إن الخصومة الفكرية بين مختلف الطوائف الإسلامية لم تسلم منها طائفة, فلم يكن من الغريب ولا الشاذ أن تقحم الطائفة الصوفية في هذه الخصومة أصلا وفرعا. وفي هذه الكلمة إنما يستأثر باهتمامنا هو الأصل وليس الفروع؛
لأن سلامة الأصل تيسر محاكمة الفروع على ضوئه؛ لأن كل فرع مردود إلى أصله ومعتبر به. فإن وافقه حكم له بحكمه صوابه أو خطإه، وإن لم يوافقه انتفى نسبه وانقطع سببه، وحكم له بحكم نفسه، ورد إلى نوعه وجنسه.
ولهذا فأول ما نفتتح به هذا البحث هو الإسم والعنوان: الصوفية والتصوف.
ولأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره فلا بد من تعريف ماهيته بحد أو رسم أو تفسير،
كما يقول سيدي أحمد زروق.
وقد اختلف الناس في تعريف هذا اللفظ إلى ألفي قول، كما يقول سيدي أحمد زروق في قواعده، لكنه في نفس القاعدة يرده إلى صدق التوجه إلى الله تعالى وهو الإحسان.
قال السيوطي في النقاية:التصوف "تجريد القلب لله واحتقار ما سواه بالنسبة إليه".
وقال بعضهم: "هو السلو عن الأعراض بالسمو إلى الأغراض ".
واختلاف التعريفات - كما يقول ابن أبي شريف- راجع إلى مقام من مقامات التصوف غلب على قائله النظر إليه، فعرفه به باعتباره الركن الأعظم، كما عرف النبي عليه الصلاة والسلام الحج بقوله:" الحج عرفة" باعتبار ركنه الأعظم.
وقد أشار البستي إلى هذا الخلاف في تعريف التصوف بقوله:
تخالف الناس في الصوفي واختلـــــفوا جهلا وظنوه مشتقا من الصو ف
ولست أمنح هذا الإسم غير فتـــــــــى صاف فصوفي حتى سمي الصـــوفي
فإذا كان لنا أن نجري مقارنة حتى تتميز الأمور، لأنه بذلك تتبين الأشياء،
فلنقل مع أبي حامد الغزالي: إن علم المعاملة ينقسم إلى علم ظاهر وعلم باطن،
فعلم الظاهر هو أعمال الجوارح وعلم الباطن هو أعمال القلوب، والوارد على القلوب- التي هي بحكم الاحتجاب عن الحواس من عالم الملكوت- إما محمود أو مذموم .
فالتصوف هو النظر لأحوال القلوب، كما أن النظر لأحوال أعمال الجوارح سمي فقها إذ الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية.
ولا ينبغي التوقف عند الاسم والعنوان فلا مشاحة في الاصطلاح، والأسماء إنما تعتبر بحسب محتواها وفحواها عند أهلها فإذا كان هذا المحتوى حسنا كانت الأسماء حسنة والعكس صحيح .
ولعل ذلك مندرج في قوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها).
فما هو فحوى التصوف وما هو محتواه؟
إنه : صدق التوجه.
إنه الإحسان الذي هو الجزء الثالث من أجزاء هذا الدين، والذي كان حديث جبريل فيه يعتبر درس مراجعة لما درسه الصحابة في العشرين سنة السابقة. فقد جاء جبريل عليه السلام يسأل المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى يلخص رسالته العظيمة في الإسلام والإيمان والإحسان.
والإحسان كمال لا حدود له، وتسام لا سقف له فهو شعور بالحضور والشهود مقارنا للعبادة، فلا العبادة في نفسها تمثل الإحسان، ولا ذلك الشعور المتسامي والشهود المتعالي يمثل الإحسان حتى يجتمعا معا، وكانت كلمته عليه الصلاة والسلام إعجازا "أن تعبد الله كأنك تراه"، وهو يخاطب الأمة من خلال الروح الأمين الذي كان يصدقه في كل ما يقول ولهذا عجب الصحابة من هذا الطالب الغريب الذي يصدق الأستاذ: " عجبنا له يسأله ويصدقه" والمفروض أنه لا يعرف ما يسأل عنه. إن تصديقه له دليل على أنه على علم بما يسأل عنه.
والمعنى الذي أشرت إليه وهو مقارنة العبادة للشهود وإن كان غير متداول فقد أشار بعضهم إليه كسيدي أحمد زروق في القاعدة 21 حيث أشار إلى التلازم بين العلم والعمل قائلا: وقد عرف أن التصوف لا يعرف إلا مع العمل به فالاستظهار به دون عمل تدليس، فالعمل شرط كماله، وقد قيل: العلم بالعمل فإن وجده وإلا ارتحل.
العلامة عبدالله بن بية