الحمد لله الذي أنار الوجود بطلعة سيد الوجود، سيدنا محمد الذي جعله الله عزَّ وجلَّ لنا وعندنا أغلى من كل والد ومولود. صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته المباركين، وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
إخواني وأحبابي بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين:
طَلَبَ منَّا اللهُ عزَّ وجلَّ أن نتعرَّف على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: على صورته الحسِّيَّة الظاهرية – التي تراها العين البالية الجسدية، وعلى صورته المعنوية - التي تراها القلوب التقية النقية، وعلى صورته النورانية - التي تراها الأرواح إذا ارتقت، وتراها ملائكة السبع الطباق وغيرها من العوالم العلوية، وعلى صورته الربانية - التي أطْلع الله عزَّ وجلَّ عليها النبيين والمرسلين قبل البدء القديم، وعاهدهم له صلى الله عليه وسلم أن يكونوا له أنصاراً وتابعين، ثم جدَّد لهم هذا العهد وأحياهم وجمعهم في بيت المقدس ليروا الحبيب بعد تكليفه بالرسالة، وبعد أمره بالبلاغ، وليصلى بهم إماماً، لأن الله عزَّ وجلَّ جعله كذلك- أي إماماً – لجميع الأنبياء والمرسلين.
وسوف نذكر في هذا المقام بَعْضَ ما تُطِيقُه العقول من الصور التي جعلها الله لحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: صورة حسية ظاهرية: وقد رآها من كان في عصره وأوانه، ويكرم الله عزَّ وجلَّ بمشاهدتها المؤمنين الصادقين إلى يوم الدين، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: {مَنْ رآني في المَنَامِ، فَقَدْ رأي الحَقَّ، إنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَشَبَّهُ بي} (صحيح ابن حبان عن أبى هريرة). فرؤيته صلى الله عليه وسلم محفوظة من أن يتشبه بها شيطان، أو يتمثل بها أحدٌ من الجان، لأنها محفوظة بحفظ الرحمن عزَّ وجلَّ.
وثانياً: صورة معنوية: وتلك صورة تراها القلوب إذا صَفَتْ، وتراها النفوس إذا وَفَتْ، بيَّنها الله عزَّ وجلَّ في الآيات القرآنية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ [45-46الأحزاب]، وغيرها من الآيات القرآنية التي تبيِّن أوصافه القرآنية، والتي تقول فيها السيدة عائشة رضي الله عنها: {كان خُلقه القرآن } (مسند الإمام أحمد).
وثالثاً: صورة نورانية: وهى صورة يراها الملأ الأعلى، وتراها الأرواح إذا ارْتَقَتْ في سماء القرب من حضرة الكريم الفتاح، قال فيها الله جلَّ في علاه: ﴿ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ [15المائدة]. النُّور: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكتاب المبين: هو القرآن الكريم، وليس النور هو الكتاب، لأن الله فَصَلَ بينهما بالواو – وهى حرف عطف يقتضى المغايرة، أي: يقتضى ما قبلها أن يكون مغايراً ومخالفاً لما بعدها،، فلو كان النور هو الكتاب لكانت الآية: “نورٌ كتابٌ مبين“!! لكن النور شيء، والكتاب المبين شيء آخر، فالنور هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكتاب المبين هو: القرآن الكريم الذي أنزله الله عليه. والقرآن نور: ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا﴾ [52الشورى]. والله عزَّ وجلَّ نور: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [35 النور]. فالله نورٌ، والقرآن نورٌ، والحبيب المصطفي نورٌ: ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء﴾ [35النور].
ورابعاً: هناك الصورة الربانية: وهى الصورة التي خلقها الله عزَّ وجلَّ قبل خلق جميع البرية، وخلق منها أرواح النبيِّين والمرسلين، وأخذ عليهم فيها العهد والميثاق الذي يقول فيه في قرآنه المبين: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [81آل عمران]. إذاً هناك أربع صور لرسول الله ذكرناها على قدر العقول.
وبعد أن بسطنا قبساً صغيراً من التلميح لتلك الصور العليَّة .. جاءنا سؤال من أحد الحاضرين المحبين الصادقين في كبد الموضوع، نستزيد بإجابته الأمر توضيحا وبياناً، إذ يقول السائل – (هذا السؤال كان في نهاية المحاضرة وآثرنا أن نضعه في سياقه لإتمام الفائدة): قد بيَّنتم فضيلتكم البيان الشافي الغير مسبوق عن صور الحبيب صلى الله عليه وسلم، فهل يا سيدي المقصود بقول الله عزَّ وجلّ: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ [105الإسراء] رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإن كان كذلك! فأين يقع هذا المعنى من الصور التي بيَّنتها لنا؟ بارك الله فيكم وجزاكم عنا خير الجزاء وزادكم نوراً وعلماً.
وأجيب الأخ السائل – بارك الله فيه – إن العلوم كنوز ومفاتحيها الأسئلة!! فالسؤال في صُلْبِ الموضوع، وجوابنا: الاثنان، فالكتاب هو رسول الله: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ﴾ [105الإسراء]، وأين نزل؟ ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [193الشعراء] على: ﴿وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ [105 الإسراء]. ولذلك قال: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [3-4النجم]. فلا ينطق عن هوىً في نفسه، ولا عن رأيٍ في شخصه، وإنما ينطق مبلِّغاً عن الله، لأنه صلى الله عليه وسلم فَنَى عن نفسه، ولم يَعُدْ له حظٌّ ولا هوىً، ولا مطمع دنيويُ أو فاني، وإنما كان كلُّ همِّه أن يبلِّغ رسالات الله عزَّ وجلَّ إلى خلق الله: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ [105الإسراء]. وذلك لأنه صورة الحقِّ التي ظهرت بين الخلق، صورةٌ حقِّية في صورة آدمية، باطنه حقّ وظاهره خلق، وظاهره مرآة تبيِّن جمال باطنه، إذاً فقد أصبح ظاهره حق وباطنه حق، وإلا لما أوجب الله علينا اتباعه حتى في مشيه، وفي طعامه وشرابه، وفي كل أموره، وقد قال سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص: {يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَأَكْتُبُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: في الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَإِنِّي لاَ أَقُولُ فِيهِمَا إِلاَّ حَقًّا} (مسند الإمام أحمد).
فهو صورة الحقِّ التي أجلاها للخلق ليتجملوا بهذا الجمال، فيحوزوا رضاء الحق عزَّ وجلَّ، وكأن الله عزَّ وجلَّ جعله مثالاً للكمالات التي يحبُّها من خلقه!! فمن أراد أن يكون حبيباً لله فليتخلق ويتجمل بجمال حبيب الله ومصطفاه فيصير مثله حبيباً لله – على قدره – لا على قدر الحبيب الأول صلى الله عليه وسلم. ولذلك دائماً ما نقول لإخواننا ونقول لكم ولكل المحبين: عليكم أولاً استحضار صورته الحسيَّة لكي يتهنى بها القلب، لكن حاول أن تتجمل ليس بصورته الحسية ولكن بأوصافه المعنوية، وعندما تتجمل بأوصافه المعنوية يَمُنُّ عليك الله عزَّ وجلَّ فيُجمِّل باطنك بأوصافه النورانية، ولما يجمِّل باطنك بأوصافه صلى الله عليه وسلم النورانية يفتح لك فتوحات العارفين، ويجعلك من أهل مقامات القرب من ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ، وهذا هو سرُّ أهل الخصوصية مع الصور المحبوبية!!
كان الإمام الحسن والإمام الحسين – لما كانا صغيرين في السن – عندما كان الحبيب صلى الله عليه وسلم كائناً بينهم، وأنتم تعلمون أنهما كانا يلعبان بين يديه، بل يتخذونه أحياناً مركباً يركبانه ويعتليان ظهره عند السجود!
رُوى أنه صلى الله عليه وسلم خرج في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر، وهو يحمل الحسن أو الحسين، فتقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبَّر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، فقال الراوي: إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت في سجودي فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها فظننا أنه قد حدث أمر أو نزل الوحي؟!! قال: {فَكُلُّ ذٰلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرهْتُ أَنْ أُعَجّلَهُ حَتّى يَقْضِي حَاجَتَهُ } (مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن شداد عن أبيه).
ودخل الحسن رضي الله عنه يوماً من باب مسجده الأنور، وكان صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب في جموع المسلمين، فلما رآه الحسن قال: أَبِي .. أَبِي، ومشى مسرعاً فتعثر في ثوبه فوقع، فما كان من الرحمة المهداة والنعمة المسداة إلا أن نزل من على منبره، وأقام الحسن واحتضنه، ورفعه وصعد به المنبر وأكمل خطابه للأُمة!! فصدق من وصفه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [107 الأنبياء].
هذه كانت أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم!! وكانت ابنة ابنته زينب تأتى إليه أحياناً في الصلاة، فيحملها واقفاً وراكعاً، ويضعها بجواره عند السجود، فإذا أراد القيام ثانية حملها عند نهوضه، وهكذا يصلى وهو يحملها!! يا للرحمة!
ومع ذلك فإن الحسن والحسين لما كبرا أرادا أن يتعرفا على صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهرية الحسِّية التي لم يتحققا بها – لصغرهما في حياة خير البرية صلى الله عليه وسلم – فكانا يطوفان من وراء بعضهما على الوصَّافين الذين يستطيعون وصف رسول الله. ويا له من عمل شاق – ربما تظنون غير ذلك!! – ولكن الحقيقة أنه ما كان أحدٌ من صحابته صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يصفه، فأكابر الصحاب كانوا لا يستطيعون نعته!! يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه – وكان من أكابر العقلاء في الصحابة، بل من كبار الدهاة في القادة – عند وفاته لابنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: {يا بني لما بايعت رسول الله، كنت أشدَّ الناس منه حياءً، ما ملأتُ عيني من رسول الله حياءً منه!} (الزهد والرقائق لابن المبارك – تاريخ دمشق وغيرها).
وإذا كان حسان بن ثابت رضي الله عنه – وقد عاش مائة وعشرين سنة، ستون سنة قبل الإسلام، وستون بعد الإسلام – وكان حسان قد سمع وَصْفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من اليهود – مثل بقية الأنصار – حيث عرفوا أن هناك نبيٌّ سيبعث في مكة ويهاجر إلى المدينة، وأوصافه يعرفها اليهود لقول الله فيهم: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ﴾ [146البقرة]. لما هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سمع حسان بن ثابت – ولم يكن قد أسلم بعد – اثنين من اليهود يتحدثان بعدما شاهدا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولا يرون حساناً، فقال أحدهما للآخر: أهو هو؟ قال: هو هو بنعته الذي ذكره لنا موسى في التوراة!! قال: وماذا تفعل؟ قال: لن أؤمن به ما حَيِيتُ – فإنهم يعرفونه لكن الحسد يمنعهم من الإيمان به!! – فأراد سيدنا حسان أن يتحقق، فذهب إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وشاهد جمال محياه وقال في ذلك:
لمَّا نَظَـــــــرْتُ إِلَى أَنـــْــوارِهِ سَـطـَعَتْ وَضَعْتُ مِنْ خِيفَتِى كَفِّي عَلَى بَصَرِي
خَوفاً عَلَى بَصَرِي مِنْ نُورِ طَلْعَتْهِ فَلَسْتُ أُبْصِـــــــرُهُ إِلاَّ عَلَى قــــــــــــــــــدْرِي
لما رأيت رسول الله وضعت يدي على عيني خوفاً من ساطعة الأنوار أن تحرق عيني، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراه أصحابه نوراً!! أما الكافرون والجاحدون فيكفي فيهم قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [198الإسراء]. لا يرون النور!! مثل إبليس عندما أُمر مع الملائكة بالسجود لآدم، الملائكة رأتْ النُّورَ الموجود في وجه آدم – وهو نُور رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإبليس عَمِىَ فلم يرَ إلا جسم آدم وطينته!! فامتنع عن السجود، ولذلك قال سيدي على وفا في ذلك:
لو أبصر الشيطان طلعة نوره في وجه آدم كان أول من سجد
أو رأي النمروز بعض جماله عبَدَ الجليل مع الخليل وما عند
لكن نــور الله جلَّ فلا يُــــــــــرى إلا بتخصيص من الله الصـــــــــــــمـد
فكان صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أي إنسان من صحبه أن ينعته لشدة نورانيته وشفافيته صلى الله عليه وسلم، فمن الذي نعته ووصفه؟
لا يوجد إلا الإمام علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه، وأمُّ معبد التي مرَّ النبيُّ عليها في الهجرة ووصفته لزوجها، وهند بن أبى هالة – وهو ابن السيدة خديجة ولكن من زوج آخر، ولذلك هو خال سيدنا الحسن وسيدنا الحسين – هؤلاء هم الثلاثة الذين استطاعوا أن يصفوا رسول الله، ولم يستطع أحدٌ من صحابته – الذين يزيدون على المائة ألف – وصفه!!
ويذكر التاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَّى أصحابه وقال في جمع فيهم عُمر وعلىّ رضي الله عنهم أجمعين:{سيأتي من بعدى رجل من أهل اليمن يُدعى أويس القرني آمن بي ولم يرني، منعه من المجيء إلا برُّه بأمه، فإذا لقيتموه فأبلغوه منِّى السلام، وَسَلُوهُ أن يدعو الله عزَّ وجلَّ لكم } (الإصابة في تمييز الصحابة وفي الكثير من كتب المصادر ومراجع الحديث والسنة ووردت بصور عدة).
وهذا هو السند الذي يعتمد عليه القوم في الذهاب إلى الصالحين. هل يحتاج سيدنا علىٌّ وسيدنا عمر لِلذِّهَابِ إلى الصالحين؟!! إنه أمرٌ من سيِّد الأولين والآخرين أن يبحثوا عنه، ويذهبوا إليه، ويسألوه أن يدعو الله عزَّ وجلَّ لهم!! أمر!!
فكان سيدنا عمر رضي الله عنه يَحِجُّ كل عام وينادى في أهل اليمن: أفيكم أويس؟ يقولون: لا، وفي مرة قالوا: ليس فينا إلا راعى غنم يسمى أويس، قال: أين هو؟ قالوا: عند جِمالنا، فتظاهر أنه لا يُبْدِى للأمر أيَّ اهتمام، وأشار إلى سيدنا علىٍّ أن يفعل كذلك، ثم انسلا من القوم وذهبا إلى أويس وهو بمفرده، وقالا له: أأنت أويس؟ قال: نعم، – وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاهم علامة له حيث قال لهم: أنه كان به برصٌ فشُفِيَ منه، ولم يبق إلا موضع قدر الدرهم تحت إبطه – فقال له عمر: اكشف ذراعك وأرنا إبطك، فرأي ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقَّقا أنه هو، ودار بينهما الحديث..
وسأل أويس: هل رأيتما رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالا: بلى، فأخذ سيدنا علىّ يصفه بالصورة الحسية الظاهرية، قال: إنكم لم ترونه على الحقيقة! عجباً!!
فذهبا إلى السيدة عائشة وذكرا لها ذلك فقالت: لقد رأيته – الرؤية الحقيقية – مرَّة واحدة، كنت أُخيط له ثوباً على مصباح، فهبَّتْ الريح وأُطفئ المصباح ووقع منى المِخْيط، فدخل علىَّ صلى الله عليه وسلم فرأيتُ نوراً من الأرض إلى السماء، ورأيت على هذا النور المِخْيط وأدخلتُ فيه الخيط! رأتْهُ مرة واحدة لأنه نور الله الذي ذكره الله: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ [15المائدة].
فذهب سيدنا الحسن إلى خاله – هند بن أبى هالة – وقال له: اذكر لي من أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتعلق به، فذكرها له، وذهب الحسين من ورائه إلى خاله أيضاً وقال: اذكر لي من أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتعلق به.
ونحن جميعاً نحتاج إلى بعض هذه الأوصاف حتى تتعلق في مخيلتنا، وتسطع في أفئدتنا، لعلَّ الله يكرمنا عند منامنا فنرى حَبِيبَنَا صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: {مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي} (جامع الأحاديث والمراسيل عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه).
متى سيراه في اليقظة؟ وهو مسافر من الدنيا يأتي إليه حضرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويستقبله ومعه الصحابة الكرام، ومعه الأئمة العظام، لأن الله عزَّ وجلَّ أعطاه ذلك وكلَّفه بذلك. وفي السُّنَّة أكثر من دليل!!
ففي عصر عثمان بن عفان توفي رجل اسمه الربيع بن خراش ويحكى أخوه الربعي القصة فيقول كما ورد: {مات أخي الربيع، وكان أصومنا في اليوم الحار، وأقومنا في الليلة الباردة، فسجَّيته فضحك، فقلت: يا أخي أحياةٌ بعد الموت؟!! قال: لا، ولكنى لقيت ربِّى فلقيني بِرَوْحٍ وريحان ووجه غير غضبان، فقلت كيف رأيت الأمر؟ قال أيسر مما تظنُّون }. وفي رواية: { ولا تغتروا فإني استأذنت ربِّي لأبشركم، فاحملوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه وعدني أن لا يسبقني حتى أدركه }. فذكر لعائشة رضي الله عنها فقالت: صدق ربعي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ المَوت}، وفي لفظ: {يتكلم رجلٌ من أمتي بعد الموت من خير التابعين} (جامع المسانيد والمراسيل، الطبراني في الأوسط بسند جيد عن حذيفة وأخرج البيهقي وصححه وأبو نعيم في الحلية عن ربعى بن خراش، ورواية { احملونى إلى رسول الله} في الطبقات الكبرى لإبن سعد).
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ [103التوبة]، هل يصلى على الذين في عصره فقط؟ لا، بل على كل الأمة إلى يوم الدين. لماذا؟!! قال الله له: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾، هي التي ستسكِّنهم من الخوف ومن الرعب، وهى التي ستسكِّنهم عند سؤال المَلَكَين، وهى التي ستسكِّنهم عند أهوال يوم القيامة. فالصلاة دائمة إلى يوم الدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم على المُحبِّين والمخلصين، والصادقين في الحبِّ لسيِّد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
قد يقول البعض أن ذلك حدث في عهد سيدنا عثمان، وأن هذا الرجل كان صحابياً، وحتى يتحقق حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَكُونُ فِي أُمَّتي رَجُلٌ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ المَوْتِ}!! اسمعوا هذه القصة:
الشيخ ذو النون المصري رضي الله عنه - وكان يعيش في القرن الرابع الهجري، وكان من أخميم وسكن الجيزة، وكان من أكابر الصالحين – لمَّا جاء أجَلُه، مَن الذي أعلم الناس بالخبر؟ مَن الذي كان يُنبئ الناس بالأخبار في هذه الأوقات – مع أنه كانت لا توجد صحافة، ولا إذاعة، ولا تليفونات، ولا غير ذلك؟!! الذي كان ينبؤهم الرؤيا الصالحة يراها الرجل المؤمن أو تُرى له.
فكان الصالحون – في كل مكان نشرهم الرحمن – ويرون في قلوبهم الأخبار التي يريد أن يذيعها الرحمن على الناس في كل زمان ومكان، فلما جاء الموت لذي النون رأي سبعون رجلاً من الصالحين في كل مصر رؤيا واحدة، حيث رأي كلُّ رَجُلٍ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً !! فسألوه: لماذا قدمت يا رسول الله؟ فيقول: إن حبيب الله ذا النون يريد المجيء إلينا وقد جئت لاستقباله!!
فأخذ كلُّ رجل منهم تلاميذه ومريديه، وذهب إلى الجيزة ليحضر جنازة ذا النون – والتي سيحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولذلك رُوى أن المشيعين لهذه الجنازة كان يزيد عددهم على المليون، وكان يوماً شديد الحرارة، وسوف يمشون من الجيزة إلى الإمام الشافعي ليدفنوه، فأرسل الله على رءوس المشيعين طيوراً سدَّتْ الأفق ترفرف بأجنحتها، أظلَّتْهُم بأجسامها !! وهوَّنَتْ عليهم حرارة المكان برفرفتها بأجنحتها، حتى وضعوه في لحده الأخير، لأنه حظيَّ بالبشير النذير صلى الله عليه وسلم.
وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم البشري
فلابد للإنسان أن يتعلق ببعض أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينام وفي مخيلته أو في فؤاده هذه الأوصاف، فعندما ينام يُكْرَمُ في المنام برؤية المصطفي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
هذا هو الوصف الظاهري لرسول الله، وسنتكلم فيه على قدرنا حيث كان صلى الله عليه وسلم كما ذكرت الروايات رَبعةً بين الرجال – أي: بين الطويل والقصير – ومع ذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول – وكان رضي الله عنه كان ضخم الجسم، حتى أن الذي يراه كان يخاف منه – ومع ذلك كان رضي الله عنه يقول:{ما مشى معنا صلى الله عليه وسلم إلا وكان أطولنا مهما كان طولنا، ولا قعد بيننا إلا وكانت أكتافه أعلانا مهما كان طول أكتافنا } (ورد مثل ذلك في وصف سيدنا على للرسول صلى الله عليه وسلم: { لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطويل الممغط – المتناهى في الطول – ولا بالقصير المتردد – القصير جداً – وكان ربعة القوم، لم يكن يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله، فإذا فارقه صلى الله عليه وسلم نسب للربعة –أي: لا طويل ولا قصير – السيرة الحلبية وغيرها).
لأن الله عزَّ وجلَّ رفع قدره وأعلى شأنه، فرفعه الله عزَّ وجلَّ حتى من يراه في أي جانب يراه أطول الجميع !! مع أنه صلى الله عليه وسلم كان بين الطول والقصر.
وكان صلى الله عليه وسلم وجهه أقرب إلى التدوير حتى كان سيدنا أنس يقول: {نظرت إلى رسول الله في ليلة أربعة عشر والقمر بدر، فكنت أنظر إليه تارة وإلى القمر تارة، فو الله الذي لا إله إلا هو لكان في عيني أجمل من القمر}.
وسيدنا أبو هريرة رضي الله عنه يقول في ذلك:{ما رؤى صلى الله عليه وسلم مع شمس ولا قمر ولا مصباح إلا وكان نوره أزهى من نور الشمس، وأوضح من نور القمر، وألمع من نور المصباح}.
وكان صلى الله عليه وسلم يميل إلى اللون الزهرى وهو البياض المختلط بالحمرة، وهو أزكى الألوان في الجنة إن شاء الله، وكان فمه صلى الله عليه وسلم واسعاً لأنه صلى الله عليه وسلم أوتى الفصاحة كلها، وسعة الفم من علامات الفصاحة، وكان مفلج الأسنان أي أن أسنانه الأمامية بينها فاصل دقيق.
وكان صلى الله عليه وسلم أدعج العينين أي أسود الحدقتين، وفوقها كانت رموشه مقوسة ولا تلتقي، وكان صلى الله عليه وسلم شعره بين المسترسل (الناعم) وغيره، وكان يَفْرق شعره من جهة اليسار، وكان شعر رأسه وشعر لحيته ليس فيه إلا سبع عشرة شعرة بيضاء، ولما سُئل عن ذلك قال:{شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأخَوَاتُها}. (البيان والتعريف عن أبى بكر رضي الله عنه)، وأخواتها سور: (إذا الشمس كورت)، و (إذا السماء انفطرت).
إلا أن هذا الوصف الحسي كان فيه أيضاً نورٌ رباني، فلقد كانت عيناه صلى الله عليه وسلم ليست كعين أحد منَّا! لأنه كان يصلى بأصحابه، فإذا انتهى من الصلاة التفت وقال أنت يا فلان فعلت كذا وأنت يا فلان كان ينبغي أن تفعل كذا، فيقولون: يا رسول الله كيف رأيتنا وأنت تصلى؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: {إنِّي وَاللَّهِ لأَرَى مِنْ خَلْفِ ظَهْرِي كَمَا أَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ}. (الترغيب والترهيب، صحيح ابن خزيمة عن أبى هريرة رضي الله عنه).كان صلى الله عليه وسلم حتى في البشرية له ميزات ربانية ..!!!
وكان صلى الله عليه وسلم لا يقف عليه الذباب قط، وكان صلى الله عليه وسلم عرقه أشد بهاء وعطراً من رائحة المسك، وكان صلى الله عليه وسلم في كل أحواله أحوالٌ بشرية جملتها الذات الربانية، فكان صلى الله عليه وسلم كما قال فيه مولاه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾. [110 الكهف].
أما صورته المعنوية فهي أوصافه الربانية التي اتصف بها نحو الرحمة، الشفقة، العطف، السماح، المودة، اللين. هذه الصورة لما تَخلَّق بها أصحابه أشرقت أنوارها على قلوب الخلق فدخل الناس في دين الله أفواجا!! ما الذي نشر الإسلام في أرجاء الدنيا يا إخواني؟
أخلاق النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وأخلاق القرآن التي كان عليها أهل القرآن الذين تشبهوا بالنبي العدنان صلى الله عليه وسلم فأصبحت أخلاق نبيهم وقرآنهم مطبوعة على وجوههم ومقروءة من أفعالهم من قبل أن تنطقها ألسنتهم.
يقول سيدنا أبو بكر رضي الله عنه:{يَا رَسُولَ الله، لَقَدْ طِفْتُ في العَرَبِ وسَمِعْتُ فُصَحَاءَهُمْ، فَمَا سَمِعْتُ أَفْصَحَ مِنْكَ فَمَنْ أَدَّبَكَ؟ قال: أَدَّبَنِي رَبِّـي، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ} (أَخرجه ابن عساكر من طريق محمَّد بن عبد الرَّحمن الزَّهري عن أبـيه عن جدِّه، الدرر المنتثرة، وأخرج ثابت السرقسطي في الدلائل بسند واه أن رجلا من بني سليم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أيُدالِك الرجلُ امرأتَه قال نعم إذا كان ملفحا، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما قال لك؟ وما قلت له؟ قال: قال لي أيماطل الرجل امرأته؟ قلت: نعم، إذا كان مفلسا. قال فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما رأيت أفصح منك!! فمن أدبك يا رسول الله؟ قال: أدبني ربي ونشأت في بني سعد).
وتعجب من ذلك علىٌ وعمر رضي الله عنهما، فسأله علىٌ يوماً بعد لقائه بوفد بني نهد: {يا نبيَّ الله نحنُ بنو أب واحد ونشأنا في بَلد واحِد وإنَّك لتكلِّم العربَ بلسان ما نفهَم أكثره! فقال: إنَّ الله أدَّبني فأحسن تأديبي ونشأت في بني سعيد بن بكر}. (المقاصد الحسنة للسخاوي، قال العلماء: وقوله نشأت في بني سعيد، هم يعرفون ذلك! ولكن ليؤكد للأمة من بعدهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يطلب العلم أو الأدب من أي مصدر ولم يجالس المعلِّمين ولم يأخذ عن المربين وإنما ذاك من تعليم ربِّ العالمين). { فقال له عمر يا رسول الله كلها من العرب فما بالك أفصحنا؟ فقال: أتاني جبريل بلغة إسماعيل وغيرها من اللغات فعلمني اياها}. (كتاب مرآة الزمان وأخرجه العلامة شمس الدين يوسف بطرق كلها تدور على السدي عن ابي عمارة الحيواني عن علي بن أبي طالب، أللآلي المنثورة في الأحاديث المشهورة).
وأخيراً الرواية المعروفة والمشهورة، أجاب صلى الله عليه وسلم:{أَدَّبَنِي رَبي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي ثمَّ أمَرَنى بمَكَارِمِ الأخْلاق} (ابن السَّمْعَانِي في أَدَبِ الإمْلاَءِ عن ابن مسعُود رضي الله عنه، جامع الأحاديث والمراسيل). أدَّبه ربُّه عزَّ وجلَّ على الأخلاق الكاملة.
ففي مضمار العبادة؛ لا يستطيع أحد من كان على مدار الزمان والمكان أن يقوم بما كان يقوم به صلى الله عليه وسلم من العبادات، فكان يقوم الليل حتى تتورم أقدامه، وكان يصوم صيام الوصال ويقول:{إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني}. (مسند الإمام أحمد عن أبى هريرة رضي الله عنه).
وهنا لطيفة عارضة: تلك الرواية التي يصححها الأئمة وهى أنه كان يضع الحجر على بطنه!!، كيف يضع الحجر على بطنه وهو يبيت عند ربه فيطعمه ويسقيه؟!! لكنه حدث تحريف للرواية – قبل أن يستعمل تشكيل الحروف- حيث كان صلى الله عليه وسلم يضع “الحُجُزَ” على بطنه، أي الحزام المعروف، فحرَّفوها وقالوا أنه كان يضع الحجر على بطنه، فهل كان صلى الله عليه وسلم يجوع حتى يضع الحجر على بطنه؟!! بل كان صلى الله عليه وسلم يبيت جائعاً ويصبح طاعماً!!
وكان صلى الله عليه وسلم لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين، تنام عينه وقلبه لا ينام! ومع ذلك وهذا هو الشاهد من حديثا هنا؛ مع أنه لايجار ولايبارى في عبادته لمولاه ولكن عندما مدحه خالقه وباريه الذي يعلم بعبادته هذه؛ عندما مدحه؛ بماذا مدحه؟ مدحه بالصورة المعنوية فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. [4 القلم].
لم يقل الله له: أنت ذو خُلق عظيم، أي صاحب خُلق عظيم، وإنما قال: (على)، أي: أعلى من الخُلق العظيم. انظر إلى شكل الخُلُق العظيم عند الناس في كل زمان ومكان، فأنت أعلى من هذا الخُلق. وفي القراءة القرآنية الثانية: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقِ ـ بكسر القاف ـ عَظِيمٍ﴾، والعظيم: هو الله، فأنت على خُلُقِ الله العظيم جلَّ في علاه. فكان صلى الله عليه وسلم على خُلق الله!
وهذا هو الوصف الذي وصفه به مولاه، ولذلك ما البُشْريات التي بشَّر الله بها السابقين في التوراة والإنجيل؟ عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: أجل، {والله إنه لموصوف في التوراة؟ بصفته في القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾. [45 الأحزاب]. وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ـ ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّاب في الأسواق ـ ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملَّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً } (مسند الإمام أحمد).
إذاً كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في سرِّ بعثته: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} (مسند الإمام أحمد عن أبى هريرة رضي الله عنه). فكان صاحب مكارم الأخلاق العالية، ولذلك أراد أحد أحبار اليهود واسمه زيد بن سعنة أن يمتحن النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه كما تحكى الرواية، فعن عبدُ الله بنُ سَلام قال:
{ إنَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى لمَّا أَرَادَ هُدَى زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ، قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ عَلامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إلا وَقَدْ عَرَفْتُهَا في وَجْهِ مُحمَّدٍ حِين نَظَرْتُ إلَيْهِ؛ إلا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْبُرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلا يَزِيْدُه شِدَّةُ الجَهْلِ عَلَيْهِ إلا حِلْماً، فَكُنْتُ أَتَلَطَّفُ لَهُ لأنْ أُخَالِطَهُ فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ وَجَهْلَهُ، قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الحُجُرَاتِ، وَمَعَهُ عَليُّ بْنُ أبي طَالِبٍ، فَأَتاهُ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ كالبَدَوِيِّ، فقال: يا رَسُولَ الله، قَرْيَةُ بَنِي فُلانٍ قَدْ أَسْلَمُوا، وَدَخَلُوا في الإِسْلامِ، وَكُنْتُ أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّهُمْ إنْ أَسْلَمُوا، أَتَاهُمُ الرِّزْقُ رَغَداً، وَقَدْ أصابهم شِدَّةٌ وَقَحْطٌ مِنَ الغَيْثِ، وَأَنَا أَخْشَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الإِسْلامِ طَمَعاً كما دَخَلُوا فِيهِ طَمَعاً، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُرْسِلَ إلَيْهِمْ مَنْ يُغِيثُهُمْ بِهِ فَعَلْتَ، قالَ: فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ إلى رَجُلٍ إلى جَانِبِهِ، أُرَاهُ عُمَرَ، فَقَالَ: مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَدَنَوْتُ إلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا مُحمَّدُ، هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنِي تَمْراً مَعْلُوماً مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلانٍ إلى أَجِلِ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: لا، يَا يَهُودِيُّ، وَلكِنْ أَبيعُكَ تَمْراً مَعْلُوماً إلى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا، وَلا أُسَمِّي حَائِطَ بَنِي فُلَانٍ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَبَايَعَنِي، فَأَطْلَقْتُ هِمَيَانِي، فَأَعْطَيْتُهُ ثَمَانِينَ مِثْقَالا مِنْ ذَهَبٍ في تَمْرٍ مَعْلُومٍ إلى أَجَلِ كَذَا وَكَذا، قالَ: فَأَعْطَاهَا الرَّجُلَ، وقال: اعْجَلْ عَلَيْهِمْ وَأَغِثْهُمْ بِهَا قالَ زَيْدُ بنُ سَعْنَةَ: فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَحَلِّ الأجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ في جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، ونَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الجِنَازَةِ، دَنَا مِنْ جِدارٍ، فَجَلَسَ إلَيْهِ، فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ، وَنَظَرْتُ إلَيْهِ بِوَجْهٍ غَليظٍ، ثُمَّ قُلْتُ: ألا تَقْضِينِي يَا مُحمَّدُ حَقِّي؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكُم بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ بِمُطْلٍ، وَلَقَدْ كَانَ لي بِمُخَالَطَتِكُمْ عِلْمٌ، قالَ: وَنَظَرْتُ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ وَعَيْنَاهُ تَدُورَانِ في وَجْهِهِ كالفَلكِ المُستَدِير، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ، وقالَ: أيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَتَقُولُ لرَسُولِ اللَّهِ ما أَسْمَعُ، وَتَفْعَلُ بِهِ مَا أَرَى؟ فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بالْحَقِّ لَوْلا مَا أُحَاذِرُ فَوْتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي هذَا عُنُقَكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ يَنْظُرُ إلى عُمَرَ في سكُونٍ وتُؤَدَةٍ، ثُمَّ قالَ: إنَّا كُنَّا أَحْوَجَ إلى غَيْرِ هذَا مِنْكَ يَا عُمَرُ، أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الأدَاءِ، وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يا عُمَرُ، فاقْضِهِ حَقَّهُ، وَزِدْهُ عِشْرِينَ صاعاً مِنْ غَيْرِهِ مَكانَ مَا رُعْتَهُ قَالَ زَيْدٌ: فَذَهَبَ بِي عُمَرُ، فَقَضَانِي حَقِّي، وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ: ما هذِهِ الزِّيادَةِ؟ قَالَ: أَمَرنِي رَسُولُ اللَّهِ أنْ أزِيدَكَ مَكانَ ما رُعْتُكَ. فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ؟ قَالَ: لا. فَمَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا زَيْدُ بْنُ سَعْنَة. قَالَ: الحَبْرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، الحَبْرُ، قَالَ: فَمَا دَعاكَ أَنْ تَقُولَ لِرَسُولِ اللَّهِ ما قُلْتَ وتَفْعَلَ بِهِ مَا فَعَلْتَ. فقُلْتُ: يا عُمَرُ، كلُّ عَلامَاتِ النُّبُوَّةِ قَدْ عَرَفْتُهَا في وَجْهِ رَسولِ اللَّهِ حِينَ نَظَرْتُ إلَيْهِ إلا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْتَبِرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الجَهْلِ عَلَيْهِ إلا حِلْماً، فَقَد اخْتَبَرْتُهُمَا، فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قد رَضيتُ باللَّهِ رَبّاً، وبالإِسلامِ دِيناً، وَبِمُحمَّدٍ نَبِيّاً، وَأُشْهِدُكَ أنَّ شَطْرَ مَالي – فَإِنِّي أَكْثَرُهَا مَالا – صَدَقَةٌ على أُمَّةِ مُحمَّدٍ } (صحيح بن حبان).
ما أحوج الأمة جميعها إلى أخلاق رسول الله الآن، لو عملنا يا جماعة المؤمنين بقول الرحمن لنا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [21الأحزاب].
لو تأسينا برسول الله في: لغة الخطاب، وفي لغة التعامل في المنزل مع الزوجة والأولاد، وفي لغة التعامل مع الجيران، وفي البيع والشراء في الأسواق، وفي لغة التعامل حتى مع الأعداء، لن يكون بين المسلمين مشكلة واحدة لا في منزل ولا مجتمع ولا عمل ولا في سوق، لأنه لن ينهى هذه المشاكل إلا الأخلاق النورانية التي كان عليها خير البرية صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لما تولى سيدنا أبو بكر الخلافة عَيَّنَ قاضياً للمسلمين وهو سيدنا عمر – قاضياً واحداً لكل المسلمين في دائرة واحدة!! ومجلس القضاء في مسجد رسول الله، وليس معه كتبة ولا محامين، ولا جهاز من أجهزة القضاء الموجودة الآن! وكان الراتب يُدفع من بيت المال في كل عام مرة، وبعد عام أراد أبو بكر أن يدفع الراتب للقاضي عمر، فقال له: أنا لا أستحقه لأنه لم تُعرض علىَّ قضية واحدة طوال العام، فقال له كيف؟! قال: {إن قوماً آمنوا بربهم، واتبعوا نبيهم، وجعلوا كتاب الله حَكماً بينهم، لا يحتاجون إلى قاضٍ بينهم}.
وهنا يأتي حديثٌ قصير من أحاديث البشير النذير صلى الله عليه وسلم لو عملنا به لحُلت كل مشاكلنا على مدار أي مكان أو زمان، قال صلى الله عليه وسلم: {لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأِخِيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} (الصحيحان البخارى ومسلم عن أنس رضي الله عنه). لو طبق المسلمون هذا فإنه لن يحدث بينهم مشكلة!، لأني لن أرضى لجارى بما لا أرتضيه لنفسي، ولن أرضاه لزميلي في العمل، ولن أرضاه للتاجر في السوق، ولن أرضاه لأي أحد من المسلمين.
وهذا هو أساس الإسلام وهو التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم .. والتخلق بأخلاقه، فليس التَّأَسِي به في ظاهر العبادات وفقط أو في الشكليات!! {قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلاَنَةً تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ}. (ابن النَّجَّار جامع الأحاديث والمراسيل عن أَبي هُريرةَ رضي الله عنه وتكملة الحديث: {قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلاَنَةً تُصَلي المَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأُقْطِ، وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ}).
مع صلاتها وصيامها هي في النار!! كيف؟ نعم، لأن العبادة أدخلتها من الباب وأخرجها أذاها لجيرانها من الباب الآخر إلى النار، أما باب العبادة الأعظم الذي يحفظ معه العبد من النار ويرقيه العزيز الغفار هو: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾ [45 العنكبوت]. إذا لم تنه الصلاة عن الفحشاء والمنكر فتكون كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: {مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ الله إِلاَّ بُعْداً} (رواه الطبراني في الكبير).
فديننا ليس دين عبادات ظاهرة أو شكليات فقط، وإنما العبادات مع الأخلاق مع المعاملات لابد منها جميعاً، لأن ديننا دين الكمال، فلا يجب أن نأخذ جانباً ونترك بقية الجوانب، بل نأخذ كل الجوانب حتى نكون متَّبِعِين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائرين على هداه.
وأعظم ثمار العبادات الأخلاق الكريمة!! فإذا لم تؤدِ العبادات إلى الأخلاق الكريمة فهي ليست مقبولة عند الله عزَّ وجلَّ، لأنه لو قُبلت العبادات لتغيرت العادات والأخلاق والمعاملات وصارت تبعا لكتاب الله وسنة حبيب الله ومصطفاه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
*****************
http://www.fawzyabuzeid.com/table_books.php?name=%C7%E1%D3%D1%C7%CC%20%C7%E1%E3%E4%ED%D1&id=42&cat=4
من كتاب: (السِّرَاجُ المُنِير)
فضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد
رئيس الجمعية العامة للدعوة إلى الله – جمهورية مصر العربية
كانت هذه المحاضرة بالإسكندرية بتاريخ 25 ربيع الأول 1431هـ الموافق 11 مارس 2010م