ضرب الله لنا مثلاً في رحلة الإسراء والمعراج ، بأحوال ومنازل السالكين إلى حضرته ، ولا يذوق الإنسان طعم الوصال ولا يتهنَّى ببعض فضل الواحـد المتعال ؛ إلا إذا جهَّز الماعون، الذي يتلقى الجوهر المكنون ، والعلم المخزون ، والنور المصون ، ممن يقول للشيء كن فيكون وهذا الماعـــون :
واغسل فؤاداً بماء جمع صفا فهذا إليَّ يُدني
فالماعون أي القلب ،ليس القلب الحِسِّيّ لأنه عبارة عن مضخة ماصة كابسة ، تستقبل الدم وتنقِّيه، ثم ترسله مرة أخرى ، وهو لتنظيم الدورة الدموية لكن هناك قلب نـوراني ربــاني ، وهناك قلب صمد، وهناك قلب روحـاني ، بـــه أنت إنسان، ونوراني
أين هذا القلب ؟ لم تره بعد ، ولا تعرفه، وعندما تعرفه تراه.كل ما هنالك أنك تشعر به ، تماماً مثلما لا نرى الكهرباء ولكن نرى آثارها في المصابيح، في المراوح، لكن الكهرباء نفسها لا نراها .
كذلك الغيوب التي فيك من خالقك وباريك،كالروح ، والقلب، والعقل ، والنفس أين موضعهم فيك؟كما قال الله للحبيب الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم:
( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (85 سورة الإسراء)
وبعض سادتنا العلماء قال، أن الروح من أمر الله ، ولا يعرفها أحد ، ولكنها إجابة غير شافية ، لأن ربنا يقول له صلى الله عليه وسلَّم:(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي )
يعني: أن الروح من عالم الأمر ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ )(54 سورة الاعراف)
فأنت فيك خلقٌ ، وفيك أمر، وقد قال الإمام أبو العزائم في ذلك:
من أمر ربي ومن يطلبه يعرفه
من يطلب عالم الأمر، ويجهِّز نفسه لعالم الأمر، يعرف هذا السر.
لكن الواقف مع عالم الخلق، وشغله كله مع الخلق، كيف يعرف الأمر، وعالم الأمر؟
فالغيوب التي فيك هي من عالم الغيب ، من عالم الأمر ، من عالم الملكوت ، من عالم الأنوار ، من عالم الكشف ، من عالم الفضل ، لكنها موجودة فيك وأنت بها إنسان ولا تراها إلا إذا تجاوزت هذا الكيان وصفيت ظاهرك وباطنك لحضرة الرحمن عزَّ وجلَّ، وما دمت مشغول بهذا الكيان فلن ترَ شيئاً، لكن بعد الصفاء والنقاء
تجذب الرُّوح الهيـــاكل في الصفا أعلى المنازل
إن أداروا الراح صرفاً أسكرت عالِ وسافل
القلب الرباني النوراني الذي فيه الإيمان، والذي فيه الحب، والذي فيه العشق، والذي فيه الوجد، والذي فيه كل هذه المعاني العلية،هل القلب الحسي يحتوي على شىء من ذلك ؟
فلو أنهم نقلوا عضلة القلب من واحد لآخر؛ لكان الأجدر أن ينتقل معه الإيمان مثلاً ، لكن هذه الأشياء في القلب الربَّاني الثاني الذي أنت به إنسان.
فقلب الشيء يعني حقيقته، وقلبك يعني حقيقتك الباطنة، التي تسيِّر الجسم، والتي كما قلنا أنت بها إنسان، المسيطرة على هذا الكيان، وتشغِّله وتجهِّزه، وتشرف على تنميته وعلى تدبيره. أما حقيقتك الباطنة ، فهي القلب الذي أشار الله إليه في القرآن، وقال عزَّ شأنه وتبارك اسمه فى ذلك:
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) (37 سورة ق)
هل معنى ذلك أن هناك أناسٌ ليس لهم قلب، نعم ، فهناك أناس يعيشون بالنفس فقط ، قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا )(42 سورة الزمر)
لكن من له قلب، هو المؤمن، فما مظاهر ذلك؟ أن يكون عنده رحمة وشفقة بخلق الله، وأول خلق الله هو نفسه أي يجب أن يكون عنده رحمة وشفقة بنفسه أولاً ، وذلك لأن القلب من نور حبيب الله ومصطفاة صلَّى الله عليه وسلَّم ،وهو المرسل رحمة للعالمين، وكذلك يكون عنده رحمة وشفقة بجميع خلق الله عزَّ وجلَّ. فالمثال وبالمثال يتضح المقال:
أن الله عزَّ وجلَّ جهَّز حبيبه صلَّى الله عليه وسلَّم للقرب من حضرته ، وجعل هذا التجهيز سنَّة إلهية لأهل عنايته ، فكل من أراد الله ولايته وعنايته، أجرى له هذا التجهيز.
لكن الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم كان في عالم الظهور وعالم البطون، أما نحن فنكون في عالم البطون، ونشعر بذلك في عالم الظهور، لكن لا نستطيع أن نراه في عـالم الظهور، لأنه لا يرى ذلك إلا إنسان يرى بنور حضرة الغفور عزَّ وجلَّ.
فقد كان عليه الصلاة والسلام نائماً عند السيدة أم هانئ، والإشارة هنا يعني أنه كان نائما هانئاً ومستقراً ومرتاح البال فأرسل إليه الله الروح الأمين، وقال له:
( قم يا نائم فقد هيأت لك الغنائم، قال: إلى أين يا أخي يا جبريل؟، قال: الكريم يدعوك إليه، قال: الكريم يدعوني إليه، فماذا يفعل بي؟، قال: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: هذا لي، فما لعيالي وأطفالي؟ )(1)
ونحن عياله بنصِّ كلام الله عزَّ وجلَّ:( وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ) (8سورة الضحى)
أي أن عائلتك كبيرة، فأعطاك الغنى الذي يكفي كل هذه العائلة.
فقد أعطاك من العلوم، والفهوم، والأذواق، والإشارات، والتشريعـات، ما يكفي هذه العائلة من زمنه إلى يوم الميقات صلَّى الله عليه وسلَّم، فأخذوه كما تحكي الرواية وشقُّوا صدره، وأخرجوا قلبه، وأخذوا حظ الشيطان منه، وغسلوه بماء زمزم، وجاءوا بطست مملوءاً إيماناً وحكمة.
هل الإيمان والحكمة يراه أحد؟لكن ذلك في عالم المعاني، وعالم المعاني يرون المعاني مباني، فكما نحن نرى المباني مباني، فهم يرون المعاني مباني.
كيف تكون ذلك بداية أهل العناية؟
يكون الواحد فينا إذا سبقت له من الله الحسنى نائماً نومة الغفلة عن طريق الله، وعن السير والسلوك إلى مولاه، منشغلاً بهذه الحياة؛ حظُّه ونفسه يقطعونه عن طريق الله، فإذا كان له عناية من الله؛ يرسل الله عزَّ وجلَّ إليه رجلاً من أهل الولاية والعنـاية.
وذلك لأننا في عالم الأسباب، ومع أن الله عزَّ وجل جعل الإسراء والمعراج من وراء الأسباب ، إلا أنه جعل فيه أسباباً فقد ركب الحبيب البراق، ولماذا البراق؟، إنه من وراء الأسباب؟، ولماذا المعراج؟(2)
لكي يبيِّن أيضاً أن أهل التمكين غير أهل التلوين ، فأهل التمكين لا يتركون الأسباب في حلِّ أو ذهاب ، لأنه المقام الأكمل عند الله عزَّ وجلَّ.
فيوقظه من نوم الغفلة إلى متى شغلك بدنياك؟إلى متى هذا الجفا عن مولاك ؟ إلى متى هذا التلهِّى عن تحقيق مناك ؟
ماذا تنتظر؟، العمر قصير، والمطلوب عظيم، وأنفاسك عند الله عزَّ وجلَّ هي نفائسك، فمتى تسافر؟
وأهل الله الصادقون ليس عندهم تسويف، فلا يوجد عندهم سوف، أو غداً، لأنهم أهل العزائم، فلا يلتمس لنفسه الأعذار، لأن:
{ التماس الأعذار ؛ هو الطريق للأوزار }وهو يريد الأنوار.
[size="3"] (1)ورد الحديث بروايات عدة وقد أوردنا تخريجه سابقاً، وتركناه هنا للإختصار , وأردناها كما بالمحاضرة .
(2 )الذى عرج عليه – يعنى صعد عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم إلى عوالم الله العلوية .
[/size]
http://www.fawzyabuzeid.com/table_books.php?name=%C5%D4%D1%C7%DE%C7%CA%20%C7%E1%C5%D3%D1%C7%C1-%20%CC2&id=18&cat=4
[URL="http://www.fawzyabuzeid.com/downbook.php?ft=pdf&fn=Book_eshrakat_alesraa_V2.pdf&id=18"][SIZE="5"]منقول من كتاب {إشراقات الإسراء الجزء الثاني}
اضغط هنا لتحميل الكتاب مجاناً[/SIZE][/URL]
https://www.youtube.com/watch?v=YWH9BBbdFdw