حسن أحمد حسين العجوز



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

حسن أحمد حسين العجوز

حسن أحمد حسين العجوز

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
حسن أحمد حسين العجوز

منتدى علوم ومعارف ولطائف وإشارات عرفانية



    منازل أولياء الله

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1942
    تاريخ التسجيل : 29/04/2015
    العمر : 57

    منازل أولياء الله Empty منازل أولياء الله

    مُساهمة من طرف Admin الأحد أكتوبر 22, 2023 10:59 am

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الذي خضعت لجلال قدرته القلوب، وسجدت لجمال عظمته الأرواح، وخرَّ الكون ساجداً ظاهراً وباطناً لمعالم قدرته، ولأسرار حكمته عزَّ وجلَّ. والصلاة والسلام على حبيب الله ومصطفاه، كاشف الحُجُب النورانية التي تُقرب العبد إلى حضرة الله، ومُعالج الحُجُب الظلمانية التي تحجب النفوس وتُبعدها عن القرب من الله. صلَّى الله عليه وعلى آله الذين شاركوه في مُناه، وتأسوا به واستَّنوا بهديه حال توجههم إلى الله، واجعلنا منهم أجمعين، وتوِّجنا بتاج العارفين والصالحين في الدنيا، وأكرمنا بمعية سيد الأولين والآخرين يوم الدين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
    أكرم الله عزَّ وجلَّ هذه الأُمَّة، وجعلهم أعيان الموجودات، وأخيار المخلوقات، فإذا نظرت إلى المُهتدين من عباد الله قبلاً، تجد الصورة المشرقة النورانية في العوالم العلوية: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (29الفتح). والمعية ممتدة إلى يوم الدِّين، فإن الله عزَّ وجلَّ لم يقل معه في زمانه، ولا في عصره ولا في أوانه، ربما يمنُّ الله عزَّ وجلَّ على أحدكم فيكشف عن بصيرته النورانية فيرى صورته في هذه الثلة المباركة النورانية، وهذه الحضرة البهية المحمدية، فيفرح بفضل الله ويقول كما قال الله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (58يونس).
    فإذا ذُكِرَ الأولياء فحيهل بحزب الله المفلحين، وأنصار الله الصالحين، الهداة المهديين الذين هم أمَّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الغرُّ الميامين، ونحن والحمد لله منهم أجمعين.
    وقرَّب الله عزَّ وجلَّ لنا هذه الحقيقة، وجعل أصل الأصول الذي به صار الفحول في طريق الله فحولاً، هو الآية الأولى التي قدَّمها على وصفه لأولياء الله؛ مراقبة الله - في السرِّ والنجوى، في الظاهر والباطن - حتى يصل العبد إلى حال لا يغيب الله عزَّ وجلَّ منه على البال طرفة عين ولا أقل، فإذا تحرك يرى نفسه يتحرك بالله، وإذا سكن يُسلِّم لأمر الله، وإذا توجَّه يعلم أن الذي وجَّهه هو مولاه، وإذا نظر إلى أي كائن ينظر إلى غريب صنع الله جلَّ في علاه.
    هذا الحال لمن أراد أن يكون من أهل العطاء والنوال، اجعل هذا الحال قصدك ومُناك، أن تصل إلى هذا الحال في تعاملك مع مولاك، يُلخِّصه قول الله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) (4الحديد)، فيعلم الإنسان علم اليقين أن الله معه ويطلع عليه ويراه في كل أنفاسه.
    إذا آنست من نفسك هذا الحال، ورأيت أنك بفضل الله - ولا تغش نفسك - قد أُكرمت بهذا المقام فأبشر، واعلم أن الله اصطفاك وحباك ورقاك، ولكل كنوز العناية الإلهية والأنوار الربانية سبحانه وتعالى سوَّاك، فأصبحت مؤهلاً لكل ذلك: (وما تكون في شأن) - أي شأن كان، إن كان في أكل أو شرب، أو لهو أو مزاح أو لعب، أو عمل إلا ومعك في قلبك ما يوافقه من آيات القرآن، لتعمل فيه على هدي النبي العدنان صلَّى الله عليه وسلَّم.
    كان الإمام الجنيد رَضِيَ الله عنه يقول في ذلك: ((بقى لي ثلاثون عاماً أخاطب الحق في الخلق والخلق يظنون أني أتحدث معهم))، بينما هو لا يرى إلا وجه مولاه، أو نوره الذي بثَّه في خلقه جلَّ في علاه، ولا يحرك أحداً ولا يُسكِّنه في الحقيقة إلا الله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (22يونس). مَن الذي يُسيِّر الكل؟ الله عزَّ وجلَّ.
    ولذلك قال بعض القوم للسيدة رابعة العدوية رضي الله عنها: هل لو تبت يتوب الله عزَّ وجلَّ علىَّ؟، قالت لا، بل لو تاب الله عزَّ وجلَّ عليك لتبت، قال: من أين لك هذا؟، قالت: من كلام الله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ) (118التوبة)، إذاً التوبة تبدأ من عند الله عزَّ وجلَّ. يُلهم العبد بمعاني التوبة، ويجعل العبد يشعر بالإثم وفداحة الذنب، فيشعر بالخجل من مولاه، ويندم على ماجنت جوارحه ويداه، فيتوب إلى الله للمعاني الإلهامية التي ألهمه بها الله جلَّ في علاه.
    والحب من أين؟!!، (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (54المائدة)، إذاً الحب أولاً من الله، ولذلك كان يقول سيدي مصطفى البكري رَضِيَ الله عنه ‏ في حزب السَحَر: {اللهم إنا نسألك بحبك السابق في (يُحِبُّهُمْ)، وحبنا اللاحق في (يُحِبُّونَهُ)}، فحب الله عزَّ وجلَّ هو السابق، ولو نظرت إلى عين الحقيقة ترى الله عزَّ وجلَّ هو الفعَّال لما يريد، وتردد قول الرجل الصالح الشيخ الجيلي رَضِيَ الله عنه ‏:
    أنا آلة والله جلَّ الفاعل
    أنا قلمٌ والإقتدار أصابع
    هذا حال أهل الكمال، الذين يريدون أن يذوقوا لذة الوصال، ويتمتعوا بنعيم الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم والآل، لابد أن يرتقي باطناً إلى هذا الحال.
    (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) (61يونس)، لا يستطيع العبد أن يمنع نفسه من الوقوع في الذنب إلا إذا وصل إلى هذا لحال؟، ولذلك حتى صغار العارفين في بداياتهم كان أهل الصلاح والتُقى يلقنونهم ذلك.
    الشيخ سهل التستري رَضِيَ الله عنه‏ وكان من أكابر الصالحين، وكان خاله محمد بن سوار من الصالحين، فيحكي أن خاله كان يقوم الليل، فكان يقف بجواره ليُصلِّي قيام الليل، فلما رأى خاله هذا الجهد منه، وعلم أن له مكانة عند الله، ولذلك وجَّهه إلى هذا الحال مع الصالحين من عباد الله، فقال له: {يا بُني، قل كل يوم ثلاث مرات: (الله معي، الله ناظر إلىَّ، الله شاهد علىَّ)، قال: فكررتها، وبعد أيام قال: يا سهل، أحفظت ما قلت لك، قلت: نعم، (الله معي، الله ناظرٌ إلىَّ، الله شاهدٌ علىَّ)، قال: كررها كل يوم احدى عشرة مرة، قال: فكررتها، وبعد فترة قال: يا بُني، لا تغفل عن هذه الكلمات عمرك، واعلم أن من كان الله معه كيف يعصاه؟!، ومن كان الله ناظر إليه كيف يخالفه ويتبع هواه؟!، ومن كان الله شاهداً عليه كيف يراه على معصية قبيحة فيسخط عليه مولاه؟!. وهذه بداية الصالحين؛ وهي مقام المراقبة.
    لو كان الإنسان على عبادة الثقلين، وليله قيام ونهاره صيام ولسانه لا يكل ولا يمل من الذكر وتلاوة القرآن والعبادات اللسانية، ولم يصل إلى هذا المقام في مراقبة رب البرية، فإن هذا قد يُقال له يوم الدين - وهذا ما يُخوِّف العارفين: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) (23الفرقان).
    أساس العمل مراقبة الله عزَّ وجلَّ، لأن مراقبة الله تُنتج الخشية، وتُنتج الخوف، وتُنتج الوجل، وقد قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مبيناً مقامه عند ربه: (أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ) . ليست التقوى في الأعمال، لكن التقوى في الأحوال التي يتجمل بها القلب في مواجهة ذي الجلال والإكرام عزَّ وجلَّ. ويعلم علم اليقين أنه لا يغيب عن معرفة الله عزَّ وجلَّ شيءٌ صغر أو كبر: (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ) (61يونس)، ويعزب أي يغيب، فلا يغيب عنه شيء، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. ما الذي سيغيب عن الله عزَّ وجلَّ طرفة عين ولا أقل؟!! لا يوجد.
    إذاً يرى أن الله عزَّ وجلَّ يطلع على خفاياه، ويطلع على سره ونجواه، ويرى حركات جوارحه وما تفعله يداه، حتى يعلم عزَّ وجلَّ خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، إذا غمز بعينه، إذا همز بجسمه، إذا لمز بلسانه .. يعلم أن الله عزَّ وجلَّ يطلع على كل أحواله، والله عزَّ وجلَّ هو الذي يتولى جميع شئونه وجميع أمره.
    (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء)، لم يقل الله (ذرة) ولكن (مثقال ذرة) أي بعض الذرة: (وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (61يونس). هذه عُدَّة العارفين، وأساس الصالحين لمن أراد أن يكون مع الواصلين، ومع الذين أنعم الله عزَّ وجلَّ عليهم من المتقين، في الدنيا ويوم الدين. إذا وصل إلى هذا المقام يطلع في منشور الولاية الربانية، فإن لله عزَّ وجلَّ مناشير تُشرق في اللوح المحفوظ، وتُفَك عنها الطلاسم والرموز، ويقرؤها أهل السماء، ويوضع لها القبول في قلوب أهل الأرض من الصالحين والعارفين وأئمة المتقين والوارثين. ويُنَوِّه الله عزَّ وجلَّ عنهم ويقول: (أَلا)، أي: يا أهل الأرض والسماء تنبهوا .. انتبهوا، أن هذا الرجل أصبح من أولياء الله عزَّ وجلَّ: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (62يونس).
    الأنبياء وكمَّل الوارثين والعارفين من الأولياء اختارهم الله عزَّ وجلَّ من الأزل: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (33آل عمران). ومن رحمته عزَّ وجلَّ بنا جعل قانون الاصطفاء خصوصية لاُمَّة نبينا إلى يوم الدين: (الله يصطفي)،لم ينته الاصطفاء، ولكن باستمرار (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (75الحج). من هؤلاء؟ الذين وصلوا إلى هذا الحال: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) (76الحج)، نفس المقام!!، يعلمون أن الله عزَّ وجلَّ مطلع عليهم ويراهم، ويراقبون هذا، ويعلمون أنه عزَّ وجلَّ بيده الأمر كله، ففوضوا له كل الأمور.
    هؤلاء الأولياء .. بِمَ نالوا هذه المنزلة؟، وبم وصلوا إلى هذه الدرجة؟، وما المدرسة التي أوصلتهم إلى هذا الحال؟!!.
    حضرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم سهَّل علينا الأمر، فوضحه لنا في بيان يجعلنا لو خررنا ساجدين إلى يوم الدين لما استطعنا أن نوفي شكر الله عزَّ وجلَّ على هذه النعمة طرفة عين ولا أقل، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثه الصحيح:
    (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ!!، انْعَتْهُمْ لَنَا يَعْنِي: صِفْهُمْ لَنَا، فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لِسُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ تَحَابُّوا فِي اللَّهِ وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) .
    وفي رواية أخرى: قال صلَّى الله عليه وسلَّم: {إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) }.
    ويغبطهم أي يتمنوا منزلتهم ومكانتهم، فهم قوم من أُمَّة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، من بلدان مختلفة، المودة بينهم لله، ليس بينهم قرابة دنيوية، ولا شراكة تجارية، ولا بينهم منافع فانية دنيوية، وإنما الحب لله، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ، الْحَبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ) .
    (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (62: 64يونس).
    مَن الذي فسَّر الآية لأهل العناية؟ سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وجعل لها شرطاً واحداً بعد مراقبة الواحد عزَّ وجلَّ، وهو أن يكون التعامل لله، الزيارة لله، والإنفاق لله، والتواصل لله، والعمل لله، وأي معروف يقدمه لأي مسلم لا يرجو منه عطاءً ولا نوالاً، وإنما يرجو العطاء والنوال من حضرة الله جل في علاه، لا يريد من الخلق جميعاً إلا أن يكون الأمر بينه وبين مولاه: (توادُّوا بروح الله) هذه هي المودة التي بيَّن سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنها سر الولاية.
    إذا كانت المودة لدنيا أو لمصالح أو لمنافع وليست لله فتكون كما قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (25العنكبوت) إذا كانت المودة للدنيا فهي كعبادة الأوثان.
    إذاً هؤلاء القوم أحبوا الله، وأحبوا رسول الله، وأحبوا المؤمنين لله، وأحبوا الخلق جميعاً طلباً لمرضاة الله، ولذلك وصفهم الله عزَّ وجلَّ بأنهم أهل ولاية الله، وكلمة (ولاية) تعني القرب، ولي الله أي قريب من الله، والله عزَّ وجلَّ لا يحده حدٌّ، ولا جهة، ولا زمان، ولا مكان، لكن قريب من عنايته، قريب من عطاءاته، قريب من هباته، قريب من منحه، قريب من كل شيء يتفضل به الله عزَّ وجلَّ على عباد المقربين، فالقرب هنا معنى وليس قرباً حسياً، قرب معنوي تحسه القلوب في حالة الوصل مع حضرة علام الغيوب عزَّ وجلَّ، كما قال الإمام علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه في حقيقة الإيمان: ((لا تراه العينان، ولا تسمعه الأذنان، وإنما تشعر به القلوب))، فالقلوب تشعر بمعنى القرب من الله عزَّ وجلَّ.
    هؤلاء القوم الذين قربوا من الله عزَّ وجلَّ قرب القرابة: (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، لا يخافون من الصد، ولا يخافون من الهجر، ولا يخافون من البعد، ولا يخافون من الحرمان من عطاءات حضرة الرحمن، وهذا هو الخوف الذي يشغل العارفين والصالحين في كل وقت وآن.
    سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عندما قرأ سورة هود شاب في شعره حوالي سبعة عشر شعرة، فقيل له: شاب شعرك يا رسول الله، فقال: (شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا) . فسألوا الصالحين: ما الذي شيَّب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند قراءته لسورة هود؟ والصالحون لهم وجهات نظر يلهمهم ويعلمهم بها الله عزَّ وجلَّ.
    بعض الصالحين قال: عندما قال له الله عزَّ وجلَّ: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ) (112هود) حدثت رجة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فشاب الشعر، والإمام أبو العزائم رَضِيَ الله عنه ‏ كان له وجهة نظر أخرى، فقال: عندما كان يقرأ سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في سورة هود سيرة الأنبياء والمرسلين مع أممهم، كان يقرأ: (أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (60هود)، (أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ) (68هود) فكان عندما يقرأ كلمة البعد يخاف، فترتعش أطرافه ويبيض شعره:
    خوف بعدي في القرب نار جحيمي
    شيَّب الرأس سِرُّه أعياني
    أهل القرب في حالة القرب كل ما يُخوفهم أن يبعد عن هذا المقام الكريم، وأن يُصد، وأن يحصل له هجر، وكان الإمام أبو العزائم رَضِيَ الله عنه ‏ يقول:
    أنا لا أخاف وحقه من ناره
    كلا ولا أبغي الجنان وطيبها
    فالقرب منه جنتي ومحاسني
    والبعد عنه ناره ولهيبها
    كل ما يخاف منه أن يبعد، وهذا لمن ذاق وطاب له الوصال، وجلس على بساط الدلال، وتناول من كئوس الواحد الأحد المتعال، واختلط بالحبيب ومن معه وألبسوه خلعة الوصال، فيخاف أن يبعد عن هذا المقام طرفة عين، فطمأنهم الله عزَّ وجلَّ وقال: (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (62يونس)، ويقول في ذلك إمامنا أبو العزائم رَضِيَ الله عنه ‏:
    لا خوف يعلوه مَن مولاه قرَّبه
    وليس يحزن مَن في روض جلوات
    الذي يترقى في رياض المشاهدات والمعاينات والمكافحات على أي شيء يحزن؟!. إن هؤلاء الأقوام ما وصلوا إلى هذا المقام إلا بعد أن جعلوا الدنيا خلف ظهورهم، والأهواء كلها تحت أقدامهم: (جعلت هواى تحت قدمي فسخَّر الله لي الهواء)، تركوا الدنيا خلف ظهورهم فصارت الدنيا تسعى خلفهم تحاول أن تُقدم لهم ما يحتاجون وما يريدون، وهم لا يلتفتون عن وجه الله عزَّ وجلَّ طرفة عين ولا أقل.
    لكل مقام مقال، وقد فسرنا (لَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا) (30فصلت) بغير ذلك من المعاني.
    نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجملنا بجمال هذه الآيات، وأن يُكرمنا بهذه العنايات، وأن يجعلنا على هذا لمقام الكريم في البدايات والنهايات، وأن يُفرحنا أجمعيم بمعية سيد السادات، وأن يكتبنا في عداد عباده الصالحين، وأن يجعلنا من الذين يجلسون على أرائك المحبة ولوجهه عزَّ وجلَّ ناظرين، وأن يتفضل علينا دوماً بتوفيقه ورعايته وصيانته وحفظه في كل وقت وحين
    وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    **************************

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 3:03 pm