... الإنسان الصادق هو الذى لا يشغل البال إلا بالواحد المتعال،
ويكون عنده ورع فى الكلام، لا يقول إلا ما يرضى الله،
فلا يقع فى غيبة ولا نميمة ولا كذب ولا زور ولا كلمة شرور ولا كلمة فجور.
انظر إلى كبير المراجعين لحديث النبى الأمين وهو الإمام البخارى فى لحظة وفاته عندما رأى من حوله يبكون فقال لهم: لِمَ تبكون وها أنا ذا تُطوى صحيفتى
ولم يكتب علىَّ غيبة واحدة ولا كذبة واحدة طوال حياتى؟! لأنه يراجع كل يوم، فالذى سيسمح بالقليل فإنه سيحدث منه الكثير ولا يدرى وسيكون من المسرفين:
(إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )[31الأعراف]
إياك أن تُبح لنفسك بكذب قليل ولو فى لهو،
وإياك أن تبح لنفسك بغيبة ولو حتى لحيوان أعجمى، ومثال ذلك:
علَّم المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام الحواريين وهم المريدون عندما مر معهم على جيفة كلب فتقززوا من رائحة نتنه!! ففى الحديث الشريف:
{ عيسى ابن مريم ما عاب شيئا قط، فمر هو وأصحابه على كلب ميت، فقال له بعضهم: ما أنتن ريحه فقال عيسى بن مريم: ما أبيض أسنانه }[1]
فلماذا تنظر إلى الشئ السيئ؟ و لا تنتبه إلا إلى السىء؟
لكن انظر إلى الجميل فيه، وهذا ما يقولون عليه فى علوم الإدارة وتطوير الذات الحديثة " النظر إلى النصف الممتلىء من الكوب! وليس للنصف الفارغ!"
لماذا؟ حتى تُعود نفسك على الجمال فى كل الأحوال .. وتجعل نفسك تبحث عن الجمال فى إخوانك وفى تصرفاتهم! وذلك حتى يواجهك الجميل عزوجل بمنازل الرجال ومقامات الفحول التى يتفضل بها عطاءاً ونوالاً لأهل هذا الحال.
والورع فى الأقوال هو المقام الأعظم، ولذلك تجد الصادقين صامتين،
لا يتكلمون إلا فى الضرورات لقوله صلى الله عليه وسلم:
{ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرا أَوْ لِيَصْمُتْ } [2]
أما الذين يتكلمون فى كل أحواهم بداع أو بدون داع يقول فيهم حضرة النبى صلى الله عليه وسلم فى حديثه الشريف الذى يعرفنا من أحب الناس إلى الحبيب وأقربهم منه:
{ إنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إلَيَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقاً، وَإنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ }[3]
الثرثارون هم كثيرى الكلام أما المتفيهقون فهم الذين يرون أنفسهم علماء وهم غير ذلك، هؤلاء يبغضهم رسول الله لأنهم كثيروا الزلل، وكثير الزلل كثير الخطل ولا يجوز أن يكون سالكاً فى طريق الله عزوجل.
إذاً لابد أن يكون: .. ورعاً عن الكلام ... وورعاً عن المطعم الحرام ... وورعاً عن جميع الذنوب والآثام ... ويكون الحال الذى بينه وبين الله:
أن يراقب الله جل فى علاه فى الخلوة كما يراقبه فى الجلوة، يراقب الله عزوجل فى السر كما يراقبه فى العلانية، يراقب الله عزوجل بينه وبينه كما يراقب الله عزوجل أمام خلقه، وهؤلاء بشراهم يقول فيها صلى الله عليه وسلم:
{إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أَنْبَتَ اللَّه تَعَالَى لِطَائِفَةٍ مِنْ أُمَّتِي أَجْنِحَةً فَيَطِيرُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَى الجِنَانِ يَسْرَحُونَ فِيها وَيَتَنَعَمُونَ فِيها كَيْفَ شَاؤُوا، فَتَقُولُ لَهُمُ المَلائِكَةَ: هَلْ رَأَيْتُمُ الحِسَابَ؟ فَيَقُولُون: ما رَأَيْنَا حِسَاباً، فَتَقُولُ لَهُمْ: هَلْ جُزْتُمُ الصِّرَاطَ؟ فَيَقُولُونَ: ما رَأَيْنَا صِرَاطاً، فَتَقُولُ لَهُمْ: هَلْ رَأَيْتُمْ جَهَنَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: ما رَأَيْنَا، فَتَقُولُ المَلائِكَة: مِنْ أُمَّةِ مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، فَتَقُولُ: نَاشَدْنَاكُمْ اللَّهَ حَدِّثُونا ما كَانَتْ أَعْمَالُكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُونَ: خَصْلَتَانِ كَانَتَا فِينا فَبَلَغْنَا هذِهِ المَنْزِلَةَ بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَيَقُولُونَ: وَما هُمَا؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا إذا خَلَوْنَا نَسْتَحِي أَنْ نَعْصِيه وَنَرْضَى بِاليَسِيرِ مِمَّا قُسِمَ لَنَا، فَتَقُولَ المَلائِكَةُ: يَحِقُّ لَكُمْ هذا}[4]
وهذا هو ما بينك وبين الله:
- "كنا إذا خلونا نستحى أن نعصى الله" وهذا هو مقام المراقبة.
- "وكنا نرضى بالقليل من الرزق" وهو مقام الورع في المطعم.
[1] مصنف عبد الرازق الصنعانى، وجامع معمر بن راشد عن إبان
[2] صحيح مسلم عن أبى هريرة
[3] رواه أحمد والطبراني، وابن حبان في صحيحه عن جابر
[4] رواه ابن حبان في الضعفاء وأبو عبد الرحمن السلمي من حديث أنس مع اختلاف،.