الحمد لله العليم الحكيم .. والصلاة والسلام على نبيه الرؤوف الرحيم سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ... وبعد
ربَّى النبى صل الله عليه وسلم صحابته الكرام على تقوى الله وطاعته والعمل بشريعته، وقد الله أكرمهم الله عزوجل جميعاً فتأسَّوا بحضرته وتعلقوا به وأحبُّوه حبَّاً قال فيه الله جلَّ فى علاه:
(والذين آمنوا أشد حبا لله )(165 البقرة)
حتى فتح الله عزوجل عليهم بفتوحاته الوهبية، واختصهم بعطاءاته القدسية؛ فاستنارت بصائرهم، وساحت فى الملكوت الأعلى أرواحهم، وجاشت بالحقائق صدورهم، ونطقت بعلوم الحكمة والإلهام ألسنتهم، فكانوا بحقٍّ كما قال الله عزوجل فى شأنهم:
( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة )(108 يوسف)
فكان لكلامهم وقعٌ فى القلوب ولأحوالهم تأثيرٌ فى النفوس، وهذا هو المنهج الذى ارتضاه الله عزوجل للدعاة الحكماء فى كل زمان ومكان – هذا بالطبع من بعد تحصيل العلوم الأساسية اللازمة للداعية من علوم الشريعة المطهرة، وعلوم القرآن الكريم ، وعلوم الحديث النبوى والسيرة النبوية ولغة العرب-، والمنهج الذى يوصل لذلك قد فصلناه فى هذا الكتاب وموجزه:
1- تحرِّى المطعم الحلال.
2- طلب العلم النافــــــــــــع.
3- القيام بفرائض الله مع حضور القلب والخشوع لجلال الله.
4- حفظ الجوارح من المعاصى والفتن ما ظهر منها وما بطن.
5- إنشغال القلب بالكلية بالله عزوجل ، ومراقبته سبحانه وتعالى فى السرِّ والعلن.
6- التخلُّق بأخلاق النبى المختار وصحابته الأبرار.
7- المداومة على ذكر الله والأعمال الصالحة الموصلة لرضاه.
فإذا واظب المرء على ذلك، فى صحبة رجل تقىٍّ نقىٍّ عَمِلَ بما عَلِم فورَّثه الله عِلم ما لم يكن يعلم؛ أكرمه الله عزوجل بالفتح المبين ! .فيفتح له سبحانه أبواب قربه ورضاه ..، ويفتح عليه بالخصوصيات التى نالها الصالحون من عباد الله .. ويفتح به قلوب المخلصين والصادقين من عباد الله .. ويكون نوراً لمن حوله يجذبهم من ظلمات الجهالة وضلالة البعد! إلى نور القرب والأنس .. من القريب جلَّ فى علاه !!! وما أجمل وصف الرجل الصالح لهذا الصنف العزيز من الدعاة حيث يقول:
تحيا بهم كل أرض ينزلون بهـــــــا كأنهم لبقــــــــاع الأرض أمطار
وتنظر العين منهم منظراً حسناً كأنهم فى عيون الناس أقمار
وقد بشرهم النبى صل الله عليه وسلم بقوله فى الحديث الشريف :
{طُوبَى لِلْمُخْلِصِينَ أُوْلئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى تَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ ظَلْمَاءَ}
وبيَّن صل الله عليه وسلم قدرهم ومقدارهم؛ فقال فى شأنهم:
{ فَضْلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلي عَلَى أدْنَاكُمْ، إنَّ الله عزوجل وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةُ في جُحْرِهَا وَحَتى الحُوتُ في البَحْرِ لَيُصَلُّونَ على مُعَلّمِ النَّاسِ الخَيْرِ }
وقد سلك الصالحون هذا المنهج؛ فصاروا فى الناس سادة .. ولهم قادة، ولهم فى الآخرة الحسنى وزيادة، وقد قال الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله رحمة واسعة فى ذلك :
( ومن المعلوم فى الأعراف الدينية أن الدعاة على قسمين:
1- دعاة إلى الله، قد أذن الله لهم فى نطاق الإذن العام أو الواجب العام فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
وهؤلاء يتفاوت تأثيرهم بتفاوتهم فى صفاتهم من صفاء النفس، وطلاقة اللسان، وفى العلم بالكتاب الكريم والسنة الشريفة، وبعضهم لا تأثير له قط! لأنه لم تَصْفُ نفسُهُ .. أو لأن به لَكْنَةٌ ! أو لجهله الكتاب والسنة !! أو لغير ذلك من الأسباب.
2- والقسم الثانى من الدعاة هم الذين يدعون على بصيرة وهم الذين قد أذنوا بإذن خاص وأمروا بأمر خاص: إنهم هؤلاء الذين سمعوا النداء، وهم لم يسمعوا النداء مصادفة واتفاقاً،
كلا إنهم جاهدوا أنفسهم حتى أطاعت! وغذوا قلوبهم بالطاعات حتى استنارت!!
وأصبح سرهم مع الله .. فأضحوا من أولياءه ).
وهم ينتظرون الإذن فى كل شئ من الأمور حتى المباح منها، فضلاً عن الإذن الخاص بالدعوة، يقول الشيخ أبوالحسن الشاذلى رضي الله عنه مفسراً معنى الإذن فى المباح ومعنى الإذن فى حق الولى:
(نور ينبسط على القلب يخلقه الله فيه وعليه، فيمتد ذلك النور على الشئ الذى يريد فيدركه نورٌ مع نور!! أو ظلمةٌ تحت نور!! فذلك النور ينبئك أن تأخذ إن شئت! أو تترك! أو تقبل! أو تدبر! أو تعطى! أو تمنع! أو تقوم! أو تجلس! أو تسافر! أو تقيم!...
هذا من باب المباح المأذون فيه بالتخيير، فإذا قارنه القول تأكد الفعل المباح بمراد الله تعالى،
فإن قارنته نيَّة صحيحة لفعل برز عن حكم المباح وعاد مندوباً.
وإن ظهرت الظلمة تحت النور الممتد من القلب؟
فلا يخلو أن يلوح عليها لائح القبض بانقباض القلب، فاحذر ذلك! وتجنبه! فإنه المحذور أو يكاد، ولا تقطع ذلك إلا ببينة من كتاب الله عزوجل أو سُنة أو إجماع، فإن تلك الظلمة شبة غيم لا ينصدع معه القلب ولا يتفرغ به الذهن فتباعد عنه فإنه يكاد يكون مكروهاً .. ولا تحكم بعقلك ورأيك فقد ضل من هنا خلق كثير!!، وأصحاب هذا النور يدعون إلى الله بكيانهم كله ..
إن صمتهم دعوةٌ إلى الله!، وإن سيرهم دعــوةٌ إلى الله!، وإن جلوسهم دعوةٌ إلى الله!،
وإن عملهم دعوةٌ إلى الله!، وإن حديثهم دعوةٌ إلى الله!،
ويستجيب لهم الناس سراعاً بمقدار ما فى قلوب الدعاة من خير!
وما فى أفئدتهم من إيمان!، وينأى عنهم من ليس له فى الخير نصيب!،
ويحاربهم من حقت عليهم كلمة العذاب) انتهى.
نسأل الله عزوجل أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الرافع، والقلب الخاشع، والنور الساطع، وأن يجعلنا للمتقين إماماً.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .