مشاهد من النشأة الآخرة
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ
فوزي محمد ابوزيد
الحمد لله رب العالمين مالك الملك وهو على كل شيءٍ قدير بيده مقاليد السماوات والأرض وهو وحده الأول قبل كل شيء وهو الآخر بعد فناء كل شيء، وهو على كل شيءٍ قدير
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق بقدرته وَوَجّهَهَم لما فيه خيرهم بإرادته واصطفي عباده المؤمنين بنور هدايته، وأنزل عليهم شريعته ورسالته ووفقهم في الدنيا للعمل على ذكره وشكره وحُسن عبادته
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه ورسوله، أعطاه الله الأمانين :
" وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (الأنفال:33)
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد رسول الهداية للخلق اجمعين والشفيع الأعظم يوم الدين لمن أذن له فيه رب العالمين ..
صلى الله عليه وسلّم وكل من استقام على شريعته وهُداه، ومشى على ما يحبه من سنته وشرعه الذى أنزله عليه الله،
أما بعد : أيها الأخوة جماعة المؤمنين
يذكرّنا الله عز وجل في كتاب الله بموقف عظيم، سنحضره جميعاً بين يدى الله، ولا مفرّ لنا أجمعين منه، ولا محيد لأحدٍ من الخلق عنه، ولا عاصم في هذا اليوم من امر الله إلا من رحمه مولاه،
هذا اليوم الذى يقول لنا فيه أجمعين حضرة الله، وأسمعوا كلام الله بآذانٍ القلوب بعد الاستغفار من الذنوب والتوبة من العيوب، ليلوح لنا أنوار هذا الكلام الموهوب :
﴿ وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ــ
ثم يقول قولاً يقسم كل ظهر .. النبيين والشهداء وكذلك الصالحين،
ماذا يفعل معهم ؟ ..
﴿ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ (70) ( الزمر ) ،
هذه الحقيقة هي نهاية الدنيا وباية الآخرة
فإن الدنيا مهما طال أمدها إلى زوال وأن الحياة التي نرتفع فيها ونمشى ونتحرّك فيها لها نهاية، والنهاية يقول فيها رب العزة عزّ شأنه :
"وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهي" (النجم:42)
كيف تكون نهاية الدنيا ؟ وكيف ينتهي أمرها ؟
بيّن ذلك ربنا عز وجلّ ووضّح ذلك رسولنا صلّى الله عليه وسلّم، فإذا انتهت الدنيا بأهلها ولم يبقى فيها موحّد لله كما قال حبيبنا صلّى الله عليه وسلّم :
(لا تقوم الساعة إلا على شِرار الناس) رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
وأراد الله عز وجلّ أن يُبدّل الأرض غير الأرض
والسماوات لنبرز جميعا ومَن قبلنا ومَن بعدنا للقاء الواحد القهار، فتكون نهاية كل حيّ في هذه الحياة في السماوات أو في الأرض بنفخة الصور التي أشار إليها الله جلّ في عُلاه :
﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ (الزمر:68)
في هذه الآية ذكر الله عز وجلّ نفختين :
نفخة الصعق ونفخة القيام
وفي آية أخرى من سورة النمل ذكر نفخة أولى قبلهم هي نفخة الفزع :
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الارْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ (النمل:87)
فهناك إذن ثلاث نفخات :
نفخة الفزع وبها يفزع من في السماوات ومن في الأرض لأمر الله، وتستعد الدنيا بما فيها لتنفيذ قدر الله وتستعد الآخرة بمن عليها للعمل بتنفيذ إرادة الله جلّ في عُلاه
والذى ينفخ هو إسرافيل ملك الصُور،
والصور عالم غريب وعجيب غاية ما فيه أنه يجمع فيه عوالم السماوات والأرض ولا يعلم حقيقته ألا من في يده مقاليد كل شيءٍ وهو بكل شيء عليم .
ولكن نعلم أن هذا الأمر ليس ببعيد، بل هو أقرب إلينا من لمح البصر .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدمٍ حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظاً مصبوباً، وعند رأسه أُهُب معلّقة؛ فرأى أثر الحصير في جنبه، فبكى؛ فقال: (ما يبكيك؟) فقال له: "يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله" فقال عليه الصلاة والسلام:
(أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟)
يا عمر أولئك قومٌ عُجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، (متفق عليه)
ثم قال صلى الله عليه وسلم :
"كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر" (رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه)
" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ" (الزمر:68)
فيموت كل شيءٍ في ملك الله وملكوته
ثم ينادى رب العزة : لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد، فيكررها : لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه بعد فناء جميع خلقه فيقول عزّ شأنه وتبارك اسمه ولا إله غيره : ( لله الواحد القهار ) .
ماذا يتم بين النفختين ؟
قال الحبيب المصطفي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابو هريرة رضي الله عنه
"ما بيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ". قالوا: يا أبا هُرَيْرَةَ أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالوا: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قالَ: أبَيْتُ" (رواه مسلم)
ما بين النفختين أربعون، ماذا يتم في هؤلاء الأربعين ؟
يتم تأهيل الأرض وتجهيز السماء ليوم العرض والجزاء .
فإن هذا مات في أرض كذا
وهذا دفن في أرض كذا
وهذا أكله السمك في البحر في مكان كذا .. فلابد أن يجمع الله الخلق :
كما بدأكم تعودون، فيجهّز الله عز وجلّ الأرض لكى يجمع ليوم الجزاء والعرض على من بيده مقاليد السماوات والأرض وهو على كل شيءٍ قدير .
جعل الله عز وجلّ في مؤخرة كل إنسان ــ في آخر عموده الفقّارى ــ عضواً يقول فيه حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الإمام مسلم :
(كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرابُ، إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ منه، خُلِقَ وفيهِ يُرَكَّبُ)
وعجب الذنب هي مؤخرة الإنسان وهي ما نسميها :
" العٌصعُص " بلغتنا العامية، فهي لا تفنى ولا تبلى ولو وُضعت في أي مكان ولو أكلها حوت أو حيوان فلا يستطيع أن يهضمها لأن الله حفظها ليجمع عليها جسم الإنسان إذا أراد أن يُعيد الأبدان سبحانه وتعالى،
فهي كالمغناطيس الذى يجمع ذرات الإنسان التي تكونت منها الأبدان ولكل إنسان جاذبية خاصة .
فلو دُفن في مكان مئات الآلاف بل ملايين الأفراد، فإن كل واحدٍ منهم بأمر من يقول للشيء كن فيكون لا يختلط ترابه بتراب أخيه ولا يدخل ذرّة من عظمه في عظم أخيه لأن تلك إرادة الصانع عز وجلّ ..
فيأمر الله عز وجلّ الأرض أن تتزلزل وتقوى الزلازل ويقول فيها الله في آيات النوازل في القرآن :
﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الارْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الانْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ (١- 5 الزلزلة )
أوحى لها في هذه الزلازل .
﴿ إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ﴾ ( 4 - 6 القارعة )
تسير الجبال كأكوام من الرمال كثيبا مهيلا ثم تصير لا شيء
في هذه الأثناء تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات حتى تبرز للقاء الواحد القهار عز شأنه، فإذا تبدّلت الأرض غير الأرض وجهّز الله عز وجلّ المكان الذى يتم فيه الجزاء والعرض وهي أرض من فضة بيضاء كما أخبر سيد الأنبياء،
يريد الله عز وجلّ أن يجمع الخلق فيُحيى إسرافيل ويأمره بأن ينفخ النفخة الأخرى :
﴿ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ (الزمر:68)
فتخرج الأرواح من مستقرها ــ يقول الله عز وجل واصفاً ذلك:
"كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (القمر:7)
تخرج الأرواح من مستقرها كأنها الجراد وتسارع كل روح إلى جسمها ولا تدخل غير البيت الذى كانت فيه في دنياها ولا تحتاج إلى من يُعرفّها بجسمها ولا إلى دليل إلى موضعه أو يرشدها إلى مكانه، لأن الله عز وجلّ هو الذى يقوم بذلك ويتولى ذلك والله عز وجلّ لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيءٍ قدير،
فتذهب كل روحٍ إلى مستقرها وتدخل فيه فيحيها بإذن ربها عز وجلّ .
وأول من يحيا سيد الأولين والآخرين سرّ قوله صلّى الله عليه وسلّم :
"أَنا أوَّلُ النَّاسِ خروجًا إذا بُعِثوا ، وأَنا خَطيبُهُم إذا وفَدوا، وأَنا مُبشِّرُهُم إذا أيِسوا، لِواءُ الحَمدِ يومَئذٍ بيدي، وأَنا أَكْرَمُ ولدِ آدمَ علَى ربِّي ولا فَخرَ" (رواه الترمذي عن انس رضي الله عنه)
أو كما قال التائب حبيب الرحمن والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ..
🤲 أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ,,
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الذى أحيانا بالهُدى والإيمان وجعلنا من عباده المسلمين،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الخير وبيده النصر وبيده النفع وبيده الموت والحياة وهو على كل شيءٍ قدير ..
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة الذى وصفه مولاه فقال :
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ (التوبة:128)
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وإعطنا الخير وإدفع عنا الشر ونجنا وإشفنا وانصرنا على أعدئنا يا رب العالمين .
أما بعد ..
فيا أيها الأخوة جماعة المؤمنين :
ليس معنى عِلْمُنا أن الساعة على وشك
والحياة على وشك الإنتهاء أن نترك العمل بالدنيا ونتفرّغ ونُفرّغ أنفسنا ونجلس في المساجد لعبادة الله وطاعة الله فقط
لأن المؤمن لا يعمل عملاً لدنياه إلا إذا سبقت نية صالحة في هذا العمل تجعل هذا العمل نافعاً له في دنياه مأجوراً ومشكوراً سعيه عليه في أخراه .
فالمؤمن لا يسعى في الدنيا لذاتها وإنما يسعى فيها ليستعين بها على دار الخلود وعلى نوال الخير والمعروف والجزاء من الله عزّ شأنه ولا إله غيره،
ومن هنا قال لنا نبينا صلّى الله عليه وسلّم :
( إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)(رواه احمد عن انس رضي الله عنه)
أى لا تتركوا الدنيا، ولكن حسّنوا نواياكم في الأعمال التى تعملونها في الدنيا،
فإن المؤمن يستطيع أن يكون كل عملٍ يعمله عملاً للآخرة
فإن خرج يسعى لمعاشه ليكُفّ عياله ونفسه عن سؤال الناس، فسعيه هذا عمل صالح يقول فيه النبى الصالح :
( إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرّها إلا السعى على المعاش ) ( رواه الطبراني في الأوسط مرفوعا)
ويقول فيه صلّى الله عليه وسلّم :
( من بات كالاً من عمل يده بات مغفوراً له)(شعيب الأرناؤوط المقدام بن معدي كرب تخريج سير أعلام)
ويقول في من ينفق على أهله :
"دينارٌ أنفقْتَهُ في سبيلِ اللهِ ، ودينارٌ أنفقتَهُ في رقَبَةٍ ، و دينارٌ تصدقْتَ بِهِ على مسكينٍ ، ودينارٌ أنفقتَهُ على أهلِكَ ، أعظمُهما أجرًا الذي أنفقْتَهُ على أهلِكَ" (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)
ويقول صلى الله عليه وسلم :
( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجِرتَ عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك)(البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه)
ويقول صلى الله عليه وسلم
وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ ! قالوا : يا رسولَ اللهِ ! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ ؟ ! قال : أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ ؟ [ قالوا : بلى ، قال : ] فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له [ فيها ] أجرٌ ، (روام مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه)
فلو نوى المؤمن في كل عملٍ يعمله إن كان صلة لرحمه أو زيارة لمريض أو تشييع لجنازة أو أى عملٍ نوى فيه نية صالحة لمولاه، كان هذا العمل الصالح نافعاً له يوم لقاء الله عزوجلّ :
﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لانْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ (المزمل:20) .
إذن لم يأمرنا الله عزوجلّ أن نتفرّغ للعبادة في المساجد،
ولكن يأمرنا أن نراعى حضرته
وأن نراقب مقام عزّته
وأن ننوى في كل عملٍ بأبداننا أو جوارحنا وقلوبنا أن يكون هذا العمل إبتغاء وجه الكريم وطلباً للثواب والأجر يوم لقائه سبحانه وتعالى
بهذا يكون المؤمن عابداً في كل حركة يتحركها في هذه الحياة
🤲نسأل الله أن يرزقنا قلباً خاشعاً وأن يرزقنا الإخلاص في الأعمال والصدق في الأقوال، ومراعاة سنة الحبيب في جميع الأحوال🤲
🤲🤲 ثم الدعاء🤲🤲
وللمزيد من الخطب متابعة
صفحة الخطب الإلهامية
أو
الدخول على موقع فضيلة
الشيخ فوزي محمد أبوزيد
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ
فوزي محمد ابوزيد
الحمد لله رب العالمين مالك الملك وهو على كل شيءٍ قدير بيده مقاليد السماوات والأرض وهو وحده الأول قبل كل شيء وهو الآخر بعد فناء كل شيء، وهو على كل شيءٍ قدير
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق بقدرته وَوَجّهَهَم لما فيه خيرهم بإرادته واصطفي عباده المؤمنين بنور هدايته، وأنزل عليهم شريعته ورسالته ووفقهم في الدنيا للعمل على ذكره وشكره وحُسن عبادته
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه ورسوله، أعطاه الله الأمانين :
" وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (الأنفال:33)
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد رسول الهداية للخلق اجمعين والشفيع الأعظم يوم الدين لمن أذن له فيه رب العالمين ..
صلى الله عليه وسلّم وكل من استقام على شريعته وهُداه، ومشى على ما يحبه من سنته وشرعه الذى أنزله عليه الله،
أما بعد : أيها الأخوة جماعة المؤمنين
يذكرّنا الله عز وجل في كتاب الله بموقف عظيم، سنحضره جميعاً بين يدى الله، ولا مفرّ لنا أجمعين منه، ولا محيد لأحدٍ من الخلق عنه، ولا عاصم في هذا اليوم من امر الله إلا من رحمه مولاه،
هذا اليوم الذى يقول لنا فيه أجمعين حضرة الله، وأسمعوا كلام الله بآذانٍ القلوب بعد الاستغفار من الذنوب والتوبة من العيوب، ليلوح لنا أنوار هذا الكلام الموهوب :
﴿ وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ــ
ثم يقول قولاً يقسم كل ظهر .. النبيين والشهداء وكذلك الصالحين،
ماذا يفعل معهم ؟ ..
﴿ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ (70) ( الزمر ) ،
هذه الحقيقة هي نهاية الدنيا وباية الآخرة
فإن الدنيا مهما طال أمدها إلى زوال وأن الحياة التي نرتفع فيها ونمشى ونتحرّك فيها لها نهاية، والنهاية يقول فيها رب العزة عزّ شأنه :
"وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهي" (النجم:42)
كيف تكون نهاية الدنيا ؟ وكيف ينتهي أمرها ؟
بيّن ذلك ربنا عز وجلّ ووضّح ذلك رسولنا صلّى الله عليه وسلّم، فإذا انتهت الدنيا بأهلها ولم يبقى فيها موحّد لله كما قال حبيبنا صلّى الله عليه وسلّم :
(لا تقوم الساعة إلا على شِرار الناس) رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
وأراد الله عز وجلّ أن يُبدّل الأرض غير الأرض
والسماوات لنبرز جميعا ومَن قبلنا ومَن بعدنا للقاء الواحد القهار، فتكون نهاية كل حيّ في هذه الحياة في السماوات أو في الأرض بنفخة الصور التي أشار إليها الله جلّ في عُلاه :
﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ (الزمر:68)
في هذه الآية ذكر الله عز وجلّ نفختين :
نفخة الصعق ونفخة القيام
وفي آية أخرى من سورة النمل ذكر نفخة أولى قبلهم هي نفخة الفزع :
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الارْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ (النمل:87)
فهناك إذن ثلاث نفخات :
نفخة الفزع وبها يفزع من في السماوات ومن في الأرض لأمر الله، وتستعد الدنيا بما فيها لتنفيذ قدر الله وتستعد الآخرة بمن عليها للعمل بتنفيذ إرادة الله جلّ في عُلاه
والذى ينفخ هو إسرافيل ملك الصُور،
والصور عالم غريب وعجيب غاية ما فيه أنه يجمع فيه عوالم السماوات والأرض ولا يعلم حقيقته ألا من في يده مقاليد كل شيءٍ وهو بكل شيء عليم .
ولكن نعلم أن هذا الأمر ليس ببعيد، بل هو أقرب إلينا من لمح البصر .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدمٍ حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظاً مصبوباً، وعند رأسه أُهُب معلّقة؛ فرأى أثر الحصير في جنبه، فبكى؛ فقال: (ما يبكيك؟) فقال له: "يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله" فقال عليه الصلاة والسلام:
(أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟)
يا عمر أولئك قومٌ عُجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، (متفق عليه)
ثم قال صلى الله عليه وسلم :
"كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر" (رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه)
" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ" (الزمر:68)
فيموت كل شيءٍ في ملك الله وملكوته
ثم ينادى رب العزة : لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد، فيكررها : لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه بعد فناء جميع خلقه فيقول عزّ شأنه وتبارك اسمه ولا إله غيره : ( لله الواحد القهار ) .
ماذا يتم بين النفختين ؟
قال الحبيب المصطفي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابو هريرة رضي الله عنه
"ما بيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ". قالوا: يا أبا هُرَيْرَةَ أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالوا: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قالَ: أبَيْتُ" (رواه مسلم)
ما بين النفختين أربعون، ماذا يتم في هؤلاء الأربعين ؟
يتم تأهيل الأرض وتجهيز السماء ليوم العرض والجزاء .
فإن هذا مات في أرض كذا
وهذا دفن في أرض كذا
وهذا أكله السمك في البحر في مكان كذا .. فلابد أن يجمع الله الخلق :
كما بدأكم تعودون، فيجهّز الله عز وجلّ الأرض لكى يجمع ليوم الجزاء والعرض على من بيده مقاليد السماوات والأرض وهو على كل شيءٍ قدير .
جعل الله عز وجلّ في مؤخرة كل إنسان ــ في آخر عموده الفقّارى ــ عضواً يقول فيه حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الإمام مسلم :
(كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرابُ، إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ منه، خُلِقَ وفيهِ يُرَكَّبُ)
وعجب الذنب هي مؤخرة الإنسان وهي ما نسميها :
" العٌصعُص " بلغتنا العامية، فهي لا تفنى ولا تبلى ولو وُضعت في أي مكان ولو أكلها حوت أو حيوان فلا يستطيع أن يهضمها لأن الله حفظها ليجمع عليها جسم الإنسان إذا أراد أن يُعيد الأبدان سبحانه وتعالى،
فهي كالمغناطيس الذى يجمع ذرات الإنسان التي تكونت منها الأبدان ولكل إنسان جاذبية خاصة .
فلو دُفن في مكان مئات الآلاف بل ملايين الأفراد، فإن كل واحدٍ منهم بأمر من يقول للشيء كن فيكون لا يختلط ترابه بتراب أخيه ولا يدخل ذرّة من عظمه في عظم أخيه لأن تلك إرادة الصانع عز وجلّ ..
فيأمر الله عز وجلّ الأرض أن تتزلزل وتقوى الزلازل ويقول فيها الله في آيات النوازل في القرآن :
﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الارْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الانْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ (١- 5 الزلزلة )
أوحى لها في هذه الزلازل .
﴿ إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ﴾ ( 4 - 6 القارعة )
تسير الجبال كأكوام من الرمال كثيبا مهيلا ثم تصير لا شيء
في هذه الأثناء تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات حتى تبرز للقاء الواحد القهار عز شأنه، فإذا تبدّلت الأرض غير الأرض وجهّز الله عز وجلّ المكان الذى يتم فيه الجزاء والعرض وهي أرض من فضة بيضاء كما أخبر سيد الأنبياء،
يريد الله عز وجلّ أن يجمع الخلق فيُحيى إسرافيل ويأمره بأن ينفخ النفخة الأخرى :
﴿ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ (الزمر:68)
فتخرج الأرواح من مستقرها ــ يقول الله عز وجل واصفاً ذلك:
"كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (القمر:7)
تخرج الأرواح من مستقرها كأنها الجراد وتسارع كل روح إلى جسمها ولا تدخل غير البيت الذى كانت فيه في دنياها ولا تحتاج إلى من يُعرفّها بجسمها ولا إلى دليل إلى موضعه أو يرشدها إلى مكانه، لأن الله عز وجلّ هو الذى يقوم بذلك ويتولى ذلك والله عز وجلّ لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيءٍ قدير،
فتذهب كل روحٍ إلى مستقرها وتدخل فيه فيحيها بإذن ربها عز وجلّ .
وأول من يحيا سيد الأولين والآخرين سرّ قوله صلّى الله عليه وسلّم :
"أَنا أوَّلُ النَّاسِ خروجًا إذا بُعِثوا ، وأَنا خَطيبُهُم إذا وفَدوا، وأَنا مُبشِّرُهُم إذا أيِسوا، لِواءُ الحَمدِ يومَئذٍ بيدي، وأَنا أَكْرَمُ ولدِ آدمَ علَى ربِّي ولا فَخرَ" (رواه الترمذي عن انس رضي الله عنه)
أو كما قال التائب حبيب الرحمن والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ..
🤲 أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ,,
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الذى أحيانا بالهُدى والإيمان وجعلنا من عباده المسلمين،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الخير وبيده النصر وبيده النفع وبيده الموت والحياة وهو على كل شيءٍ قدير ..
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة الذى وصفه مولاه فقال :
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ (التوبة:128)
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وإعطنا الخير وإدفع عنا الشر ونجنا وإشفنا وانصرنا على أعدئنا يا رب العالمين .
أما بعد ..
فيا أيها الأخوة جماعة المؤمنين :
ليس معنى عِلْمُنا أن الساعة على وشك
والحياة على وشك الإنتهاء أن نترك العمل بالدنيا ونتفرّغ ونُفرّغ أنفسنا ونجلس في المساجد لعبادة الله وطاعة الله فقط
لأن المؤمن لا يعمل عملاً لدنياه إلا إذا سبقت نية صالحة في هذا العمل تجعل هذا العمل نافعاً له في دنياه مأجوراً ومشكوراً سعيه عليه في أخراه .
فالمؤمن لا يسعى في الدنيا لذاتها وإنما يسعى فيها ليستعين بها على دار الخلود وعلى نوال الخير والمعروف والجزاء من الله عزّ شأنه ولا إله غيره،
ومن هنا قال لنا نبينا صلّى الله عليه وسلّم :
( إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)(رواه احمد عن انس رضي الله عنه)
أى لا تتركوا الدنيا، ولكن حسّنوا نواياكم في الأعمال التى تعملونها في الدنيا،
فإن المؤمن يستطيع أن يكون كل عملٍ يعمله عملاً للآخرة
فإن خرج يسعى لمعاشه ليكُفّ عياله ونفسه عن سؤال الناس، فسعيه هذا عمل صالح يقول فيه النبى الصالح :
( إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرّها إلا السعى على المعاش ) ( رواه الطبراني في الأوسط مرفوعا)
ويقول فيه صلّى الله عليه وسلّم :
( من بات كالاً من عمل يده بات مغفوراً له)(شعيب الأرناؤوط المقدام بن معدي كرب تخريج سير أعلام)
ويقول في من ينفق على أهله :
"دينارٌ أنفقْتَهُ في سبيلِ اللهِ ، ودينارٌ أنفقتَهُ في رقَبَةٍ ، و دينارٌ تصدقْتَ بِهِ على مسكينٍ ، ودينارٌ أنفقتَهُ على أهلِكَ ، أعظمُهما أجرًا الذي أنفقْتَهُ على أهلِكَ" (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)
ويقول صلى الله عليه وسلم :
( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجِرتَ عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك)(البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه)
ويقول صلى الله عليه وسلم
وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ ! قالوا : يا رسولَ اللهِ ! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ ؟ ! قال : أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ ؟ [ قالوا : بلى ، قال : ] فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له [ فيها ] أجرٌ ، (روام مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه)
فلو نوى المؤمن في كل عملٍ يعمله إن كان صلة لرحمه أو زيارة لمريض أو تشييع لجنازة أو أى عملٍ نوى فيه نية صالحة لمولاه، كان هذا العمل الصالح نافعاً له يوم لقاء الله عزوجلّ :
﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لانْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ (المزمل:20) .
إذن لم يأمرنا الله عزوجلّ أن نتفرّغ للعبادة في المساجد،
ولكن يأمرنا أن نراعى حضرته
وأن نراقب مقام عزّته
وأن ننوى في كل عملٍ بأبداننا أو جوارحنا وقلوبنا أن يكون هذا العمل إبتغاء وجه الكريم وطلباً للثواب والأجر يوم لقائه سبحانه وتعالى
بهذا يكون المؤمن عابداً في كل حركة يتحركها في هذه الحياة
🤲نسأل الله أن يرزقنا قلباً خاشعاً وأن يرزقنا الإخلاص في الأعمال والصدق في الأقوال، ومراعاة سنة الحبيب في جميع الأحوال🤲
🤲🤲 ثم الدعاء🤲🤲
وللمزيد من الخطب متابعة
صفحة الخطب الإلهامية
أو
الدخول على موقع فضيلة
الشيخ فوزي محمد أبوزيد