فصل في الخلاف في جواز البناء حول القبور
وفي رسالة الشيخ إسماعيل التميمي التونسي : وأما البناء على القبور إذا كان حولها كالقبة والبيت والمدرسة وكان في ملك الباني فذهب اللخمي إلى المنع وذهب ابن القصار إلى الجواز ووافقه ابن رشد على ذلك فنقل عنه المواق البناء على نفس القبر مكروه وأما البناء حوله فإنما يكره من جهة التضييق على الناس ولا بأس به في الأملاك اهـ . ومن المعلوم في المذهب تقديم قول ابن رشد على اللخمي قضاء وفتياً لا سيما وقد وافق في ذلك ابن القصار وهو من كبار الأئمة النظار ، وقد أشار بن ناجي إلى ترجيحه واعترض على المازري تشهيره للمنع قائلاً : لا أعرف من قال به إلا اللخمي قال يمنع بناء البيوت لأن ذلك مباهاة ولا يؤمن أن يكون فيها من الفساد . ولقائل أن يقول لا خلاف بينهما ، لأن اللخمي علل بالمباهاة وعدم أمن الفساد وابن القصار لا يخالفه في ذلك ، والكلام مفروض في الجواز الذاتي إذا سلم المحل مما يؤدي إلى المنع . فالقولان في وفاق ويصير البناء على قبور الصالحين قبة أوبيتاً أو مدرسة أو نحوها جائزاً من حيث ذاته وظاهر كلام من تكلم على الجواز أنه يجوز بناء مسجد عليه . ونقل بعض شراح الرسالة عن جمال الدين الأفقهي أنه استثنى بناء المسجد ولعله لما ورد من النهي في ذلك ، والنهي معلل بسد الذريعة لأنه يؤدي إلى الصلاة إلى القبر فيؤدي إلى عبادتها فالمنع فيه عرض يزول بزوال ذلك العارض وكلامنا في جوازه من حيث ذاته اهـ .
هذا محصل ما لفقهاء المذاهب الأربعة وغيرها في المسألة . والصحيح الذي يدل عليه الدليل ويقتضيه النظر أن البناء حول القبر جائز سواء كان حوشاً أو بيتاً أو قبة أو مسجداً ، وما يذكره الفقهاء من الشروط والاحترازات أمر خارج عن حكم البناء في ذاته ، لأنها عوارض لها حكم خاص بها يوجد بوجودها وينتفى بانتفائها ككونه في الأرض الموقوفة أو المسبلة أو قصد به المباهاة أو الزينة ونحو ذلك ممايذكرونه فإنه لا تعلق له بحكم البناء فلا نتعرض له لأنه خروج عن الموضوع ، وإنما المقصود بيان حكم البناء في ذاته وهو جائز حول القبر بالكتاب والسنة والإجماع والقياس كما سنذكره بعد أن نقدم مقدمة تمهد السبيل لقبول تلك الأدلة وتزيح الأشكال الواردة عليها من النصوص المعارضة لها بتحقيق معناها وبيان مراد الشارع ومقصوده منها بياناً يجمع بين ما يبدوظاهراً من التعارض بينها فنقول : اعلم أن الخلاف في جواز البناء حول القبور إنما نشأ من الخطأ في الاستدلال وعدم إحكام النظر في الدليل من جهة عدم فهم معناه
وتحقيقه أو لا ، ثك من جهة عدم فهم مراد الشارع من ذلك المعنى المفهومثانياً ، ثم من جهة الإعراض عن النظر في الأدلة المعارضة له
ثالثاً . فإن النهي الوارد في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها غير عام في نفسه ولا في كل زمان بل هو خاص بنوع من أنواعه ثم هو غير تعبدي لاتفاف بل هو معقول المعنى معلل بعلل يوجد بوجوها وينتفي بانتفائها شأن كل حكم معلل كما هو معروف . ومع هذا فهو أيضاً معارض بما هو أقوى منه مما يجب النظر في الجمع بينهما وجوب العمل بالنص والتمسك بالدليل ويحرم الإعراض عن أحدهما والتمسك بالآخر حرمة الإعراض عن النص ومخالفة الدليل لأن الكل شرع مفترض طاعته . واجب قبوله والعمل به فالإعراض عن أحدهما دون دليل ، مسوغ إعراض عما أوجب الله طاعته وفرض على العبد اتباعه وتفريق بيم المتماثلين وترجيح بين الدليلين بدون مرجح وهو باطل بالإجماع .
فصل في بيان الخطأ في فهم المعنى وفي فهم مراد الشارع
أما الخطأ في المعنى فإن القائل بالكراهة فهم أن النهي عن البناء عام والدليل يدل على أنه خاص بالبنا الواقع فوق القبر نفسه دون الواقع حوله ، لأن ذلك هو الذي يدل عليه معنى حرف على الموضوع للاستعلاء . فالبناء على القبر هو الذي علاه وكان فوقه لا ما كان حوله دائراً به قريباً منه على قدر حرم القبر فكيف بما يكون واسعاً بعيداً عنه كالحوش والقبة والمدرسة ، فإن اللفظ لا يتناوله وعلى فرض أن هناك ما يدل على العموم فهو عام مخصص لورود الأدلة الدالة على تخصيصه أو على إرادة الخصوص به (1) وهي متعددة كما سأذكره .
وأما الخطأ في فهم مراد الشارع ومقصوده فإن القائل بالكراهة لا يخلو أن يكون أعرض عنه وجمد على الظاهر كأنه تعبدي غير معقول المعنى ولا ظاهر العلة وليس هو كذلك بالاتفاق ، لورود النصوص بالعلة أو يكون أخطأ في تعيين مراد الشارع وتحقيقه أو أصابه ولكنه أخطأ في عدم تنقيحه ، فإنه لا بد من تحقيقه ثم تنقيحه حتى لا يعم ما هو خارج عنه غير داخل في حكمه أو أخطأ في اطراد العلة وهي غير مطردة ولا موجودة في كل بناء ، وإنما هي موجودة في نوع من أنواعه فإن العلماء اختلفوا في العلة التي من أجلها نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن البناء على القبر على أقوال :
بيان العلة التي اختلف في النهي من أجلها
وسرد الأقوال فيها وهي ثمانية
القول الأول
إن العلة في ذلك كون الجص والآجر مما مسته النار ولا ينبغي أن يقرب ذلك من الميت إما تفاؤلاً كما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحب الفأل الحسن ويستبشر به في الأقوال والأفعال والصفات والأسماء وسائر الأشياء ، وإما لمعنى يعرفه الشارع فيما مسته النار . ولذلك أوجب منه الوضوء في أول الأمر ثم نسخه للضرورة ورفع الحرج والمشقة ، بل هو من الفقهاء من لا يقول بنسخه ويتمسك بوجوب الوضوء منه ، ولهذا المعنى لم يخصصوا النهي بظاهر القبر بل كرهوا البناء بالأجر داخل القبر لأن العلة واحدة بل هي داخل القبر أولى لقرب ما مسته النار من الميت وملاصقته لجسمه ، وكأنهم أخذوا هذا من وضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجريدة الرطبة على القبرين وقال : " لعله يخفف عنهما مالم تيبسا " . فرأوا أن ما مسته النار أشد من اليابس بالشمس والهواء . وهذا القول حكاه الحافظ العراقي في شرح الترمذي وذكره جمع من الفقهاء في كتبهم .
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن زيد بن أرقم وجماعة .
قال ابن أبي شيبة ثنا معتمر بن سليمان عن ثابت بن زيد قال حدثني حمادة عن أنيسة بنت زيد بن أرقم قال : مات ابن لزيد يقال له سويد فاشترى غلام له أو جارية جصاً وآجره ، فقال له زيد : ما تريد إلى هذا ؟ . قال : أردت أن أبني قبره وأجصصه . قال : جفوت ولغوت لا يقربه شيء مسته النار .
وقال أيضاًُحدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ليث عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال : إذا أنا مت فلا تؤذنوابي أحداً ولا تقربوني جصاً ولا آجراً ولا عوداً ولا تصحبنا امرأة .
وقال أيضاً حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم أنه كان يكره الآجرة . وقال أيضاً حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون الآجر في قبورهم .
حدثنا وكيع عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال : كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الآجر ويستحبون القصب ويكرهون الخشب .
القول الثاني
إن العلة فيه وجود الثقل على الميت والمطلوب التخفيف عنه . قالوا : ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبر وعدم وضع التراب فوقه . ونص الفقهاء على أنه يكره أن يجلب له تراب زائد على الذي خرج منه .
قال ابن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن محد بن إسحق عن تمامة بن شفي قال خرجنا غزاة في زمن معاوية إلى هذا الدرب وعلينا فضالة بن عبيد ، قال فتوفى ابن عم لي يقال له نافع فقام معنا فضالة على حفرته ، فلما دفناه قال : خففوا عن حفرته فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يأمر بتسوية القبر .
القول الثالث
إن العلة كون البناء فيه تمييز عن سائر قبور المسلمين حوله .
قال ابن أبي شيبة حدثنا شريك عن أبي فزارة عن مولى ابن عباس قال : قال لي ابن عباس : إذا رأيت القوم قد دفنوا ميتاً فأحدثوا في قبره ما ليس في قبور المسلمين فسوه بين قبور المسلمين . ونص على هذا أيضاً بعض القفهاء كالعدوي في حاشيته على شرح الرسالة وغيره .
القول الرابع
إن البناء يمنع من دفن الغير معه، لأن قبور أهل الحجاز والأرض الصلبة على كيفية اللحد ، كما رغب فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله : (( اللحد لنا والشق لغيرنا )) رواه أحمد والطحاوي من حديث جرير . والأربعة من حديث ابن عباس . واللحد إذا وع البناء عليه لم يبق سبيل إلى دفن الغير فيه . ذكره بعض الفقهاء وشراح الحديث وأشار إليه السرخسي في المبوسط .
القول الخامس
إن فيه تشبهاً بفعل الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أهل الجاهلية ، لأنهم يضعون الرخام على قدر القبر أو يبنون فوقه . وقد بنيت الشريعة في كثير من أحكامها على مخالفة الكفار والمشركين ذكره ابن قدامة في المغني وأشار إليه ابن مفلح في الفروع .
القول السادس
إنه في الزينة الدنيوية ولا ينبغي فعل ذلك بمن انتقل إلى الآخرة ، وهذا نص عليه الشافعي في الأم ، والسرخسي في المبسوط ، وابن قدامة في المغني ، وكثير من الفقهاء الحنفية .
القول السابع
إنه يدعو إلى الجلوس على القبر . والجلوس عليه منهي عنه لما فيه من أذاية الميت بامتهانه ولهذا استحبوا أن يكون القبر مسنماً ولا يكون مسطحاً لأن التسنيم يمنه من الجلوس ، ذكره بعضهم .
القول الثامن
إنه يحول بين الميت وسماع النداء والذكر وتلاوة ما يتلى على قبره من القرآن وسلام المسلم عليه . ذكره ابن قدامة في المغني ونقله الحطاب عن بعض فقهائهم .
وذكره جمع من الشافعية واستدلوا بحديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : (( لا يزال الميت يسمع الأذان مالم يطين قبره )) . وعلوم أن طمس القبر بالبناء أشد من طمسه بالطين والحديث المذكور هكذا يحتجون به من غير عزو ولا بيان حال وهو عند الحاكم في تاريخ نيسابور والديلي في مسند الفردوس من طريقه ، ثم من رواية محمد بن القاسم بن مجمع ثنا أبو مقاتل السمرقندي ثنا محمد بن ثابت الأنصاري عن كثير بن شنطير عن الحسن عن عبد الله بن مسعود وكثيراً ليس بشيء وبأن أبا مقاتل قال ابن مهدي لا تحل الرواية عنه قال ابن الجوزي : غير أن المتهم بوضعه هو محمد بن القاسم فإنه كان عالماً رأساً في الذابين الوضاعين اهـ ولم يتعقبه الحافظ السيوطي بشيء وهكذا يحتج الفقهاء في أكثر مسائلهم بالموضوع والمنكر والواهي بعد اتفاقهم على عدم جواز الاحتجاج به .
فهذه العلل إنما يأتي أكثرها في البناء الواقع فوق القبر ، لأنه الذي يقع به الثقل والطمس المانع من السماع والتشبه بالكفار ويمكن من الجلوس على القبر ويمنع من الدفن معه ويلتصق بالقبر وفوق الميت ما مسته النار لا مكان حول القبر بعيداً عنه كالقبة والبيت والمدرسة ونحوها . أما التعليل بكونه من الزينة التي لا تنبغي لأهل الآخرة فعله باطلة من وجهين :
أحدهما : أن البناء على القبر ليس من الزينة في شيء ولا يراد به الزينة وإنما يراد به حفظ القبر من الدوس والامتهان واندثار الأثر الذي لا يعرف معه القبر ، وإذا قصد به بعضهم الزينة وفعل به ما هو منها فذاك أمر زائد على البناء ، فيكون الحكم متعلقاً به لا بنفس البناء .
ويقال حينئذ في تزيين بناء القبر وتزويقه والتغالي فيه مكروه أو محرم لا أصل البناء
الآخر : أن كون الزينة الدنيوية لا تنبغي لأهل الآخرة دعوى مجردة عن الدليل فهي باطلة . فأن الشارع أم بتزيين الميت وتحسين كفنه وتطييبه . ونص الفقهاء على استحباب تقليم أظافره وإصلاح شعر لحيته ورأسه ونحو ذلك من أمور الزينة التي لم تطلب للحي إلا في العيدين والجمعة . وأيضاً فلو فرضنا أن البناء من زينة الدنيا فهو في الدنيا لأهل الدنيا ، لأن ظاهر المقبرة من الدنيا ، وإنما الآخرة باطنها فهو تعليل باطل . وكذلك التعليل بالتمييز فإن التمييز وصف لازم لكل شيء إذ ما من شيء إلا وله ما يميزه عن غيره ، ولو سلمنا كراهته فإن ذلك خاص بما لا نفع فيه ولا حاجة تدعو إليه إلا قصد التمييز عن الناس والترفع عنهم ، وليس البناء على القبر كذلك . نعم يقع التمييز بالقباب للأولياء والصالحين ، لأن الشرع أمر بتعظيمهم وحض على تمييزهم وتخصيصهم بالاحترام ، بل أمر بتمييز كل من له رتبة ومنزلة ولو كانت دنيوية فقال : (( أنزلوا الناس منازلهم )) وكذلك كانت معاملته صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع الخلق ، ودلت أصول شريعته على ذلك ونص عليه الفقهاء والصوفية والأولياء الذين هم أبعد الناس من التصنع والتزلف كما بيناه في غير هذا الموضع ، فلم يبق مقبولاً إلا العلل الأخرى وهي خاصة بالبناء الواقع على نفس القبر فوقه لا الذي حوله دائراً به ، فلذلك كان مخطئاً من حمل النهي على العموم وأدخل فيه القباب والمدارس والأحواش ، لأنها غير داخلة في النهي
المؤلف
أحمد بن الصديق الغماري الحسني
يتبع إن شاء الله