صورة رسول الله القدسية
(الجزء الثاني)
وهناك مشهد من المشاهد العالية ذكره الله في كتاب الله يتناسب قليلاً مع أهل العقول، في أول سورة طه، قال الله تعالى فيه لحبيبه ومصطفاه عن سيدنا موسى: " وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لاهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا " (9-10طه) لم يقُل: إني رأيتُ ناراً، ولكن قال: (آَنَسْتُ نَارًا) قال فيها ابن الفارض:
آنستُ في القلب ناراً *** والقلب عرش التجلي
أين هذه النار؟
في القلب، وهي نار الحب والوجد والشوق، فيتجلي الله في القلب كما تجلى لموسى: " فَقَالَ لاهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا " (10طه) وأهله هم الروح والنفس والعقل والسر والخفى والأخفى: " لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ " (10طه) وهل النار يأتي منها قبس؟! لا، فالقبس يُطلق للضياء، لكن النار يُطلق عليها شُعلة: " لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى " (10-12طه)
وانتبهوا، فالرب يعني المُربي، والمُربي للأنبياء والمرسلين هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فلا بد أن يجهزه ويؤدبه بالأدب الواجب لمناجاة حضرة الله، وشهود أنوار عزته وجلاله وسناه: " إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ " (12طه) ونعليك يعني مشاغلك، والبعض قال: النعلين هما الدنيا والآخرة، والبعض قال: النعلين يعني الحظ والهوى، فقُل ما شئت في ذلك، المهم أن تخلع ما سوى الله، وأقبل على الله، فإذا خلعت: " إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى " (12طه)
وطُوى يعني طُويت فيك كل الحقائق العلية والراقية والدانية، كل حقائق الإنسان، وكل ما في الأكوان العالية والدانية فيك أنت يا إنسان، فأنت الريموت الذي تفتح الشاشات الظاهرة والباطنة.
وبعد ذلك قال له: " وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى " (13طه) فالكلام الأول كان تأديب وتهذيب لمناجاة الحبيب، وبعد أن انتهى من التأديب والتهذيب قال له: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى).
وجاء الخطاب الثاني: " إِنَّنِي أَنَا الله لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي " (14طه) فلا بد من التأديب والتهذيب، وهذا ما كان يفعله سيدنا أبو بكر مع الحبيب صلى الله عليه وسلَّم وعِليَة الأصحاب.
فكان عندما يأتي جماعة جُفاة من الأعراب ولا يعرفون الآداب، فيجدوا سيدنا رسول الله نائماً فينادون عليه: يا محمد، يا محمد، فقال لهم الله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ " (2الحجرات).
فكان يطلب من سيدنا أبو بكر أن يأخُذهم ويعلِّمهم، فسيدنا أبو بكر كان يأخذهم ويُعلمهم: كيف يدخلون على رسول الله؟ وكيف يُلقون عليه السلام؟ وكيف يجلسون عنده؟ وكم يجلسون؟ ومتى يقومون؟ ليعرفوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لأن الأدب به الرُقي إلى أعلى الرُتب.
فهي سنة الله ولن تجد لسنة الله سبحانه وتعالى تبديلاً، ولذلك ركَّز القرآن دائماً، وركَّز الحبيب المختار، وركَّز الصالحون على الآداب، لأنها الباب لوصل الأحباب.
وكان سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول: ((من ترك الآداب رُدَّ إلى اسطبل الدواب)) لا يصح أن تدخل بغير الأدب.
ولها أمثلة حتى في حياتنا الدنيا، فرئيس الجمهورية عندما يريد أن يقابل أحد فهل يأتون له به من بيته ويُدخلوه عليه مباشرة؟ لا، ولكن يرسلون له أولاً، ويقولون له: جهز نفسك بكذا وكذا، وعندما يأتي يقولون له: البروتوكول كذا وكذا، فإذا كان هذا مع الآدميين المخلوقين من طين، فما بالكم بنور رب العالمين صلى الله عليه وسلَّم؟!! وما بالكم بأكرم الأكرمين وهو الله تبارك وتعالى؟!!.
من الذي علِّمنا الآداب؟ الذين سبقونا إلى الباب، وفُتحت لهم الرحاب، وتجملوا بهذه الآداب، فيعلمونا لندخل الرحاب ونكون من أولي الألباب أجمعين.
=================================
من كتاب القول السديد
لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
(الجزء الثاني)
وهناك مشهد من المشاهد العالية ذكره الله في كتاب الله يتناسب قليلاً مع أهل العقول، في أول سورة طه، قال الله تعالى فيه لحبيبه ومصطفاه عن سيدنا موسى: " وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لاهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا " (9-10طه) لم يقُل: إني رأيتُ ناراً، ولكن قال: (آَنَسْتُ نَارًا) قال فيها ابن الفارض:
آنستُ في القلب ناراً *** والقلب عرش التجلي
أين هذه النار؟
في القلب، وهي نار الحب والوجد والشوق، فيتجلي الله في القلب كما تجلى لموسى: " فَقَالَ لاهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا " (10طه) وأهله هم الروح والنفس والعقل والسر والخفى والأخفى: " لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ " (10طه) وهل النار يأتي منها قبس؟! لا، فالقبس يُطلق للضياء، لكن النار يُطلق عليها شُعلة: " لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى " (10-12طه)
وانتبهوا، فالرب يعني المُربي، والمُربي للأنبياء والمرسلين هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فلا بد أن يجهزه ويؤدبه بالأدب الواجب لمناجاة حضرة الله، وشهود أنوار عزته وجلاله وسناه: " إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ " (12طه) ونعليك يعني مشاغلك، والبعض قال: النعلين هما الدنيا والآخرة، والبعض قال: النعلين يعني الحظ والهوى، فقُل ما شئت في ذلك، المهم أن تخلع ما سوى الله، وأقبل على الله، فإذا خلعت: " إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى " (12طه)
وطُوى يعني طُويت فيك كل الحقائق العلية والراقية والدانية، كل حقائق الإنسان، وكل ما في الأكوان العالية والدانية فيك أنت يا إنسان، فأنت الريموت الذي تفتح الشاشات الظاهرة والباطنة.
وبعد ذلك قال له: " وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى " (13طه) فالكلام الأول كان تأديب وتهذيب لمناجاة الحبيب، وبعد أن انتهى من التأديب والتهذيب قال له: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى).
وجاء الخطاب الثاني: " إِنَّنِي أَنَا الله لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي " (14طه) فلا بد من التأديب والتهذيب، وهذا ما كان يفعله سيدنا أبو بكر مع الحبيب صلى الله عليه وسلَّم وعِليَة الأصحاب.
فكان عندما يأتي جماعة جُفاة من الأعراب ولا يعرفون الآداب، فيجدوا سيدنا رسول الله نائماً فينادون عليه: يا محمد، يا محمد، فقال لهم الله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ " (2الحجرات).
فكان يطلب من سيدنا أبو بكر أن يأخُذهم ويعلِّمهم، فسيدنا أبو بكر كان يأخذهم ويُعلمهم: كيف يدخلون على رسول الله؟ وكيف يُلقون عليه السلام؟ وكيف يجلسون عنده؟ وكم يجلسون؟ ومتى يقومون؟ ليعرفوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لأن الأدب به الرُقي إلى أعلى الرُتب.
فهي سنة الله ولن تجد لسنة الله سبحانه وتعالى تبديلاً، ولذلك ركَّز القرآن دائماً، وركَّز الحبيب المختار، وركَّز الصالحون على الآداب، لأنها الباب لوصل الأحباب.
وكان سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول: ((من ترك الآداب رُدَّ إلى اسطبل الدواب)) لا يصح أن تدخل بغير الأدب.
ولها أمثلة حتى في حياتنا الدنيا، فرئيس الجمهورية عندما يريد أن يقابل أحد فهل يأتون له به من بيته ويُدخلوه عليه مباشرة؟ لا، ولكن يرسلون له أولاً، ويقولون له: جهز نفسك بكذا وكذا، وعندما يأتي يقولون له: البروتوكول كذا وكذا، فإذا كان هذا مع الآدميين المخلوقين من طين، فما بالكم بنور رب العالمين صلى الله عليه وسلَّم؟!! وما بالكم بأكرم الأكرمين وهو الله تبارك وتعالى؟!!.
من الذي علِّمنا الآداب؟ الذين سبقونا إلى الباب، وفُتحت لهم الرحاب، وتجملوا بهذه الآداب، فيعلمونا لندخل الرحاب ونكون من أولي الألباب أجمعين.
=================================
من كتاب القول السديد
لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد