قراءة المؤمن لآيات
النفس والآفاق
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ
فوزي محمد ابوزيد
الحمد لله رب العالمين الذى خضع له كل الوجود، المُنفرد وحده عز وجلّ بالكرم والجود
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية وهو فيما بين ذلك قائماً لخلقه بالحب والرعاية .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله عز وجلّ من خيرة خلقه، ورباه عز وجلّ على عينه، ومدحه في كلامه القديم وقال له صلوات الله وسلامه عليه :
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم:4)
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وعلى صحابته المباركين وعلى كُمّل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين .. آمين ..
أما بعد
فيا أيها الأخوة في الله والأحباب في سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :
لو تأملنا أول آياتٍ من كتاب ربنا عز وجلّ نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لوجدناها تحوى في مكنونها شيئاً عجيباً وغريباً لأول وهلة،
فنحن نعلم جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ أميّ لا يقرأ ولا يكتب، ولم يسبق له أن تعلّم القراءة ولا تعلّم الكتابة والله عز وجلّ يعلم ذلك، فما باله سبحانه وتعالى يقول له :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ (العلق:1)
لماذا يقول اقرأ وهو يعلم أنه غير قارئ ؟
إذن فهذه القراءة قراءة أخرى غير القراءة التي نعرفها، قراءة يشترك فيها جميع البشر بلغة واحدة يتفق فيها الأميّ مع المتعلم ويتفق فيها العربي مع غير العربي، وهى اللغة التي طالب بها الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ بها فقال عز وجلّ :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الانْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾ ( العلق )
فالقراءة التي ذكرها الله ليست بهذه العين وإنما هي قراءة بعين الفكر وهى التفكُر والتدبُر
فقال له الله تدبّر في نفسك وتدبّر فيما حولك وعلِّم الناس أن يتدبّروا في أنفسهم وفيما حولهم ليهتدوا إلى الله عز وجلّ
ولا يستطيع أي إنسان كائناً ما كان أن يعرف الله عز وجلّ إلا بهذه الطريقة بأن يفكّر ويعمل فكره بعقله في صُنع الله وفي إبداع خلق الله، وفي تدبير الله لكون الله وفي تدبير الله عز وجلّ لجسم كل إنسان فينا فإنما نمشى بهذه الأجسام وليس لنا سيطرة تامة لأن الذى يديرها هو الله عز وجلّ .
فنحن كلنا نسيطر على بعض الأعضاء، لكن بعضها الآخر ليس لنا عليها سيطرة فمن يستطع أن يسيطر تماماً على معدته ويجعلها تعمل بإرادته وتتوقف بإشارته ؟
لا يستطيع واحدٌ منا أن يفعل ذلك لأنها تعمل بأمر الله وتهضم بأمر الله وتنزل إنزيماتها وحركاتها كلها بأمر الله عز وجلّ، مع أنها بعضٌ منا وجزءٌ منا، لكننا لا نستطيع تدبيره وتصريفه وإنما الذى يدبره هو مدبر الأمور كلها عز وجلّ .
وهكذا الفكر فإننا نتعلم وهذه المعلومات ترجع إلى الذاكرة ..
أين هي هذه الذاكرة ؟
ومن الذى يرتب المعلومات في الذاكرة
وكيف تستدعيها عندما نحتاجها كيف تتم هذه العملية
كيف تسجّل المعلومات في نفس الإنسان إذا كانوا كما يقولون في المخ، فأين حجراتها ؟ وأين تكدسات هذه المكتبة العظيمة التي لا حد لها ؟
بل كيف تتم عملية الاستدعاء ؟
هذا أمرٌ غريب وعجيب لا يعلمه إلا الله عز وجلّ،
بل إن الأجهزة الظاهرة فينا كالجهاز الحِسّىّ عندما يتعرض الجسم لوخزة من إبرة أو لميكروب خارجي يتحرّك جهاز المناعة في جسمي بسرعة غريبة وبحركة عجيبة لا يستطيع أن يتابعها ..
من الذى يتابعها ؟ ومن الذى يصدر الأوامر ؟ ومن الذى يتولى الدفاع ؟ ومن الذى يتولى كذا وكذا ؟
إنها قدرة الله عز وجلّ التي أبدعت والتي قال لنا فيها الله :
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾ (الذاريات:21)
فأمره الله أن يتدبر وأن يقرأ بعين فكره ما في نفسه وما في الآفاق وجعل لنا كتابين مقررين علينا :
أولاً : كتاب النفس وما في هيكل الإنسان وما في جسم الإنسان من غرائب سينتهى العالم ويفنى الزمان ولم تحصل جامعات بنى الإنسان إلا على أقّل القليل من المعلومات على أصغر عُضوٍ من أعضاء الإنسان ويبقى بعد ذلك من الأمور العجيبة والغريبة وهى أمورٌ تجعل الإنسان يعرف أن هذا صنع الله وهذا إبداع الله فنقول كما علمنا الله :
﴿ هَذَا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ (لقمان:11)
أروني من الذى يقدر أن يصنع مثل هذا الصُنع ويطبع مثل هذه الطبعة، ويُبدع مثل هذا الإبداع ؟ ويُتقن مثل هذا الإتقان
فيؤمن الإنسان بأنها صبغة الحنان المنان عز وجلّ ..
وقال كلمة عجيبة وغريبة من بعدها وهى قول الله عز وجلّ :
﴿ خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ (العلق:2) هذه الكلمة جعلت أكبر عالم في علم الأجنة وهو العالم " كيث مور " والذى ألّف موسوعة علمية من سبع مجلدات في علم الأجنة وتُدرّس في معظم جامعات العالم .. عندما تُليت عليه هذه الآيات قال :
صدق الله العظيم إن هذا كلام الله لأن البشر لم يعرفون هذه الحقيقة إلا في هذا النصف الثاني من القرن العشرين فكيف عرفها محمد صلى الله عليه وسلّم من ألف وأربعمائة عام ؟
ثم انتقل إلى مراحل التكوين والجنين في بطن الأم وهى التي ذكرها الله في سورة " المؤمنون " في قوله عز وجلّ :
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ﴾ ( المؤمنون )
وكانت هذه المراحل هي أحدث ما وصل إليه العلم ولا يستطيع أن يبدّل لفظة بلفظة أخرى لأنه لا يؤدّى معناها العلمي الذى وصل إليه العلم بأرقى الأجهزة الحديثة إلا بهذه الكلمة التي ذكرها الله، فلا يستطيع العلم أن يأتي بكلمة أخرى غير ( المُضغة ) لأن هذه المرحلة من خلق الإنسان تكون كقطعة لحمٍ مضغها الإنسان بأسنانه ويرى فيها أثر أسنانه .
فما أكمل وصف الله وما أدّق كلام الله عز وجلّ يا إخواني ..
يدعونا إلى أن نتفكّر، نتفكر في أنفسنا وهذا كتابٌ قد ألمحنا إليه .
ثانياً : كتاب الآفاق وهو أن نتفكّر فيما حولنا وهذا كتابٌ قرّره الله علينا، وقد جعل له حدودٌ لا نتجاوزها وقال فيها صلى الله عليه وسلّم
(تفكروا في كل شيء ، ولا تفكروا في ذات الله)(البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما)
فنتفكّر في خلق الله من العرش إلى الفرش ولا نذهب إلى ما وراء ذلك لأن تلك كنوز عليه لا تستطيع عقولنا الكاسدة أن تصل إليها ..
وإذا كان العقل لا ندرى حقيقته حتى الآن ولا نعلم مكانه حتى الآن ولا نعلم كُنهه حتى الآن فكيف نعلم خالق العقل بهذا العقل الذى لم يصل إلى معرفته ..
وإذا كانت الروح مازالت سراً لا يعلمه إلا خالق الروح فكيف نعلم الذى خلقها وأبدعها وصورها وأنشأها عز وجلّ .
لابد للإنسان أن يعلم حدوده وأن يعلم قدره
أما الصانع فلا يُحيط بقدرة ولا يحيط بلطفه أحد من خلقه إلا بما وصف نفسه به في كتابه :
﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (الشورى:11) .
ثالثاً : كتاب يقرأه الإنسان عن مراتب وجوده
من أين أتى به الله ؟ وإلى أين يسيّره الله ؟
ولماذا خلقه الله واوجده في هذه الحياة ؟
هذا كتاب يقول لنا فيه الله :
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفي بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ (الإسراء:14)
من قرأ كتابه وعرف من أين جاء وإلى أين يكون ويصير،
ولماذا أنشأ ؟ يقف عند حدود الله وعند آداب الله وعند شرع الله حتى يكون من السعداء الذين طالبهم الله عز وجلّ بأسرار هذه الآيات الكريمة فيكون كما قال الله :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ (العلق:1)
أو كما قال : ( أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ) ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين الذى أكرمنا وأعلى شأننا بهذا الدين وجعلنا خير أمة أخرجت للناس،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا رب لنا سواه ولا ملجأ لنا إلا إياه ولا منجى لنا ولا ملاذ لنا إلا فضله عز وجلّ ورضاه .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله عبده ورسوله وصفيه وخليله ..
اللهم صلى وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم واعطنا الخير وادفع عنا الشر واشفنا وأنصرنا على أعدائنا يا رب العالمين .. أما بعد :
فيا إخواني جماعة المؤمنين :
حكمة بسيطة وهى الفارق بين المسلمين والكافرين وهى عليها المعول في إصلاح أحوال الأفراد والجماعات وهى التي نحققها في قول الله عز وجلّ :
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴾ (المؤمنون:115)
فهذه الحكمة يهتدى إليها المؤمن لأنه يعلم أن الله خلقه ليمتحنه في هذه الحياة بما عاهد عليه الله عز وجلّ .
لقد خلقنا الله جميعاً أرواحاً نورانية وأخذ علينا العهد وأثبته في الآيات القرآنية وأنزلنا إلى دار الدنيا، وركب فينا هذه الأجسام الطينية .. وامرنا أن لا ننسى الله ولا نغفل عن طاعة الله ولا نعصى ما جاء في كتاب الله ولا نخالف أنبياء الله ورسل الله، فالمؤمن عرف هذه الحقيقة أن الله أخذ عليه العهد على طاعته إذا جاء للحياة الدنيا ويحفظ هذا العهد في قوله سبحانه :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ (الأعراف:172)
فعندما يهم بمعصية الله يتذكّر أنه عاهد الله على عدم عصيانه
وعندما يغفل عن ذكر الله يتذكّر أنه عاهد الله أن لا يغفل عن ذكره طرفة عين،
وعندما يتكاسل عن طاعة الله يتذكّر أنه مُقبلٌ على يوم عظيم ولن يحظى بالفضل الكريم إلا على ما قدّم من الباقيات الصالحات
فإذا علم هذه الحقيقة وأن الموت والحياة ابتلاء من الله للعهد الذى أخذه علينا الله
وأن هناك يومٌ يحاسبه الله على هذا العهد، وماذا فعل فيه في الدنيا ؟
فهذا الذى يدعوه إلى الاستقامة وهذا هو الذى يجعله يواظب على الطاعة وهذا هو الذى يجعله ينتهى عن المعصية .
أما الكافر فيقول كما قال الله :
﴿ مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ﴾ (الجاثية:24)
فيعتقد أنه ليس له إلا هذه الحياة فيعبوا من الشهوات ويركن إلى الملذات لأنه يعتقد أنها ستفوته أو يفوتها بالموت، وللأسف قد وصلت هذه العدوى إلى جماعة من المسلمين وأصبح كثيرٌ من إخواننا المسلمين يقولون بلسان حالهم وإن لم يقولون بألسنتهم :
﴿ مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ﴾ (الجاثية:24) .
ولذلك تجدهم لا يتورعون عن الغش، ولا يتورعون عن الخداع ولا يتورعون عن الفجور والعصيان .. لماذا ؟
لأنهم يستبيحون كل شيءٍ، لأن الواحد منهم ظن في نفسه أنه ليس له متعٌ إلا في هذه الحياة
فلو تذكّر الآخرة والحساب والعبث والمهمة التي من أجلها خُلق وتذكر العهد الذى أخذه عليه الله والذى سيحاسبه عليه الله،
ولذلك يقول الله لرسوله :
﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ (الأعلى:9)
فيذكّرهم بالعهد الذى أخذه عليهم..
فيا أخي اقرأ هذه المعاني دائماً في فؤادك
واقرأ هذه المعاني في نفسك حتى تزجرها عن الشر
وأستحضر هذه المعاني دائماً على قلبك حتى تجعله مستجيباً لفعل الخير
وأستحضر هذه المعاني حتى تعلم أن الدنيا ساعة فأجعلها طاعة،
وأنظر إلى من حولك وأنظر إلى من بجوارك وأنت ترى أن في كل يوم أناسٌ يسافرون عنا إلى الدار الآخرة وليس لهم إلا ما قدموا .. فليس منا من يعلم ميعاده وسفره قبل أوانه
فنسأل الله عز وجلّ أن يُحسن ختامنا ويتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين ......
🤲🤲ثم الدعاء🤲🤲
وللمزيد من الخطب متابعة
صفحة الخطب الإلهامية
او
الدخول على موقع فضيلة
الشيخ فوزي محمد ابوزيد
النفس والآفاق
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ
فوزي محمد ابوزيد
الحمد لله رب العالمين الذى خضع له كل الوجود، المُنفرد وحده عز وجلّ بالكرم والجود
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية وهو فيما بين ذلك قائماً لخلقه بالحب والرعاية .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله عز وجلّ من خيرة خلقه، ورباه عز وجلّ على عينه، ومدحه في كلامه القديم وقال له صلوات الله وسلامه عليه :
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم:4)
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وعلى صحابته المباركين وعلى كُمّل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين .. آمين ..
أما بعد
فيا أيها الأخوة في الله والأحباب في سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :
لو تأملنا أول آياتٍ من كتاب ربنا عز وجلّ نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لوجدناها تحوى في مكنونها شيئاً عجيباً وغريباً لأول وهلة،
فنحن نعلم جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ أميّ لا يقرأ ولا يكتب، ولم يسبق له أن تعلّم القراءة ولا تعلّم الكتابة والله عز وجلّ يعلم ذلك، فما باله سبحانه وتعالى يقول له :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ (العلق:1)
لماذا يقول اقرأ وهو يعلم أنه غير قارئ ؟
إذن فهذه القراءة قراءة أخرى غير القراءة التي نعرفها، قراءة يشترك فيها جميع البشر بلغة واحدة يتفق فيها الأميّ مع المتعلم ويتفق فيها العربي مع غير العربي، وهى اللغة التي طالب بها الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ بها فقال عز وجلّ :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الانْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾ ( العلق )
فالقراءة التي ذكرها الله ليست بهذه العين وإنما هي قراءة بعين الفكر وهى التفكُر والتدبُر
فقال له الله تدبّر في نفسك وتدبّر فيما حولك وعلِّم الناس أن يتدبّروا في أنفسهم وفيما حولهم ليهتدوا إلى الله عز وجلّ
ولا يستطيع أي إنسان كائناً ما كان أن يعرف الله عز وجلّ إلا بهذه الطريقة بأن يفكّر ويعمل فكره بعقله في صُنع الله وفي إبداع خلق الله، وفي تدبير الله لكون الله وفي تدبير الله عز وجلّ لجسم كل إنسان فينا فإنما نمشى بهذه الأجسام وليس لنا سيطرة تامة لأن الذى يديرها هو الله عز وجلّ .
فنحن كلنا نسيطر على بعض الأعضاء، لكن بعضها الآخر ليس لنا عليها سيطرة فمن يستطع أن يسيطر تماماً على معدته ويجعلها تعمل بإرادته وتتوقف بإشارته ؟
لا يستطيع واحدٌ منا أن يفعل ذلك لأنها تعمل بأمر الله وتهضم بأمر الله وتنزل إنزيماتها وحركاتها كلها بأمر الله عز وجلّ، مع أنها بعضٌ منا وجزءٌ منا، لكننا لا نستطيع تدبيره وتصريفه وإنما الذى يدبره هو مدبر الأمور كلها عز وجلّ .
وهكذا الفكر فإننا نتعلم وهذه المعلومات ترجع إلى الذاكرة ..
أين هي هذه الذاكرة ؟
ومن الذى يرتب المعلومات في الذاكرة
وكيف تستدعيها عندما نحتاجها كيف تتم هذه العملية
كيف تسجّل المعلومات في نفس الإنسان إذا كانوا كما يقولون في المخ، فأين حجراتها ؟ وأين تكدسات هذه المكتبة العظيمة التي لا حد لها ؟
بل كيف تتم عملية الاستدعاء ؟
هذا أمرٌ غريب وعجيب لا يعلمه إلا الله عز وجلّ،
بل إن الأجهزة الظاهرة فينا كالجهاز الحِسّىّ عندما يتعرض الجسم لوخزة من إبرة أو لميكروب خارجي يتحرّك جهاز المناعة في جسمي بسرعة غريبة وبحركة عجيبة لا يستطيع أن يتابعها ..
من الذى يتابعها ؟ ومن الذى يصدر الأوامر ؟ ومن الذى يتولى الدفاع ؟ ومن الذى يتولى كذا وكذا ؟
إنها قدرة الله عز وجلّ التي أبدعت والتي قال لنا فيها الله :
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾ (الذاريات:21)
فأمره الله أن يتدبر وأن يقرأ بعين فكره ما في نفسه وما في الآفاق وجعل لنا كتابين مقررين علينا :
أولاً : كتاب النفس وما في هيكل الإنسان وما في جسم الإنسان من غرائب سينتهى العالم ويفنى الزمان ولم تحصل جامعات بنى الإنسان إلا على أقّل القليل من المعلومات على أصغر عُضوٍ من أعضاء الإنسان ويبقى بعد ذلك من الأمور العجيبة والغريبة وهى أمورٌ تجعل الإنسان يعرف أن هذا صنع الله وهذا إبداع الله فنقول كما علمنا الله :
﴿ هَذَا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ (لقمان:11)
أروني من الذى يقدر أن يصنع مثل هذا الصُنع ويطبع مثل هذه الطبعة، ويُبدع مثل هذا الإبداع ؟ ويُتقن مثل هذا الإتقان
فيؤمن الإنسان بأنها صبغة الحنان المنان عز وجلّ ..
وقال كلمة عجيبة وغريبة من بعدها وهى قول الله عز وجلّ :
﴿ خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ (العلق:2) هذه الكلمة جعلت أكبر عالم في علم الأجنة وهو العالم " كيث مور " والذى ألّف موسوعة علمية من سبع مجلدات في علم الأجنة وتُدرّس في معظم جامعات العالم .. عندما تُليت عليه هذه الآيات قال :
صدق الله العظيم إن هذا كلام الله لأن البشر لم يعرفون هذه الحقيقة إلا في هذا النصف الثاني من القرن العشرين فكيف عرفها محمد صلى الله عليه وسلّم من ألف وأربعمائة عام ؟
ثم انتقل إلى مراحل التكوين والجنين في بطن الأم وهى التي ذكرها الله في سورة " المؤمنون " في قوله عز وجلّ :
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ﴾ ( المؤمنون )
وكانت هذه المراحل هي أحدث ما وصل إليه العلم ولا يستطيع أن يبدّل لفظة بلفظة أخرى لأنه لا يؤدّى معناها العلمي الذى وصل إليه العلم بأرقى الأجهزة الحديثة إلا بهذه الكلمة التي ذكرها الله، فلا يستطيع العلم أن يأتي بكلمة أخرى غير ( المُضغة ) لأن هذه المرحلة من خلق الإنسان تكون كقطعة لحمٍ مضغها الإنسان بأسنانه ويرى فيها أثر أسنانه .
فما أكمل وصف الله وما أدّق كلام الله عز وجلّ يا إخواني ..
يدعونا إلى أن نتفكّر، نتفكر في أنفسنا وهذا كتابٌ قد ألمحنا إليه .
ثانياً : كتاب الآفاق وهو أن نتفكّر فيما حولنا وهذا كتابٌ قرّره الله علينا، وقد جعل له حدودٌ لا نتجاوزها وقال فيها صلى الله عليه وسلّم
(تفكروا في كل شيء ، ولا تفكروا في ذات الله)(البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما)
فنتفكّر في خلق الله من العرش إلى الفرش ولا نذهب إلى ما وراء ذلك لأن تلك كنوز عليه لا تستطيع عقولنا الكاسدة أن تصل إليها ..
وإذا كان العقل لا ندرى حقيقته حتى الآن ولا نعلم مكانه حتى الآن ولا نعلم كُنهه حتى الآن فكيف نعلم خالق العقل بهذا العقل الذى لم يصل إلى معرفته ..
وإذا كانت الروح مازالت سراً لا يعلمه إلا خالق الروح فكيف نعلم الذى خلقها وأبدعها وصورها وأنشأها عز وجلّ .
لابد للإنسان أن يعلم حدوده وأن يعلم قدره
أما الصانع فلا يُحيط بقدرة ولا يحيط بلطفه أحد من خلقه إلا بما وصف نفسه به في كتابه :
﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (الشورى:11) .
ثالثاً : كتاب يقرأه الإنسان عن مراتب وجوده
من أين أتى به الله ؟ وإلى أين يسيّره الله ؟
ولماذا خلقه الله واوجده في هذه الحياة ؟
هذا كتاب يقول لنا فيه الله :
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفي بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ (الإسراء:14)
من قرأ كتابه وعرف من أين جاء وإلى أين يكون ويصير،
ولماذا أنشأ ؟ يقف عند حدود الله وعند آداب الله وعند شرع الله حتى يكون من السعداء الذين طالبهم الله عز وجلّ بأسرار هذه الآيات الكريمة فيكون كما قال الله :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ (العلق:1)
أو كما قال : ( أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ) ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين الذى أكرمنا وأعلى شأننا بهذا الدين وجعلنا خير أمة أخرجت للناس،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا رب لنا سواه ولا ملجأ لنا إلا إياه ولا منجى لنا ولا ملاذ لنا إلا فضله عز وجلّ ورضاه .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله عبده ورسوله وصفيه وخليله ..
اللهم صلى وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم واعطنا الخير وادفع عنا الشر واشفنا وأنصرنا على أعدائنا يا رب العالمين .. أما بعد :
فيا إخواني جماعة المؤمنين :
حكمة بسيطة وهى الفارق بين المسلمين والكافرين وهى عليها المعول في إصلاح أحوال الأفراد والجماعات وهى التي نحققها في قول الله عز وجلّ :
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴾ (المؤمنون:115)
فهذه الحكمة يهتدى إليها المؤمن لأنه يعلم أن الله خلقه ليمتحنه في هذه الحياة بما عاهد عليه الله عز وجلّ .
لقد خلقنا الله جميعاً أرواحاً نورانية وأخذ علينا العهد وأثبته في الآيات القرآنية وأنزلنا إلى دار الدنيا، وركب فينا هذه الأجسام الطينية .. وامرنا أن لا ننسى الله ولا نغفل عن طاعة الله ولا نعصى ما جاء في كتاب الله ولا نخالف أنبياء الله ورسل الله، فالمؤمن عرف هذه الحقيقة أن الله أخذ عليه العهد على طاعته إذا جاء للحياة الدنيا ويحفظ هذا العهد في قوله سبحانه :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ (الأعراف:172)
فعندما يهم بمعصية الله يتذكّر أنه عاهد الله على عدم عصيانه
وعندما يغفل عن ذكر الله يتذكّر أنه عاهد الله أن لا يغفل عن ذكره طرفة عين،
وعندما يتكاسل عن طاعة الله يتذكّر أنه مُقبلٌ على يوم عظيم ولن يحظى بالفضل الكريم إلا على ما قدّم من الباقيات الصالحات
فإذا علم هذه الحقيقة وأن الموت والحياة ابتلاء من الله للعهد الذى أخذه علينا الله
وأن هناك يومٌ يحاسبه الله على هذا العهد، وماذا فعل فيه في الدنيا ؟
فهذا الذى يدعوه إلى الاستقامة وهذا هو الذى يجعله يواظب على الطاعة وهذا هو الذى يجعله ينتهى عن المعصية .
أما الكافر فيقول كما قال الله :
﴿ مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ﴾ (الجاثية:24)
فيعتقد أنه ليس له إلا هذه الحياة فيعبوا من الشهوات ويركن إلى الملذات لأنه يعتقد أنها ستفوته أو يفوتها بالموت، وللأسف قد وصلت هذه العدوى إلى جماعة من المسلمين وأصبح كثيرٌ من إخواننا المسلمين يقولون بلسان حالهم وإن لم يقولون بألسنتهم :
﴿ مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ﴾ (الجاثية:24) .
ولذلك تجدهم لا يتورعون عن الغش، ولا يتورعون عن الخداع ولا يتورعون عن الفجور والعصيان .. لماذا ؟
لأنهم يستبيحون كل شيءٍ، لأن الواحد منهم ظن في نفسه أنه ليس له متعٌ إلا في هذه الحياة
فلو تذكّر الآخرة والحساب والعبث والمهمة التي من أجلها خُلق وتذكر العهد الذى أخذه عليه الله والذى سيحاسبه عليه الله،
ولذلك يقول الله لرسوله :
﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ (الأعلى:9)
فيذكّرهم بالعهد الذى أخذه عليهم..
فيا أخي اقرأ هذه المعاني دائماً في فؤادك
واقرأ هذه المعاني في نفسك حتى تزجرها عن الشر
وأستحضر هذه المعاني دائماً على قلبك حتى تجعله مستجيباً لفعل الخير
وأستحضر هذه المعاني حتى تعلم أن الدنيا ساعة فأجعلها طاعة،
وأنظر إلى من حولك وأنظر إلى من بجوارك وأنت ترى أن في كل يوم أناسٌ يسافرون عنا إلى الدار الآخرة وليس لهم إلا ما قدموا .. فليس منا من يعلم ميعاده وسفره قبل أوانه
فنسأل الله عز وجلّ أن يُحسن ختامنا ويتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين ......
🤲🤲ثم الدعاء🤲🤲
وللمزيد من الخطب متابعة
صفحة الخطب الإلهامية
او
الدخول على موقع فضيلة
الشيخ فوزي محمد ابوزيد