الثبات على المبدأ
خطبة جمعةلفضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
الحمد لله ربِّ العالمين، اختار الحمد لذاته شكراً للنعم التي أسداها لعباده المؤمنين
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معبود في الكون سواه، ولا متولِّي للنعم الظاهرة والباطنة عداه، بيده الخير كله، وبيده الأمر كله، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيّه من خلقه وخليله، أرسله الله عزَّ وجلَّ رحمة للعالمين، وبعثه هداية للخلق أجمعين، وأمرنا أن نقتفي أثره في كل وقت وحين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد في الأولين وصلِّي وسلِّم وبارك على سيدنا محمد في الآخرين، وصلِّي وسلِّم وبارك على سيدنا محمد في الدنيا ويوم الدين.
أما بعد
فيا إخواني ويا أحبابي:
ونحن نحتفل بذكرى ميلاد سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيَّا بنا نشرب من رحيق آية من كتاب الله، ما به نفعنا في الدنيا، ورفعتنا يوم لقاء الله.
قال الله فيها:
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) (21- الأحزاب).
إن مجال الأسوة واسعٌ جداً، فالأسوة تعني القدوة وتعني التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان هذا المجال كبيرٌ جداً فإننا نكتفي بذكر مثال واحد من حياته صلى الله عليه وسلم، كان عليه مدار أمره كله، وبه ارتفع شأن هذا الدين، وبه تجاوزت دعوته الخافقين، وبه أوصل الله هذا النور لجميع عوالم الله عزَّ وجلَّ ...
ما هذا المبدأ؟
يتضح لنا هذا المبدأ عندما نعلم أن كفار قريش كانوا في ناديهم بجوار الكعبة يتحدثون في شأنه صلى الله عليه وسلم، وقد احتاروا في أمره وشلَّ تفكيرهم عندما أخذوا يخوضون في أمثل طريقة للقضاء عليه وإنهاء دعوته، وقد رأوا أن ذلك الأذى لم يُجْدِهم نفعاً، بل كلما زادوا المسلمين أذىً ازداد يقينهم، فاجتمعوا للشورى فيما بينهم ....
( فقال لهم عتبة بن ربيعة - وكان سيداً مطاعاً في قومه:
يا معشر قريش ألا أقُوم لِمُحَمَّدٍ فأُكلِّمه وأعرضُ عليه أموراً، علَّه يقبل بعضها فنعطيه إياها، ويكفَّ عنّا؟
فقالوا: افعل، فذهب إلى رسول الله وهو يصلي في المسجد، وقال: يابن أخي إنك منّا حيث قد علمتَ من خيارنا حسباً ونسباً، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم، وسفَّهتَ أحلامهم، وعِبتَ آلهتهم ودينهم، وكفَّرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها
فقال عليه الصلاة والسلام:
قل يا أبا الوليد أسمع.
فقال: يا ابن أخي إن كنتَ تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً،
وإن كنتَ تُريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطعَ أمراً دونك،
وإن كنتَ تُريد مُلكاً ملكناكَ علينا،
وإن كان هذا الذي يأتيك رَئّياً من الجن لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطِبَّ وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.
فقال عليه الصلاة والسلام:
« فرغتَ يا أبا الوليد؟» قال: نعم،
قال: فاسمع مني،
فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم من أول سورة فصلت:
( بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَن الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) (1:4- فصلت)،
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقرأها عليه، وقد أنصت عتبة لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى:
( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) (13- فصلت).
فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عن ذلك، فقال له: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك!!).
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: أحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟
قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط،، والله ما هو بالشعر، ولا بالسِّحْر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ... فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم،
وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به...
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم )( نور اليقين لمحمد الخضرى، والسيرة الحلبية)
ولكن القوم لم ييأسوا، فذهبوا إلى عمه أبي طالب، وعرضوا عليه هذه الأمور، وطلبوا منه أن يَحْمِلَ ابن أخيه على واحدة منها، فلما كلَّمه عمه، كان جوابه صلى الله عليه وسلم:
( يَا عَمِّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ، مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ )( سير أعلام النبلاء للذهبى ، والسيرة الحلبية).
فما جاء به رسولكم الكريم من عند الله من الهدي والنور، لا يبغى به مُلْكاً،
ولا يسأل به مالاً،
ولا يطلب به جاهاً عند الناس، ولا شيئاً من دنيا الناس
وإنما يبغى به رضاء الله عزَّ وجلَّ.
فالثبات على المبدأ أساس الإيمان،
والإيمان يا إخواني ليس العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج فقط،
وإنما الإيمان جملة الأخلاق التي جاء بها الله عزَّ وجلّ في كتابه،
وجملة المعاملات التي علَّمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه،
وجملة الآداب التي ملئوا بها الأرض علماً ونوراً بعد أن كانت تزخر ظلماً وجوراً.
هذا هو الإيمان الذي علَّمه رسولكم الكريم لأصحابه رضي الله عنهم،
ولذا عندما فُتحت لهم البلدان، عُرضت عليهم الدنيا، ووقعت في أيديهم الأموال، وطلبتهم المناصب فلم يلتفتوا إلى شيء من ذلك كله، طلباً لمرضاة الله عزَّ وجلَّ.
لم تفتنهم الدنيا بزخرفها، ولم تغرّهم بشهواتها، ولم تغيِّر أخلاقهم بأطماعها، وإنما يتمسكون بشرع الله، ويتبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً لمرضاة الله تعالى.
فعندما حاصر عمرو بن العاص بجيشه حِصْن بابليون بمصر، وطلب منه المُقوْقس - زعيم القبط بمصر - أن يُرْسِل إليه رجلاً من عنده ليفاوُضه، فأرسل إليه عُبادة بن الصامت رضى الله عنه - رجلٌ من فقراء الصحابة، لا يملك من الدنيا وحُطامها إلا أثْمالاً بالية يلبسها على جسده، ولكنه يملك نَفْساً غَنِيَّةً بالله، وقلباً مملوءاً بحُبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رآه المقوقس خاطبه قائلاً: أراكم ما خرجتم إلاَّ لأنَّ أرضكم أرض قحط، ليس بها زرع ولا ماء، وقد جئتم إلينا تطلبون القُوت والطعام والرخاء والمال، فإن شئتم جعلنا لكلَّ رجل منكم مائة دينار - في كل عام - ولكل أمير جماعة ألف دينار في كل عام، ولقائدكم مثل ما يأخذ الجميع في كل عام، وترجعوا عن غزونا. فماذا قال عُبادة بن الصامت رضى الله عنه؟!! قال له:
(غرَّك مَالُكَ، لو كنَّا نبغي المال ما جئنا هاهنا، ولو كنَّا نطلب بجهادنا الدُّنيا ما رفعنا سيوفنا، ولا عرَّضنا أنفسنا للقَتْل، ولكن خرجنا لنُنْقذ النَّاس من ظُلمات الجاهلية لعبادة الله عزَّ وجلَّ، فاختر لنفسك ومن معك واحدة من ثلاث:
إما الإسلام، وإما الجِزْية، وإما السَّيف.
وهذا ما قال شِبْهه أيضاً ربعى بن عامر عندما دخل على رُسْتم قائد الفرس، وبمثل هذا كان ردَّ كلَّ قائد من قادة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الملك الذي أرْسل إليه،
لم تحجبهم الدنيا وزخرفها عن المبدأ الذي تربُّوا عليه، بل تأسُّوْا فيه برسولهم ورسولنا صلوات الله وسلامه عليه،
وقد كان الشعار الذي أمرهم صلى الله عليه وسلم به:
( عِشْ حَمِيداً ومَتْ شَهِيداً )( نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، ومسند البزار من حديث سالم ابن عمر).
فما نتيجة هذا الشعار؟ ...
أن تحيا فى الآخرة سعيداً!
عِشْ حميداً - بالسير على مبادئ الإسلام، ولا تلفتك الشهوات والزخارف ولا المطالب عن أخلاق الإيمان، ولا تغتر بالدنيا وزخارفها،
ومت شهيداً - مجاهداً على دين الله عزَّ وجلَّ، تحيا سعيداً - يوم لقاء الله سبحانه وتعالى .
هذا المبدأ الإسلامي الخالد، نحن في أمس الحاجة إليه في حياتنا الآن، فما أكثر من يحيا منا على الإيمان ويتربى على مائدة القرآن، وينشأ في أحضان أبوين مؤمنين طاهرين، وبمجرد أن يُعرض عليه عرضٌ رخيص من عروض الدنيا، تجده يتحول عن طريق الله عزَّ وجلَّ ، يتحول عن الإيمان من أجل بضع ملايين رخيصة، يبيع دينه بعرض قليل من الدنيا، بل ربما لا يحصل عليه، وربما يكون السجن في انتظاره بعد الحصول عليه، فلا يتهنى به في دنياه، ويعذب عليه أشد العذاب يوم لقاء الله عزَّ وجلَّ.
نحن في حاجة ماسة إلى التأسي بهذا المبدأ يا إخواني، لأن الدنيا قد تبرَّجتْ وتزخرفتْ وتزيَّنت، وأمواج الكافرين تأتي لنا في كل طرفة عين بما يخلعنا عن ديننا لو عملناه، وما يغير علينا إيماننا لو اتبعناه، وبما يسلخ إيماننا من قلوبنا ويتركنا في خواء من دين الله وشريعة الله لو طبقناه، كل ذلك طمعاً في عيش قد يكون قليلاً، وربما يكون وراءه أو فيه عذابٌ كبير!!!
فقد يتحصل المرء على المال من طريق حرام وينفقه عند الأطباء ولا يتم له الشفاء،
وقد يحصل على المال الحرام، ولا يُمْهله العمر ليتوب، فيأتيه الموت بغتة، فيحمله كُلًّه على عنقه يوم لقاء الله سبحانه وتعالى. قال صلى الله عليه وسلم: ( من تمسَّك بسنُّتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد ) (أخرجه الطبراني عن أبي هريرة).
وقال صلى الله عليه وسلم: ( التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له )( أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود).
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، حمداً يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يُحقَّ الحقَّ ويُعين أهله عليه، ويُثيبهم بخير ما لديه،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيِّه من خلقه وخليله، اختاره الله لرسالته، وأمره بتبليغ شريعته، ووعد من أطاعه واتَّبعه بدخول جنَّته، وتَوعَّد من عصاه وخالف هديه بالخلود في دار شِقوته.
فاللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وسلم، واعطنا الخير وادفع عنَّا الشرَّ، ونجِّنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا ... يا ربَّ العالمين.
(أما بعد)
فيا إخواني وأحبابي في الله ورسوله
اعلموا علم اليقين أننا عما قليل من الدنيا راحلون، وإلى الآخرة مسافرون، ويوم القيامة بين يدي الحق واقفون، وعليه معرضون، وفي هذا الوقت المعلوم، عند انتهاء الأجل المحتوم، يُغْلق ملفُّ الأعمال، فلا يستطيع أيُّ امرئ أن يزيد فيه حسنة، ولا أن يُنْقص منه سيِّئة ( فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (34- الأعراف).
واعلموا يا إخواني أن كل امرئ منَّا لا ينال إلا ما قدَّره له الله، فعندما يبلغ الجنين في بطن أمه أربعة أشهر قمرية، يأمر الله عزَّ وجلَّ مَلكاً ينزل فيكتب - بأمر ربِّه – عمره، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد. وعلى هذا فأمر الرزق قد فُرِغَ منه!!
فالرزق مقسوم، وقد قدره الرَزَّاق عزَّ وجلَّ، فإذا تعفَّفت عنه في الحرام ساقه الله عزَّ وجلَّ إليك في الحلال، وكذلك إذا تعرَّضت لك فاتنة فتعفَّفت عنها فإن الله عزَّ وجلَّ يعوِّضك بخير منها في الحلال. لأنه ما زَهِدَ عَبْدٌ في شهوة في الحرام إلاَّ أعطاه الله مثلها في الحلال.
ليت شبابنا يستوعب هذا الدرس، وينتبه لهذه الوصية، ويجعلها نبراساً له في حياته وهادياً له في سلوكياته!!!
فإنه لا يتورع شاب عن شيء في الحرام - رغبةً فيما عند الله، وخوفاً من الله، إلا وأعطاه الله مثله أو خيراً منه في الحلال، ففي الحديث الشريف:
" مَا تَرَكَ عَبْدٌ لله أَمْرَاً لاَ يَترُكُهُ إِلاَّ لله إِلاَّ عَوَّضَهُ الله مِنْهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ فِي دِينهِ وَدُنْيَاهُ " (أَخرجه ابنُ عساكر من حديث ابن عمر).
يا أمة الإسلام عليكم بهدي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، واقرأوا هذه الآية وكرروها لتروا ما فيها من جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) (21- الأحزاب).
اللهم ارزقنا حسن اتباعه، ووفقنا للسير على منهاجه، ولا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنَا ولا مبلغ علمنا، ولا تفتنَّا بزخارفها ومطارفها، يا أرحم الرحمين.
ثم الدعاء
وللمزيد من الخطب
الدخول على موقع فضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
خطبة جمعةلفضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد
الحمد لله ربِّ العالمين، اختار الحمد لذاته شكراً للنعم التي أسداها لعباده المؤمنين
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معبود في الكون سواه، ولا متولِّي للنعم الظاهرة والباطنة عداه، بيده الخير كله، وبيده الأمر كله، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيّه من خلقه وخليله، أرسله الله عزَّ وجلَّ رحمة للعالمين، وبعثه هداية للخلق أجمعين، وأمرنا أن نقتفي أثره في كل وقت وحين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد في الأولين وصلِّي وسلِّم وبارك على سيدنا محمد في الآخرين، وصلِّي وسلِّم وبارك على سيدنا محمد في الدنيا ويوم الدين.
أما بعد
فيا إخواني ويا أحبابي:
ونحن نحتفل بذكرى ميلاد سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيَّا بنا نشرب من رحيق آية من كتاب الله، ما به نفعنا في الدنيا، ورفعتنا يوم لقاء الله.
قال الله فيها:
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) (21- الأحزاب).
إن مجال الأسوة واسعٌ جداً، فالأسوة تعني القدوة وتعني التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان هذا المجال كبيرٌ جداً فإننا نكتفي بذكر مثال واحد من حياته صلى الله عليه وسلم، كان عليه مدار أمره كله، وبه ارتفع شأن هذا الدين، وبه تجاوزت دعوته الخافقين، وبه أوصل الله هذا النور لجميع عوالم الله عزَّ وجلَّ ...
ما هذا المبدأ؟
يتضح لنا هذا المبدأ عندما نعلم أن كفار قريش كانوا في ناديهم بجوار الكعبة يتحدثون في شأنه صلى الله عليه وسلم، وقد احتاروا في أمره وشلَّ تفكيرهم عندما أخذوا يخوضون في أمثل طريقة للقضاء عليه وإنهاء دعوته، وقد رأوا أن ذلك الأذى لم يُجْدِهم نفعاً، بل كلما زادوا المسلمين أذىً ازداد يقينهم، فاجتمعوا للشورى فيما بينهم ....
( فقال لهم عتبة بن ربيعة - وكان سيداً مطاعاً في قومه:
يا معشر قريش ألا أقُوم لِمُحَمَّدٍ فأُكلِّمه وأعرضُ عليه أموراً، علَّه يقبل بعضها فنعطيه إياها، ويكفَّ عنّا؟
فقالوا: افعل، فذهب إلى رسول الله وهو يصلي في المسجد، وقال: يابن أخي إنك منّا حيث قد علمتَ من خيارنا حسباً ونسباً، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم، وسفَّهتَ أحلامهم، وعِبتَ آلهتهم ودينهم، وكفَّرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها
فقال عليه الصلاة والسلام:
قل يا أبا الوليد أسمع.
فقال: يا ابن أخي إن كنتَ تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً،
وإن كنتَ تُريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطعَ أمراً دونك،
وإن كنتَ تُريد مُلكاً ملكناكَ علينا،
وإن كان هذا الذي يأتيك رَئّياً من الجن لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطِبَّ وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.
فقال عليه الصلاة والسلام:
« فرغتَ يا أبا الوليد؟» قال: نعم،
قال: فاسمع مني،
فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم من أول سورة فصلت:
( بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَن الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) (1:4- فصلت)،
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقرأها عليه، وقد أنصت عتبة لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى:
( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) (13- فصلت).
فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عن ذلك، فقال له: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك!!).
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: أحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟
قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط،، والله ما هو بالشعر، ولا بالسِّحْر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ... فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم،
وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به...
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم )( نور اليقين لمحمد الخضرى، والسيرة الحلبية)
ولكن القوم لم ييأسوا، فذهبوا إلى عمه أبي طالب، وعرضوا عليه هذه الأمور، وطلبوا منه أن يَحْمِلَ ابن أخيه على واحدة منها، فلما كلَّمه عمه، كان جوابه صلى الله عليه وسلم:
( يَا عَمِّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ، مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ )( سير أعلام النبلاء للذهبى ، والسيرة الحلبية).
فما جاء به رسولكم الكريم من عند الله من الهدي والنور، لا يبغى به مُلْكاً،
ولا يسأل به مالاً،
ولا يطلب به جاهاً عند الناس، ولا شيئاً من دنيا الناس
وإنما يبغى به رضاء الله عزَّ وجلَّ.
فالثبات على المبدأ أساس الإيمان،
والإيمان يا إخواني ليس العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج فقط،
وإنما الإيمان جملة الأخلاق التي جاء بها الله عزَّ وجلّ في كتابه،
وجملة المعاملات التي علَّمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه،
وجملة الآداب التي ملئوا بها الأرض علماً ونوراً بعد أن كانت تزخر ظلماً وجوراً.
هذا هو الإيمان الذي علَّمه رسولكم الكريم لأصحابه رضي الله عنهم،
ولذا عندما فُتحت لهم البلدان، عُرضت عليهم الدنيا، ووقعت في أيديهم الأموال، وطلبتهم المناصب فلم يلتفتوا إلى شيء من ذلك كله، طلباً لمرضاة الله عزَّ وجلَّ.
لم تفتنهم الدنيا بزخرفها، ولم تغرّهم بشهواتها، ولم تغيِّر أخلاقهم بأطماعها، وإنما يتمسكون بشرع الله، ويتبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً لمرضاة الله تعالى.
فعندما حاصر عمرو بن العاص بجيشه حِصْن بابليون بمصر، وطلب منه المُقوْقس - زعيم القبط بمصر - أن يُرْسِل إليه رجلاً من عنده ليفاوُضه، فأرسل إليه عُبادة بن الصامت رضى الله عنه - رجلٌ من فقراء الصحابة، لا يملك من الدنيا وحُطامها إلا أثْمالاً بالية يلبسها على جسده، ولكنه يملك نَفْساً غَنِيَّةً بالله، وقلباً مملوءاً بحُبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رآه المقوقس خاطبه قائلاً: أراكم ما خرجتم إلاَّ لأنَّ أرضكم أرض قحط، ليس بها زرع ولا ماء، وقد جئتم إلينا تطلبون القُوت والطعام والرخاء والمال، فإن شئتم جعلنا لكلَّ رجل منكم مائة دينار - في كل عام - ولكل أمير جماعة ألف دينار في كل عام، ولقائدكم مثل ما يأخذ الجميع في كل عام، وترجعوا عن غزونا. فماذا قال عُبادة بن الصامت رضى الله عنه؟!! قال له:
(غرَّك مَالُكَ، لو كنَّا نبغي المال ما جئنا هاهنا، ولو كنَّا نطلب بجهادنا الدُّنيا ما رفعنا سيوفنا، ولا عرَّضنا أنفسنا للقَتْل، ولكن خرجنا لنُنْقذ النَّاس من ظُلمات الجاهلية لعبادة الله عزَّ وجلَّ، فاختر لنفسك ومن معك واحدة من ثلاث:
إما الإسلام، وإما الجِزْية، وإما السَّيف.
وهذا ما قال شِبْهه أيضاً ربعى بن عامر عندما دخل على رُسْتم قائد الفرس، وبمثل هذا كان ردَّ كلَّ قائد من قادة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الملك الذي أرْسل إليه،
لم تحجبهم الدنيا وزخرفها عن المبدأ الذي تربُّوا عليه، بل تأسُّوْا فيه برسولهم ورسولنا صلوات الله وسلامه عليه،
وقد كان الشعار الذي أمرهم صلى الله عليه وسلم به:
( عِشْ حَمِيداً ومَتْ شَهِيداً )( نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، ومسند البزار من حديث سالم ابن عمر).
فما نتيجة هذا الشعار؟ ...
أن تحيا فى الآخرة سعيداً!
عِشْ حميداً - بالسير على مبادئ الإسلام، ولا تلفتك الشهوات والزخارف ولا المطالب عن أخلاق الإيمان، ولا تغتر بالدنيا وزخارفها،
ومت شهيداً - مجاهداً على دين الله عزَّ وجلَّ، تحيا سعيداً - يوم لقاء الله سبحانه وتعالى .
هذا المبدأ الإسلامي الخالد، نحن في أمس الحاجة إليه في حياتنا الآن، فما أكثر من يحيا منا على الإيمان ويتربى على مائدة القرآن، وينشأ في أحضان أبوين مؤمنين طاهرين، وبمجرد أن يُعرض عليه عرضٌ رخيص من عروض الدنيا، تجده يتحول عن طريق الله عزَّ وجلَّ ، يتحول عن الإيمان من أجل بضع ملايين رخيصة، يبيع دينه بعرض قليل من الدنيا، بل ربما لا يحصل عليه، وربما يكون السجن في انتظاره بعد الحصول عليه، فلا يتهنى به في دنياه، ويعذب عليه أشد العذاب يوم لقاء الله عزَّ وجلَّ.
نحن في حاجة ماسة إلى التأسي بهذا المبدأ يا إخواني، لأن الدنيا قد تبرَّجتْ وتزخرفتْ وتزيَّنت، وأمواج الكافرين تأتي لنا في كل طرفة عين بما يخلعنا عن ديننا لو عملناه، وما يغير علينا إيماننا لو اتبعناه، وبما يسلخ إيماننا من قلوبنا ويتركنا في خواء من دين الله وشريعة الله لو طبقناه، كل ذلك طمعاً في عيش قد يكون قليلاً، وربما يكون وراءه أو فيه عذابٌ كبير!!!
فقد يتحصل المرء على المال من طريق حرام وينفقه عند الأطباء ولا يتم له الشفاء،
وقد يحصل على المال الحرام، ولا يُمْهله العمر ليتوب، فيأتيه الموت بغتة، فيحمله كُلًّه على عنقه يوم لقاء الله سبحانه وتعالى. قال صلى الله عليه وسلم: ( من تمسَّك بسنُّتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد ) (أخرجه الطبراني عن أبي هريرة).
وقال صلى الله عليه وسلم: ( التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له )( أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود).
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، حمداً يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يُحقَّ الحقَّ ويُعين أهله عليه، ويُثيبهم بخير ما لديه،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيِّه من خلقه وخليله، اختاره الله لرسالته، وأمره بتبليغ شريعته، ووعد من أطاعه واتَّبعه بدخول جنَّته، وتَوعَّد من عصاه وخالف هديه بالخلود في دار شِقوته.
فاللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وسلم، واعطنا الخير وادفع عنَّا الشرَّ، ونجِّنا واشفنا وانصرنا على أعدائنا ... يا ربَّ العالمين.
(أما بعد)
فيا إخواني وأحبابي في الله ورسوله
اعلموا علم اليقين أننا عما قليل من الدنيا راحلون، وإلى الآخرة مسافرون، ويوم القيامة بين يدي الحق واقفون، وعليه معرضون، وفي هذا الوقت المعلوم، عند انتهاء الأجل المحتوم، يُغْلق ملفُّ الأعمال، فلا يستطيع أيُّ امرئ أن يزيد فيه حسنة، ولا أن يُنْقص منه سيِّئة ( فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (34- الأعراف).
واعلموا يا إخواني أن كل امرئ منَّا لا ينال إلا ما قدَّره له الله، فعندما يبلغ الجنين في بطن أمه أربعة أشهر قمرية، يأمر الله عزَّ وجلَّ مَلكاً ينزل فيكتب - بأمر ربِّه – عمره، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد. وعلى هذا فأمر الرزق قد فُرِغَ منه!!
فالرزق مقسوم، وقد قدره الرَزَّاق عزَّ وجلَّ، فإذا تعفَّفت عنه في الحرام ساقه الله عزَّ وجلَّ إليك في الحلال، وكذلك إذا تعرَّضت لك فاتنة فتعفَّفت عنها فإن الله عزَّ وجلَّ يعوِّضك بخير منها في الحلال. لأنه ما زَهِدَ عَبْدٌ في شهوة في الحرام إلاَّ أعطاه الله مثلها في الحلال.
ليت شبابنا يستوعب هذا الدرس، وينتبه لهذه الوصية، ويجعلها نبراساً له في حياته وهادياً له في سلوكياته!!!
فإنه لا يتورع شاب عن شيء في الحرام - رغبةً فيما عند الله، وخوفاً من الله، إلا وأعطاه الله مثله أو خيراً منه في الحلال، ففي الحديث الشريف:
" مَا تَرَكَ عَبْدٌ لله أَمْرَاً لاَ يَترُكُهُ إِلاَّ لله إِلاَّ عَوَّضَهُ الله مِنْهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ فِي دِينهِ وَدُنْيَاهُ " (أَخرجه ابنُ عساكر من حديث ابن عمر).
يا أمة الإسلام عليكم بهدي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، واقرأوا هذه الآية وكرروها لتروا ما فيها من جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) (21- الأحزاب).
اللهم ارزقنا حسن اتباعه، ووفقنا للسير على منهاجه، ولا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنَا ولا مبلغ علمنا، ولا تفتنَّا بزخارفها ومطارفها، يا أرحم الرحمين.
ثم الدعاء
وللمزيد من الخطب
الدخول على موقع فضيلة الشيخ
فوزي محمد أبوزيد