نحن في شهر الصيام نريد أن نقف وقفة بسيطة عند حديث كريم للنبي الرءوف الرحيم صلَّى الله عليه وسلَّم لتعرفوا معي جميعاً مبلغ إعجاز هذا اللسان الشريف ومبلغ حكمة هذا النبي الكريم، الذي قال عنه مولاه صلَّى الله عليه وسلَّم: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (3، 4النجم).
كثر الكلام في أيامنا وقبل أيامنا وسيتوالى بعد أيامنا عن الحكمة من فريضة الصيام، لماذا أوجبه الله علينا؟، ولماذا قضاه الله علينا؟، وكل واحد من العلماء يتحدث عنه بطريقته، فأهل العلم الديني يتكلمون عن حكمته الشرعية،
وأهل الوعظ يتكلمون عن حكمته في غفران الذنوب وستر العيوب وفي تقريب الإنسان لحضرة علام الغيوب، وأهل الطب يتكلمون عن حكمته في علاج الأبدان والأجسام، وأهل الأمراض النفسية والعصبية يتكلمون عن حكمته في إزالة التوتر والضغط من نفوس الصائمين وإكسابهم الصحة الروحانية والسعادة النفسية التي لا ينالها الإنسان إلا في مصحة شهر رمضان.
وكل هذه الأمراض وغيرها جمعها رسولكم الكريم في كلمتين نستطيع جميعاً أن نحفظهما، بل إن صبياننا يستطيعون حفظهما في يسر وسهولة. ماذا قال صلَّى الله عله وسلَّم؟ قال:
{ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ }(1)
. هذان اللفظان جمعا كل أسرار فريضة الصيام التي من أجلها أوجبها علينا الملك العلام عزَّ وجلَّ،. وكلمة جُنَّة يعني وقاية، ويعني حفظ، ويعني أمان وطمأنينة، فالصوم جُنَّة من الأمراض الجسمانية، ووقاية من المتاعب النفسية، وعناية للمجتمعات من المشاكل والخلافات، ووقاية للصدور من الأحقاد والأحساد والغل والطمع والبغض مما يجعل الجميع يعيشون في محبة ووئام.
والصوم وقاية للصائم من نار جهنم، والصوم صيانة للصائم من عطش يوم القيامة، فإن الصائمين يكرمهم رب العالمين فيسقيهم من حوض سيدنا رسول الله الكوثر شربة هنيئة مريئة لا يظمئون بعدها أبداً، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
والصوم وقاية من نار الله، والصوم وقاية للجوارح من الوقوع في غضب الله وفي سخط الله وفي مقت الله وفي عقاب الله عزَّ وجلَّ والصوم وقاية لكثير وكثير من الذي لا نستطيع أن نفصّله في هذا الوقت حتى لا تملّوا، ويكفينا أن نشير إلى بعض نقاط منها وهي التي نحن جميعاً في أشد الحاجة إليها،
فقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها :{ أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الشبع. إن القوم لما شبعت بطونهم؛ جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا }(2)
أى فاستطالوا في معاصي الله عزَّ وجلَّ. وفسر هذا الأمر الإمام عليٌّ رضي الله عنه وكرم الله وجهه فقال: { ما ملأ آدمي بطنه إلا همّ بمعصية، قالوا: ولِمَ؟، قال: لأن العروق والأوداج إذا شبع الإنسان امتلأت بالدم، وعندها إن لم يوفقه الله لطاعته فسيفكر في معصيته }،
ومن هنا كان الصيام وقاية لنا ولكم جميعاً من الذنوب والآثام .وقد قيل أن الله عزَّ وجلَّ أول ما خلق النفس دعاها وقال لها: من أنا؟ ومن أنت؟ فقالت: أنت الله الواحد القهار، وأنا النفس، ولكن من الأدب أن لا يرى الإنسان أو النفس أو القلب شيئاً لأنفسهم في حضرة الله، لأنه يوم القيامة سينادي على الجميع ولا يرد أحد عليه من عظمته وهيبته عندما يقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه فيقول: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (16غافر).
وعندها حبس الله النفس عن شهواتها وملاذها وعن أهوائها وجوعها ثم أوقفها بين يديه، وسألها: من أنا؟ ومن أنت؟ فقالت: أنت الواحد القهار وأنا لا شئ يا الله في حضرة عظمتك وجبروتك فالإنسان إذا صام تطهر الأعضاء وتسكن عن العصيان، وإذا همَّ فإن القلب يكون يقظاً فيردها بسرعة إلى حضرة الله عزَّ وجلَّ.
فالصيام يقي الإنسان من الذنوب والمعاصي ولذا قال صلَّى الله عليه وسلَّم: { إذا كان أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ ومَردَةُ الجِنِّ، وغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النِيران فلم يُفْتَحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجَنَّةِ فلم يُغْلَقْ منها بابٌ }(3)
فأبواب الجنان في الجنة تفتح وأبواب النيران تغلق عن الصائمين، لكن ما بال العصاة والمذنبين لا يرجعون إلى الله وقد صفدت الشياطين وسلسلت الشياطين وأمر الله جبريل وقال له: يا جبريل صفد مردة الشياطين وألق بهم في لجج البحار حتى لا يفسدوا على أمة حبيبي صيامهم وقيامهم؟
إذاً الذي يقتل في رمضان والذي يظلم في رمضان والذي يسب ويشتم في رمضان من أين له هذا؟ من نفسه وليس من الشيطان لأن الشيطان مسجون سَلْسَله الله عزَّ وجلَّ وسجنه في قيعان البحار، وإنما من النفس، فإذا وفق الله العبد الصالح للصيام وسجن له نفسه، وحفظ له نفسه من لمّاتها، ومن صفاتها السيئة، ومن أحقادها الشريرة، فإن هذا العبد يفتح الله فيه الأبواب التي تدخله جنة الله عزَّ وجلَّ، ويغلق الله عزَّ وجلَّ فيه الأبواب التي تدخله نار جهنم.
أين هذه الأبواب؟ أبواب الجنة فيك وأبواب النار فيك فالعين: إذا تلوت بها كتاب الله أو نظرت بها إلى الفقراء والمساكين لتوصل إليهم ما حباك به الله فهي باب لك إلى جنة عرضها السموات والأرض، لكنك إذا نظرت بها إلى النساء في الطرقات أو تحسست بها العورات أو تحسست بها على الآمنين فإنها تفتح لك باباً من أبواب الجحيم،
واللسان إذا ذكرت به الله أو سبحت الله، أو استغفرت الله، أو كبرت الله أو هللت الله، أو أمرت به بمعروف أو نهيت به عن منكر، أو نصحت به مؤمناً، أو خففت به عن مصاب، فهو باب لك من أبواب الجنة. وإذا سببت به أو شتمت به وعبت إخوانك به، وتغامزت به وأوقعت بين الناس بالنميمة به، فهو باب من أبواب جهنم،
قال صلَّى الله عليه وسلَّم: { لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ ولاَ اللَّعَّانِ ولا الفَاحِشِ ولا البَذِيِّ }(4)
وكذا الأذن إذا سخرتها في سماع كلام الله أو سماع حديث رسول الله أو دروس العلماء العاملين، أو قبول النصيحة من الموحدين، فهي باب من أبواب جنة رب العالمين، وإذا سخرتها في سماع الغيبة والنميمة والكذب والزور دخلت في قول الله عزَّ وجلَّ:
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (42المائدة)، وتقول لا شأن لي وأنا لا أتكلم وقد ورد فى الأثر المشهور: { السامع والمغتاب في الإثم شريكان }،
فإذا وظفتها في هذه الأعمال صارت باباً إلى النار.وقس عل ذلك ، اليد إذا فعلت بها معروفاً أو واسيت بها فقيراً أو قضيت بها حاجة لمؤمن ابتغاء وجه الله أو استخدمتها في الركوع والسجود بين يدي الله، أو أطعمت بها جائعاً أو كسوت بها عارياً ابتغاء فضل الله
أو حتى وضعت بها لقمة في فم زوجتك أو في فم ولدك ابتغاء مرضاة الله فهي باب من أبواب الجنة، أما إذا سرقت بها أو قتلت بها أو ظلمت بها فهي باب من أبواب الجحيم،
والرجل إذا مشيت بها إلى بيت الله أو سعيت بها لصلة الأرحام أو مشيت بها لزيارة الأيتام أو عُدْت بها مريضاً أو شيعت بها جنازة مؤمن أو مشيت بها للصلح بين المتخاصمين فهي باب من أبواب جنة الله عزّ وجلّ. لكن إذا مشيت بها إلى مجالس السوء واللهو أو مشيت بها إلى مجالس حذّر منها الله ونهى عنها سيدنا ومولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهي باب من أبواب الجحيم.
وكذا البطن إذا غذّيتها من حلال وأطعمتها اللقمة التي رزقها الله وأمر بها سيدنا رسول الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (172البقرة)،
ومنعتها عن الشرور والفجور فهي باب من أبواب الجنة إذا أطعمتها من كدّي أو من عملي أو من ميراثي أو من عمل أحلّه الله، طعاماً أباحه لي الله عزَّ وجلَّ، وإذا ألقيت فيها لقمة من الحرام أو ألقيت فيها لقمة من الربا، أو لقمة ظلم فقير أو مسكين أو غيرها، أو بلقمة غش لأحد من المسلمين في بيع أو شراء أو تجارة، أو أودعت فيها ما حرم الله من أصناف المسكرات والمفترات كالبيرة أو الحشيشة أو الأفيونة أو غيرها، فهي باب من أبواب الجحيم
فأبواب النار فيك وهي العين والأذن واللسان واليد والرجل والفرج والبطن إذا استعملتها في معاصي الله ، وهي سبعة كما قال الله: ( لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ) (44الحجر)،
وإذا استعملتها في طاعة الله لا تستطيع فعل ذلك إلا إذا صلح القلب وانضم إليها وتصرف فيها فأصبح مهيمناً عليها فتصبح ثمانية بأمر الله، وأبواب الجنة ثمانية كما أخبرنا سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. قال صلَّى الله عليه وسلَّم: {إنَّ فِي الْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الصَّائِمُونَ هَلْ لَكُمْ إلَى الرَّيَّانِ مَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَداً فَإذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ}(5)
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: {الصِّيامُ جُنَّةٌ فَاذَا كان أحَدُكُمْ يَوْماً صَائِماً فَلا يَجْهَلْ وَلا يَرْفُثْ، فإنِ امْرُؤٌ قاتلهُ أَوْ شَتَمَهُ فَلْيَقُل: إِنِّي صائِمٌ إِنِّي صائمٌ}(6)
(1)خرجه البخاري عن معاذ بن جبل.
(2)سبل السلام وإحياء علوم الدين.
(3)رواه أحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحه والنسائي في سننه والبيهقي في سننه والبخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة.
(4)رواه أبو يعلى في مسنده والبزار والترمذي والدار قطنى عن ابن مسعود.
(5)رواه ابن ماجة في سننه والنسائي في سننه وأحمد في مسنده عن سهل بن سعد.
(6)رواه أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده والنسائي في سننه عن أبي هريرة.
http://www.fawzyabuzeid.com/table_books.php?name=%C7%E1%CE%D8%C8%20%C7%E1%C5%E1%E5%C7%E3%ED%C9_%CC5_%D1%E3%D6%C7%E4_%E6%DA%ED%CF_%C7%E1%DD%D8%D1&id=39&cat=3
منقول من كتاب {الخطب الإلهامية_ج5_رمضان_وعيد_الفطر}
اضغط هنا لقراءة أو تحميل الكتاب مجاناً