بناء المساجد على القبور:
بناء المساجد على القبور أمر قال به جمهور العلماء، فتكاد لا تخلو بلاد إسلامية من قبة مبنية على ولي صالح أوضريح بجوار مسجد. وتجد أن مثل تلك الأثار وجدت منذ عصور ولم يفت أحد من علماء البلد بهدمها وهذا يعتبر كالإجماع السكوتي. وأما المانعون للبناء فيستدلون يستندون بمجموعة من الأحاديث التي قد تبدوا صريحة للبعض في حرمة البناء على القبور، ولكن العالم المطلع على مختلف طرق تلك الأحاديث، العارف بزيادات الثقات لا بد وأنه لن يخفى عليه جواز البناء على الأضرحة موافقة لجمهورا لأمة. يستدل هؤلاء القوم بأحاديث نبوية نذكرها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه :"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وهو حديث صحيح لا أشكك في صحته- أقول هذا وأنا أعرف أن سيدي عبد الله بن الصديق قد شكك في صحة هذا الحديث معتبرا أن فيه نكارة في المتن.- ولكن القضية تكمن في كيفية فهمه والإستدلال به:
فأما الفهم الذي نعتقده صحيحا لهذا الحديث: فهو أن اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم قبلة يصلون إليها أي راحوا يعبدون القبور ويسجدون لها، أي أن مفهوم مسجد في الحديث هو مفهوم لغوي لا إصطلاحي وهذا غير بناء مساجد على القبور إذ لو كان المقصود بالحديث بناء المساجد لجاء بصيغة لعن الله اليهود بنوا على قبور أنبيائهم المساجد. فلاحظ الفرق رحمك الله. وقد لاحظت أن للبخاري رحمه الله تعالى فهما ثاقبا فعندما أورد هذا الحديث جعله في باب ما يكره من اتخاذ القبور مساجد ( لاحظ كذلك أخي القارئ أنه أورد هنا "من" التبعيضية فيصير مفهوم ترجمة الباب أن بعض الإتخاذ للقبور مساجد هو المكروه فقط أما غيرها هذا البعض فليس مكروها. قال ابن رشيد الاتخاذ أعم من البناء فلذلك أفرده بالترجمة ولفظها يقتضى أن بعض الاتخاذ لا يكره فكأنه يفصل بين ما إذا ترتبت على الاتخاذ مفسدة.) فلاحظ رحمك الله كيف أنه قال فقط بكراهة البناء على القبر ونحن نعلم أن الكراهة غير التحريم وهذا سر من أسرار تراجم أبواب البخاري ففقهه في تراجمه كما يقال... وأما تلميذه مسلم فقد جعل ذلك في "باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد" فلاحظ كيف فرق بين البناء والإتخاذ، فعُلم بهذا أن بناء المساجد على القبور هو غير إتخاذها مساجد وقد أكد هذا أبو نعيم في المستخرج عندما بوب الحديث في باب كراهية أن تصلى إلى القبور فدل هذا على أنه استنبط من الحديث حكمين: أولهما أن الحديث يدل على الكراهة لا على التحريم. ثانيهما، أنه يدل على كراهة الصلاة متوجها إلى القبر لا على تحريم البناء على القبر. ويدل على ما قلناه حديث ابن عباس مرفوعا لا تصلوا إلى قبر الحديث (رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد الله بن كيسان المروزي ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان.). وقد فهم ما فهمناه جمع لايحصى من العلماء ومن أشهرهم الخليفة عمر بن عبد العزيز حيث أمر في خلافته ان يجعل بنيان على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم محددا بركن واحد ليلا يستقبل القبر فيصلى اليه. وللحافظ المالكي ابن عبد البر كلام عجيب جميل في هذا الباب سبق ذكره في الباب السابق تجده في التمهيد (1/168) ودل على ما قلناه نحن أيضا حديث عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ( (رواه ابن سعد عن أبي هريرة و مالك عن عطاء يسار وابن لأبي شيبة عن زيد بن أسلم هو حديث صحيح) فلاحظ كيف ربط النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين عبادة القبر بالسجود له وإتخاذ القبور مساجد، فدل هذا على أنهما مترادفان. وجازى الله ابن عبد البر خيرا إذ قال (التمهيد 5/ 45) : " فخشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم كانوا إذا مات لهم نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم فقال صلى الله عليه وسلم اللهم لا تجعل قبري وثنا يصلي إليه ويسجد نحوه ويعبد فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم واتخذوها قبلة ومسجدا كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها وذلك الشرك الأكبر…وقد احتج بعض من لا يرى الصلاة في المقبرة بهذا الحديث ولا حجة له . اهـ وقد قال بمثل هذا العلامة البيضاوي (راجع قوله عند الزرقاني في شرحه على الموطأ 4/290). وقال بمثل ذلك العلامة التوربشتي (راجع قوله في تحفة الأحوذي 2/226) وقال به السندي في حاشيته على سنن النسائي (4/95) وقد حام حوله النووي في شرحه على صحيح مسلم (5/13) ويقول الحافظ في الفتح 3/200: ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة.اهـ ويجب أن أذكر هنا مسألتين:
أولا، أن القبر النبوي اليوم هو داخل المسجد النبوي باجماع الأمة من غير نكير بينها يعرف. وقد تم إدخاله في عهد الوليد بن عبد الملك.ولم يغير عمر بن عبد العزيز ذلك في خلافته. ول فعل ذلك اخلفاء بني العباس، ولا أرشد إليه أحد مع كثر زوار المسجد من الحفاظ والفقهاء والزهاد… وكان الإمام مالك مسموع الكلمة عند المنصور ولو أشار عليه بإقامة حاجز بين القبر والمسجد لأقامه. وهذا دال على الجواز…
ثانيا، القصة التي تحدث عنها ابن حجر هي ما أورده البخاري في صحيحه يقول:"ولما مات الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت فسمعوا صائحا يقول ألا هل وجدوا ما فقدوا فأجابه الآخر بل يئسوا فانقلبوا" فلاحظ أن القبة بقيت سنة من غير نكير من أحد من التابعين. وصله ابن حجر في تغليق التعليق (2/482).
وروى الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (4/1614) في معرض حديثه عن أبي جندل وأبي بصير أن هذا الأخير مات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرؤه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجدا" .(كما رواها ابن سعد في طبقاته 4/134).
واعلم، بأن مسجد خيف بمنى مدفون فيه سبعون نبيا (ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج: 3 ص: 297:" عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مسجد الخيف قبر سبعون نبيا رواه البزار ورجاله ثقات" وقال الحافظ البوصيري في إتحاف السادة المهرة (1/347) بأن إسناده صحيح.) والناس يصلون في من غير نكير من أحد والنبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه وصلى من بعده الصحابة… فدل هذا على أن القبر ما لم يسجد له ويصلى إليه تعظيما له فالصلاة في مسجد فيه قبر جائزة بل قد تصير مستحبة باعتبار فضل المدفون فيه.
• الحديث الثاني الذي يستدلون به هو: عن عائشة رضي الله عنها أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم تذاكرن عنده في مرضه كنيسة رأينها بأرض الحبشة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك قوم إذا مات الرجل الصالح عندهم بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله. وهو حديث صحيح لا مطعن فيه. ونخالفهم في فهم الحديث أيضا وذلك لأن سبب المنع في الحديث هو الصور وليست المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم "تلك الصور" فدل هذا على أنه أجابهم حقيقة عن مسألة الصور التي كانوا يعبدونها لا المسجد. خصوصا أن إقامة الصور تأتي بعد بناء السجد من حيث الترتيب الزمني ولنا على ذلك شاهد وهو أن سيدنا عمر لما ذهب إلى الشام دعاه راهب إلى طعام فقال له: إنا لا ندخل كنيستكم لما فيها من التصاوير. فدل هذا على أن الذم منصب على التصاوير لا على البناء.
• الحديث الثالث: عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على مابعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته في رواية ولا صورة إلا طمستها. ونحن أيضا نخالفهم في فهم هذا الحديث قال علماؤنا (أي المالكية) ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة وقد قال به بعض أهل العلم وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو مازاد على التسنيم ويبقى للقبر مايعرف به ويحترم وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنه الله عنهما على ماذكر مالك في الموطأ. وهكذا فالحديث ليس فيه دليل على منع البناء حول القبر بناءا.
• الحديث الرابع: عن بن عباس قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. فهذا حديث منسوخ بحديث الزيارة الذي ذكره البخاري. راجع ناسخ الحديث ومنسوخه لأبي حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين (1/227) هذا على افتراض صحة الخبر لأنه ضعيف لا تقوم به الحجة لأن فيه أبا صالح. هذه هي العلة الأولى، وأما الثانية فهي أن باذان هذا مشكوك في سماعه من ابن عباس.
• الدليل الخامس: يستدلون بحديث : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. وما أدري كيف فهموا من هذا الحديث تحريم البناء على القبور. لأن الحديث يدل على تحريم عبادة القبور والسجود لها لا البناء عليها.
ولنا دليل من الكتاب وهو قوله تعالى في سورة الكهف عن الفتية الذين أخلصوا لربهم smile رمز تعبيري فقال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) والشاهد عندنا هنا أنه هؤلاء الذين قالوا هذا كانوا مسلمين روى ذلك الطبري في تفسيره (15/ 225) وابن أبي حاتم عن السدي وإلى هذا ذهب أبو السعود والواحدي والشوكاني (فتح القدير 3/277) وابن الجوزي في زاد المسير (5/123) ولاحظ أن القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك.
وللبناء على القبور فوائد منها أنه يسهل زيارتهم حيث يكون البناء مكانا يستظل به الزائر من حر الشمس أو من شدة البرد أو من غزارة المطر… كما أن البناء عليهم يجعل القبر محميا من أن تطمس معالمه. أضف إلى هذا أن البناء المتعارف عليه فيه إشارة إليهم فما من مار بقربهم إلا ويعرف أن هذا قبر ولي. كما أنه عندما فتحت القدس على يد سيدنا عمر بن الخطاب كان بها مجموعة من الأبنية على القبور فلم يطلب سيدنا عمر من أحد أن يهدمها بل بقيت على حالها وهذا معروف عند أهل التاريخ.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دفن داخل بيت السيدة عائشة رضي الله عنها، أي داخل حجرة مسقفة لها جدران والسيدة عائشة رضي الله عنها كانت تصلي في تلك الغرفة بعد موته صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها أحد من الصحابة قائلا البناء على القبور حرام أو الصلاة بجوار القبور حرام. فافهم هذا!
فإنت قرأت هذا علمت يقينا أن البناء على القبور جائز لا حرمة فيه على المذهب المختار وهو مكروه عند البخاري وغيره من علماء الحديث ولا بأس بهذا الرأي. ويقول العلامة الأبي في شرحه لصحيح مسلم (2/234):"وأما من اتخذ مسجدا قرب رجل صالح أو صلى في مقبرته قصدا للتبرك بآثاره وإجابة دعاءه هناك فلا حرج في ذلك.
اللهم صلى على السر الذي انشقت منه أسرار الذات والنور الذي انفلقت منه أنوار الصفات اللهم صلى على أعظم الموجودات محبة في الله وأعلاهم معرفة بالله وأشدهم قربا
أبو محمد السقاف
بناء المساجد على القبور أمر قال به جمهور العلماء، فتكاد لا تخلو بلاد إسلامية من قبة مبنية على ولي صالح أوضريح بجوار مسجد. وتجد أن مثل تلك الأثار وجدت منذ عصور ولم يفت أحد من علماء البلد بهدمها وهذا يعتبر كالإجماع السكوتي. وأما المانعون للبناء فيستدلون يستندون بمجموعة من الأحاديث التي قد تبدوا صريحة للبعض في حرمة البناء على القبور، ولكن العالم المطلع على مختلف طرق تلك الأحاديث، العارف بزيادات الثقات لا بد وأنه لن يخفى عليه جواز البناء على الأضرحة موافقة لجمهورا لأمة. يستدل هؤلاء القوم بأحاديث نبوية نذكرها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه :"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وهو حديث صحيح لا أشكك في صحته- أقول هذا وأنا أعرف أن سيدي عبد الله بن الصديق قد شكك في صحة هذا الحديث معتبرا أن فيه نكارة في المتن.- ولكن القضية تكمن في كيفية فهمه والإستدلال به:
فأما الفهم الذي نعتقده صحيحا لهذا الحديث: فهو أن اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم قبلة يصلون إليها أي راحوا يعبدون القبور ويسجدون لها، أي أن مفهوم مسجد في الحديث هو مفهوم لغوي لا إصطلاحي وهذا غير بناء مساجد على القبور إذ لو كان المقصود بالحديث بناء المساجد لجاء بصيغة لعن الله اليهود بنوا على قبور أنبيائهم المساجد. فلاحظ الفرق رحمك الله. وقد لاحظت أن للبخاري رحمه الله تعالى فهما ثاقبا فعندما أورد هذا الحديث جعله في باب ما يكره من اتخاذ القبور مساجد ( لاحظ كذلك أخي القارئ أنه أورد هنا "من" التبعيضية فيصير مفهوم ترجمة الباب أن بعض الإتخاذ للقبور مساجد هو المكروه فقط أما غيرها هذا البعض فليس مكروها. قال ابن رشيد الاتخاذ أعم من البناء فلذلك أفرده بالترجمة ولفظها يقتضى أن بعض الاتخاذ لا يكره فكأنه يفصل بين ما إذا ترتبت على الاتخاذ مفسدة.) فلاحظ رحمك الله كيف أنه قال فقط بكراهة البناء على القبر ونحن نعلم أن الكراهة غير التحريم وهذا سر من أسرار تراجم أبواب البخاري ففقهه في تراجمه كما يقال... وأما تلميذه مسلم فقد جعل ذلك في "باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد" فلاحظ كيف فرق بين البناء والإتخاذ، فعُلم بهذا أن بناء المساجد على القبور هو غير إتخاذها مساجد وقد أكد هذا أبو نعيم في المستخرج عندما بوب الحديث في باب كراهية أن تصلى إلى القبور فدل هذا على أنه استنبط من الحديث حكمين: أولهما أن الحديث يدل على الكراهة لا على التحريم. ثانيهما، أنه يدل على كراهة الصلاة متوجها إلى القبر لا على تحريم البناء على القبر. ويدل على ما قلناه حديث ابن عباس مرفوعا لا تصلوا إلى قبر الحديث (رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد الله بن كيسان المروزي ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان.). وقد فهم ما فهمناه جمع لايحصى من العلماء ومن أشهرهم الخليفة عمر بن عبد العزيز حيث أمر في خلافته ان يجعل بنيان على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم محددا بركن واحد ليلا يستقبل القبر فيصلى اليه. وللحافظ المالكي ابن عبد البر كلام عجيب جميل في هذا الباب سبق ذكره في الباب السابق تجده في التمهيد (1/168) ودل على ما قلناه نحن أيضا حديث عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ( (رواه ابن سعد عن أبي هريرة و مالك عن عطاء يسار وابن لأبي شيبة عن زيد بن أسلم هو حديث صحيح) فلاحظ كيف ربط النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين عبادة القبر بالسجود له وإتخاذ القبور مساجد، فدل هذا على أنهما مترادفان. وجازى الله ابن عبد البر خيرا إذ قال (التمهيد 5/ 45) : " فخشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم كانوا إذا مات لهم نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم فقال صلى الله عليه وسلم اللهم لا تجعل قبري وثنا يصلي إليه ويسجد نحوه ويعبد فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم واتخذوها قبلة ومسجدا كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها وذلك الشرك الأكبر…وقد احتج بعض من لا يرى الصلاة في المقبرة بهذا الحديث ولا حجة له . اهـ وقد قال بمثل هذا العلامة البيضاوي (راجع قوله عند الزرقاني في شرحه على الموطأ 4/290). وقال بمثل ذلك العلامة التوربشتي (راجع قوله في تحفة الأحوذي 2/226) وقال به السندي في حاشيته على سنن النسائي (4/95) وقد حام حوله النووي في شرحه على صحيح مسلم (5/13) ويقول الحافظ في الفتح 3/200: ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة.اهـ ويجب أن أذكر هنا مسألتين:
أولا، أن القبر النبوي اليوم هو داخل المسجد النبوي باجماع الأمة من غير نكير بينها يعرف. وقد تم إدخاله في عهد الوليد بن عبد الملك.ولم يغير عمر بن عبد العزيز ذلك في خلافته. ول فعل ذلك اخلفاء بني العباس، ولا أرشد إليه أحد مع كثر زوار المسجد من الحفاظ والفقهاء والزهاد… وكان الإمام مالك مسموع الكلمة عند المنصور ولو أشار عليه بإقامة حاجز بين القبر والمسجد لأقامه. وهذا دال على الجواز…
ثانيا، القصة التي تحدث عنها ابن حجر هي ما أورده البخاري في صحيحه يقول:"ولما مات الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت فسمعوا صائحا يقول ألا هل وجدوا ما فقدوا فأجابه الآخر بل يئسوا فانقلبوا" فلاحظ أن القبة بقيت سنة من غير نكير من أحد من التابعين. وصله ابن حجر في تغليق التعليق (2/482).
وروى الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (4/1614) في معرض حديثه عن أبي جندل وأبي بصير أن هذا الأخير مات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرؤه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجدا" .(كما رواها ابن سعد في طبقاته 4/134).
واعلم، بأن مسجد خيف بمنى مدفون فيه سبعون نبيا (ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج: 3 ص: 297:" عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مسجد الخيف قبر سبعون نبيا رواه البزار ورجاله ثقات" وقال الحافظ البوصيري في إتحاف السادة المهرة (1/347) بأن إسناده صحيح.) والناس يصلون في من غير نكير من أحد والنبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه وصلى من بعده الصحابة… فدل هذا على أن القبر ما لم يسجد له ويصلى إليه تعظيما له فالصلاة في مسجد فيه قبر جائزة بل قد تصير مستحبة باعتبار فضل المدفون فيه.
• الحديث الثاني الذي يستدلون به هو: عن عائشة رضي الله عنها أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم تذاكرن عنده في مرضه كنيسة رأينها بأرض الحبشة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك قوم إذا مات الرجل الصالح عندهم بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله. وهو حديث صحيح لا مطعن فيه. ونخالفهم في فهم الحديث أيضا وذلك لأن سبب المنع في الحديث هو الصور وليست المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم "تلك الصور" فدل هذا على أنه أجابهم حقيقة عن مسألة الصور التي كانوا يعبدونها لا المسجد. خصوصا أن إقامة الصور تأتي بعد بناء السجد من حيث الترتيب الزمني ولنا على ذلك شاهد وهو أن سيدنا عمر لما ذهب إلى الشام دعاه راهب إلى طعام فقال له: إنا لا ندخل كنيستكم لما فيها من التصاوير. فدل هذا على أن الذم منصب على التصاوير لا على البناء.
• الحديث الثالث: عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على مابعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته في رواية ولا صورة إلا طمستها. ونحن أيضا نخالفهم في فهم هذا الحديث قال علماؤنا (أي المالكية) ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة وقد قال به بعض أهل العلم وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو مازاد على التسنيم ويبقى للقبر مايعرف به ويحترم وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنه الله عنهما على ماذكر مالك في الموطأ. وهكذا فالحديث ليس فيه دليل على منع البناء حول القبر بناءا.
• الحديث الرابع: عن بن عباس قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. فهذا حديث منسوخ بحديث الزيارة الذي ذكره البخاري. راجع ناسخ الحديث ومنسوخه لأبي حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين (1/227) هذا على افتراض صحة الخبر لأنه ضعيف لا تقوم به الحجة لأن فيه أبا صالح. هذه هي العلة الأولى، وأما الثانية فهي أن باذان هذا مشكوك في سماعه من ابن عباس.
• الدليل الخامس: يستدلون بحديث : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. وما أدري كيف فهموا من هذا الحديث تحريم البناء على القبور. لأن الحديث يدل على تحريم عبادة القبور والسجود لها لا البناء عليها.
ولنا دليل من الكتاب وهو قوله تعالى في سورة الكهف عن الفتية الذين أخلصوا لربهم smile رمز تعبيري فقال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) والشاهد عندنا هنا أنه هؤلاء الذين قالوا هذا كانوا مسلمين روى ذلك الطبري في تفسيره (15/ 225) وابن أبي حاتم عن السدي وإلى هذا ذهب أبو السعود والواحدي والشوكاني (فتح القدير 3/277) وابن الجوزي في زاد المسير (5/123) ولاحظ أن القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك.
وللبناء على القبور فوائد منها أنه يسهل زيارتهم حيث يكون البناء مكانا يستظل به الزائر من حر الشمس أو من شدة البرد أو من غزارة المطر… كما أن البناء عليهم يجعل القبر محميا من أن تطمس معالمه. أضف إلى هذا أن البناء المتعارف عليه فيه إشارة إليهم فما من مار بقربهم إلا ويعرف أن هذا قبر ولي. كما أنه عندما فتحت القدس على يد سيدنا عمر بن الخطاب كان بها مجموعة من الأبنية على القبور فلم يطلب سيدنا عمر من أحد أن يهدمها بل بقيت على حالها وهذا معروف عند أهل التاريخ.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دفن داخل بيت السيدة عائشة رضي الله عنها، أي داخل حجرة مسقفة لها جدران والسيدة عائشة رضي الله عنها كانت تصلي في تلك الغرفة بعد موته صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها أحد من الصحابة قائلا البناء على القبور حرام أو الصلاة بجوار القبور حرام. فافهم هذا!
فإنت قرأت هذا علمت يقينا أن البناء على القبور جائز لا حرمة فيه على المذهب المختار وهو مكروه عند البخاري وغيره من علماء الحديث ولا بأس بهذا الرأي. ويقول العلامة الأبي في شرحه لصحيح مسلم (2/234):"وأما من اتخذ مسجدا قرب رجل صالح أو صلى في مقبرته قصدا للتبرك بآثاره وإجابة دعاءه هناك فلا حرج في ذلك.
اللهم صلى على السر الذي انشقت منه أسرار الذات والنور الذي انفلقت منه أنوار الصفات اللهم صلى على أعظم الموجودات محبة في الله وأعلاهم معرفة بالله وأشدهم قربا
أبو محمد السقاف