المسجد مكانته ورسالته
ودوره في المجتمع
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
الحمد لله رب العالمين، خلقنا بقدرته ودبَّر أمورنا كلها ظاهراً وباطناً بحكمته، وأمرنا أن نشكره على ذلك جل وعلا بحُسن عبادته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الغني بذاته وصفاته عن جميع مخلوقاته، سبحانه سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، والأمر في ذلك كما قال كتابه المبين:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (15الجاثية).
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، أول العابدين وحامل لواء الحمد للخلائق أجمعين يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد واجعلنا به مقتدين، وعلى هديه سائرين، وارزقنا شفاعته واجعلنا تحت لواء حمده وكرمه يوم الدين، واجعلنا من أهل جواره في جنة الفردوس أجمعين آمين يا رب العالمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
جعل الله عزّ وجلَّ لكل واحدٍ في الكون بيتٌ يؤويه، وطعامٌ يتناوله بِفِيه، من طيبات الأرض ومستلذاتها،
وجعل لكل مؤمنٍ بيتين، ولكل مؤمنٍ طعامين، بيتٌ يسكن فيه مع أهله، ويأكل فيه ما يشتهي وتشتهه نفسه من طيبات الحياة الدنيا،
وبيتٌ آخرٌ هو بيت ربِّه عزّ وجلَّ، يأكل منه - مِنْ الله مباشرةً - طعام المحبة، وزاد التقوى والخشية، ويكرمه الله عزّ وجلَّ في ضيافته فينزل على قلبه السكينة وبرد الطمأنينة، ويشرح صدره ويُيسر أمره فيمشي في الحياة، بالزاد الذي أخذه من مولاه فيكون كما قال الله في الصادقين من عباد الله:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (97النحل).
ولذا يقول صلى الله عليه وسلم :
" من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى، وحق على المزور أن يكرم زائره"(رواه الطبراني عن سلمان رضي الله عنه)
أي أن الذي يأتي إلى هذا الموضع لابد أن يحظى بالإكرام من الكريم الأعلى عزّ وجلَّ.
كيف يكون إكرامه؟
يأتي الإنسان إلى بيت الله قد حَمِلَ من الهموم أثقالاً، فإذا خشع لله، وركع وسجد لله، يسقيه الله عزّ وجلَّ شراباً يقول فيه الله :
"وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا"(21 الإنسان)
فيخرج من الصلاة وقد استراح باله، هانئَ النفس قد زالت عنه هذه الهموم، وقد تطهر من هذه الوساوس والهواجس، لأن الله سقاه الشراب الطهور، وهو شرابٌ من النور يسقيه الله عزّ وجلَّ لمن أناب إليه ووقف بين يديه، لأنه سبحانه هو العزيز الغفور عزّ وجلَّ.
يسقيه الله عزّ وجلَّ من مائدة القرآن شراباً من العلم الإلهي، فيخرج من الصلاة وقد علم علوماً لم يقرأها في كتابٍ، ولم يسمعها من واعظٍ ولا عالم، كما كان أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
يوفقه الله للطريق السديد إذا احتار في أي أمرٍ ووقف بين يديه واستخاره وصلَّى ركعتين يستخير الله يجد الله عزّ وجلَّ يتولاه بولايته، ويرعاه بعنايته، ويخرج من الصلاة وقد تبين الطريق القويم الذي يسلكه فيجد توفيق الله عزّ وجلَّ معه
يجد الله عزّ وجلَّ إذا دعاه واشتكى إليه في أي امر يجد الإجابة الفورية من الله جلَّ في عُلاه من بابٍ لم يخطر على باله قطّ ولم يفكر فيه، لأن الله قال لهذا الجمع وأمثالهم:
﴿وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (2، 3الطلاق).
يأتيه الرزق من باب لم يفكر فيه ولم يخطر على باله، لأن الله يرزق المؤمنين من ألطافه الخفية التي لا تتناولها الحسابات ولا يدريها الملائكة، وإنما هي خصوصية من الله عزّ وجلَّ لأهل القلوب التقية النقية.
وعلى ذلك كان أصحاب النبي ومن بعدهم من السلف الصالح والتابعين والأئمة أجمعين.
يجد في بيت الله عزّ وجلَّ كل ما يحتاج إليه،
فهو واحةٌ للنفس إذا شردت،
وهو راحة للقلب إذا ضنى،
وهو إعادة لقوة الجسم إذا عانى من التعب،
وهو موطن السكينة والطمأنينة.
فيه كل شيءٍ -
يخرج منه الإنسان وقد تأهل وتأهب لكل معضلات ومشكلات الأكوان،
ولذا لا نعجب إن عرفنا من الله عزّ وجلَّ أن الرجل الذي يتسلَّح من عند الرحمن في بيت الله يخرج وبه من القوة ما يساوى عشرة ممن لم يدخل بيت الله عزّ وجلَّ:
﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ (65الأنفال).
من أين هذه القوة؟
القوة القلبية والدوافع الروحانية - الإمدادات الربانية تُعطي الإنسان قوة لها قدرة يواجه بها أعباء هذه الحياة
قد يسأل سائل:
نحن والحمد لله ندخل المساجد، ودائماً كلُّ رجلٍ منا لله راكعٌ وساجدٌ، فلماذا لا نجد ما تتحدث عنه؟!!
لأننا لم نأتِ بالمواصفات التي ينبغي أن نكون عليها عند دخول هذه البيوت العامرات،
فإن الله عزّ وجلَّ قال لنا في شأن هذه المساجد:
"يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ"(31الأعراف)
تزيَّن بالزِّينة التي يحبُّها الله عند دخول بيت الله،
ما الزينة في هذه الآية؟
زينة للناس من اللبس والطيب ،
وزينة لرب الناس يقول فيها سيِّد الناس صلى الله عليه وسلم:
(إنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ [ رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].
ينظر الله عزّ وجلَّ إلى الزينة التي زيَّنا بها القلوب لأنها موضع نظر حضرة علام الغيوب عزّ وجلَّ.
إذا الزينة التي تلبسها لله!!
تُلبس قلبك زينة الحبِّ لله، ولرسول الله ولخلق الله،
تلبسه حُلَّة الخشوع والخشية والخوف من الله جلَّ في عُلاه،
تلبس جلباب التُقوى التي يقول فيها الله: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ (26الأعراف).
قال صلى الله عليه وسلَّم:
"المسجد بيت كل تقيّ، وتكفَّل الله لمن كان المسجد بيته بالروْح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله في الجنة" (رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه)
ولذلك امرنا الله أن نجعلها خالصة لله فقال سبحانه:
"وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا"
فاجعلوا المساجد لله، وابعدوها عن كلِّ ما طلب الله عزّ وجلَّ أن نبعدها عنها، حتى نتجمَّل ظاهراً وباطناً بما يحبه الله ويرضاه
قال حبيب الله صلى الله عليه وسلم:
(جنبوا مساجدكم صبيانكم)، أي الذين لم يبلغوا سبع سنين، ولم يعرفوا آداب الطهارة والوضوء وكيفية الصلاة :
(جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ، وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ، وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ (رواه ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الشَّامِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا)
كل ذلك ينبغي أن يبتعد عن بيت الله، لأن المسجد بيتاً لله عزّ وجلَّ، ولا يذكر فيه سواه
وقال الحبيب صلى الله عليه وسلَّم في قومٍ رآهم بعين بصيرته في هذه الآنات :
" سيأتي على النَّاسِ زمانٌ يقعُدونَ في المساجدِ حِلقًا حِلقًا مناهمُ الدُّنيا لا تجالِسوهمُ فإنَّهُ ليسَ للَّهِ فيهم حاجةٌ " ( رواه الطبراني في معجمه وابن حبان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
إياك أن تأتي بالدنيا إلى بيت الله. عندما تدخل إلى بيت الله اجعل الدنيا وراء ظهرك واجعل الله عزّ وجلَّ في وجهك، وأقبل على الله تجد كل الفضل وكل الخير وكل الروح والريحان من الله عزّ وجلَّ
قال صلى الله عليه وسلَّم :
(يقول الله تعالى يوم القيامة: أين جيراني من عبادي؟ فتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا! وَمَنْ يَنْبَغِيَ أَنْ يُجَاوِرَكَ? فَيَقُولُ: أَيْنَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ)[ أخرجه الحارث بن أسامة في مسنده].
فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون،
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر ونجنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا يا رب العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
سعدت الأمة الإسلامية في مطلع الدعوة وبعدها، لأنهم جعلوا المساجد هي بيت الأمة، يلتقون فيها فيتعارفون، ويتوادون ويتعاطفون
كل مؤمنٍ ينبغي عليه أن يعرف الذين حوله من المؤمنين،
وإذا غاب أحدهم تفقده،
وإذا نظر إلى أحدهم ووجد في وجهه أنه محتاجٌ ساعده،
وإذا نظر إليه ووجده مهمومٌ خفَّف عنه، فيكون المؤمن للمؤمن كما قال الحبيب:
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)[ متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه].
وكان صلى الله عليه وسلَّم يبدأ في ذلك بنفسه،
فكان إذا لاحظ أن رجلاً لم يظهر في المسجد ثلاثة أيام يسأل عنه، فإن علم أنه مريضٌ عاده وزاره،
وإن علم أن محتاجٌ أعانه،أو طلب من المؤمنين أن يُعينوا أخاهم،
وإن عَلِمَ أن به مشكلة ذهب إليه وفحصَّها وحلَّها، فيشعر المؤمن بإخوة المؤمنين وبرعاية المجتمع للمسلمين.
لكننا في هذا الزمان كثرت الجموع في المساجد، وكلنا نصلِّي معاً وبعد انتهاء الصلاة تقول لمن حولك يميناً وشمالاً: السلام عليكم –
السلام يقتضي المعرفة والتفقد، ولكنك تقول له: السلام ولا تعرفه، ولا تريد أن تتعرف عليه
كانت المساجد تجعل المسلمين أجمعين يتباحثون في مشاكلهم، وينظرون في أمورهم، فيحلُّون كلَّ المشاكل التي في منطقتهم ومحلاتهم، ولا يحتاجون إلى حكومة تدخل بينهم - إلاَّ في الأمور الكبرى العُظمى التي تحتاج إلى قيادة مركزية - لكن معظم الأمور التي بينهم يحلونها، فكان المسجد هو مجلس القضاء، والقضاة هم المصلُّون، يأتون بالمتخاصمين ويحلُّون المشاكل بينهم ويرضونهم ويخرجون من المساجد متصالحين،
والمسجد هو حلُّ لمشاكل الفقراء والمرضى والمساكين،
والمسجد هو إذهاب الهمِّ والغم عن المهمومين.
كلُّ ذلك لأن المؤمنين كانوا في بيوت الله يجعلون المسجد واحة لجميع المؤمنين.
فهلاَّ عدنا إلى هذا الدور مرةً أخرى؟ ونكرِّرُ سيرة الأولين؟ وننفذ هدى النَّبِيِّ الأمين؟ لعل الله عزّ وجلَّ ينظر إلينا نظر عطفٍ وحنان، ويُصلح حالنا كما أصلح حالهم، ويغير شأننا كما غير شأنهم، ويُغْنِينَا بعد فاقة، ويُعزُّنا بعد ذلة، ويجمعنا بعد فرقة، ويحفظنا بحفظه وصيانته من شرِّ الكافرين والمنافقين وأهل الشرِّ أجمعين.
🤲 ثم الدعاء🤲
وللمزيد من الخطب متابعة
صفحة الخطب الإلهامية
او
الدخول على موقع فضيلة
الشيخ فوزي محمد أبوزيد
ودوره في المجتمع
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
الحمد لله رب العالمين، خلقنا بقدرته ودبَّر أمورنا كلها ظاهراً وباطناً بحكمته، وأمرنا أن نشكره على ذلك جل وعلا بحُسن عبادته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الغني بذاته وصفاته عن جميع مخلوقاته، سبحانه سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، والأمر في ذلك كما قال كتابه المبين:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (15الجاثية).
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، أول العابدين وحامل لواء الحمد للخلائق أجمعين يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد واجعلنا به مقتدين، وعلى هديه سائرين، وارزقنا شفاعته واجعلنا تحت لواء حمده وكرمه يوم الدين، واجعلنا من أهل جواره في جنة الفردوس أجمعين آمين يا رب العالمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
جعل الله عزّ وجلَّ لكل واحدٍ في الكون بيتٌ يؤويه، وطعامٌ يتناوله بِفِيه، من طيبات الأرض ومستلذاتها،
وجعل لكل مؤمنٍ بيتين، ولكل مؤمنٍ طعامين، بيتٌ يسكن فيه مع أهله، ويأكل فيه ما يشتهي وتشتهه نفسه من طيبات الحياة الدنيا،
وبيتٌ آخرٌ هو بيت ربِّه عزّ وجلَّ، يأكل منه - مِنْ الله مباشرةً - طعام المحبة، وزاد التقوى والخشية، ويكرمه الله عزّ وجلَّ في ضيافته فينزل على قلبه السكينة وبرد الطمأنينة، ويشرح صدره ويُيسر أمره فيمشي في الحياة، بالزاد الذي أخذه من مولاه فيكون كما قال الله في الصادقين من عباد الله:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (97النحل).
ولذا يقول صلى الله عليه وسلم :
" من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى، وحق على المزور أن يكرم زائره"(رواه الطبراني عن سلمان رضي الله عنه)
أي أن الذي يأتي إلى هذا الموضع لابد أن يحظى بالإكرام من الكريم الأعلى عزّ وجلَّ.
كيف يكون إكرامه؟
يأتي الإنسان إلى بيت الله قد حَمِلَ من الهموم أثقالاً، فإذا خشع لله، وركع وسجد لله، يسقيه الله عزّ وجلَّ شراباً يقول فيه الله :
"وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا"(21 الإنسان)
فيخرج من الصلاة وقد استراح باله، هانئَ النفس قد زالت عنه هذه الهموم، وقد تطهر من هذه الوساوس والهواجس، لأن الله سقاه الشراب الطهور، وهو شرابٌ من النور يسقيه الله عزّ وجلَّ لمن أناب إليه ووقف بين يديه، لأنه سبحانه هو العزيز الغفور عزّ وجلَّ.
يسقيه الله عزّ وجلَّ من مائدة القرآن شراباً من العلم الإلهي، فيخرج من الصلاة وقد علم علوماً لم يقرأها في كتابٍ، ولم يسمعها من واعظٍ ولا عالم، كما كان أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
يوفقه الله للطريق السديد إذا احتار في أي أمرٍ ووقف بين يديه واستخاره وصلَّى ركعتين يستخير الله يجد الله عزّ وجلَّ يتولاه بولايته، ويرعاه بعنايته، ويخرج من الصلاة وقد تبين الطريق القويم الذي يسلكه فيجد توفيق الله عزّ وجلَّ معه
يجد الله عزّ وجلَّ إذا دعاه واشتكى إليه في أي امر يجد الإجابة الفورية من الله جلَّ في عُلاه من بابٍ لم يخطر على باله قطّ ولم يفكر فيه، لأن الله قال لهذا الجمع وأمثالهم:
﴿وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (2، 3الطلاق).
يأتيه الرزق من باب لم يفكر فيه ولم يخطر على باله، لأن الله يرزق المؤمنين من ألطافه الخفية التي لا تتناولها الحسابات ولا يدريها الملائكة، وإنما هي خصوصية من الله عزّ وجلَّ لأهل القلوب التقية النقية.
وعلى ذلك كان أصحاب النبي ومن بعدهم من السلف الصالح والتابعين والأئمة أجمعين.
يجد في بيت الله عزّ وجلَّ كل ما يحتاج إليه،
فهو واحةٌ للنفس إذا شردت،
وهو راحة للقلب إذا ضنى،
وهو إعادة لقوة الجسم إذا عانى من التعب،
وهو موطن السكينة والطمأنينة.
فيه كل شيءٍ -
يخرج منه الإنسان وقد تأهل وتأهب لكل معضلات ومشكلات الأكوان،
ولذا لا نعجب إن عرفنا من الله عزّ وجلَّ أن الرجل الذي يتسلَّح من عند الرحمن في بيت الله يخرج وبه من القوة ما يساوى عشرة ممن لم يدخل بيت الله عزّ وجلَّ:
﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ (65الأنفال).
من أين هذه القوة؟
القوة القلبية والدوافع الروحانية - الإمدادات الربانية تُعطي الإنسان قوة لها قدرة يواجه بها أعباء هذه الحياة
قد يسأل سائل:
نحن والحمد لله ندخل المساجد، ودائماً كلُّ رجلٍ منا لله راكعٌ وساجدٌ، فلماذا لا نجد ما تتحدث عنه؟!!
لأننا لم نأتِ بالمواصفات التي ينبغي أن نكون عليها عند دخول هذه البيوت العامرات،
فإن الله عزّ وجلَّ قال لنا في شأن هذه المساجد:
"يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ"(31الأعراف)
تزيَّن بالزِّينة التي يحبُّها الله عند دخول بيت الله،
ما الزينة في هذه الآية؟
زينة للناس من اللبس والطيب ،
وزينة لرب الناس يقول فيها سيِّد الناس صلى الله عليه وسلم:
(إنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ [ رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].
ينظر الله عزّ وجلَّ إلى الزينة التي زيَّنا بها القلوب لأنها موضع نظر حضرة علام الغيوب عزّ وجلَّ.
إذا الزينة التي تلبسها لله!!
تُلبس قلبك زينة الحبِّ لله، ولرسول الله ولخلق الله،
تلبسه حُلَّة الخشوع والخشية والخوف من الله جلَّ في عُلاه،
تلبس جلباب التُقوى التي يقول فيها الله: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ (26الأعراف).
قال صلى الله عليه وسلَّم:
"المسجد بيت كل تقيّ، وتكفَّل الله لمن كان المسجد بيته بالروْح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله في الجنة" (رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه)
ولذلك امرنا الله أن نجعلها خالصة لله فقال سبحانه:
"وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا"
فاجعلوا المساجد لله، وابعدوها عن كلِّ ما طلب الله عزّ وجلَّ أن نبعدها عنها، حتى نتجمَّل ظاهراً وباطناً بما يحبه الله ويرضاه
قال حبيب الله صلى الله عليه وسلم:
(جنبوا مساجدكم صبيانكم)، أي الذين لم يبلغوا سبع سنين، ولم يعرفوا آداب الطهارة والوضوء وكيفية الصلاة :
(جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ، وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ، وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ (رواه ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الشَّامِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا)
كل ذلك ينبغي أن يبتعد عن بيت الله، لأن المسجد بيتاً لله عزّ وجلَّ، ولا يذكر فيه سواه
وقال الحبيب صلى الله عليه وسلَّم في قومٍ رآهم بعين بصيرته في هذه الآنات :
" سيأتي على النَّاسِ زمانٌ يقعُدونَ في المساجدِ حِلقًا حِلقًا مناهمُ الدُّنيا لا تجالِسوهمُ فإنَّهُ ليسَ للَّهِ فيهم حاجةٌ " ( رواه الطبراني في معجمه وابن حبان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
إياك أن تأتي بالدنيا إلى بيت الله. عندما تدخل إلى بيت الله اجعل الدنيا وراء ظهرك واجعل الله عزّ وجلَّ في وجهك، وأقبل على الله تجد كل الفضل وكل الخير وكل الروح والريحان من الله عزّ وجلَّ
قال صلى الله عليه وسلَّم :
(يقول الله تعالى يوم القيامة: أين جيراني من عبادي؟ فتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا! وَمَنْ يَنْبَغِيَ أَنْ يُجَاوِرَكَ? فَيَقُولُ: أَيْنَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ)[ أخرجه الحارث بن أسامة في مسنده].
فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون،
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، واعطنا الخير وادفع عنا الشر ونجنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا يا رب العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
سعدت الأمة الإسلامية في مطلع الدعوة وبعدها، لأنهم جعلوا المساجد هي بيت الأمة، يلتقون فيها فيتعارفون، ويتوادون ويتعاطفون
كل مؤمنٍ ينبغي عليه أن يعرف الذين حوله من المؤمنين،
وإذا غاب أحدهم تفقده،
وإذا نظر إلى أحدهم ووجد في وجهه أنه محتاجٌ ساعده،
وإذا نظر إليه ووجده مهمومٌ خفَّف عنه، فيكون المؤمن للمؤمن كما قال الحبيب:
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)[ متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه].
وكان صلى الله عليه وسلَّم يبدأ في ذلك بنفسه،
فكان إذا لاحظ أن رجلاً لم يظهر في المسجد ثلاثة أيام يسأل عنه، فإن علم أنه مريضٌ عاده وزاره،
وإن علم أن محتاجٌ أعانه،أو طلب من المؤمنين أن يُعينوا أخاهم،
وإن عَلِمَ أن به مشكلة ذهب إليه وفحصَّها وحلَّها، فيشعر المؤمن بإخوة المؤمنين وبرعاية المجتمع للمسلمين.
لكننا في هذا الزمان كثرت الجموع في المساجد، وكلنا نصلِّي معاً وبعد انتهاء الصلاة تقول لمن حولك يميناً وشمالاً: السلام عليكم –
السلام يقتضي المعرفة والتفقد، ولكنك تقول له: السلام ولا تعرفه، ولا تريد أن تتعرف عليه
كانت المساجد تجعل المسلمين أجمعين يتباحثون في مشاكلهم، وينظرون في أمورهم، فيحلُّون كلَّ المشاكل التي في منطقتهم ومحلاتهم، ولا يحتاجون إلى حكومة تدخل بينهم - إلاَّ في الأمور الكبرى العُظمى التي تحتاج إلى قيادة مركزية - لكن معظم الأمور التي بينهم يحلونها، فكان المسجد هو مجلس القضاء، والقضاة هم المصلُّون، يأتون بالمتخاصمين ويحلُّون المشاكل بينهم ويرضونهم ويخرجون من المساجد متصالحين،
والمسجد هو حلُّ لمشاكل الفقراء والمرضى والمساكين،
والمسجد هو إذهاب الهمِّ والغم عن المهمومين.
كلُّ ذلك لأن المؤمنين كانوا في بيوت الله يجعلون المسجد واحة لجميع المؤمنين.
فهلاَّ عدنا إلى هذا الدور مرةً أخرى؟ ونكرِّرُ سيرة الأولين؟ وننفذ هدى النَّبِيِّ الأمين؟ لعل الله عزّ وجلَّ ينظر إلينا نظر عطفٍ وحنان، ويُصلح حالنا كما أصلح حالهم، ويغير شأننا كما غير شأنهم، ويُغْنِينَا بعد فاقة، ويُعزُّنا بعد ذلة، ويجمعنا بعد فرقة، ويحفظنا بحفظه وصيانته من شرِّ الكافرين والمنافقين وأهل الشرِّ أجمعين.
🤲 ثم الدعاء🤲
وللمزيد من الخطب متابعة
صفحة الخطب الإلهامية
او
الدخول على موقع فضيلة
الشيخ فوزي محمد أبوزيد