الحمد لله رب العالمين، أحيا قلوبنا بالإيمان، وأذاقنا من فضله حلاوة القرآن، ورزقنا بمنِّه وجوده حُبَّ النبيِّ العدنان، وجعلنا مع ضعفنا وعجزنا بفضله وكرمه خير أمة أخرجت للناس. سبحانه .. سبحانه، بيده الخير، وبيده الضر وبيده النفع، وبيده الحياة وبيده الموت، وبيده المُلك والملكوت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، من توكل عليه كفاه، ومن استعان به قوَّاه، ومن رفع إليه الأمر تولاه وهداه، ومن أقرضه جازاه، ومن تعامل معه وجد الخير والسعادة في الدنيا ويوم لقياه. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، ربَّاه لله عزَّ وجلَّ على عينه، وأدَّبه على جميل خصاله وكريم فعاله، حتى جعله نموذجاً قويماً ومثلاً كريماً يُحتذى به إلى يوم دين للخلق أجمعين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا محمد الذي أوليته عنايتك، وأفضت عليه حنانتك وشفقتك، وجعلته خير نبيٍّ وخير رسول، وكان صلي الله عليه وسلم كما قال: (أدَّبني ربِّي فأحسن تأديبي)[1].
أيها الأخوة جماعة المؤمنين: نريد أن نستجلي حقيقةً - ما أحوجنا وأحوج العالم كله إليها الآن - يقول المستشرقون وضعاف النفوس من الأوربيين: بماذا جاء محمد صلي الله عليه وسلم؟ وما الذي أضافه بدينه إلى الدنيا وإلى الحياة؟ وهم يعلمون - علم اليقين - كل شئ عن حضرته!! لأن الله قال في اليهود ومن هم على شاكلته: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ) (146البقرة)، وإنما الذي منعهم من الإيمان به: (حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم) (109البقرة)، كيف يكون لهذا النبي العربي الأمي هذا الشرف الذي شَرُفت به بقاع الأرض كلها من أولها إلى آخرها.
هذا النبي صلي الله عليه وسلم جاء فوجد الأرض كلها تعجُّ من الظلم والظالمين، والفساد والمفسدين، والحكام الطغاة في كل ناحية من أرجاء البرية أجمعين، والضعيف لا معين له، ولا مساعد له، ولا مقوِّى له، ولا يجد من يقف بجواره، ماذا فعل هذا النبي بتأييد الله عزَّ وجلَّ له بشرعه؟
نعلم علم اليقين أن المعدات والآلات، والمصانع والمتاجر والمزارع، لا تشتغل من نفسها، وإنما الذي يُشغِّلها هو الإنسان، فيتوقف إصلاح ذلك كله على إصلاح الإنسان. إذا صلح الإنسان صلح أي مكان يذهب إليه ويعمل فيه، وزاد الإنتاج في أي عمل يعمل فيه، وكان الإتقان رائد أي عمل يُخرجه لأهله وذويه، كانت الثقة زائدة لأنهم يأخذون البضاعة وهم على يقين أنها ليس فيها غشٌّ ولا عيبٌ، لأنهم يتعاملون مع رجل صفته أنه أمين.
فجعل النبيُّ صلي الله عليه وسلم إصلاح البشرية من كل أدوائها - وذلك ليس في زمانه ولكن إلى يوم الدين - بإصلاح الأفراد، وإصلاح الأفراد لا يكون بعلاج أجسامهم، ولا بنيان بيوتهم وتجهيز شققهم، ولكن بإصلاح نفوسهم، وإصلاح أخلاقهم، وإصلاح قلوبهم، حتى يبتغون وجه الله في كل عمل، ويريدون رضاه عزَّ وجلَّ في كل حركة، ويعملون وهم يقولون ويرددون: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (105التوبة).
ولذلك نأخذ مثالاً واحداً من أمانته صلوات ربى وتسليماته عليه:
تعلمون جميعاً مدى غيظ الكفار من هذا النبيِّ، وحرصهم على قتله أو سجنه أو نفيه، وعقدوا المؤتمرات من أجل ذلك: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (30الأنفال). وعندما أراد أصحابه الخروج لشدة ما يجدون من أنواع التعذيب التي تفنَّنوا فيها - كانوا لا يسمحون لهم بحمل أي شئ من أمتعتهم وأموالهم، ويعتبرون أمتعتهم وأموالهم ودورهم غنيمة لهم، بل كانوا يضطرونهم لأن يُهاجروا بليل.
ومع ذلك كان أهل مكة لا يستأمنون ودائعهم وأموالهم والأشياء الثمينة عندهم إلا عند حضرة النبيِّ، فكأنه خزانة البنك الرئيسية التي توضع فيها جميع الودائع القُرَشية التي يخافون عليها من السرقة أو الضياع أو غير ذلك، وبنك لم يكن أمامه حراس ولا عليه أمن، ولكن الذي يحرسه هو ربُّ الناس عزَّ وجلَّ.
وفكَّر النبي صلي الله عليه وسلم - بعد أن أذن له مولاه أن يهاجر - ماذا يصنع بودائع القوم؟! وهم أخذوا أضعاف أضعافها من أصحابه، وجرَّدوهم وأخرجوهم عراة من مكة، واستولوا على كل ضياعهم ودورهم وأموالهم - ومقتدى العقل يقول: أن هذا المال يكون تعويضاً لأصحابه عما نزل بهم - ولكنه ضرب المثل الأعلى في العالم كله من قبل ومن بعد!!
جاء بابن عمه علىٍّ بن أبى طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وأعطاه كشفاً مدوناً فيه أسماء الودائع وأصحابها، وأمره أن يَبْقَى في مكانه ثلاثة أيام بعد هجرته ليردَّها إلى أهلها.
ما هذا الأمر؟!!! إن هذا هو الدِّينُ الذي يقول فيه سيد الأولين والآخرين: (لاَ إِيْمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لهُ)[2]. دين الأمانة، وإذا الصلاة لم تحقق هذا الهدف المنشود - وهو الأمانة - فهي صلاة غير مقبولة عند الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (45العنكبوت).
فأول خُلُقٍ للمسلم الأمانة .. أمانة الكلمة، فإذا جلس مع رجل وتكلم الرجل إليه بحديث لا يُفضِى بهذا الحديث إلى غيره، لقول النبي عليه أفضل الصلاة وأتم السلامالمَجَالِسُ بِالأمَانَةِ)[3]، وقوله لأحد أصحابه ليعلمهم إِذَا حَدَّثَ الإنْسَانُ حَدِيثاً فَرَأَى الْمُحَدَّثُ الْمُحَدثَ يَلْتَفِتُ حَوْلَهُ فَهِيَ أَمَانَةٌ)[4].
أمانة في البيع .. أمانة في الكيل .. أمانة في الوزن .. أمانة في الشراء .. أمانة في البيوت .. أمانة في الأعمال والصناعات .. أمانة في كل شئ، لأن هذا هو الدِّين الذي ارتضاه الله لنفسه، ولا يُصلحه إلا حسن الخُلق - كما قال صلوات ربى وتسليماته عليه.
علَّمَ أفراد أمته جميعاً في البداية الأمانة - كما نُعلم أولادنا الوضوء والصلاة - لأن الغاية من الصلاة هي الأخلاق الكريمة التي جاء بها رسول الله، والتي قال فيها: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ)[5]. حتى عرف الكفار هذه الحقيقة!!، فهذا رجل كان متزوجاً بابنته السيدة زينب رضي الله عنها - فأرسل إليه الرسول صلي الله عليه وسلم ليُسلم وهو في مكة فرفض، فطلب منه أن يرد إليه ابنته فردَّها – وكانت ابنة خالته – وكان يتاجر ذات مرة في بلاد الشام بتجارة لقريش كلها، وربحت تجارته.
وعند عودته شرح الله صدره للإسلام، وأراد أن يُعَرِّج للمدينة ليُعلن إسلامه أمام المصطفي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام - ومعه تجارة القوم – فهمس في أذنه بعض المؤمنين المستضعفين: تعلم أن قريشاً أخذت دورنا وأموالنا وكل شئ لنا فعوضنا بهذه التجارة، وإذا بالرجل الذي لم يدخل الإيمان بعد يصرخ، ويقول بصوت عال: ((أتريد أن أبدأ عهدي في الإسلام بالخيانة؟!! لا يكون ذلك أبداً)).
فذهب إلى النبيِّ وأعلن إسلامه أمام حضرة النبيِّ، ثم استأذنه أن يذهب إلى مكة ليردَّ الأمانات إلى أهلها، فذهب بتجارته وأخذ يوزع البضاعة على أهلها، ثم قال أمامهم: ((يا أهل مكة، هل بقى لأحدكم شئ عندي؟ قالوا: لا، قال: فإني أشهدكم أنى آمنت بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيًّا ورسولاً((.
أمثال هذا الرجل هم الذين ضربوا المثل في العالم كله، وجعلوا الناس يدخلون في دين الله أفواجا، لم يذهب جيش من أي دولة إسلامية إلى أندونيسا - فاتحاً للإسلام - أو جنوب أفريقيا، وإنما الذي فتحها فردٌ واحدٌ ذهب بتجارته، ووجدوا فيه الأمانة التي علَّمها لنا الله، والتي أمرنا بها حبيب الله ومصطفاه، فتعجبوا لهذه الأمانة وسألوه عن سرها، فشرح لهم حاله، فآمنوا بالله ودخلوا في دين الله عزَّ وجلَّ أفواجاً. ولا صلاح للبشرية إلا بالرجوع إلى هذه الأخلاق.
قال صلي الله عليه وسلم: (إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً الموطَّؤُونَ أَكْنَافاً، الَّذِينَ يَألَفُونَ وَيُولَفُونَ)[6]. وقال صلي الله عليه وسلم: (إنَّ أَثْقَلَ ما وُضِعَ في ميزانِ المؤمنِ يَوْمَ القِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ)[7]. أو كما قال: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الذي أكرمنا بالإسلام وجعلنا من عباده المؤمنين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب من خلقه من كان على خُلُقه. وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله الصادق الوعد الأمين. اللهم صلِّ وسلِم وبارك على سيدنا محمد خير النبيين، وإمام المرسلين، والشفيع الأعظم لجميع الخلائق يوم الدين. وبعد ...
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
وأنتم تعلمون - علم اليقين - أنه لا صلاح الآن لأحوال العالم كله إلا بالرجوع إلى الأمانة الإسلامية، فإن مَنْ يتشدَّقون بالحرية والمدنية والديمقراطية كل بضاعتهم فيها غشٌ تجارى، ويضحكون على الفقراء والمساكين ويجعلونهم فئران تجارب يجرِّبون فيهم أدويتهم، فإذا صحَّت هذه الأدوية استخدموها عندهم، وإذا لم تصلح حرَّموها فيما بينهم. وإذا اخترعوا سلاحاً جديداً افتعلوا حرباً مع أي دولة فقيرة ليُجرِّبوا في المستضعفين أسلحتهم!!
لكن الإسلام ليس على هذه الشاكلة، إنه دين الخُلُق الكريم، دين الأمانة، دين الوفاء بالعهد، دين الكرم والشهامة، دين المروءة، دين الأخلاق الكريمة كلها.
ضرب الله عزَّ وجلَّ لنا نموذجاً في القرآن الكريم لمشكلة اقتصادية عويصة مرَّت بديارنا مصر، شحَّ الماء ولم يأت النيل لمدة سبع سنين، ولا مطر ولا غير ذلك، وكانت بداية المشكلة رؤيا رآها مَلِكُ مصر، كيف حُلَّتْ المشكلة؟ رجلٌ واحد أخذ على عاتقه حلَّ هذه المشكلة!! وقال للملك: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (55يوسف).
طلب أن يتولى وزارة الاقتصاد، فأكرمه الله عزَّ وجلَّ ومرَّت السبع سنين العجاف ولم يتأثر رجل من أهل مصر، بل كانت المشكلة قد وصلت إلى فلسطين وبلاد الشام، فكان أهل الشام وأهل فلسطين يأتون إلى مصر ومعهم الذهب والفضة ويأخذون من الأقوات التي ادخرها هذا الرجل الأمين، ولم تتأثر البلد كلُّها بهذه المشكلة، لماذا؟ لأنه رجل أمين، ونظم الأمور كما ذكرها القرآن، ووضعها في سياقه النوراني الذي ألهمه به الرحمن عزَّ وجلَّ، حتى مرت الفتنة بسلام ولم يشعروا بها - بل تعدوا إلى الجيران وكانوا يطعمونهم ويحلون مشكلاتهم- لأن الذي تولى الأمر رجل أمين.
فما أحوج البشرية الآن إلى رجال أمناء صادقون!! عندهم شهامة ومروءة!! عندهم جودة في العمل!! وإذا عملوا شعارهم قول الله: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (105التوبة). وصناعتهم عليها قول رسول الله: (إِنَّ الله تَعَالَـى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ)[8].
نسأل الله عز وجل أن يُصلح أحوالنا، وأحوال أولادنا وبناتنا، وأحوال أهل مجتمعنا أجمعين.
.... ثم الدعاء ...
*********************
[1] جاء بعده روايات ذكرها العسكري في كتابه "الأمثال" والسرقسطى في كتابه "الدلائل"، السيوطي في كتابه "الجامع الصغير" وابن السمعاني في "أدب الإملاء" ، وأبو نعيم الأصفهاني في تاريخ أصبهان. ويؤخذ من مجموعها أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال : يا رسول اللّه ، مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال: ( كانت لغة إسماعيل قد درست - خفيت آثارها - فحفظنيها جبريل ، فلذا كنت أفصح العرب). وأن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال له: يا نبي اللَّه نحن بنو أب واحد، ونشأنا في بلد واحد ، وإنك لتكلم العرب بلسان ما نعرف أكثره؟ فقال: (إن اللَّه عز وجل أدبني فأحسن تأديبي، ونشأت في بني سعد بن بكر). وأن أبا بكبر رضي اللَّه عنه سأله مثل ذلك ، فأجاب بما يقرب منه.
[2] صحيح ابن خزيمة عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] سنن أبى داوود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
[4] البيهقي في الشعب عن جابر رضيَ اللَّهُ عنهُ، ومسند أحمد برواية قريبة.
[5] مسند الإمام أحمد والبيهقي في سننه الكبرى عن أبى هريرة رضي الله عنه.
[6] الطبراني عن أبى هريرة رضي الله عنه.
[7] مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عن أبى الدرداء رضي الله عنه.
[8] أخرجه البـيهقيي فـي الشعب عن عائشة رضي الله عنها، وأبو يعلـى وابن عساكر وغيرهم.