بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللهَ وَكَفَى بِالله حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهَ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ (40) (الأحزاب).
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
الحمد لله على فضله الذي اختصنا به، ونوره الذي هدى قلوبنا به، وحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم الذي نجاتنا بسببه، وكتابه الكريم الذي جعله صيدلية شفاءٍ لنا في كل ما نحتاج إليه في كل أمورنا في دنيانا وأخرانا.
والصلاة والسلام على الحبيب الأعظم والنبي الأكرم، صاحب النور الأفخم سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الآيات التي إستمعنا إليها الليلة تتحدث عن بعض الجوانب الإلهية التي تفضل الله تبارك وتعالى بها على الحضرة المحمدية، وهي له خصوصية، ولذلك نحن نتابعه في الشريعة العامة.
أما في خصوصياته الخاصة فليس لنا شأنٌ بها، وإنما نعلم قدره ونعرف مكانته عند ربه بذكرها.
فمن خصوصيات الحبيب صلى الله عليه وسلَّم ـ وأظن أننا ألمعنا إلى كثيرٍ منها في كتابنا خصائص النبي الخاتم ـ فجئنا بخصائصه في الأولية، وخصائصة التشريعية، وخصائصه في حياته الدنيوية، وأحطنا قدر الإستطاعة بما ألهمنا به الله من خصائصه التي خصه بها رب البرية تبارك وتعالى.
من جملة هذه الخصائص:
هناك خصائص خصه الله بها وكان النبي صلى الله عليه وسلَّم كما يُحكى عن حضرته، كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، أشد في الحياء من البنت البكر المستورة في بيتها على قدر زمانه وما بعد زمانه إلى عصرٍ قريب، فكانت البنت البكر كأنما لدغتها عقرب إذا رآها إنسانٌ لا يحل لها من شدة حيائها، ويحصل لها دهشٌ ربما تقع من طولها، وربما لا تستطيع السيطرة على أعصابها، تتلعثم الكلمات من فمها، لماذا؟ من شدة حيائها.
ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلَّم بما خصه به مولاه أشد الناس حياءً من بدء الدنيا إلى نهاية النهايات.
فكان عندما يأمره ربه بخصيصة من الخصائص يستحي أن يأمر بها، أو يطالب من حوله بفعلها، والله وصفه بذلك في سورة الأحزاب في موطنٍ آخر، فقال الله له:
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ ﴾ (38الأحزاب).
تستوقفنا أولاً كلمة {فرض الله له} أي أن خصوصياته فرض وليست نافلة، وما دامت فرضاً فلابد من تنفيذ أمر الله مهما كانت العواقب، لأن الله لا يأمر إلا بخيرٍ تبارك وتعالى.
﴿ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ (38الأحزاب).
وسبب نزول هذه الآيات والتي توضح سبب هذا القول أن العرب قبل الإسلام كان في شرعتهم وعرفهم وتقاليدهم، أن المرء قد يتبنَّى طفلاً وينسبه إليه، حتى يُصبح رجلاً منتسباً إليه، وهذا الطفل إذا كبر وإذا صار رجلاً يصير كالإبن الصُلب تماماً بتمام له حقٌ في ميراث أبيه، فهو أبوه يعني أبٌ له، ولا يجوز لأبيه أن يتزوج مطلقته، إذا تزوج إمرأة وطلقها فلا يجوز لأبيه أن يتزوج هذه المطلقة.
والرسول صلى الله عليه وسلَّم كان من فضل الله تبارك وتعالى عليه أن كل الكون بما فيه كان يحبه للجمال الذي جمله به خالقه وباريه، حتى الجبال فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:
(أحدٌ جبلٌ ـ ونظن الجبال لا تعقل، ولكنه قال ـ يُحبنا ونُحبه).
حتى الجبل يحب من؟ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وعندما كان صلى الله عليه وسلَّم يُصلي بالمؤمنين في المدينة المنورة كان يسند ظهره على جذع نخلة، حتى جاءت إمرأةٌ من صالحات المدينة وكانت هناك سفينة لقومٍ من الروم قد غرقت في البحر وجيئ بخشبها إلى المدينة، فذهبت إليه وقالت: يا رسول الله إن عندي نجار ماهر، إسمه باقوم، وأريد أن أصنع من هذا الخشب منبراً تقف عليه وتكلم الناس من فوقه، فوافق النبي صلى الله عليه وسلَّم.
وصنع له النجار منبراً من ثلاث درجات، وعندما صعد النبي صلى الله عليه وسلَّم المنبر في أول مرة إذا بهم يُفاجأ كل من في المسجد بأن الجزع يبكي وبكاءه مسموعٌ يسمعونه جميعاً، وظل يبكي حتى نزل صلى الله عليه وسلَّم واحتضنه والتزمه، حتى سكت، وقال صلى الله عليه وسلَّم:
(لو لم ألتزمه ـ يعني أحتضنه ـ لظل يبكي إلى يوم القيامة).
لماذا؟ حنيناً لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وأنه سيُحرم من إتكاء الحبيب صلى الله عليه وسلَّم عند حديثه عليه، ولذلك سيدنا عمر رضي الله عنه خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذات مرة فقال:
[يا رسول الله إذا كان جزعٌ حنَّ إليك، فأمتك أولى بهذا الحنين].
يعني أولى بنا نحن يكون عندنا شيئ من هذا الحنين إلى حبيب ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
وكان صلى الله عليه وسلَّم من حب الجمادات له والحديث في هذا ليس له نهاية، كان إذا مشى على الرمل يتماسك الرمل حتى لا تغرز قدمه فيه فيكون سهلاً في المشي عليه، فلا يظهر لقدمه أثر، وإذا مشى على الصخر ـ والصخر المشي عليه شديد ـ يلين تحت قدمه صلى الله عليه وسلَّم حتى يعلم فيه، حتى لا يُجهد في المشي عليه صلوات ربي وتسليماته عليه.
فكل من رآه صلى الله عليه وسلَّم أحبه، وكل من أحاط به من الكائنات حنَّ واشتاق إليه صلوات ربي وتسليماته عليه.
فعندما تزوج السيدة خديجة بنت خُويلد رضي الله عنه وهبت له عبداً كان عندها، إسمه زيد، وزيد هذا عاشر النبي فرأى من أحوال النبي وأخلاق النبي ما جعله لا يستطيع أن يفارق النبي لحظةً ولا طرفة عين.
والعجيب في هذا الوقت كانوا يأتون نتيجة جماعة مسافرين يطلع عليهم جماعة من قطاع الطريق يقتادون واحداً منهم ويأخذونه ويبيعونه على أنه عبد، أو في الحروب التي تحدث بين فريقين أو قبيلتين.
فأمه كانت قد أخذته وذاهبةً لأخواله فأخذوه وباعوه، فأخذ يبحث عنه أبوه وأعمامه وأخواته ليردُّوه إليهم، وبعد بحثٍ جهيد عرفوا أنه بمكة، فجاءوا وسألوا فعرفوا أنه عند محمد بن عبد الله، وكان هذا الكلام قبل الرسالة، قبل نزول الوحي، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم وقالوا: يا ابن عبد الله أنتم أهل كرمٍ وسخاء وهذا إبننا، فخذ ما شئت وأتركه لنا، فسأله صلى الله عليه وسلَّم: من هذا؟ قال: أبي، ومن هذا؟ قال عمي، ومن هذا؟ قال: أخي، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
ألا أدلكم على أمرٍ خير م هذا؟ ـ يعني أنتم عرضتم مال ـ قالوا: وما ذاك؟ قال: خذوه واجلسوا معه، فإن إختاركم فخذوه بلا أي شيئ ـ هذا أبوه وعمه وأخواته ـ وإن اختارني فلا أتخلى عنه، فأخذ الأب والإخوة والأعمام يحاولون معه: هل تترك أعمامك وأباك وعائلتك وتظل غريباً؟
فأخذوه معهم وطلبوا بعد ذلك أن يعطيهم مهلة، قال: معكم ثلاثة أيام وحاولوا معه، وبعد المهلة جاءوا وهو معهم، فسألوه: ما رأيك يا زيد؟ قال: لا أترك هذا الرجل أبداً، وضحى بأبيه وأعمامه وأخواته وكل أهله.
فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ليريحهم ـ ولأنه كان عبداً أحب أن يُحرره من العبودية فأخذه وذهب إلى جموع قريش ـ كما كان العُرف في أيامها ـ وقال: يا معشر قريش هذا زيدٌ إبني أرثه ويرثني، فتبناه رسول الله، فأصبح إبناً له كعادة العرب، فاستراح أهله لأن إبنهم لم يعد عبداً وأصبح إبناً، واستراحوا لهذا الأمر.
هاجر الرسول صلى الله عليه وسلَّم إلى المدينة المنورة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلَّم يحطم كل عادات الجاهلية بالتشريعات الربانية القرآنية التي يا ليتنا نطبقها الآن في حياتنا على ما رجع إلى مجتمعنا من أشباه صفات الجاهلية.
فكان أهل الجاهلية في موضوع الزواج يعتزون بالحسب والنسب والمال، وأظن في هذه الأيام أصبحنا نفس الشيئ، أم تغيرت الأمور؟ ما فعله سيدنا رسول الله تركناه ورجعنا إلى أحوال الجاهلية.
نريد الولد الحسيب والولد النسيب والذي وظيفته كذا أو عنده كذا، والرجل الذي يعرف ربنا وأمين، ونذكرهم بكلام حضرة النبي:
(إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير).
[لراوي : أبو هريرة | المحدث : الألباني | المصدر : السلسلة الصحيحة].
وتقول هذا الحديث وتكرره عشرات المرات، فلا أحد يسمع لأنهم يريدون ما في نفوسهم، لكن سيدنا رسول الله ألان الله له القلوب.
فكان يحطم هذه العادات، ويبدأ بالأقرب فالأقرب، يعني يطبقها مع أقاربه أولاً، فينهى عن الربا في خطبة الوداع فقال: وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، يعني ربا عمه لأن الناس تريد بذلك أي يبدأ بنفسه وبالأقرب فالأقرب.
فكان عنده بنت عمته السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، وكانت جميلة وذات حسبٍ ونسب، وأراد أن يزوجها زيداً ليكسر القاعدة، أن ذات الحيب والنسب لا تتزوج إلا بحسيب ونسيب، وهم كان لا يزال في مفهومهم حتى ولو كان زيدٌ قد صار إبناً للنبي، إلا أنه ما زال في نظرهم عبداً، لأنها مفاهيم صعبة التغيير.
فخطبها صلى الله عليه وسلَّم لزيد، وهي لم تجد عندها في نفسها قبول، ولكنها لا تستطيع أن تعصى حضرة الرسول، فتريد أن تقول: لا ـ فنزل قول الله:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (36الأحزاب).
ومن لا يسمع أمر النبي يكون عاصياً:
﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ﴾ (36الأحزاب).
فوافقت وتزوجت زيد بن حارثة، لكنها من البداية لم يكن عندها قبول، فكانت تتعالى عليه بحسبها ونسبها، وكان دائماً بينهما عدم وفاق واتفاق، فلا تعرف هي إلا بعد هذا الزورج أن هذا الزواج كان بأمر الله لإبطال هذه العادات التي تمسك بها الكفار وشريعة الله تُنهي عليها.
فأول عادة هي أن الناس لا يتزوجون إلا من الحسب والنسب فانتهت.
إمسك عليك زوجك، أصبر عليها شوية وهذه يحتاجها شبابنا في هذا العصر، الطلاق كثر والحساب نتيجة التسرع وعدم الروية التفكير السديد.
تحدث أي مشكلة صغيرة فعلى الفور هي نفسها تقول له: طلقني ولذلك زادت نسبة الطلاق عن الحد، لكن لو أن الشباب سمعوا قول الله كلما حدثت مشكلة: أمسك عليك زوجك، وابحث عن المشكلة بالرفق واللين وحلها، واجعل القياس الإلهي بينكم:
﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ (21الروم).
كيف تكون المودة والرحمة؟ بالرفق واللين والمحبة والمودة والإيثار والأخلاق الطيبة والكلمات الحسنة، أي زوجة وأي بنت ما كل ما يعنيها؟ الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة، أنت جئت من الشغل تعبان أو أحد ضايقك، فما لها هي؟ وما ذنبها؟
تحكي التفاصيل باللطف ويمكن تسمع الحل منها، فحضرة النبي كان يسمع من زوجاته ويجد عندهم الحل للمعضلات الكبرى، فما المانع أن نعمل نفس الحكاية؟
فربنا سبحانه وتعالى يريد يُبطل عادة الجاهلية أن الإبن بالتبني يرث الأب والأب لا يجوز أن يتزوج طليقته، وطبعاً لم يعد للتبني وجود في الإسلام كما تعلمون، الإسلام نهى موضوع التبني، ولذلك أيضاً من المشكلات العصرية كثير من الأسر التي لا تنجب يذهبون لبعض الملاجئ ويأتون بطفل ويكتبوه باسمهم ويكون مثل إبنهم، فهذا لا يجوز شرعاً.
لا يجوز أنه يرث أباه، وإذا كبر لا يجوز له أن ينظر إلى الزوجة وهي حاسرة، وإن كانت بنتاً وكبرت لا يجوز للزوج أن ينظر إليها وهي حاسرة، لأنها ليست إبنته.
نريد أن نأتي به ونربيه ولكن يحتفظ بإسمه وإسم أبيه ماشي، ولكن إذا كتبناه بإسمنا نحن ـ وهذه ظاهرة إنتشرت معذرةً في المجتمع ـ فأصبح له حق الميراث، وأصبح لنا حق الإطلاع عليه وله حق الإطلاع علينا، وهذا أمرٌ يحرمه شرع الله ودين الله تبارك وتعالى.
فلا يوجد تبني يا إخوانا حالياً، ولكن توجد كفالة فهذا واحد آخذه وأكفله كفالة يتيم مثلاً، وكفالة اليتيم أيضاً في عصرنا تحتاج إلى الشروط الشرعية: الأحسن أن تقوم بها هيئة، حتى لا يحدث شيئ بين الأفراد، يكفل يتيم لأنه طمعان في أمه، وهذا موجود في المجتمع وفي سبيل أن يتردد عليهم كل شهر ليعطيهم المعلوم وكل شوية يمتد الحوار وكل شوية يزيد الحوار، وينشأ ما لا يحمد عقباه، لكن لو هيئة تتولى هذا الأمر وهي التي تسلمهم المعونة، فينتهي هذا الأمر.
واليتيم ليس في حاجة إلى المال كحاجته إلى العطف والحنان والشفقة والمحبة والمودة التي يأخذها الإبن من أبيه.
فلما أسر زيد على رأيه تركه صلى الله عليه وسلَّم يطلقها، وبعد أن طلقها أمره الله عز وجل ان يتزوجها، وهذه التي قال فيها الله تعالى:
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ ﴾ (38الأحزاب).
يعني أنت لم تستحي في تنفيذ أمر الله؟ وهذا شرع يضعه الله تبارك وتعالى لجميع الأنام إلى يوم الزحام:
﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ (37الأحزاب).
حتى أن الله سبحانه وتعالى لما أبطأ صلى الله عليه وسلَّم في تنفيذ الأمر، قال له: لا مفر فأنا الذي سأزوجك:
﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ (37الأحزاب).
من الذي زوجه؟ الله ولذلك تزوجت بدون مهر ولا شهود ولا عقد عقد ولا شيئ، لأن من الذي زوجه؟ الله تبارك وتعالى تبارك وتعالى، لماذا؟ بيَّن الحكمة:
﴿ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ﴾ (37الأحزاب).
حتى نبطل هذه القاعدة الجاهلية التي كانت موجودة، وكانت السيدة زينب رضي الله عنه تفتخر على زوجات النبي فتقول لهم:
[زوجكن آباؤكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات].
ربنا الذي زوجني من فوق سبع سماوات، فلما نزلت الآية أخذها ودخل على الفور وخلاص، فلم تحتاج إلى عقد ولا شهود ولا شيئ، لأن ربنا هو الذي زوجه، ولذلك ربنا قال له:
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ ﴾ (38الأحزاب).
وفريضة الله التي يفرضها عليك، فرضها على من كان قبلك من المرسلين والنبيين في بعض التشريعات التي شرعها لهم رب العالمين:
﴿ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ﴾ (38الأحزاب).
من الأنبياء والمرسلينن فلابد أن ينفذ ما أمره به مولاه وخاصةً إذا كانت فريضةً من عند الله تبارك وتعالى.
﴿ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ (38الأحزاب).
لأن أمر الله قدر، لا مفر منه ولا مهرب منه، ولا حذر منه، لابد أن يحدث وإن طال وقته، فما دام الأمر كذلك فلابد للرضوخ والسكون لأمر الله تبارك وتعالى.
من الجماعة الذين ربنا أمرهم ونفذوا أمر الله؟
الأنبياء والمرسلين، فوصفهم الله سبحانه وتعالى بصفات طيبة، قرب إليها العلماء الوارثين والصادقين من المؤمنين في أمة محمد أجمعين، فقال الله سبحانه وتعالى في وصف الفريقين:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ ﴾ (39الأحزاب).
من الذي يبلغ رسالات الله يا إخوانا قبل البعثة؟ أنبياء الله ورسل الله، وبعد إنتقال النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى الرفيق الأعلى، من الذي يبلغ رسالات الله؟ العلماء ورثة الأنبياء:
(علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل).
في الوصف والمنزلة والقدر والمكانة، ما صفاتهم حتى نعرفهم هؤلاء الجماعة؟
﴿ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللهَ ﴾ (39الأحزاب).
من العلماء العاملين الذين نالوا ميراث خير النبيين؟ أهل خشية الله، والذين لا يخشون في الحق أحداً غير الله، ولا يمالئون في الباطل ولا يداهنون ولا ينافقون ولا يتلونون، إذا وجدت رجلاً من هذا الصنف إعلم أنه من ورثة هؤلاء.
ولذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه يقول:
[سل ـ إذا كنت تريد ان تسأل في مسألة دينية ـ سل الذي رأيته يخشى الله].
هذا هو الذي تسأله، لأنه يوجد آخر يبيع ضميره من أجل المال، يقول لك: ما الفتوى التي تريدها وأنا أكيفها لك؟ تقول له: أنا أريدها كذا، يقول لكك إعطني ألفين أو إعطني خمسة أو إعطني كذا، وموجودين في المجتمع وما أكثرهم الآن والعياذ بالله، فهل هذا يُؤتمن على فتوى شرعية؟ لا فمن الذي أئتمنه وأسأله؟ الذي يخشى الله ولا يخشى أحداً إلا الله.
والإمام ابو العزائم رضي الله عنه وأرضاه قال:
العلم يجعلني أخشى من الرب أراقب الله ـ وهذه علامات الخشية ـ با لأعضاء والقلب
العلم يجعلني أخشــــــــــــــــــــــــــــى من الرب أراقب الله با لأعضـــــــــــــــــــــاء والقلب
إن لم أكن أخشى من ربي فمن جهلي وإن علمت علوم الكشف والغيب
وإن تحصــــــــــــــــــــــلتُ من علمٍ ومن فقهٍ مثل الجبــــال الرواسي لم يزل حجبي
حتى ولو قرأ كتب الأولين والآخرين وليس عنده خشية لله، سيروي الحكم الشرعي على حسب هواه، ويفصله على حسب ما يحتاج إليه السائلين من عباد الله، فهل ينفع هذا يا إخوانا أن يذهب إليه المسلمون ليسألوه في أحوالهم وفي تشريعاتهم؟ لا بل نحتاج للعالم الذي يخشى الله ولا يخشى أحداً إلا الله، وإذا كان على هذه الصفة الطيبة النورانية القرآنية، حتى ولو تخلى عنه الخلق جميعاً لا يبالي، لماذا؟
﴿ وَكَفَى بِالله حَسِيبًا ﴾ (39الأحزاب).
يكفيه أن الله معه، وأنه يمشي على حسب مراد الله ولا يغير شيئاً من شرع الله على هواه، لأن آفة العلم الهوى، وآفة الناس جميعاً الهوى، نسأل الله أن يحفظنا من الهوى أجمعين.
ثم أنهى الله عز وجل كما أنهى في أول السورة، وقال في أول السورة:
﴿ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ﴾ (5الأحزاب).
فلا تقولوا أن زيداً إبن محمد، وأنظروا من أبوه؟ حارثة فيكون زيد بن حارثة وهذا الإسم الذي مشينا عليه:
﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ (40الأحزاب).
ليس أباً للرجال أو لأحدٍ من الرجال، بل أب لنا كلنا، أب المسلمين:
﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ (6الأحزاب).
وفي قراءة:
وهو أبوهم، فهو أبونا كلنا صلى الله عليه وسلَّم، وليس أبٌ لأحد منا فقط، وهذه إسمها أبوة الروح، فنحن كلنا أبناءٌ لحبيب الله ومصطفاه في عالم الروح، لكن أحكام عالم الروح غير أحكام عالم الشريعة:
أحكام عالم الروح أيضاً فيها ميراث، ولكن ليس ميراثاً حسياً، فالميراث الصلبي من عالم المادة إن كان عقارات، أو عمارات أو فلوس جنيهات أو دولارات أو غيره، أو سيارات أو طائرات، كله ميراث حسي، لكن ميراث الأرواح التقية النقية قال فيها صلى الله عليه وسلَّم:
(نحن معاشر الأنبياء لا نورث درهماً ولا ديناراً، وإنما نورث علماً ونورا ـ وبعد ذلك قال: ـ فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر).
[إبن القيم رحمه الله].
يا هنا من يأخذ واحد من هذا الميراث، أو يأخذهم الإثنين، فمنهم من يرث العلم، ولن يرث العلم كله، ولكن يرث باباً من أبواب العلم:
فمنهم من يرث علم الفقه، ومنهم من يرث علم الحديث، ومنهم من يكون له ميراث في علم التفسير، ومنهم من يكون له ميراث في علم المواريث والفرائض، ومنهم من له ميراث في علم السير والقَصص قصص الأنبياء والصالحين، كل واحد يكون له ميراث، حتى غير كامل في هذا العلم، فهل يوجد أحدٌ من الأولين أو الآخرين يستطيع أن يحيط بعلم من هذه العلوم؟ لا مستحيل، ولكن له نصيب من الميراث في هذه العلوم.
ومنهم من له نصيبٌ من النور نور الإيمان، أو النور في مقام الإحسان، أو النور في مقام الإيقان، فهذا ميراث الأمة الذي نسأل الله جميعاً أن يكون لنا نصيب فيه.
و سبحان الله أيضاً حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم ـ تصديقاً للآية ـ كل أولاده الذكور ماتوا صغار، أنجب من السيدة خديجة أبو القاسم الذي تسمى به، والطيب والطاهر وماتوا صغار، وأنجب من السيدة مارية القبطية إبراهيم ومات بعد ستة أشهر ـ لماذا؟
لأنه إذا كان إبراهيم أبو الأنبياء كل رجلٍ تركه أعطاه الله النبوة، فما بالك بختام الأنبياء، إذا ترك رجلاً فلابد أن يكون نبياً، ولا يوجد نبي بعده، فلم يعش واحدٌ منهم؟
لأنه ختام الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(أنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي).
[إبن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما].
فلا نبي بعده، ولذلك لا أحد من أولاده كبر حتى بلغ درجة الرجولية وإلا فيكون نبياً، ولا نبوة بعد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلَّم.
فيقول واحد يقولون أن سيدنا عيسى سينزل في آخر الزمان، نعم صحيح، فسيدنا عيسى نبي وكان نبياً في أمته، لكن عندما ينزل في آخر الزمان سيكون من أتباع حضرة النبي، من أتباع هذه الأمة.
ولذلك الأحاديث التي تتكلم عنه أنه عندما ينزل ـ والحقيقة هذه الأحداث قربت يا إخوانا يعني نحن على وشك أحداث هذه الساعة الكبرى، فبعض الناس العقلانيين وخاصة الجماعة المعتزلة ينكرون نزول سيدنا عيسى، ويقولون: عندما رفعه ربنا إلى السماء، وهل السماء وهو حيٌّ فيها هل فيها دورة مياه ليقضي حاجته فيها أو ما شابه ذلك؟ وللأسف حتى بعض مشايخ الأزهر المعاصرين ذكر هذه الحقيقة وأيدها.
لا هو عندما رُفع إلى السماء نام كنومة أهل الكهف، ولكن أهل الكهف ناموا ثلاثمة سنة ميلادية، وثلاثة مائة سنة وتسعة قمرية أو هجرية، وهو نام مدة طويلة شوية، نائم فلا يحتاج إلى حمام ولا دورة مياه ولا أكل ولا شرب ولا شيئ، إلى أن ينزل، ولماذا ينزل؟ حتى يُكمَّل:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ (38الرعد).
فهو لم يتزوج فينزل ليتزوج ويُنجب، فيكتمل حسب ما ذكرت الآية، ربنا قال في القرآن:
﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا ﴾ (46آل عمران).
ولم يقُل ورجلاً بل قال: وكهلاً يعني رجلاً كبيراً في السن، وهو رُفع وعنده ثلاثة وثلاثين سنة، فلابد أن ينزل ليكمل الآية ويكون كهلاً.
سينزل طبعاً بعد أحداث الساعة الكبرى بعد الحرب الثالثة ليمارس مهمته التي أُختص بها، فيعالج المنكوبين بنكباتٍ كبرى من أثر الحروب الذرية والهيدروجينية، وهذه الأمور بأمر الله وبإذن الله تبارك وتعالى.
وسينزل على المنارة في الجامع الأموي في دمشق، ويكون المسلمين قد فتح الله عليهم ودخلوا بيت المقدس، ويصلون الظهر أو العصر على إختلاف الروايات فيه، من الذي يعرفه؟
لن يعرفه أيضاً إلا الورثة الأكابر لرسول الله، فكل فترة يخرج كم واحد مجنون في أمريكا ويقول: أنا عيسى بن مريم، وكم واحد في الهند ويقول: أنا عيسى بن مريم، فهل يصدقهم أحد؟ لا لكن من الذي يعرفه المؤيدين بإلهامات الله، فيأتيه إلهام بأن عيسى سينزل في المكان الفلاني ويوم كذا وساعة كذا، وهذه صورته لتعرفه.
سيقدموه للصلاة ـ وهذا سر هذا الكلام الذي جئتُ أنا به ـ فيقول عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام: إمامكم منكم، وأنا سأُصلي خلفكم، يعني أنا تابع لكم يعني أنتم ستصلُّون وأنا تابع لكم.
فلا نبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حتى ولو لعيسى بن مريم لأنه سينزل متمم شريعة الله التي جاء بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وليقيم الحجة على الذين عبدوه وزعموا أنهم صلبوه ومن قلَّبوه، قال صلى الله عليه وسلَّم فيما رواه البخاري ومسلم:
(ليوشكن أن ينزل عيسى بن مريم حكماً عدلاً، يكسر الصليب ويقتل الخنزير).
[البخاري والترمذي عن أبي هريرة].
ليعرفهم أنهم كانوا على خطأ، ولذلك قال الله تعالى في الآية الأخرى:
﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ (159النساء).
سيؤمنون به، ولكن بعد لأيٍ من الزمان:
﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ (40الأحزاب).
فسيدنا الحسن وسيدنا الحسين وهو صلى الله عليه وسلَّم قال:
(ذريتي من أولاد فاطمة).
فكلامه حق لا مرية فيه، لكن ليسوا في شريعة الله كالأولاد الصلب، هل يرثوا؟ لا لكن يرثوا في الميراث الروحاني مثلنا، ولكنهم ربما يكونوا إستعدادهم أقوى وطهارتهم أقرب فعندما، فلو استقاموا الميراث يأتيهم بسرعة وبسهولة، لكن الميراث الحسي هل لهم فيه شيئ؟
لأن إبنته السيدة فاطمة لم تأخذ ميراث، ذهبت تطالب سيدنا أبو بكر بميراثها، فقال لها: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ـ يعني أنا سمعته بنفسي ـ يقول:
(نحن معاشر الأنبياء لا نُورَّث، ما تركناه صدقة).
[لراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري ].
فحزنت بعض الشيئ، ولكنها عرفت بعد ذلك أن هذا هو الحق، فسلمت واستسلمت رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فأولادها ماذا يرثون؟ في الميراث المعنوي وهذا موجود، والميراث المعنوي ما شرطه؟ الاستقامة، الإستقامة على طريق الله:
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ (153الأنعام).
ولم يقُل فامشوا عليه، ولكن قال: فاتبعوه، فمن هو الصراط الذي نتبعه؟ سيدنا رسول الله، الصراط الذي نمشي عليه الشريعة، والصراط الذي نتبعه في العمل بالشريعة سيدنا رسول الله، لأنه أول من طبق الشريعة كما ينبغي لإرضاء الله.
فإذا طبقنا الشريعة بحسب هوانا فنكون قد بعدنا، لكننا لابد أن نطبقها على حسب ما كان يعمل به ويطبقه صلوات ربي وتسليماته عليه.
﴿ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهَ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ (40الأحزاب).
وهذا الأمر الآخر الذي نأخذه من الآية، أنه صلى الله عليه وسلَّم حيٌّ بروجه الشريفة وذاته المنيفة إلى يوم الدين، فلو كان كما يقول الجاهلون: قد مات، فنحتاج إلى نبي أليس كذلك؟ ومن يأتي بعدنا يحتاجون إلى نبي، ولكن ها هو حيٌّ وموجود فيقول:
(حياتي خيرٌ لكم، ومماتي خيرٌ لكم، تُحدثون ويُحدث لكم، تُعرض عليَّ أعمالكم ـ هذا العمل يُعرض عليَّ ـ فإن وجدتُ خيراً حمدت الله تبارك وتعالى على ذلك، وإن وجدت غير ذلك إستغفرت الله تبارك وتعالى لكم).
[رواه البزار عن ابن مسعود رضي الله عنه].
والله يقول:
﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ (105التوبة).
هل هذه الآية لمن كان في عصره؟ لو كانت لمن كان في عصره فلنرفعها من القرآن، أم لنا نحن أيضاً؟ (وسيرى) وهذا في المستقبل، فسيرى الله عملكم ـ ومن؟ ورسوله، ونحن هل توجد لحظة في الأربع وعشرين تخلو من أن نسلم عليه، إن كان في الصلاة أو خارج الصلاة، وهو يقول:
(ما من مسلم يسلم علي إلا ردَّ الله روحي حتى أرد عليه السلام).
[الراوي : [أبو هريرة] | المحدث : الألباني وأحمد وأبو داود].
أيضاً بعض الجهال يقولون: أن روحه غير موجودة، لا فهو في جمع الجمع على ربه على الدوام، لشدة شوقه إلى حضرته لا يريد أن يفارقه طرفة عينٍ ولا أقل، فيرده الله إلى حالة الفرق ويقول له: حتى ترد على هذا وترد على هذا وترد على هذا، لأن رد السلام منه له شيئٌ كبير عند الله عز وجل.
كان صلى الله عليه وسلَّم ذاهباً لبيت من بيوت الأنصار فقال: السلام عليكم فلم يردوا، السلام عليكم فلم يردوا، كرر للمرة الثالثة فردوا، فقال: لم لم تردوا علي من أول مرة؟ ـ وانظر للناس اللطفاء ـ قالوا: يا رسول الله أردنا أن نستكثر من سلامك علينا.
ما هذه الأذواق الرفيعة؟ نريد أن نكثِّر السلام علينا منك أنت.
وذكرنا بشيئ غريب وعجيب:
﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾ (103التوبة).
وما ذنبنا أنه لا يصلي علينا؟ ما دامت الصلاة سكن لنا؟
لما كان الأنصار ذوي الذوق الرفيع، كان عندما يموت أحدٌ منهم في الليل فلا يبلغوا حضرة النبي حتى لا يتعبوه، ويصلوا عليه بعد أن يجهزوه ويدفنوه، فسأل ذات مرة: أين فلان؟ قالوا: قد مات يا رسول الله ودفناه، فقال: لم لم تعلموني؟ قالوا: كرهنا أن نشق عليك ـ وهذا من ذوقهم أننا لا نريد أن نشق عليك نريد راحتك ـ فقال:
(إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينوِّرها بصلاتي عليهم).
[الراوي : أبو هريرة | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم ].
مالذي ينور القبور؟ صلاة حضرة النبي، وفي حديث آخر أنها الأعمال الصالحة، ولكن الأعمال الصالحة من يعرف منا من منها المقبول وغير المقبول؟
لكن صلاته علينا دائماً صلى الله عليه وسلَّم هي التي تنور القبور، وهل سيُصلي علينا نحن أيضاً؟ نعم يا أخي ففي عصر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه مات الربيع بن خراش رضي الله عنه، وكان أخوته كلهم صالحين، فأخوه ربعي بن خراش الذي أُرسل إلى ملك الفرس ليبلغه رسالة الإسلام.
فلما مات الربيع وغطوه بملاءة وذهب إخوته ليجهزوا المكان الذي سيُدفن فيه، ويجهزوا الغسل والكفن، وجاءوا فإذا به يرفع الغطاء ويجلس ويقول: يا إخوتي عجلوا غُسلي وتكفيني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قد حضر للصلاة عليَّ.
فالجماعة تعجبوا فذهبوا للسيدة عائشة رضي الله عنه وقصوا عليها الخبر، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول:
(سيتكلم رجلٌ من أمتي بعد موته).
[رواه ربعي بن خراش رضي الله عنه].
فهذا هو الرجل الذي تكلم بعد موته، وعندما مات سيدي ذو النون المصري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الرجلٌ كان من أخميم ولكنه عاش في آخر حياته في الجيزة، وهو أول من تحدث في علوم الولاية في مصر، العلوم الإلهاية.
لما مات لم يكن موجوداً تلغرافات ولا تليفونات ولا وسيلة إتصال، فماذا كانت وسائل الإتصال؟ الرؤيا المنامية، وهذه كانت وسيلة الإتصال فرأى مائة رجلٍ من الصالحين في أسقاع مصر سيدنا رسول الله في المنام آتيا، إلى أين أنت يا رسول الله ذاهب؟ قال: إن حبيب الله ذا النون يزمع المجيئ إلينا وقد جئتُ لاستقباله.
فلما يسمعوا هذا من رسول الله فهل يبقوا؟ أو ينتظروا حتى الصباح؟ ولذلك كان في جنازته مع قلة العدد في القاهرة وضواحيها كان أكثر من مليون شخص، وكل واحد أتى بدراويشه وجاء ليحضر، فمن أسعده الله يحضر جنازة رجلٍ صالح، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(أول ما يُبشر به العبد بعد موته، أن يغفر الله تبارك وتعالى لكل من مشى في جنازته).
[مجمع الزوائد عن عبد الرحمن بن كعب].
فهذا لمن يمشي، ولمن يُصلي على الميت؟ قال صلى الله عليه وسلَّم:
(من صلى على ميتٍ فله مثل أجره).
ومن منا يستطيع أن يعمل عمل الصالحين؟ لكن ستكبر أربع تكبيرات تنال أجره كله شيك مثله تماماً بتمام، ولذلك الناس كانوا يتنافسون على حضور جنازات الصالحين لهذه الأمور.
فكان أكثر من مليون وقد جاءوا من الجيزة وهو كان كما أوصى سيدنا عمر أن يُدفن في المقطم كوصية الصالحين، فكلهم في المقطم، وليس المقطم الذي نحن فيه، المقطم الذي خلف الإمام الشافعي، فخلف الإمام الشافعي ضريح سيدنا ذا النون هناك، مدفون في قبر وسيدي محمد بن الحنفية لغاية سيدنا عقبة بن عامر، ومن هناك يبدأ المقطم.
فسيدنا عمرو بن العاص عندما دخل مصر المسيحيين طلبوا منه أن يترك لهم المقطم ويسلموه مصر كلها، فشاور سيدنا عمر وأرسل له، فقال له: سلهم لم يريدون الإحتفاظ بالمقطم؟ قالوا: نجد في كتبنا أنه على ترعة من ترع الجنة، فقال عمر رضي الله عنه: نحن أولى به منهم، إجعله مقبرةً للمسلمين.
ومن وقتها الصالحون يقطنونه، ولذلك تجد خلوات كثيرة جداً موجودة في المقطم للصالحين، ويوصوا أنهم يدفنوا فيه بعد الوفاة، فسيدنا ذا النون أيضاً أوصى بأنه يُدفن في المقطم، فهناك طريق فيه سيدنا عقبة بن عامر كنا نمشي فيه ونزور هؤلاء الجماعة فيه.
وأثناء ما هم ماشيين وكان ذلك بعد صلاة الظهر، وكان اليوم شديد الحرارة، أرسل الله تبارك وتعالى طيوراً سدَّت الأُفق فوق المشيِّعين وترفرف بأجنحتها، ظللتهم وجاءتهم بالهواء، لماذا؟ لأنهم حاضرين جنازة رجلٍ من أهل الجنة.
فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يا إخوانا لا يخلو منه زمانٌ ولا مكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإياكم أن أحداً منكم يجهل ويحصره في المكان الذي هو فيه في المدينة، لا إذا ذُكر في أي مكانٍ حضر صلى الله عليه وسلَّم، ومن استغاث به في أي زمانٍ أو مكانٍ أغاثه الله، لأنه مُعظَّمٌ عند مولاه تبارك وتعالى، وليس هو فقط في المدينة ففيها الجسم، لكن الروح تملأ الكون كله.
﴿ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ (40الأحزاب).
وهذه تقطع كل أقوال الجاحدين والجاهلين، لأن علم الله عز وجل لا يصله واصل، ولا يستطيع أحدٌ أن يحصله لا بعقله ولا بفكره، ولكن علم الله لا يصل إلينا إلا عن طريق الوحي المقدس، عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، أو على قدرنا إلهامات العارفين.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يفتح علينا فتحاً مبينا، وأن يهدينا صراطاً مستقيما، وأن ينصرنا على أنفسنا نصراً عزيزا.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللهَ وَكَفَى بِالله حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهَ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ (40) (الأحزاب).
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
الحمد لله على فضله الذي اختصنا به، ونوره الذي هدى قلوبنا به، وحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم الذي نجاتنا بسببه، وكتابه الكريم الذي جعله صيدلية شفاءٍ لنا في كل ما نحتاج إليه في كل أمورنا في دنيانا وأخرانا.
والصلاة والسلام على الحبيب الأعظم والنبي الأكرم، صاحب النور الأفخم سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الآيات التي إستمعنا إليها الليلة تتحدث عن بعض الجوانب الإلهية التي تفضل الله تبارك وتعالى بها على الحضرة المحمدية، وهي له خصوصية، ولذلك نحن نتابعه في الشريعة العامة.
أما في خصوصياته الخاصة فليس لنا شأنٌ بها، وإنما نعلم قدره ونعرف مكانته عند ربه بذكرها.
فمن خصوصيات الحبيب صلى الله عليه وسلَّم ـ وأظن أننا ألمعنا إلى كثيرٍ منها في كتابنا خصائص النبي الخاتم ـ فجئنا بخصائصه في الأولية، وخصائصة التشريعية، وخصائصه في حياته الدنيوية، وأحطنا قدر الإستطاعة بما ألهمنا به الله من خصائصه التي خصه بها رب البرية تبارك وتعالى.
من جملة هذه الخصائص:
هناك خصائص خصه الله بها وكان النبي صلى الله عليه وسلَّم كما يُحكى عن حضرته، كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، أشد في الحياء من البنت البكر المستورة في بيتها على قدر زمانه وما بعد زمانه إلى عصرٍ قريب، فكانت البنت البكر كأنما لدغتها عقرب إذا رآها إنسانٌ لا يحل لها من شدة حيائها، ويحصل لها دهشٌ ربما تقع من طولها، وربما لا تستطيع السيطرة على أعصابها، تتلعثم الكلمات من فمها، لماذا؟ من شدة حيائها.
ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلَّم بما خصه به مولاه أشد الناس حياءً من بدء الدنيا إلى نهاية النهايات.
فكان عندما يأمره ربه بخصيصة من الخصائص يستحي أن يأمر بها، أو يطالب من حوله بفعلها، والله وصفه بذلك في سورة الأحزاب في موطنٍ آخر، فقال الله له:
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ ﴾ (38الأحزاب).
تستوقفنا أولاً كلمة {فرض الله له} أي أن خصوصياته فرض وليست نافلة، وما دامت فرضاً فلابد من تنفيذ أمر الله مهما كانت العواقب، لأن الله لا يأمر إلا بخيرٍ تبارك وتعالى.
﴿ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ (38الأحزاب).
وسبب نزول هذه الآيات والتي توضح سبب هذا القول أن العرب قبل الإسلام كان في شرعتهم وعرفهم وتقاليدهم، أن المرء قد يتبنَّى طفلاً وينسبه إليه، حتى يُصبح رجلاً منتسباً إليه، وهذا الطفل إذا كبر وإذا صار رجلاً يصير كالإبن الصُلب تماماً بتمام له حقٌ في ميراث أبيه، فهو أبوه يعني أبٌ له، ولا يجوز لأبيه أن يتزوج مطلقته، إذا تزوج إمرأة وطلقها فلا يجوز لأبيه أن يتزوج هذه المطلقة.
والرسول صلى الله عليه وسلَّم كان من فضل الله تبارك وتعالى عليه أن كل الكون بما فيه كان يحبه للجمال الذي جمله به خالقه وباريه، حتى الجبال فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:
(أحدٌ جبلٌ ـ ونظن الجبال لا تعقل، ولكنه قال ـ يُحبنا ونُحبه).
حتى الجبل يحب من؟ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وعندما كان صلى الله عليه وسلَّم يُصلي بالمؤمنين في المدينة المنورة كان يسند ظهره على جذع نخلة، حتى جاءت إمرأةٌ من صالحات المدينة وكانت هناك سفينة لقومٍ من الروم قد غرقت في البحر وجيئ بخشبها إلى المدينة، فذهبت إليه وقالت: يا رسول الله إن عندي نجار ماهر، إسمه باقوم، وأريد أن أصنع من هذا الخشب منبراً تقف عليه وتكلم الناس من فوقه، فوافق النبي صلى الله عليه وسلَّم.
وصنع له النجار منبراً من ثلاث درجات، وعندما صعد النبي صلى الله عليه وسلَّم المنبر في أول مرة إذا بهم يُفاجأ كل من في المسجد بأن الجزع يبكي وبكاءه مسموعٌ يسمعونه جميعاً، وظل يبكي حتى نزل صلى الله عليه وسلَّم واحتضنه والتزمه، حتى سكت، وقال صلى الله عليه وسلَّم:
(لو لم ألتزمه ـ يعني أحتضنه ـ لظل يبكي إلى يوم القيامة).
لماذا؟ حنيناً لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وأنه سيُحرم من إتكاء الحبيب صلى الله عليه وسلَّم عند حديثه عليه، ولذلك سيدنا عمر رضي الله عنه خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذات مرة فقال:
[يا رسول الله إذا كان جزعٌ حنَّ إليك، فأمتك أولى بهذا الحنين].
يعني أولى بنا نحن يكون عندنا شيئ من هذا الحنين إلى حبيب ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
وكان صلى الله عليه وسلَّم من حب الجمادات له والحديث في هذا ليس له نهاية، كان إذا مشى على الرمل يتماسك الرمل حتى لا تغرز قدمه فيه فيكون سهلاً في المشي عليه، فلا يظهر لقدمه أثر، وإذا مشى على الصخر ـ والصخر المشي عليه شديد ـ يلين تحت قدمه صلى الله عليه وسلَّم حتى يعلم فيه، حتى لا يُجهد في المشي عليه صلوات ربي وتسليماته عليه.
فكل من رآه صلى الله عليه وسلَّم أحبه، وكل من أحاط به من الكائنات حنَّ واشتاق إليه صلوات ربي وتسليماته عليه.
فعندما تزوج السيدة خديجة بنت خُويلد رضي الله عنه وهبت له عبداً كان عندها، إسمه زيد، وزيد هذا عاشر النبي فرأى من أحوال النبي وأخلاق النبي ما جعله لا يستطيع أن يفارق النبي لحظةً ولا طرفة عين.
والعجيب في هذا الوقت كانوا يأتون نتيجة جماعة مسافرين يطلع عليهم جماعة من قطاع الطريق يقتادون واحداً منهم ويأخذونه ويبيعونه على أنه عبد، أو في الحروب التي تحدث بين فريقين أو قبيلتين.
فأمه كانت قد أخذته وذاهبةً لأخواله فأخذوه وباعوه، فأخذ يبحث عنه أبوه وأعمامه وأخواته ليردُّوه إليهم، وبعد بحثٍ جهيد عرفوا أنه بمكة، فجاءوا وسألوا فعرفوا أنه عند محمد بن عبد الله، وكان هذا الكلام قبل الرسالة، قبل نزول الوحي، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم وقالوا: يا ابن عبد الله أنتم أهل كرمٍ وسخاء وهذا إبننا، فخذ ما شئت وأتركه لنا، فسأله صلى الله عليه وسلَّم: من هذا؟ قال: أبي، ومن هذا؟ قال عمي، ومن هذا؟ قال: أخي، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
ألا أدلكم على أمرٍ خير م هذا؟ ـ يعني أنتم عرضتم مال ـ قالوا: وما ذاك؟ قال: خذوه واجلسوا معه، فإن إختاركم فخذوه بلا أي شيئ ـ هذا أبوه وعمه وأخواته ـ وإن اختارني فلا أتخلى عنه، فأخذ الأب والإخوة والأعمام يحاولون معه: هل تترك أعمامك وأباك وعائلتك وتظل غريباً؟
فأخذوه معهم وطلبوا بعد ذلك أن يعطيهم مهلة، قال: معكم ثلاثة أيام وحاولوا معه، وبعد المهلة جاءوا وهو معهم، فسألوه: ما رأيك يا زيد؟ قال: لا أترك هذا الرجل أبداً، وضحى بأبيه وأعمامه وأخواته وكل أهله.
فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ليريحهم ـ ولأنه كان عبداً أحب أن يُحرره من العبودية فأخذه وذهب إلى جموع قريش ـ كما كان العُرف في أيامها ـ وقال: يا معشر قريش هذا زيدٌ إبني أرثه ويرثني، فتبناه رسول الله، فأصبح إبناً له كعادة العرب، فاستراح أهله لأن إبنهم لم يعد عبداً وأصبح إبناً، واستراحوا لهذا الأمر.
هاجر الرسول صلى الله عليه وسلَّم إلى المدينة المنورة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلَّم يحطم كل عادات الجاهلية بالتشريعات الربانية القرآنية التي يا ليتنا نطبقها الآن في حياتنا على ما رجع إلى مجتمعنا من أشباه صفات الجاهلية.
فكان أهل الجاهلية في موضوع الزواج يعتزون بالحسب والنسب والمال، وأظن في هذه الأيام أصبحنا نفس الشيئ، أم تغيرت الأمور؟ ما فعله سيدنا رسول الله تركناه ورجعنا إلى أحوال الجاهلية.
نريد الولد الحسيب والولد النسيب والذي وظيفته كذا أو عنده كذا، والرجل الذي يعرف ربنا وأمين، ونذكرهم بكلام حضرة النبي:
(إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير).
[لراوي : أبو هريرة | المحدث : الألباني | المصدر : السلسلة الصحيحة].
وتقول هذا الحديث وتكرره عشرات المرات، فلا أحد يسمع لأنهم يريدون ما في نفوسهم، لكن سيدنا رسول الله ألان الله له القلوب.
فكان يحطم هذه العادات، ويبدأ بالأقرب فالأقرب، يعني يطبقها مع أقاربه أولاً، فينهى عن الربا في خطبة الوداع فقال: وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، يعني ربا عمه لأن الناس تريد بذلك أي يبدأ بنفسه وبالأقرب فالأقرب.
فكان عنده بنت عمته السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، وكانت جميلة وذات حسبٍ ونسب، وأراد أن يزوجها زيداً ليكسر القاعدة، أن ذات الحيب والنسب لا تتزوج إلا بحسيب ونسيب، وهم كان لا يزال في مفهومهم حتى ولو كان زيدٌ قد صار إبناً للنبي، إلا أنه ما زال في نظرهم عبداً، لأنها مفاهيم صعبة التغيير.
فخطبها صلى الله عليه وسلَّم لزيد، وهي لم تجد عندها في نفسها قبول، ولكنها لا تستطيع أن تعصى حضرة الرسول، فتريد أن تقول: لا ـ فنزل قول الله:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (36الأحزاب).
ومن لا يسمع أمر النبي يكون عاصياً:
﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ﴾ (36الأحزاب).
فوافقت وتزوجت زيد بن حارثة، لكنها من البداية لم يكن عندها قبول، فكانت تتعالى عليه بحسبها ونسبها، وكان دائماً بينهما عدم وفاق واتفاق، فلا تعرف هي إلا بعد هذا الزورج أن هذا الزواج كان بأمر الله لإبطال هذه العادات التي تمسك بها الكفار وشريعة الله تُنهي عليها.
فأول عادة هي أن الناس لا يتزوجون إلا من الحسب والنسب فانتهت.
إمسك عليك زوجك، أصبر عليها شوية وهذه يحتاجها شبابنا في هذا العصر، الطلاق كثر والحساب نتيجة التسرع وعدم الروية التفكير السديد.
تحدث أي مشكلة صغيرة فعلى الفور هي نفسها تقول له: طلقني ولذلك زادت نسبة الطلاق عن الحد، لكن لو أن الشباب سمعوا قول الله كلما حدثت مشكلة: أمسك عليك زوجك، وابحث عن المشكلة بالرفق واللين وحلها، واجعل القياس الإلهي بينكم:
﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ (21الروم).
كيف تكون المودة والرحمة؟ بالرفق واللين والمحبة والمودة والإيثار والأخلاق الطيبة والكلمات الحسنة، أي زوجة وأي بنت ما كل ما يعنيها؟ الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة، أنت جئت من الشغل تعبان أو أحد ضايقك، فما لها هي؟ وما ذنبها؟
تحكي التفاصيل باللطف ويمكن تسمع الحل منها، فحضرة النبي كان يسمع من زوجاته ويجد عندهم الحل للمعضلات الكبرى، فما المانع أن نعمل نفس الحكاية؟
فربنا سبحانه وتعالى يريد يُبطل عادة الجاهلية أن الإبن بالتبني يرث الأب والأب لا يجوز أن يتزوج طليقته، وطبعاً لم يعد للتبني وجود في الإسلام كما تعلمون، الإسلام نهى موضوع التبني، ولذلك أيضاً من المشكلات العصرية كثير من الأسر التي لا تنجب يذهبون لبعض الملاجئ ويأتون بطفل ويكتبوه باسمهم ويكون مثل إبنهم، فهذا لا يجوز شرعاً.
لا يجوز أنه يرث أباه، وإذا كبر لا يجوز له أن ينظر إلى الزوجة وهي حاسرة، وإن كانت بنتاً وكبرت لا يجوز للزوج أن ينظر إليها وهي حاسرة، لأنها ليست إبنته.
نريد أن نأتي به ونربيه ولكن يحتفظ بإسمه وإسم أبيه ماشي، ولكن إذا كتبناه بإسمنا نحن ـ وهذه ظاهرة إنتشرت معذرةً في المجتمع ـ فأصبح له حق الميراث، وأصبح لنا حق الإطلاع عليه وله حق الإطلاع علينا، وهذا أمرٌ يحرمه شرع الله ودين الله تبارك وتعالى.
فلا يوجد تبني يا إخوانا حالياً، ولكن توجد كفالة فهذا واحد آخذه وأكفله كفالة يتيم مثلاً، وكفالة اليتيم أيضاً في عصرنا تحتاج إلى الشروط الشرعية: الأحسن أن تقوم بها هيئة، حتى لا يحدث شيئ بين الأفراد، يكفل يتيم لأنه طمعان في أمه، وهذا موجود في المجتمع وفي سبيل أن يتردد عليهم كل شهر ليعطيهم المعلوم وكل شوية يمتد الحوار وكل شوية يزيد الحوار، وينشأ ما لا يحمد عقباه، لكن لو هيئة تتولى هذا الأمر وهي التي تسلمهم المعونة، فينتهي هذا الأمر.
واليتيم ليس في حاجة إلى المال كحاجته إلى العطف والحنان والشفقة والمحبة والمودة التي يأخذها الإبن من أبيه.
فلما أسر زيد على رأيه تركه صلى الله عليه وسلَّم يطلقها، وبعد أن طلقها أمره الله عز وجل ان يتزوجها، وهذه التي قال فيها الله تعالى:
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ ﴾ (38الأحزاب).
يعني أنت لم تستحي في تنفيذ أمر الله؟ وهذا شرع يضعه الله تبارك وتعالى لجميع الأنام إلى يوم الزحام:
﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ (37الأحزاب).
حتى أن الله سبحانه وتعالى لما أبطأ صلى الله عليه وسلَّم في تنفيذ الأمر، قال له: لا مفر فأنا الذي سأزوجك:
﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ (37الأحزاب).
من الذي زوجه؟ الله ولذلك تزوجت بدون مهر ولا شهود ولا عقد عقد ولا شيئ، لأن من الذي زوجه؟ الله تبارك وتعالى تبارك وتعالى، لماذا؟ بيَّن الحكمة:
﴿ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ﴾ (37الأحزاب).
حتى نبطل هذه القاعدة الجاهلية التي كانت موجودة، وكانت السيدة زينب رضي الله عنه تفتخر على زوجات النبي فتقول لهم:
[زوجكن آباؤكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات].
ربنا الذي زوجني من فوق سبع سماوات، فلما نزلت الآية أخذها ودخل على الفور وخلاص، فلم تحتاج إلى عقد ولا شهود ولا شيئ، لأن ربنا هو الذي زوجه، ولذلك ربنا قال له:
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ ﴾ (38الأحزاب).
وفريضة الله التي يفرضها عليك، فرضها على من كان قبلك من المرسلين والنبيين في بعض التشريعات التي شرعها لهم رب العالمين:
﴿ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ﴾ (38الأحزاب).
من الأنبياء والمرسلينن فلابد أن ينفذ ما أمره به مولاه وخاصةً إذا كانت فريضةً من عند الله تبارك وتعالى.
﴿ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ (38الأحزاب).
لأن أمر الله قدر، لا مفر منه ولا مهرب منه، ولا حذر منه، لابد أن يحدث وإن طال وقته، فما دام الأمر كذلك فلابد للرضوخ والسكون لأمر الله تبارك وتعالى.
من الجماعة الذين ربنا أمرهم ونفذوا أمر الله؟
الأنبياء والمرسلين، فوصفهم الله سبحانه وتعالى بصفات طيبة، قرب إليها العلماء الوارثين والصادقين من المؤمنين في أمة محمد أجمعين، فقال الله سبحانه وتعالى في وصف الفريقين:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ ﴾ (39الأحزاب).
من الذي يبلغ رسالات الله يا إخوانا قبل البعثة؟ أنبياء الله ورسل الله، وبعد إنتقال النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى الرفيق الأعلى، من الذي يبلغ رسالات الله؟ العلماء ورثة الأنبياء:
(علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل).
في الوصف والمنزلة والقدر والمكانة، ما صفاتهم حتى نعرفهم هؤلاء الجماعة؟
﴿ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللهَ ﴾ (39الأحزاب).
من العلماء العاملين الذين نالوا ميراث خير النبيين؟ أهل خشية الله، والذين لا يخشون في الحق أحداً غير الله، ولا يمالئون في الباطل ولا يداهنون ولا ينافقون ولا يتلونون، إذا وجدت رجلاً من هذا الصنف إعلم أنه من ورثة هؤلاء.
ولذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه يقول:
[سل ـ إذا كنت تريد ان تسأل في مسألة دينية ـ سل الذي رأيته يخشى الله].
هذا هو الذي تسأله، لأنه يوجد آخر يبيع ضميره من أجل المال، يقول لك: ما الفتوى التي تريدها وأنا أكيفها لك؟ تقول له: أنا أريدها كذا، يقول لكك إعطني ألفين أو إعطني خمسة أو إعطني كذا، وموجودين في المجتمع وما أكثرهم الآن والعياذ بالله، فهل هذا يُؤتمن على فتوى شرعية؟ لا فمن الذي أئتمنه وأسأله؟ الذي يخشى الله ولا يخشى أحداً إلا الله.
والإمام ابو العزائم رضي الله عنه وأرضاه قال:
العلم يجعلني أخشى من الرب أراقب الله ـ وهذه علامات الخشية ـ با لأعضاء والقلب
العلم يجعلني أخشــــــــــــــــــــــــــــى من الرب أراقب الله با لأعضـــــــــــــــــــــاء والقلب
إن لم أكن أخشى من ربي فمن جهلي وإن علمت علوم الكشف والغيب
وإن تحصــــــــــــــــــــــلتُ من علمٍ ومن فقهٍ مثل الجبــــال الرواسي لم يزل حجبي
حتى ولو قرأ كتب الأولين والآخرين وليس عنده خشية لله، سيروي الحكم الشرعي على حسب هواه، ويفصله على حسب ما يحتاج إليه السائلين من عباد الله، فهل ينفع هذا يا إخوانا أن يذهب إليه المسلمون ليسألوه في أحوالهم وفي تشريعاتهم؟ لا بل نحتاج للعالم الذي يخشى الله ولا يخشى أحداً إلا الله، وإذا كان على هذه الصفة الطيبة النورانية القرآنية، حتى ولو تخلى عنه الخلق جميعاً لا يبالي، لماذا؟
﴿ وَكَفَى بِالله حَسِيبًا ﴾ (39الأحزاب).
يكفيه أن الله معه، وأنه يمشي على حسب مراد الله ولا يغير شيئاً من شرع الله على هواه، لأن آفة العلم الهوى، وآفة الناس جميعاً الهوى، نسأل الله أن يحفظنا من الهوى أجمعين.
ثم أنهى الله عز وجل كما أنهى في أول السورة، وقال في أول السورة:
﴿ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ﴾ (5الأحزاب).
فلا تقولوا أن زيداً إبن محمد، وأنظروا من أبوه؟ حارثة فيكون زيد بن حارثة وهذا الإسم الذي مشينا عليه:
﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ (40الأحزاب).
ليس أباً للرجال أو لأحدٍ من الرجال، بل أب لنا كلنا، أب المسلمين:
﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ (6الأحزاب).
وفي قراءة:
وهو أبوهم، فهو أبونا كلنا صلى الله عليه وسلَّم، وليس أبٌ لأحد منا فقط، وهذه إسمها أبوة الروح، فنحن كلنا أبناءٌ لحبيب الله ومصطفاه في عالم الروح، لكن أحكام عالم الروح غير أحكام عالم الشريعة:
أحكام عالم الروح أيضاً فيها ميراث، ولكن ليس ميراثاً حسياً، فالميراث الصلبي من عالم المادة إن كان عقارات، أو عمارات أو فلوس جنيهات أو دولارات أو غيره، أو سيارات أو طائرات، كله ميراث حسي، لكن ميراث الأرواح التقية النقية قال فيها صلى الله عليه وسلَّم:
(نحن معاشر الأنبياء لا نورث درهماً ولا ديناراً، وإنما نورث علماً ونورا ـ وبعد ذلك قال: ـ فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر).
[إبن القيم رحمه الله].
يا هنا من يأخذ واحد من هذا الميراث، أو يأخذهم الإثنين، فمنهم من يرث العلم، ولن يرث العلم كله، ولكن يرث باباً من أبواب العلم:
فمنهم من يرث علم الفقه، ومنهم من يرث علم الحديث، ومنهم من يكون له ميراث في علم التفسير، ومنهم من يكون له ميراث في علم المواريث والفرائض، ومنهم من له ميراث في علم السير والقَصص قصص الأنبياء والصالحين، كل واحد يكون له ميراث، حتى غير كامل في هذا العلم، فهل يوجد أحدٌ من الأولين أو الآخرين يستطيع أن يحيط بعلم من هذه العلوم؟ لا مستحيل، ولكن له نصيب من الميراث في هذه العلوم.
ومنهم من له نصيبٌ من النور نور الإيمان، أو النور في مقام الإحسان، أو النور في مقام الإيقان، فهذا ميراث الأمة الذي نسأل الله جميعاً أن يكون لنا نصيب فيه.
و سبحان الله أيضاً حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم ـ تصديقاً للآية ـ كل أولاده الذكور ماتوا صغار، أنجب من السيدة خديجة أبو القاسم الذي تسمى به، والطيب والطاهر وماتوا صغار، وأنجب من السيدة مارية القبطية إبراهيم ومات بعد ستة أشهر ـ لماذا؟
لأنه إذا كان إبراهيم أبو الأنبياء كل رجلٍ تركه أعطاه الله النبوة، فما بالك بختام الأنبياء، إذا ترك رجلاً فلابد أن يكون نبياً، ولا يوجد نبي بعده، فلم يعش واحدٌ منهم؟
لأنه ختام الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(أنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي).
[إبن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما].
فلا نبي بعده، ولذلك لا أحد من أولاده كبر حتى بلغ درجة الرجولية وإلا فيكون نبياً، ولا نبوة بعد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلَّم.
فيقول واحد يقولون أن سيدنا عيسى سينزل في آخر الزمان، نعم صحيح، فسيدنا عيسى نبي وكان نبياً في أمته، لكن عندما ينزل في آخر الزمان سيكون من أتباع حضرة النبي، من أتباع هذه الأمة.
ولذلك الأحاديث التي تتكلم عنه أنه عندما ينزل ـ والحقيقة هذه الأحداث قربت يا إخوانا يعني نحن على وشك أحداث هذه الساعة الكبرى، فبعض الناس العقلانيين وخاصة الجماعة المعتزلة ينكرون نزول سيدنا عيسى، ويقولون: عندما رفعه ربنا إلى السماء، وهل السماء وهو حيٌّ فيها هل فيها دورة مياه ليقضي حاجته فيها أو ما شابه ذلك؟ وللأسف حتى بعض مشايخ الأزهر المعاصرين ذكر هذه الحقيقة وأيدها.
لا هو عندما رُفع إلى السماء نام كنومة أهل الكهف، ولكن أهل الكهف ناموا ثلاثمة سنة ميلادية، وثلاثة مائة سنة وتسعة قمرية أو هجرية، وهو نام مدة طويلة شوية، نائم فلا يحتاج إلى حمام ولا دورة مياه ولا أكل ولا شرب ولا شيئ، إلى أن ينزل، ولماذا ينزل؟ حتى يُكمَّل:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ (38الرعد).
فهو لم يتزوج فينزل ليتزوج ويُنجب، فيكتمل حسب ما ذكرت الآية، ربنا قال في القرآن:
﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا ﴾ (46آل عمران).
ولم يقُل ورجلاً بل قال: وكهلاً يعني رجلاً كبيراً في السن، وهو رُفع وعنده ثلاثة وثلاثين سنة، فلابد أن ينزل ليكمل الآية ويكون كهلاً.
سينزل طبعاً بعد أحداث الساعة الكبرى بعد الحرب الثالثة ليمارس مهمته التي أُختص بها، فيعالج المنكوبين بنكباتٍ كبرى من أثر الحروب الذرية والهيدروجينية، وهذه الأمور بأمر الله وبإذن الله تبارك وتعالى.
وسينزل على المنارة في الجامع الأموي في دمشق، ويكون المسلمين قد فتح الله عليهم ودخلوا بيت المقدس، ويصلون الظهر أو العصر على إختلاف الروايات فيه، من الذي يعرفه؟
لن يعرفه أيضاً إلا الورثة الأكابر لرسول الله، فكل فترة يخرج كم واحد مجنون في أمريكا ويقول: أنا عيسى بن مريم، وكم واحد في الهند ويقول: أنا عيسى بن مريم، فهل يصدقهم أحد؟ لا لكن من الذي يعرفه المؤيدين بإلهامات الله، فيأتيه إلهام بأن عيسى سينزل في المكان الفلاني ويوم كذا وساعة كذا، وهذه صورته لتعرفه.
سيقدموه للصلاة ـ وهذا سر هذا الكلام الذي جئتُ أنا به ـ فيقول عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام: إمامكم منكم، وأنا سأُصلي خلفكم، يعني أنا تابع لكم يعني أنتم ستصلُّون وأنا تابع لكم.
فلا نبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حتى ولو لعيسى بن مريم لأنه سينزل متمم شريعة الله التي جاء بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وليقيم الحجة على الذين عبدوه وزعموا أنهم صلبوه ومن قلَّبوه، قال صلى الله عليه وسلَّم فيما رواه البخاري ومسلم:
(ليوشكن أن ينزل عيسى بن مريم حكماً عدلاً، يكسر الصليب ويقتل الخنزير).
[البخاري والترمذي عن أبي هريرة].
ليعرفهم أنهم كانوا على خطأ، ولذلك قال الله تعالى في الآية الأخرى:
﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ (159النساء).
سيؤمنون به، ولكن بعد لأيٍ من الزمان:
﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ (40الأحزاب).
فسيدنا الحسن وسيدنا الحسين وهو صلى الله عليه وسلَّم قال:
(ذريتي من أولاد فاطمة).
فكلامه حق لا مرية فيه، لكن ليسوا في شريعة الله كالأولاد الصلب، هل يرثوا؟ لا لكن يرثوا في الميراث الروحاني مثلنا، ولكنهم ربما يكونوا إستعدادهم أقوى وطهارتهم أقرب فعندما، فلو استقاموا الميراث يأتيهم بسرعة وبسهولة، لكن الميراث الحسي هل لهم فيه شيئ؟
لأن إبنته السيدة فاطمة لم تأخذ ميراث، ذهبت تطالب سيدنا أبو بكر بميراثها، فقال لها: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ـ يعني أنا سمعته بنفسي ـ يقول:
(نحن معاشر الأنبياء لا نُورَّث، ما تركناه صدقة).
[لراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري ].
فحزنت بعض الشيئ، ولكنها عرفت بعد ذلك أن هذا هو الحق، فسلمت واستسلمت رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فأولادها ماذا يرثون؟ في الميراث المعنوي وهذا موجود، والميراث المعنوي ما شرطه؟ الاستقامة، الإستقامة على طريق الله:
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ (153الأنعام).
ولم يقُل فامشوا عليه، ولكن قال: فاتبعوه، فمن هو الصراط الذي نتبعه؟ سيدنا رسول الله، الصراط الذي نمشي عليه الشريعة، والصراط الذي نتبعه في العمل بالشريعة سيدنا رسول الله، لأنه أول من طبق الشريعة كما ينبغي لإرضاء الله.
فإذا طبقنا الشريعة بحسب هوانا فنكون قد بعدنا، لكننا لابد أن نطبقها على حسب ما كان يعمل به ويطبقه صلوات ربي وتسليماته عليه.
﴿ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهَ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ (40الأحزاب).
وهذا الأمر الآخر الذي نأخذه من الآية، أنه صلى الله عليه وسلَّم حيٌّ بروجه الشريفة وذاته المنيفة إلى يوم الدين، فلو كان كما يقول الجاهلون: قد مات، فنحتاج إلى نبي أليس كذلك؟ ومن يأتي بعدنا يحتاجون إلى نبي، ولكن ها هو حيٌّ وموجود فيقول:
(حياتي خيرٌ لكم، ومماتي خيرٌ لكم، تُحدثون ويُحدث لكم، تُعرض عليَّ أعمالكم ـ هذا العمل يُعرض عليَّ ـ فإن وجدتُ خيراً حمدت الله تبارك وتعالى على ذلك، وإن وجدت غير ذلك إستغفرت الله تبارك وتعالى لكم).
[رواه البزار عن ابن مسعود رضي الله عنه].
والله يقول:
﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ (105التوبة).
هل هذه الآية لمن كان في عصره؟ لو كانت لمن كان في عصره فلنرفعها من القرآن، أم لنا نحن أيضاً؟ (وسيرى) وهذا في المستقبل، فسيرى الله عملكم ـ ومن؟ ورسوله، ونحن هل توجد لحظة في الأربع وعشرين تخلو من أن نسلم عليه، إن كان في الصلاة أو خارج الصلاة، وهو يقول:
(ما من مسلم يسلم علي إلا ردَّ الله روحي حتى أرد عليه السلام).
[الراوي : [أبو هريرة] | المحدث : الألباني وأحمد وأبو داود].
أيضاً بعض الجهال يقولون: أن روحه غير موجودة، لا فهو في جمع الجمع على ربه على الدوام، لشدة شوقه إلى حضرته لا يريد أن يفارقه طرفة عينٍ ولا أقل، فيرده الله إلى حالة الفرق ويقول له: حتى ترد على هذا وترد على هذا وترد على هذا، لأن رد السلام منه له شيئٌ كبير عند الله عز وجل.
كان صلى الله عليه وسلَّم ذاهباً لبيت من بيوت الأنصار فقال: السلام عليكم فلم يردوا، السلام عليكم فلم يردوا، كرر للمرة الثالثة فردوا، فقال: لم لم تردوا علي من أول مرة؟ ـ وانظر للناس اللطفاء ـ قالوا: يا رسول الله أردنا أن نستكثر من سلامك علينا.
ما هذه الأذواق الرفيعة؟ نريد أن نكثِّر السلام علينا منك أنت.
وذكرنا بشيئ غريب وعجيب:
﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾ (103التوبة).
وما ذنبنا أنه لا يصلي علينا؟ ما دامت الصلاة سكن لنا؟
لما كان الأنصار ذوي الذوق الرفيع، كان عندما يموت أحدٌ منهم في الليل فلا يبلغوا حضرة النبي حتى لا يتعبوه، ويصلوا عليه بعد أن يجهزوه ويدفنوه، فسأل ذات مرة: أين فلان؟ قالوا: قد مات يا رسول الله ودفناه، فقال: لم لم تعلموني؟ قالوا: كرهنا أن نشق عليك ـ وهذا من ذوقهم أننا لا نريد أن نشق عليك نريد راحتك ـ فقال:
(إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينوِّرها بصلاتي عليهم).
[الراوي : أبو هريرة | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم ].
مالذي ينور القبور؟ صلاة حضرة النبي، وفي حديث آخر أنها الأعمال الصالحة، ولكن الأعمال الصالحة من يعرف منا من منها المقبول وغير المقبول؟
لكن صلاته علينا دائماً صلى الله عليه وسلَّم هي التي تنور القبور، وهل سيُصلي علينا نحن أيضاً؟ نعم يا أخي ففي عصر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه مات الربيع بن خراش رضي الله عنه، وكان أخوته كلهم صالحين، فأخوه ربعي بن خراش الذي أُرسل إلى ملك الفرس ليبلغه رسالة الإسلام.
فلما مات الربيع وغطوه بملاءة وذهب إخوته ليجهزوا المكان الذي سيُدفن فيه، ويجهزوا الغسل والكفن، وجاءوا فإذا به يرفع الغطاء ويجلس ويقول: يا إخوتي عجلوا غُسلي وتكفيني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قد حضر للصلاة عليَّ.
فالجماعة تعجبوا فذهبوا للسيدة عائشة رضي الله عنه وقصوا عليها الخبر، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول:
(سيتكلم رجلٌ من أمتي بعد موته).
[رواه ربعي بن خراش رضي الله عنه].
فهذا هو الرجل الذي تكلم بعد موته، وعندما مات سيدي ذو النون المصري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الرجلٌ كان من أخميم ولكنه عاش في آخر حياته في الجيزة، وهو أول من تحدث في علوم الولاية في مصر، العلوم الإلهاية.
لما مات لم يكن موجوداً تلغرافات ولا تليفونات ولا وسيلة إتصال، فماذا كانت وسائل الإتصال؟ الرؤيا المنامية، وهذه كانت وسيلة الإتصال فرأى مائة رجلٍ من الصالحين في أسقاع مصر سيدنا رسول الله في المنام آتيا، إلى أين أنت يا رسول الله ذاهب؟ قال: إن حبيب الله ذا النون يزمع المجيئ إلينا وقد جئتُ لاستقباله.
فلما يسمعوا هذا من رسول الله فهل يبقوا؟ أو ينتظروا حتى الصباح؟ ولذلك كان في جنازته مع قلة العدد في القاهرة وضواحيها كان أكثر من مليون شخص، وكل واحد أتى بدراويشه وجاء ليحضر، فمن أسعده الله يحضر جنازة رجلٍ صالح، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(أول ما يُبشر به العبد بعد موته، أن يغفر الله تبارك وتعالى لكل من مشى في جنازته).
[مجمع الزوائد عن عبد الرحمن بن كعب].
فهذا لمن يمشي، ولمن يُصلي على الميت؟ قال صلى الله عليه وسلَّم:
(من صلى على ميتٍ فله مثل أجره).
ومن منا يستطيع أن يعمل عمل الصالحين؟ لكن ستكبر أربع تكبيرات تنال أجره كله شيك مثله تماماً بتمام، ولذلك الناس كانوا يتنافسون على حضور جنازات الصالحين لهذه الأمور.
فكان أكثر من مليون وقد جاءوا من الجيزة وهو كان كما أوصى سيدنا عمر أن يُدفن في المقطم كوصية الصالحين، فكلهم في المقطم، وليس المقطم الذي نحن فيه، المقطم الذي خلف الإمام الشافعي، فخلف الإمام الشافعي ضريح سيدنا ذا النون هناك، مدفون في قبر وسيدي محمد بن الحنفية لغاية سيدنا عقبة بن عامر، ومن هناك يبدأ المقطم.
فسيدنا عمرو بن العاص عندما دخل مصر المسيحيين طلبوا منه أن يترك لهم المقطم ويسلموه مصر كلها، فشاور سيدنا عمر وأرسل له، فقال له: سلهم لم يريدون الإحتفاظ بالمقطم؟ قالوا: نجد في كتبنا أنه على ترعة من ترع الجنة، فقال عمر رضي الله عنه: نحن أولى به منهم، إجعله مقبرةً للمسلمين.
ومن وقتها الصالحون يقطنونه، ولذلك تجد خلوات كثيرة جداً موجودة في المقطم للصالحين، ويوصوا أنهم يدفنوا فيه بعد الوفاة، فسيدنا ذا النون أيضاً أوصى بأنه يُدفن في المقطم، فهناك طريق فيه سيدنا عقبة بن عامر كنا نمشي فيه ونزور هؤلاء الجماعة فيه.
وأثناء ما هم ماشيين وكان ذلك بعد صلاة الظهر، وكان اليوم شديد الحرارة، أرسل الله تبارك وتعالى طيوراً سدَّت الأُفق فوق المشيِّعين وترفرف بأجنحتها، ظللتهم وجاءتهم بالهواء، لماذا؟ لأنهم حاضرين جنازة رجلٍ من أهل الجنة.
فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يا إخوانا لا يخلو منه زمانٌ ولا مكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإياكم أن أحداً منكم يجهل ويحصره في المكان الذي هو فيه في المدينة، لا إذا ذُكر في أي مكانٍ حضر صلى الله عليه وسلَّم، ومن استغاث به في أي زمانٍ أو مكانٍ أغاثه الله، لأنه مُعظَّمٌ عند مولاه تبارك وتعالى، وليس هو فقط في المدينة ففيها الجسم، لكن الروح تملأ الكون كله.
﴿ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ (40الأحزاب).
وهذه تقطع كل أقوال الجاحدين والجاهلين، لأن علم الله عز وجل لا يصله واصل، ولا يستطيع أحدٌ أن يحصله لا بعقله ولا بفكره، ولكن علم الله لا يصل إلينا إلا عن طريق الوحي المقدس، عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، أو على قدرنا إلهامات العارفين.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يفتح علينا فتحاً مبينا، وأن يهدينا صراطاً مستقيما، وأن ينصرنا على أنفسنا نصراً عزيزا.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم