذا.
سؤال: ما شأن من ينظر لعيوب غيره ولا يرى عيوب نفسه؟
قيل: (من نظر في عيب نفسه لم ير عيوب غيره) وحضرة الرسول قال ذلك:
{ طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ } (٢) .
وهل انتهيتُ من عيوبي حتى أبحث عن عيوب غيري؟! فكل واحد منَّا يُسلط كاميراته الظاهرة والباطنة التي فيه على نفسه، فينظر في عيوبه ويُصلحها، فإذا انتهيتُ من إصلاح نفسي أبحث عن إصلاح غيري، لكن النفس تشغلنا بأن فلان عيوبه كذا، وفلان عيوبه كذا، فانشغلتُ، وهل بحثتُ عن عيوبي؟ لا.
وإذا أهدى إنسان لي هدية، كما قال سيدنا عمر:
(( رحم الله امرُءاً أهدى إليَّ عيوب نفسي ))
جعلها هدية !!
فإذا أظهر لي عيوب نفسي فهل أتخذ منه موقفاً وأُخاصمه وأُقاطعه؟!!
وأقول: كيف يُظهر لي أن فيَّ عيوب؟!!
لكن رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوب نفسي،... !!! فالمؤمن دائماً مشغولٌ بعيوب نفسه.
ولذلك حتى الصالحون كانوا كذلك، فالإمام البوصيري رضى الله عنه وأرضاه، الذي كان يرى سيدنا رسول الله في المنام، والذي مسح عليه عندما أُصيب بالشلل فشُفي في الحال، وقال قصيدة البُردة التي لها الشهرة العظيمة .
وهذه الشهُرة تكون علامة رضا الله.
الإمام الشعراني رضى الله عنه وأرضاه عندما سُئل:
المذاهب الفقهية أكثر من ثلاثين، فلماذا اشتهر هؤلاء الأربعة؟
فقال: لصدق أصحابها وتقواهم ورضا الله تبارك وتعالى عنهم، أيدهم وشهرهم.
الصلوات على النبي كثيرة جداً .. فلماذا (دلائل الخيرات) للجازولي هي التي اشتهرت؟ قال أيضاً: لصدق صاحبها !!
لأنه صدق مع الله، مع أنها صلوات عادية، ولكنها رُزقت حب الناس، والحب رزقٌ من الله، فسيدنا رسول الله عندما تكلم عن السيدة خديجة رضي الله عنها قال:
{ إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا } (٣) .
فلكي أكون من هؤلاء الأقوام لا بد أن أشتغل بنفسي، والإمام البوصيري بعد أن قال هذه البُردة كلها قال:
أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به
وما استقمت فما قولي لك استقمِ.
هذا هو كلام الصالحين ..
وهو دليل الصلاح والتُقى:
يجاهد نفسه!
ومن يرى نفسه لن ينل أُنسه.
لكن لا بد للإنسان أن يجاهد نفسه، كيف؟ يُسلِّط عينه على عيوب نفسه، وعلى حسنات إخوانه، وليس لي شأنٌ بعيوبهم، وأُلقي وراء ظهري حسناتي حتى لا أراها فاغترُّ وأنضرُّ وكذلك عيوب إخواني، فا أنشغل بالبحث عن هذه العيوب، فهذه العيوب إذا كانت ذنوب فأمرها موكل إلى حضرة علام الغيوب.
وكان كثيرٌ من الصالحين نراهم ونسمعهم يعملون أعمالاً ظاهرها غير مقبولة، وهي عند الله أقرب الأعمال إلى حضرة الرسول، ولكن الناس مشغولين عنها، يقول فيها الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وارضاه:
لي نوايا صرفتها في الـشرور
غير أني أوَّلُتها بالنور .
سافر شيخٌ من المشايخ إلى ليبيا في شهر رمضان واستقبله آلاف مؤلفة، فلما رأى كل هؤلاء الناس مجتمعين حوله فرحت نفسه، فأحب أن يؤدب نفسه، فقال لأحدهم أريد أن أشرب، والمسافر له أن يُفطر، لكن الآخرين لا يعرفون هذا الكلام، ويريدون شيخاً كما يريدون.
ولذلك كثيرٌ من الأحباب يجعل الواحد منهم الشيخ فوق مرتبة البشرية، فالشيخ عندهم يعني لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا أي شيء، لماذا يا بني؟! وأين البشرية؟! فيطلبك بالتليفون الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً، لماذا؟ يقول: لأنه شيخ لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، فهذا فكر غريب وأحوال عجيبة.
فشرب الشيخ الماء، فانفضَّ الجمع من حوله، لأنهم لا يرون إلا الظاهر، فهل أحدٌ منهم قال: إن الشيخ على سفر؟ لا، لأنهم غير موفقين في هذه الناحية.
فمثل هذه الأمور يلجأ إليها الصالحون وخاصة الذين يسمونهم الملامتية، الذين يلومون أنفسهم، وهم أكبر الدرجات عند رفيع الدرجات بعد سيد السادات صلى الله عليه وسلم ، ومن يلوم نفسه يعني يفتش على نفسه، وهذا مشغول عن البحث في عيوب غيره.
فلو سألني أحدكم عن فلان ماذا كان يلبس؟ أقول له: لا أعرف، فلا أنتبه لمثل هذه الأمور التي لا تشغلني، فيقول لي بعضهم: الجلباب الذي كنت تلبسه اليوم كان شكله كذا، فأقول له: لماذا تشغل نفسك بمثل هذا الجلباب؟ فهل أنت مشغول بالجلباب أم بصاحب الجلباب؟! شيئٌ غريب.
فشُغل الصالح بنفسه، يلوم نفسه لكي يخرج من لبسه وينال أُنسه، ويكون من كُمَّل المقربين، ولذلك يقولون: الأخ الذي تجده دائماً يذكر عيوب الآخرين، اعلم علم اليقين أنه ساقط من نظر رب العالمين، ولذلك تجده يخوض في هذا، ويخوض في هذا، فماذا بقي لك؟! لو كان معه حسنات ليل نهار فالشيكات التي ستتحول للآخرين لن تكفيهم، وليس عندنا وقت لهذا الكلام.
ومثلها تماماً أن الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه قال:
(( من أكثر من الحديث عن نفسه، فاعلم أن ذلك من نقصٍ في عبوديته، وأنه لن تكمل مرتبته عند الله عز وجل إلا إذا نسي نفسه
وأخذ يتحدث عن ربه وعن حبيبه صلى الله عليه وسلم )).
فأي واحد فينا عنده شيء من العلم هل يدعو الناس لنفسه؟! فماذا معي لأعطيه لهم؟! وماذا أفعل لهم؟! لكن أنا أدعوهم إلى طريق النبي، وحضرة النبي يدعوهم لله رب العالمين ... وما الذي ضيَّع المسلمين؟
أن كل واحد يريد أن يدعو الناس لنفسه هو، وماذا يفعلون بك؟! لكن أنت وأنا لو اتفقنا على هذا المنهاج ودعونا الخلق إلى رسول الله، فهل تحدث فُرقة أو مشاكل أو فتن أو ما شابه ذلك؟ أبداً.
لكن كل واحد منهم يريد أن يقف الناس عنده هو!!
ويغضب من الواحد منهم عندما يتركه ويذهب لآخر أو ثالث، مع أن المهم أنه ذاهب لرسول الله ولشرع الله، فطالما أنه ذاهب لرسول الله فيا هناه.
ونحن كلنا هل سندخل الجنة من باب واحد؟
لا، سيدنا يعقوب قال لأولاده وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ) ((67يوسف)
لأن نفوسنا متباينة ..
فكل واحد يدخل من باب!!!
أنت تريد أن يدخل الناس كلهم من باب واحد، ولا يجوز ذلك !
فأنت ترى أن بابك هو باب الأبواب ... فهذا لك، ولا تُجبر عليه غيرك، ولا تلوم على عدم السير فيه غيرك ..
لكن أنت مشيت فيه، فاترك الآخر يمشي من الباب الذي يستريح فيه ..
وهذا حال الصالحين.
المهم أن الإنسان ينشغل بعيوب نفسه.
وأول شيء كما قلت في البداية:
أن يرى نفسه أنه قدوة ..
وهل هو الآن قدوة كما ينبغي أم يحتاج أن يُكمَّل؟؟
وذلك قبل أن يجعل نفسه شيخاً!!!، حتى إذا اقتدى به أحدٌ يقتدي به كما ينبغي!، وبهذا يمشي الإنسان على المنهج القويم إلى الرءوف الرحيم عز وجل
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
================================== .
(1) السُنَّة للمروزي .
(2) مسند البزار ومسند الشهاب عن أنس رضي الله تعالى عنه .
(3) صحيح مسلم وابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
=====================================
من كتاب ( همة المريد الصادق )
لفضيلة الشيخ / فوزى محمد أبوزيد