مصر اليهودية :
ويمكث موسى في مصر مدة تطول أو تقصر إلا أن الديانة اليهودية أخذت تتوسع مما أزعج فرعون مصر(13) ، وأراد موسى الخروج لرؤيا شهدها(14) ، أو بأمر من فرعون(15) ، ثم يلحقه فرعون وتتم نهايته بالغرق وإخراج بدنه ليكون آية عظيمة لكل متكبر (16) ، ويدخل موسى ( ) أرض سيناء ، أرض البركة ، أرض النفحة ، وتنزل عليهم بركات السماء إلا أن الوعد الإلهي أمر موسى بخروج بنى إسرائيل من مصر ، وأمره أن يلقي ربه أياما معدودة ، ثلاثين ثم زيدت بعدها عشرا " وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ " (17) . وتظهر الشخصية الإيمانية ، المتمثلة في شخصية هارون والمؤمنون ، وتطفو سحائب الظلمة والعدوان من الكافرين فيظهر" السامري " 0
فعندما غاب موسى عن قومه أخذت الحضارة المصرية القديمة تبث نارها في جسد الكيان اليهودي الذي تربي في مصر على الحس حاكيا لنا سفر الخروج " لما رأي الشعب أن موسى ابطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : " اصنع لنا إلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من مصر لا نعلم ماذا أصابه " (18)، ومن المحقق أن بني إسرائيل باتخاذهم العجل بعد موسى إنما كانوا متشبهين بما اعتادوا عليه في مصر، مرتدين عن شريعة موسى ، وأنهم اتخذوا من حليهم الذهبية فتنه " تحتحور " الذهبية(19) 0
وما كان لها من منزلة في النفوس ، وذلك فضلا عما تأثروا به من حب المصريين للذهب وصنع تماثيلهم الثمينة منه(20)0
وليس هذا فقط بل إن البعض من العلماء يؤكد أن نفسية اليهود في مصر كانت تقبل الذل والهوان ويكشف الرب في الكتاب المقدس أن سر عبوديتهم في مصر ليس قساوة قلب فرعون وإنما انحراف قلب الشعب فيقول " قلت لهم اطرحوا كل إنسان منكم أرجاس عينيه ولا تتنجسوا بأصنام مصر أنا الرب إلهكم فتمردوا عليه "(21) ، في الوقت الذي كان الله يهيئ لهم الأرض التي تفيض عسلا ولبنا فرفضوا طرح أرجاس عيونهم والتخلي عن الأصنام ، ومع هذا لم يسخط عليهم في ارض مصر بل أخرجهم بقوة لأجل اسمه القدوس(22) ، حتى يتمجد فيهم وسط الأمم(23) 0
ولم تكن هذه صورة منفردة من الحضارة المصرية ، بل إن موسى ( ) عمل حية نحاسا ظل بنو إسرائيل يعبدونها حتى ملك عليهم " حزقيا " بن آحاز فأزالها (24) ، فهذه الحية من مصر الفرعونية المتمثلة في السيدة الطيبة : الكوبرا " ( رع ـ رننوتت ) سيدة مخازن الحبوب تأخذ أولي ثمار الحقل من الفلاح ، لأنها أشرفت على نمو النبات(25) ، فالحية الموسوية المعبودة لها أصل فرعوني قديم ، فقد استمد بنى إسرائيل بعض معتقداتهم من الحضارات كما يقول المؤرخ العالمي / ارنولد توبيني ، عن إله اليهود " كان يهوه "(26) ، إله قبيلة بدوية وتطورت هذه الديانة حتى بلغت مرحلة متقدمة على يد الأنبياء في القرن الثامن قبل الميلاد(27) ، بل إن الشريعة اليهودية في معتقد اليهود والتى أصلها الألواح التسع أو السبع عند نزول موسى تأخذ جانبا من الغموض كغموض المصري القديم، فمصر الفرعونية كانت تجعل للكاهن السلطة العليا ، فمهمة الكاهن ـ خادم الإله(28)، المحافظة على رمزية الإله على أتم وجه والعناية به والمحافظة عليه من الأضرار الخارجية التي قد تنقص من صلاحيته للعمل على الأرض ، وكذلك جعل بني إسرائيل طائفة يحافظون على الألواح الخاصة والعامة فالألواح الموسوية التسع سبعة عامة واثنان خاصة(29) ، فمن هذه الألواح : ـ
اللوح الأول(30) : " النور " وفيه وصف بالواحدية والفردية الإلهية 0
واللوح الثاني : " الهدى " وفيه علم الكشف عن أحوال الملل وأخبار من كان قبلهم وبعدهم 0
واللوح الثالث : " الحكمة " وفيه كيفية السلوك العلمي بطريق التجلي والذوق في الحظائر القديسية الإلهية من خلع النعلين وتراقي الطور ومكالمة الشجرة ورؤيا النار في الليل المظلم فإنها كلها من أسرار الإلهيات 0
واللوح الرابع : " القوى " فيه علم التنزلات الحكيمة ،وفى القوي البشرية ،وهذا علم الأذواق من حصله من بني إسرائيل كان حبرا ،وهو على مرتبة ورثة موسى 0
واللوح الخامس : " الحكم " فيه علم الأوامر والنواهي ، وهما التي فرضها الله على بني إسرائيل وحرمها 0
واللوح السادس : " العبودية " وفيه معرفة الأحكام اللازمة للخلق من الذل والافتقار والخوف والخضوع 0
واللوح السابع : " طريق السعادة " يذكر فيه الطريق إلي الله ـ تعالي ـ ثم يبين طرق السعادة من الشقاوة 0
ونجد في هذا اللوح للشخصية اليهودية التي ابتدعت في الدين ما ليس منه فنجد الجيليي يقول : "ومن هذا اللوح ابتدع قوم موسى ما ابتدعوه في دينهم رغبة ورهبانية ابتدعوها واستخرجوا ذلك من أفكارهم وعقولهم ، لا من كلام موسى بل من كلام الله ـ تعالي ـ فما رعوها حق رعايتها ، فلو أنهم استخرجوا ذلك بطريق الأخبار الإلهية والكشف الإلهي لكان الله يقدر لهم ذلك "(31) 0
أما اللوحين الثامن والتاسع : فهما " الربوبية " و " القدرة " فقد أنزل الله على موسى تسع ألواح وأمره أن يبلغ سبعة ويترك لوحين ، لأن العقول لا تكاد تقبل ما في ذلك اللوحين ، فلو أبرزها موسى لا ننقض ـ كما يقول الجيليي ـ عليه ما يطلبه ، وكان لا يؤمن به رجل واحد ، فهما مخصوصان لموسى ( ) دون غيره من أهل ذلك الزمان(32) 0
وهذه الألواح التسع مصدر الدين اليهودي . وحمل لواء تعليمه طائفة من اليهود يتناقلون العلم بينهم ، وتبدأ المشافهات استمدادا لهذين اللوحين ، فتظهر الحضارة المصرية في الفكر اليهودي البدائي بوجود سر لا يعلمه إلا الكاهن ، وحقائق تشريعية مستمدة من الإله إلي الكاهن ، فينطق بلسان الإله 0
وينطلق الشعب اليهودي تاركا مصر ، فاتحا فلسطين ، وتبقي مصر فاتحة أبوابها لكل شرائع السماء منتظرة هبوب رياح الخير في رحلة السيد المسيح راجية له وصولا آمنا وسلامة من كل غدر0
مصر المسيحية(33):
دخل مسيحنا إلي مصرنا هاربا من وجه " هيرودس " ، الذي يسكب سمة الصليب على شعبه مصر ، فتبقي كنيسته تتمتع بشركة آلامه ، وتشاركه صلبه عبر العصور ، فتحمل مع الصلب بهجة القيامة ومجدها(34) ، فمصر في المسيحية لها مكانة عظيمة متمثلة في أدوارها عبر الزمان مع أنبياء الله، فهى كجنة الرب ، لأنه في الكتاب يقول " كجنة الرب كأرض مصر " (35) ، وهروب الطفل " يسوع " المسيح إلي مصر مع القديسة "مريم " والدته والقديس " يوسف " لم يكن بالأمر الثانوي في أحداث الخلاص فلقد رآه " إشعياء النبى " ، قبل حدوثه بأكثر من سبعة قرون وسجل لنا هذا الحديث في إصحاحه قائلا " هو ذا الرب راكب على سحابه سريعة وقادم إلي مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها "(36) .
وكان يمكن للسيد المسيح أن يلتجئ إلي مدينة في اليهودية أو الخليل ، لكنه أراد تقديس أرض مصر رائدة العالم الأمي ، ليقم في وسطها لتصبح مركز إشعاع إيماني حتى ، فقد تحولت من عبادة الأوثان وعجل " أبيس " والقطط والتماسيح والضفادع إلي أعظم مركز للفكر المسيحي والعبادة الروحية والحياة الإنجيلية ، ففى فترة وجيزة تلألأ نجم كنيسة مصر بمدينة الأسكندرية معلمة اللاهوت ، وتغير الكتاب المقدس للعالم المسيحي الأول ، وقادت حركة الدفاع عن الإيمان المستقيم على مستوى مسكوفي ، ومن مصر انطلقت حركة الرهبنة المسيحية بكل صورها تسحب قلب الكنيسة إلي البرية تمارس الحياة الداخلية الملائكية ، في نفس الوقت الذي انفتحت فيه أبواب البلاط الإمبراطوري لرجال الدين ، وكان الخطر يلاحق الكنيسة ، حيث يختلط العمل الروحي بالسلطة الزمنية والسياسية(37) 0
وأقبل الشعب المصري على الديانة المسيحية إقبالا يتفق مع مقولة " هيرودوت " عنهم بأنهم قوم يخافون الله ولم يبالوا بالاضطهاد والعنف اللذان تعرضوا لهما من جانب الأباطرة الوثنيين ، وهو الاضطهاد الذي بلغ ذروته في عصر الإمبراطور" دقلديانوس " ـ 284 ـ 305 م (38) . فقد دخلت المسيحية في منتصف القرن الأول الميلادي ، ويرجح العلماء في عهد الإمبراطور " نيرون " ، وكان حامل لواء المسيحية في مصر المبشر القديس " مرقس " ، ويفسر العلماء الإقبال الشديد على المسيحية بالدوافع القومية وكراهيتهم للمستعمر الروماني ، والرغبة في اعتناق ما يخالفه ويرفض ظلمه وجوره، فقد كان المصريون يفهمون المسيحية فهما سطحيا لا يستوعبون ما في معتقداتها من جدل وغموض(39).
ويؤكد الباحثون أن المسيحية أخذت في الانتشار تدريجيا في أنحاء مصر منذ القرن الثاني الميلادي ، فالقي الناس فيها زادا روحيا يستمدون منه القوة والقدرة على مقاومة ظلم أباطرة الرومان ، فلم تلبث المسيحية حتى لقيت قبولا في عهد " قسطنطين الأول " ـ 223 ـ 337م ، مع غيرها من البيانات الأخرى ، ثم صارت الدين الرسمي الوحيد لها أيام الإمبراطور "تيودوسيوس الأول " ( 379 ـ 395 م ) ، ثم صدر أمران ملكيان بتحريم العبادات الوثنية سنتي 392 م ، 394م، وهذان الأمران قد أراحا المصريين وغيرهم من معتنقي المسيحية من الاضطهاد وتمتعوا بالحرية الدينية(40) ، فمنذ دخول المسيحية إلي مصر والأسكندرية خاصة وإلي وادي النيل عامة على يد البشير " مرقس " نفسه واستشهاده في الكنيسة(41) ، والمسيحية في اضطهاد حتى صدر مرسوم " ميلانو " سنة 313م الذي سمح بحرية الأديان(42) ، مما اضطر البعض إلي استخدام الرهبنة نوعا لمقاومة من الرومان والبيزنطيين في صورة سلبية ،وقد ابتدعها المصريون ولم تكن في أصل الديانة المسيحية ، واقدم راهب يذكره التاريخ هو " بولس الطيبي " من أهل طيبة ـ الأقصر ـ وقد فر مع غيره من الاضطهاد، ولاذ بالصحراء ، واعتبرهم كثير من المصريين أبطالا مجاهدين واعجبوا بزهدهم وجلدهم، والتف حولهم اتباع ومربيون (43) 0
ومبدع الرهبانية المسيحية مصري من قمن اسمه " انطونيوس " الشهيد ( كوكب البرية ) ولد حوالي سنة 215م(44) ، ومن مصر انتقلت الرهبانية إلي بلدان الشرق الأوسط وإلي سوريا وفلسطين وآسيا الصغرى وبين النهرين ، حيث أسست المناسك والأديرة فوق قمم الجبال وفى تيه الصحراء على النماذج التي أنشأت في مصر(45) ، وأضحت مصر هي المثل الذي يحتذي به في المسيحية ويعيش علمائها على نمط مصر ، وعلى غرار علمائها تربي المسيحيون في أرجاء المعمورة تلامذة على يده علماء مسيحية مصر نورا وهداية ، فمن أبرز علماء مصر ( إثناغوراس ) الفيلسوف الذي كتب كتابا في عام 176 ـ 177م ، يدافع فيه عن المسيحيين ضد الاضطهاد الواقع عليهم في حكم الإمبراطور مرقس أوريليوس أنطونيوس وانبه كومودوس ، كما كتب كتابا آخر عن قيامة الأجساد وهو أول محاولة من نوعها لكتاب مسيحي يثبت فيه هذه العقيدة بأدلة من العقل بعيدة عن الوحي ونصوص الكتاب المقدس ويرد فيه على الاعتراضات العلمية التي يثيرها العلماء في زمانه ضد إمكانية قيام الأجساد(46) 0
وفي مصر أنشئت أول مدرسة علمية مسيحية في العالم هي مدرسة الإسكندرية ، فهي تؤمن بالمعرفة والدراسة والبحث ، لا تقاوم العلم والفلسفة بل تقدس كل معرفة فقد ظهر فيها فلاسفة مؤمنون أمثال القديس بنتينوس Pantecnas الذي فسر جميع أسفار الكتاب المقدس وهو أول من قاد حركة الترجمة للكتاب المقدس إلي لغة الضبط وكان ذلك قبل سنة 190 م وقد قام بأول رحلة دينية إلي بلاد الهند مبشرا أهلها بالسيد المسيح(47) ، والكمينفس الإسكندري والعلامة إثيناغوراس عميد مدرسة الأسكندرية والعلامة أوريجينوس في القرن الثاني أمير شراح الكتاب المقدس(48) 0
فهم يسيرون على درب الحواريين أصحاب السيد المسيح ، وغيرهم كالرسول " توما " الذي ذهب إلي جزر الهند الشرقية ، وأندورواس الذي وصل إلي آسيا الصغري ومنهم من شغل نفسه في البلاد الأوروبية فأرسل صحابته إلي إفريقية الشمالية وعمت الدعوى مصر وبلاد العرب والعراق فضلا عن الدعوة في فلسطين(49) 0
ولم تكن مصر قاصرة على العلم والحكمة بل رائدة في بدء إنطلاق الحركات الرهبانية بكل أنواعها كالتوحد على يد الأنبا أنطونيوس والشركة على يد القديس باخوميوس ونظام الجماعات على يد القديس متاريوس الكبير والأنبا آمون(50) 0
بل أدخلت المسيحية في بلاد النوبة تنفيذاً لسياسة الكنيسة وجاهد أحبارها جهادا طويلا حتى نشروا المسيحية في ممالك السودان الثلاث في العصور الوسطي وهى بحسب ترتيبها من الشمال إلي الجنوب ـ النوبة ثم مفرة ثم علوه 0
وقد كتب الرحالة المصري كوسماس المعروف بالبحار الهندي بين سنتي ( 537 ، 547 م ) يقول : إن الكنائس المسيحية المنتشرة بين النوبيين وكذلك الأساقفة والرهبان والشهداء بفضل المصريين الذين أدخلوا في السودان ونشروا المسيحية(51) 0
فمصر تعد في الكيان المسيحي حياة الإنسان الإيماني متمثلة في أطواره الإيمانية ، فهو ينتقل من مرحلة إلي أخري ، كذلك مصر السماوية ، فدخول بني إسرائيل في مصر وعد بالجنة ، ومكوث آدم عليه السلام فيها قبل الوقوع في الخطيئة وقيام فرعون مصر المستبد يمثل الإنسان العنيف المستعبد لإبليس وجنوده(52) 0
وتستمر المسيحية في مصر منتظره بشارة السيد المسيح القادمة من جبال فاران ، شاهده " الفار قليط " ، منتظرة وصول رسول جديد خاتم المرسلين ووصول رسالة السماء الخاتمة بالإسلام على يد رسولها محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام
ويمكث موسى في مصر مدة تطول أو تقصر إلا أن الديانة اليهودية أخذت تتوسع مما أزعج فرعون مصر(13) ، وأراد موسى الخروج لرؤيا شهدها(14) ، أو بأمر من فرعون(15) ، ثم يلحقه فرعون وتتم نهايته بالغرق وإخراج بدنه ليكون آية عظيمة لكل متكبر (16) ، ويدخل موسى ( ) أرض سيناء ، أرض البركة ، أرض النفحة ، وتنزل عليهم بركات السماء إلا أن الوعد الإلهي أمر موسى بخروج بنى إسرائيل من مصر ، وأمره أن يلقي ربه أياما معدودة ، ثلاثين ثم زيدت بعدها عشرا " وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ " (17) . وتظهر الشخصية الإيمانية ، المتمثلة في شخصية هارون والمؤمنون ، وتطفو سحائب الظلمة والعدوان من الكافرين فيظهر" السامري " 0
فعندما غاب موسى عن قومه أخذت الحضارة المصرية القديمة تبث نارها في جسد الكيان اليهودي الذي تربي في مصر على الحس حاكيا لنا سفر الخروج " لما رأي الشعب أن موسى ابطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : " اصنع لنا إلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من مصر لا نعلم ماذا أصابه " (18)، ومن المحقق أن بني إسرائيل باتخاذهم العجل بعد موسى إنما كانوا متشبهين بما اعتادوا عليه في مصر، مرتدين عن شريعة موسى ، وأنهم اتخذوا من حليهم الذهبية فتنه " تحتحور " الذهبية(19) 0
وما كان لها من منزلة في النفوس ، وذلك فضلا عما تأثروا به من حب المصريين للذهب وصنع تماثيلهم الثمينة منه(20)0
وليس هذا فقط بل إن البعض من العلماء يؤكد أن نفسية اليهود في مصر كانت تقبل الذل والهوان ويكشف الرب في الكتاب المقدس أن سر عبوديتهم في مصر ليس قساوة قلب فرعون وإنما انحراف قلب الشعب فيقول " قلت لهم اطرحوا كل إنسان منكم أرجاس عينيه ولا تتنجسوا بأصنام مصر أنا الرب إلهكم فتمردوا عليه "(21) ، في الوقت الذي كان الله يهيئ لهم الأرض التي تفيض عسلا ولبنا فرفضوا طرح أرجاس عيونهم والتخلي عن الأصنام ، ومع هذا لم يسخط عليهم في ارض مصر بل أخرجهم بقوة لأجل اسمه القدوس(22) ، حتى يتمجد فيهم وسط الأمم(23) 0
ولم تكن هذه صورة منفردة من الحضارة المصرية ، بل إن موسى ( ) عمل حية نحاسا ظل بنو إسرائيل يعبدونها حتى ملك عليهم " حزقيا " بن آحاز فأزالها (24) ، فهذه الحية من مصر الفرعونية المتمثلة في السيدة الطيبة : الكوبرا " ( رع ـ رننوتت ) سيدة مخازن الحبوب تأخذ أولي ثمار الحقل من الفلاح ، لأنها أشرفت على نمو النبات(25) ، فالحية الموسوية المعبودة لها أصل فرعوني قديم ، فقد استمد بنى إسرائيل بعض معتقداتهم من الحضارات كما يقول المؤرخ العالمي / ارنولد توبيني ، عن إله اليهود " كان يهوه "(26) ، إله قبيلة بدوية وتطورت هذه الديانة حتى بلغت مرحلة متقدمة على يد الأنبياء في القرن الثامن قبل الميلاد(27) ، بل إن الشريعة اليهودية في معتقد اليهود والتى أصلها الألواح التسع أو السبع عند نزول موسى تأخذ جانبا من الغموض كغموض المصري القديم، فمصر الفرعونية كانت تجعل للكاهن السلطة العليا ، فمهمة الكاهن ـ خادم الإله(28)، المحافظة على رمزية الإله على أتم وجه والعناية به والمحافظة عليه من الأضرار الخارجية التي قد تنقص من صلاحيته للعمل على الأرض ، وكذلك جعل بني إسرائيل طائفة يحافظون على الألواح الخاصة والعامة فالألواح الموسوية التسع سبعة عامة واثنان خاصة(29) ، فمن هذه الألواح : ـ
اللوح الأول(30) : " النور " وفيه وصف بالواحدية والفردية الإلهية 0
واللوح الثاني : " الهدى " وفيه علم الكشف عن أحوال الملل وأخبار من كان قبلهم وبعدهم 0
واللوح الثالث : " الحكمة " وفيه كيفية السلوك العلمي بطريق التجلي والذوق في الحظائر القديسية الإلهية من خلع النعلين وتراقي الطور ومكالمة الشجرة ورؤيا النار في الليل المظلم فإنها كلها من أسرار الإلهيات 0
واللوح الرابع : " القوى " فيه علم التنزلات الحكيمة ،وفى القوي البشرية ،وهذا علم الأذواق من حصله من بني إسرائيل كان حبرا ،وهو على مرتبة ورثة موسى 0
واللوح الخامس : " الحكم " فيه علم الأوامر والنواهي ، وهما التي فرضها الله على بني إسرائيل وحرمها 0
واللوح السادس : " العبودية " وفيه معرفة الأحكام اللازمة للخلق من الذل والافتقار والخوف والخضوع 0
واللوح السابع : " طريق السعادة " يذكر فيه الطريق إلي الله ـ تعالي ـ ثم يبين طرق السعادة من الشقاوة 0
ونجد في هذا اللوح للشخصية اليهودية التي ابتدعت في الدين ما ليس منه فنجد الجيليي يقول : "ومن هذا اللوح ابتدع قوم موسى ما ابتدعوه في دينهم رغبة ورهبانية ابتدعوها واستخرجوا ذلك من أفكارهم وعقولهم ، لا من كلام موسى بل من كلام الله ـ تعالي ـ فما رعوها حق رعايتها ، فلو أنهم استخرجوا ذلك بطريق الأخبار الإلهية والكشف الإلهي لكان الله يقدر لهم ذلك "(31) 0
أما اللوحين الثامن والتاسع : فهما " الربوبية " و " القدرة " فقد أنزل الله على موسى تسع ألواح وأمره أن يبلغ سبعة ويترك لوحين ، لأن العقول لا تكاد تقبل ما في ذلك اللوحين ، فلو أبرزها موسى لا ننقض ـ كما يقول الجيليي ـ عليه ما يطلبه ، وكان لا يؤمن به رجل واحد ، فهما مخصوصان لموسى ( ) دون غيره من أهل ذلك الزمان(32) 0
وهذه الألواح التسع مصدر الدين اليهودي . وحمل لواء تعليمه طائفة من اليهود يتناقلون العلم بينهم ، وتبدأ المشافهات استمدادا لهذين اللوحين ، فتظهر الحضارة المصرية في الفكر اليهودي البدائي بوجود سر لا يعلمه إلا الكاهن ، وحقائق تشريعية مستمدة من الإله إلي الكاهن ، فينطق بلسان الإله 0
وينطلق الشعب اليهودي تاركا مصر ، فاتحا فلسطين ، وتبقي مصر فاتحة أبوابها لكل شرائع السماء منتظرة هبوب رياح الخير في رحلة السيد المسيح راجية له وصولا آمنا وسلامة من كل غدر0
مصر المسيحية(33):
دخل مسيحنا إلي مصرنا هاربا من وجه " هيرودس " ، الذي يسكب سمة الصليب على شعبه مصر ، فتبقي كنيسته تتمتع بشركة آلامه ، وتشاركه صلبه عبر العصور ، فتحمل مع الصلب بهجة القيامة ومجدها(34) ، فمصر في المسيحية لها مكانة عظيمة متمثلة في أدوارها عبر الزمان مع أنبياء الله، فهى كجنة الرب ، لأنه في الكتاب يقول " كجنة الرب كأرض مصر " (35) ، وهروب الطفل " يسوع " المسيح إلي مصر مع القديسة "مريم " والدته والقديس " يوسف " لم يكن بالأمر الثانوي في أحداث الخلاص فلقد رآه " إشعياء النبى " ، قبل حدوثه بأكثر من سبعة قرون وسجل لنا هذا الحديث في إصحاحه قائلا " هو ذا الرب راكب على سحابه سريعة وقادم إلي مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها "(36) .
وكان يمكن للسيد المسيح أن يلتجئ إلي مدينة في اليهودية أو الخليل ، لكنه أراد تقديس أرض مصر رائدة العالم الأمي ، ليقم في وسطها لتصبح مركز إشعاع إيماني حتى ، فقد تحولت من عبادة الأوثان وعجل " أبيس " والقطط والتماسيح والضفادع إلي أعظم مركز للفكر المسيحي والعبادة الروحية والحياة الإنجيلية ، ففى فترة وجيزة تلألأ نجم كنيسة مصر بمدينة الأسكندرية معلمة اللاهوت ، وتغير الكتاب المقدس للعالم المسيحي الأول ، وقادت حركة الدفاع عن الإيمان المستقيم على مستوى مسكوفي ، ومن مصر انطلقت حركة الرهبنة المسيحية بكل صورها تسحب قلب الكنيسة إلي البرية تمارس الحياة الداخلية الملائكية ، في نفس الوقت الذي انفتحت فيه أبواب البلاط الإمبراطوري لرجال الدين ، وكان الخطر يلاحق الكنيسة ، حيث يختلط العمل الروحي بالسلطة الزمنية والسياسية(37) 0
وأقبل الشعب المصري على الديانة المسيحية إقبالا يتفق مع مقولة " هيرودوت " عنهم بأنهم قوم يخافون الله ولم يبالوا بالاضطهاد والعنف اللذان تعرضوا لهما من جانب الأباطرة الوثنيين ، وهو الاضطهاد الذي بلغ ذروته في عصر الإمبراطور" دقلديانوس " ـ 284 ـ 305 م (38) . فقد دخلت المسيحية في منتصف القرن الأول الميلادي ، ويرجح العلماء في عهد الإمبراطور " نيرون " ، وكان حامل لواء المسيحية في مصر المبشر القديس " مرقس " ، ويفسر العلماء الإقبال الشديد على المسيحية بالدوافع القومية وكراهيتهم للمستعمر الروماني ، والرغبة في اعتناق ما يخالفه ويرفض ظلمه وجوره، فقد كان المصريون يفهمون المسيحية فهما سطحيا لا يستوعبون ما في معتقداتها من جدل وغموض(39).
ويؤكد الباحثون أن المسيحية أخذت في الانتشار تدريجيا في أنحاء مصر منذ القرن الثاني الميلادي ، فالقي الناس فيها زادا روحيا يستمدون منه القوة والقدرة على مقاومة ظلم أباطرة الرومان ، فلم تلبث المسيحية حتى لقيت قبولا في عهد " قسطنطين الأول " ـ 223 ـ 337م ، مع غيرها من البيانات الأخرى ، ثم صارت الدين الرسمي الوحيد لها أيام الإمبراطور "تيودوسيوس الأول " ( 379 ـ 395 م ) ، ثم صدر أمران ملكيان بتحريم العبادات الوثنية سنتي 392 م ، 394م، وهذان الأمران قد أراحا المصريين وغيرهم من معتنقي المسيحية من الاضطهاد وتمتعوا بالحرية الدينية(40) ، فمنذ دخول المسيحية إلي مصر والأسكندرية خاصة وإلي وادي النيل عامة على يد البشير " مرقس " نفسه واستشهاده في الكنيسة(41) ، والمسيحية في اضطهاد حتى صدر مرسوم " ميلانو " سنة 313م الذي سمح بحرية الأديان(42) ، مما اضطر البعض إلي استخدام الرهبنة نوعا لمقاومة من الرومان والبيزنطيين في صورة سلبية ،وقد ابتدعها المصريون ولم تكن في أصل الديانة المسيحية ، واقدم راهب يذكره التاريخ هو " بولس الطيبي " من أهل طيبة ـ الأقصر ـ وقد فر مع غيره من الاضطهاد، ولاذ بالصحراء ، واعتبرهم كثير من المصريين أبطالا مجاهدين واعجبوا بزهدهم وجلدهم، والتف حولهم اتباع ومربيون (43) 0
ومبدع الرهبانية المسيحية مصري من قمن اسمه " انطونيوس " الشهيد ( كوكب البرية ) ولد حوالي سنة 215م(44) ، ومن مصر انتقلت الرهبانية إلي بلدان الشرق الأوسط وإلي سوريا وفلسطين وآسيا الصغرى وبين النهرين ، حيث أسست المناسك والأديرة فوق قمم الجبال وفى تيه الصحراء على النماذج التي أنشأت في مصر(45) ، وأضحت مصر هي المثل الذي يحتذي به في المسيحية ويعيش علمائها على نمط مصر ، وعلى غرار علمائها تربي المسيحيون في أرجاء المعمورة تلامذة على يده علماء مسيحية مصر نورا وهداية ، فمن أبرز علماء مصر ( إثناغوراس ) الفيلسوف الذي كتب كتابا في عام 176 ـ 177م ، يدافع فيه عن المسيحيين ضد الاضطهاد الواقع عليهم في حكم الإمبراطور مرقس أوريليوس أنطونيوس وانبه كومودوس ، كما كتب كتابا آخر عن قيامة الأجساد وهو أول محاولة من نوعها لكتاب مسيحي يثبت فيه هذه العقيدة بأدلة من العقل بعيدة عن الوحي ونصوص الكتاب المقدس ويرد فيه على الاعتراضات العلمية التي يثيرها العلماء في زمانه ضد إمكانية قيام الأجساد(46) 0
وفي مصر أنشئت أول مدرسة علمية مسيحية في العالم هي مدرسة الإسكندرية ، فهي تؤمن بالمعرفة والدراسة والبحث ، لا تقاوم العلم والفلسفة بل تقدس كل معرفة فقد ظهر فيها فلاسفة مؤمنون أمثال القديس بنتينوس Pantecnas الذي فسر جميع أسفار الكتاب المقدس وهو أول من قاد حركة الترجمة للكتاب المقدس إلي لغة الضبط وكان ذلك قبل سنة 190 م وقد قام بأول رحلة دينية إلي بلاد الهند مبشرا أهلها بالسيد المسيح(47) ، والكمينفس الإسكندري والعلامة إثيناغوراس عميد مدرسة الأسكندرية والعلامة أوريجينوس في القرن الثاني أمير شراح الكتاب المقدس(48) 0
فهم يسيرون على درب الحواريين أصحاب السيد المسيح ، وغيرهم كالرسول " توما " الذي ذهب إلي جزر الهند الشرقية ، وأندورواس الذي وصل إلي آسيا الصغري ومنهم من شغل نفسه في البلاد الأوروبية فأرسل صحابته إلي إفريقية الشمالية وعمت الدعوى مصر وبلاد العرب والعراق فضلا عن الدعوة في فلسطين(49) 0
ولم تكن مصر قاصرة على العلم والحكمة بل رائدة في بدء إنطلاق الحركات الرهبانية بكل أنواعها كالتوحد على يد الأنبا أنطونيوس والشركة على يد القديس باخوميوس ونظام الجماعات على يد القديس متاريوس الكبير والأنبا آمون(50) 0
بل أدخلت المسيحية في بلاد النوبة تنفيذاً لسياسة الكنيسة وجاهد أحبارها جهادا طويلا حتى نشروا المسيحية في ممالك السودان الثلاث في العصور الوسطي وهى بحسب ترتيبها من الشمال إلي الجنوب ـ النوبة ثم مفرة ثم علوه 0
وقد كتب الرحالة المصري كوسماس المعروف بالبحار الهندي بين سنتي ( 537 ، 547 م ) يقول : إن الكنائس المسيحية المنتشرة بين النوبيين وكذلك الأساقفة والرهبان والشهداء بفضل المصريين الذين أدخلوا في السودان ونشروا المسيحية(51) 0
فمصر تعد في الكيان المسيحي حياة الإنسان الإيماني متمثلة في أطواره الإيمانية ، فهو ينتقل من مرحلة إلي أخري ، كذلك مصر السماوية ، فدخول بني إسرائيل في مصر وعد بالجنة ، ومكوث آدم عليه السلام فيها قبل الوقوع في الخطيئة وقيام فرعون مصر المستبد يمثل الإنسان العنيف المستعبد لإبليس وجنوده(52) 0
وتستمر المسيحية في مصر منتظره بشارة السيد المسيح القادمة من جبال فاران ، شاهده " الفار قليط " ، منتظرة وصول رسول جديد خاتم المرسلين ووصول رسالة السماء الخاتمة بالإسلام على يد رسولها محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام