لو تتبعنا سنة الحبيب التي نعرفها في العيد ونستسهلها وربما لا يلقى بعضنا لها بالاً لوجدنا لنا فيها جميعاً أمر رشيد فإنه يأمرنا ليلة العيد أن نغتسل ثم نلبس أحسن ما عندنا ثم نخرج في الصباح مهللين مكبرين إلى بيت ربنا ثم نصلي العيد ونستمع الوعظ الرشيد ثم نرجع من طريق غير الذي عدنا منه فلماذا هذه السنن النبوية؟ إنه يشير لنا جميعاً معشر الأمة المحمدية إلى نعم الله الجلية لنا في يوم العيد وليلة العيد إن الرجل منا إذا ولد فإن أول خطاب يأتيه من الله فبمجرد نزوله من بطن الأم يستهل صارخاً وإذا بالملائكة يحولون التحويلة الإلهية على أذنه ويقولون له أصغي جيداً هذا ربك يخاطبك فيقول الله له كما ورد في الأثر عن بعض الصالحين {إن لله تعالى إلى عبده سرين يسرهما إليه على سبـيل الإلهام: أحدهما: إذا خرج من بطن أمه يقول له: عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً واستودعتك عمرك وائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر إليَّ كيف تلقاني والثاني: عند خروج روحه يقول: عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك هل حفظتها حتى تلقاني على العهد فألقاك على الوفاء أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب}[1] خلقتك طاهراً نظيفاً ليس من الأوساخ والقاذورات ولكن طاهراً من النفاق وطاهراً من الكذب وطاهراً من الغش وطاهراً من الخيانة وطاهراً من كل هذه الأمراض الباطلة (الباطنة) التي حذرنا الله منها ونهانا الرسول عنها فإذا مشى الإنسان في دنياه كان لابساً على فؤاده ثياب تقوى الله {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}هذا اللباس الذي يلبسه المؤمنون لباس التقوى ورداء التقوى هو الذي يجعل الإنسان منا يستحي أن يعصي الله ويحس بالندم وبوخز الضمير وبالتأنيب والتعنيف إذا وقع في جريمة في حق نفسه أو إخوانه أو في حق الله هذا اللباس الطيب الذي تفضل الله به على المؤمنين ولم يعطه للكافرين ولو دفع الإنسان منهم ملء الأرض جميعاً ما كان لهم خيطاً واحداً من هذا الثوب ثوب التقى والهدى والغنى والعفاف الذي زينكم به الله وهذا هو الذي يقول فيه {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي خذوا زينتكم التي زينكم بها الله في السر والعلانية وإلا لو لبس رجل منا أحسن ما عنده من الثياب ووضع فوق جسمه قارورة من العطر الطيب ودخل وقلبه مملوء بالأحقاد أو الأحساد أو الغل أو الحرص أو الغيظ على عباد الله المؤمنين فإنه لن يدخل بالثوب الذي ارتضاه وزينه به رب العالمين
أولى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم الزيارة في الثوب الذي خلعَ
خلع: خلعه عليك أي ألبسك إياه فأولى الملابس أن نلقى بها الله في بيت الله الثوب الذي ألبسه لك الله وهو ثوب الإسلام والإيمان والتقى ومراقبة الديان فالإنسان يسير في دنياه فيتسخ الثوب واتساخه من الذنوب ومن العيوب ومن مخالفة علام الغيوب وقد قال في ذلك النبي {إِنّ العَبْدَ إذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ في قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءٌ فإِذَا هو نَزَعَ واستَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُه وَإنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُو قَلْبَهُ وهُوَ الرَّانُ الذَّي ذَكَرَ الله [يعني الغطاء] ثم تلا قول الله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}[2] هذه الذنوب هي التي تباعد المرء عن طاعة علام الغيوب فتجعله لا يميل إلى استماع كلام الله ولا يحب أن يسمع كلمات الوعظ من العلماء بالله وتجعله يتهافت على المعاصي ويميل إلى الشرور والآثام لأن الذنوب تجعل على قلبه حاجزاً بينه وبين الملك العلام وهذه الذنوب صنفان ذنوب صغيرة وهذه تزول بسرعة بالصلوات المكتوبات كما قال الله {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي بالصلاة {وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً} يوم لقاء الله وقد قال النبي{أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْراً بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لاَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ قَالَ: فَذلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو الله بِهِنَّ الْخَطَايَا }[3] فالصلوات الخمس تجدد ثوب القلب وتغسله من المعاصي والذنوب والخطايا الصغيرة أما الذنوب الكبيرة وأما الخطايا العظيمة فتحتاج إلى غسيل خاص وإلى مسحوق للغسيل خاص وإلى نظام خاص فجعل الله لها هذا الشهر الكريم فهذا شهر يتفضل فيه الملك الكريم فيأخذ ثيابنا الداخلية ثيابنا القلبية ويطهرها من الذنوب والآثام ما صغر منها وما كبر ما ظهر منها وما بطن ما عظم منها وما قل وإذا كانت ليلة العيد ألبسك ثوباً تقياً نقياً طاهراً كالثوب الذي كنت تلبسه عند خروجك إلى دار الدنيا عند مولدك ولذا أمرك النبي الكريم أن تغتسل إشارة لك أنك اغتسلت من الذنوب كلها باطناً فاغسل نفسك ظاهراً لكي تكون ظاهراً وباطناً طاهراً نظيفاً للقاء الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وأمرك سبحانه أن تلبس الثوب الجديد ثوب التقى ثوب النقا ثوب الهدى ثوب الإيمان ثوب مراقبة الديان وتقلع عما كنت فيه قبل رمضان من الغي ومن القبيح ومن النوايا السيئة ومن القصود الفاسدة ومن الأهواء المهلكة ومن الشهوات المردية واعقد العزم مع الله على أنك لن تعود إليها أبداً بعدما طهرك الله ونظفك الله ونقاك الله وجعلك من عباده المتطهرين فإذا جئت إلى بيت الله فأنت تكبر الله كأنك لا ترى شيئاً في عينيك ولا في فؤادك ولا في قلبك أكبر من الله فقد كنت قبل رمضان يغلب عليك أشياء في الدنيا تسيطر عليك وتغلب عليك وهي أحب إليك من طاعة الله أحياناً فإذا ناداك الله تكاسلت في الذهاب إلى الصلاة لانشغالك بمباراة أو لمشاهدتك لمسلسل يغضب الله أو لحديث في القيل والقال لا يرضي الله كل هذه وغيرها تمنعك من المسارعة لنداء الله وهو يقول لك حي على الصلاة حي على الفلاح يعني أقبل على الفلاح فإذا كنت في عمل فيقول لك {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}فإذا دخلت في الصلاة وقلت الله أكبر أمر الله الملائكة أن تنظر في قلبك فربما وجدت قلبك يغلب عليه حب الدنيا فتقول لك كذبت الدنيا في قلبك أكبر وربما وجدت قلبك ينظر إلى فاتنة أو غانية فتقول لك كذبت النساء في قلبك أكبر وربما وجدت قلبك كل همه في الحصول على المال والحصول على المادة التي كتبها الله وقدرها الله ولن يموت واحد منكم إلا ويقبض بيده ما صرفه له الصراف الأكبر وهو الرزاق الكريم فتقول لك الملائكة كذبت المال في قلبك أكبر لابد عندما تقول في الصلاة الله أكبر أن تخلع من قلبك كل الأنداد وكل الشركاء فلا يكن في قلبك حب يساوي حب الله حتى لنفسك وحتى لزوجك وحتى لولدك فهؤلاء في المرتبة الثانية أو الثالثة بعد حب الله ورسوله قال النبي {لا يؤمنُ أحدُكُم حتى أكُونَ أحَبَّ إليه من وَلَدِهِ وَوالِدِهِ ونفسه والناسِ أَجْمَعِين}[4] وهذا قول الله محذراً لنا {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ} إذا كان واحد من هذه الأصناف أحب إليك من الله ورسوله فتربص بنفسك السوء واخش على نفسك المقت من الله والغضب من الله لأنك عظمت ما حقَّر الله ولم تعظم ما عظم الله أما المؤمن فهو الذي يعظِّم الله في وقت الصلاة فقد كان النبي كما تقول السيدة عائشة {كان رسول الله يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه }[5] وعن الأَسْودِ بنِ يَزِيدَ قَالَ {قُلْتُ يَا عَائِشَةُ أَيُّ شَيْءِ كَانَ النبيُّ يَصْنَعُ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ في مَهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ قَامَ فَصَلَّى} لماذا؟ لانشغاله بالله عن كل شئ سواه فإذا تم للعبد المؤمن هذه الفرحة كان الله في قلبه أكبر من كل شئ فعندما يقف بين يدي الله وقد ترك تجارته أو ترك عمله أو ترك حديثه أو ترك مشاهداته ويقول الله أكبر تقول له الملائكة صدقت الله أكبر في قلبك من كل شئ، فنكبر الله لأننا نعلن بذلك لله ونعلن بذلك لملائكة الله ونعلن بذلك لأرض الله فإن الأرض ستشهد لنا عند الله قال النبي{إنه لا يَسْمَعُ مدى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ }[6] فأنت إذا كبرت فأنت تؤذن لله فكل من يسمعك سيشهد لك عند الله يوم القيامة بأنك كبرت الله وأعليت شأن شريعة الله وصارت في المحل الأعلى من قلبك وصرت من عباد الله الصالحين فإذا دخلت إلى الصلاة يأمرك رسول الله أن تصحب معك أهلك حتى زوجتك حتى ولو كانت حائضاً لأنه أمرهم أن يصحبوا الحيض ولا يمنعونهن من حضور الخير في ذلك اليوم فكنَّ الحيض يجلسن على جانب المصلى ليشهدن الخير لماذا؟ لأن الله يدعوك ليكرمك وليجزيك ليجزل لك الأجر العظيم وأنت إذا دعاك رجل في الدنيا كريم لتكريمك تصحب من استطعت وتدعو من عرفت ليشهدوا تكريمك وليروا تنصيبك وتعظيمك وفى الحقيقة فإنهن يحضرن تكريمهن أيضا في هذا اليوم فقد صمن كما صام أزواجهن ويتسلمن أوسمتهم كما يتسلم أزواجهن فما بالنا وأكرم الأكرمين يكرمنا جميعاً في هذا اليوم العظيم وقد أمرنا رسولنا الكريم أن نرجع من طريق غير الذي جئنا منه يعني أننا إذا كنا جئنا إلى بيت الله وفي قلوبنا ولو بعض الذنوب ولو بعض العيوب ولو بعض الإحن والضغائن أن نرجع من طريق يقول فيه الله {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} إذا كنا عندنا بعض النوايا بالشرور نجعلها نوايا في طاعة العزيز الغفور إذا كان عندنا تكاسل عن الطاعات والقربات نجعل عندنا عزيمة على عمل الصالحات ونحن في طريق عودتنا بجب أن نكون أفضل منا عند ذهابنا وتكوم عزيمتنا أقوى على الاستمرار وعلى أن نكون أهلاً دائما لهذه الأوسمة والنياشين التي عدنا بها إذا خرجنا جميعاً من صلاتنا بعد صيامنا بهذه الكيفية فإن ذلك يحل كل المشكلات الاجتماعية فإن الصيام جعله الله علاجاً لمشكلاتنا فإن مشكلاتنا التي تؤرقنا مشكلة القوت ومشكلة الغش ومشكلة الكذب ومشكلة الخيانة وكلها مشكلات جعلناها على الهامش من ديننا أي أن الرجل في زعمه أنه إذا أدى الصلاة وكذب فلا شئ عليه وإذا أدى الصلاة وخان فلا شئ عليه وإذا صام رمضان وغش فلا شئ عليه وكذب وكذبه الله وكذبه رسول الله فإن ديننا لا يفرق بين ترك الصلاة والكذب ولا يفرق بين ترك الصلاة والغش ولا يفرق بين ترك الصلاة والخديعة ولا يفرق بين ترك الصلاة وترك الأمانة ولا يفرق بين ترك الصلاة والتهاون بكل هذه الفضائل فقد قيل له ذات مرة {إِنَّ فُلاَنَةً تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا قَالَ: هِيَ فِي النَّار}[7] مع صلاتها ومع صيامها لا خير فيها لأنها فرقت بين العبادات وبين الأخلاق والمعاملات التي جاء بها فلم يعد الواحد منا يأمن أخاه ولا يثق في كلام أخيه حتى ولو حلف له بالله لا يصدقه بل إنه أحياناً لأنه يعلم ضعف إيمانه لا يرضى له الحلف بربه ويحلفه بزوجه وكأن زوجه أغلى عليه من ربه ويقول له لا أرضى حتى تحلف بالطلاق والذي يحلف بالطلاق معناه أن زوجته عنده أغلى من الله يا قوم ما هذا الذي نحن فيه؟وما هذا الذي وصلنا إليه؟إن هذا لأن قوماً زعموا أنهم إذا أدوا الصلاة وحافظوا على الصيام ووقعوا في هذه الذنوب العظام فلا عليهم شئ وهذا يقول فيه الله {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}
[1] إحياء علوم الدين ، وتفسير نظم الدر للبقاع
[2] رواه الترمذي عن أبي هريرة
[3] رواه مسلم والإمام مالك في الموطأ وأحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه عن جابر بن عبد الله
[4] رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده والبخاري في صحيحه والنسائي في سننه عن أنس
[5] ورد فى طبقات الشافعيه الكبرى أنه رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق مرسلا، كما جاء فى الأزدى فى الضعفاء
[6] صحيح البخارى عن أبي سعيد
[7] رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة