الحمد لله ربِّ العالمين، العفو الغفور، الرءوف الرحيم، الشفوق العطوف، الحنان المنان الذي لا يؤاخذنا بأعمالنا ولا يحاسبنا على أفعالنا، بل يقابلها بمحض جوده وكرمه وغفرانه، وهو أرحم الراحمين. سبحانه .. سبحانه، نعصاه فيسترنا، وإذا رجعنا إليه تائبين أقال لنا عثراتنا، وغفر لنا زلاَّتنا، لأنه سبحانه وتعالى عفو كريم يحبُّ العفو عن عباده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، يحبُّ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ كان على خُلُقِه. وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ اللهِ ورسولُه، وصفيُّه من خلقه وخليلُه، الذي أدَّبه مولاه بما يحبُّه ويرضاه، فكان نعم العبد الذي يتخلَّق بأخلاق مولاه، ويسير على نهجه وهُداه، حتى قال لنا في شأنه صلَّى الله عليه وسلَّم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4القلم).
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد صاحب الخُلق العظيم، وآله وأصحابه الذين ساروا على نهجه القويم، وانظمنا معهم في عقد معيتهم بفضلك ومنّك وجودك يا حنان يا كريم. أما بعد ...
فيا إخواني ويا أحبابي: يظن كثيرٌ من الناس أن العبادات الإسلامية التي عليها المكافآت الإلهية، وبها دخول الجنان الرضوانية هي الصلاة والصيام والزكاة والحج وفقط، لكن هناك عبادات أعظم في الأجر والثواب من هذه العبادات - حرص عليها رسولكم الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وبها أدَّب أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وهى عبادة النبيِّين وعبادة المرسلين. تلك العبادات: عبادة العفو والصفح.
وهل العفو عبادة؟ نعم، بل أكبر عبادة يُثاب عليها المرء يوم لقاء الله عزَّ وجلَّ، حتى أن أول فوجٍ يدخل جنة الله، يقول فيهم سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذا كان يوم القيامة يُنادى منادِ الله عزَّ وجلَّ على أهل الفضل - قالوا: يا رسول الله، ومن أهل الفضل؟، قال: "العافين عن الناس"، وجوههم تتلألأ كالقمر في ليلة التمام) .
فيكون أول فوجٍ يفرُّ من الزحام ويدخلون الجنة بسلام - كما أنبأ النبيُّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (134آل عمران). لماذا كان أهل العفو أوّل فوجٍ يدخل الجنة بعد النبيِّين والمرسلين؟
لأن أول خُلُقٍ تخلَّق به الأنبياء والمرسلون - وأمرهم الله عزَّ وجلَّ أن يتخلقوّا به في كل وقتٍ وحين - هو العفو: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْر﴾ (159آل عمران). أمر الله حبيبه ومصطفاه بالعفو، فتخلقّ بهذا الخُلُقِ الكريم في كل أحواله وفى كل أحيانه.
وعندما كان في إحدى الغزوات ونزل المطر من السماء وابتلت ثيابه بالماء، فذهب خلف شجرة وخلع ثيابه ووضعها فوق هذه الشجرة لتجِفَّ، واستلقى على ظهره تحتها فنام، والأعداء يتربصون بالمسلمين من فوق رؤوس الجبال، فقال أحدهم: هذه فرصة لن تلوح لكم مثلها أبداً، فمحمد نائمٌ بمفرده تحت الشجرة، وأصحابه قد انفصلوا عنه، ونزل إليه رجلٌ، وكان صلى الله عليه وسلَّم نائماً - فلما وجده نائماً جذب سيف رسول الله صلى الله عليه وسلمّ من على الشجرة ثم أيقظه، لأنهم لايقتلون غيلة، وكان يستطيع أن يقضى عليه وهو نائم، لكنهم مع أنهم لم يدخل الإيمان إلى قلوبهم، ولم تنطق بالتوحيد ألسنتهم، إلا أنهم كانوا لا يغدرون، ويعتبرون من يغدر قد ارتكب ظلماً عظيماً وجرماً كبيراً، ويشيع أمره بين الناس أجمعين.
فأيقظه من نومه وقال له: يا محمد، من يمنعك منى الآن؟ قال:" الله ". فشُلتّ يده، وسقط السيف من يده في الحال. فأمسك صلى الله عليه وسلَّم بالسيف وقال له: (ومن يمنعك منى الآن؟ قال: عفوك وحلمك وكرمك، قال: عفوت عنك) .
جاء ليقتله، ومكنَّه الله عزَّ وجلَّ منه، لكنه وهو العفوُّ الذي جمَّله الله بالعفو، وتخلقّ بخلق العفو، عفا عنه. وكذلك مَنْ جمَّلهم الله بالتوحيد، وتابعوه فإن لهم المزيد.
وأنتم تعلمون جميعاً ماذا فعل فيه قومه ومَنْ حوله من أصناف الإيذاء، ومن أنواع العذاب، وعندما دخل عليهم بأمر الله فاتحاً، هرب كلُّ واحدٍ منهم، حتى أنَّ منهم مَنْ وصل إلى شاطئ بلاد اليمن هارباً، وهم يظنون أنه سيفعل بهم الأفاعيل لأن الله عزَّ وجلَّ مكَّنه منهم، فوقف على باب الكعبة وقال: {(يا معشر قريش، ما تظنون أنِّي فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء، لا أقول لكم إلاَّ كما قال أخي يوسف لإخوته: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (92يوسف).
فجاءه نفرٌ وقالوا: يا رسول الله، إن ابن عمِّك صفوان بن أمية خرج ووصل إلى شاطئ اليمن خائفاً منك، قال: أمِّنُوه وقولوا له ارجع فلن ترى إلا خيراً. فذهبوا إليه وقالوا: لا تخف، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفاً فقال: يا صفوان ماذا يرضيك؟!! قال: أن تعفو عنِّى يا رسول الله. قال: قد عفوت عنك، ثم أعطاه بعد عزوة حنين غنماً سدت ما بين جبلين، تزيد على الخمسة آلاف رأس، فقال صفوان: "لا تطيب بهذا إلا نَفْسُ نَبِيّ، والله يا رسول الله لقد جئتك وأنت أبغض الخَلْقِ إلىَّ، والآن صِرْتَ أحبَّ الخَلْقِ إلىَّ"} .
خلقٌ كريمٌ صنعه النبيُّ العظيم صلى الله عليه وسلم، وأسَّس شريعته على هذا الخُلُق.
وعندما حجَّ حَجَّةَ الوداع، وخطب خطبته العصماء على جبل عرفة، أنهى كلَّ عادات الجاهلية، وأعلن بدء وجود العادات والأخلاق الإسلامية وقال: (إنَّ رِبَا الجاهلية موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وقضى الله أنَّه لا رِبَا، وإنَّ أول رِبًا أبدأ به عمي العباس بن عبد المطلب، وإنَّ دماء الجاهلية موضوعة، وإنَّ أوَّلَ دَمٍ نبدأ به دَمُ عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدنة والسقاية. والعَمْدُ قَوْدٌ، وشِبْهُ العَمْدِ ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد) . وفى رواية: (وإن دماء الجاهلية قد انتهت فلا تطالبوا بدمٍ منها - لأنه جاء دين العفو - وأول دمٍ دمُ ابن عمى سفيان بن الحارث).
وكان قد قُتِلَ أبوه ويطالب بدمه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمهم العفو والسماح ، وبدأ بنفسه صلى الله عليه وسلم ليعلِّمَنا أن ديننا هذا هو دين: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (134آل عمران).
والأمثلة كثيرة في هذا المجال، ولا أريد أن أطيل عليكم، ولكن لنا مثلٌ واحدٌ عند الأصحاب، فقد يقول البعض: هذا نبيُّ الله، وله حالٌ خاصٌ مع الله، لكن انظروا إلى أصحابه!!
فهذا أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه يتولَّى ابن خالته مُسطح بن أثاثه - يُطعمه ويُنفق عليه، ويكسوه، ويُعطيه كل ما يحتاج إليه، ويُروِّج المنافقون حادثة الإفك للحبيبة زوجة الرسول السيدة عائشة، ويتلقَّف مُسطح الخبر وينشره في كل أرجاء المدينة، ويتوّلى هو تدبيره، ويتوّلى هو نشره، ويتولى هو إذاعته في كل أنحاء المدينة!!!، فتراود نَفْسُ أبي بكرٍ أن يقطع عنه المعونة ولا يكفيه بالنفقة - لا يفكر أن يقتله أو أن يؤدبه، لأن هذا لم يكن يدور في تفكيرهم لإخوانهم المؤمنين والمؤمنات، لكن كل الذي فكَّر فيه هو أن يقطع عنه النفقة التي كان يعطيها له - وإذا بالله عزَّ وجلَّ ينزل قرآناً خاصّاً له ويقول له: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (22النور).
فعندما قرأها رسول الله، قال: (بلى يا ربِّ أحب أن تغفر لي، عفوت عنه). رغم ما فعل وما قال، لأن الله عزَّ وجلَّ يغفر ويعفو عمن يعفو عن إخوانه، ويحاسب بشدّة من يحاسب إخوانه بشدّة من حاسبهم بشدة وتعنت معهم، فالله عزَّ وجلَّ يعاملنا بما نعامل به إخواننا.
لقد روى نبيُّكم الكريم صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً أمر الله عزَّ وجلَّ به في النار، فقالت الملائكة: أليس لك عملاً صالحاً تذكره لله عزَّ وجلَّ ليعفو عنك؟ قال: لا، ثم تذكّر وقال: إني كنت أعمل تاجراً، وكنت آمر صبياني أن يتجاوزوا عن المُعسر وينتظروا حتى يُوسر، فقال الله عزَّ وجلَّ: تجاوزتُ عن عبدي، وأنا أحق بالتجاوز والعفو، وأنا أرحم الراحمين) ، عفونا عنك بعفوك عن الناس، أدخلوه الجنة لأنه كان يعفو عن الناس، ويتجاوز عن الناس، ولا يشكوهم لجهات حكومية مطالباً بالشيكات والكمبيالات التي يستدينون له فيها، بل ينظِرهم ويُمهلهم حتى يُوسع الله عليهما، ويعفو عن الذي ليس في استطاعته السداد.
عباد الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم معلماً داعياً مولاه: (اللهم إنك عفو كريمٌ تُحب العفو فا عفُ عنا) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جاءه أخوه متنصلاً -ـ أي: معتذراً - فليقبل منه، مُحقًّا كان أو مُبطلاً، فإن لم يقبل منه لم يرد علىّ الحوض) . وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة، يُنادى منادٍ من قدَّام العرش: يا عبادي، أما ما كان بيني وبينكم فقد غفرته لكم، وأما ما كان بينكم وبين بعضكم فتجاوزوا عنه وادخلوا الجنة برحمتي). أو كما قال، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، نَحْمِدُكَ اللهمَّ سبحانك على أن هديتنا إلى هذا الدين، وعمَّرت قلوبنا بالهدى واليقين، وحبَّبتَ إلينا الإيمان وزينته في قلوبنا، وكرَّهتَ إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وجعلتنا من الراشدين، ونسألك سبحانك أن تديم علينا هذا الحال حتى تتوفانا مسلمين، وتلحقنا بالصالحين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ بالجُودِ معروف، وبالخير موصوف. وأشهد أن سيدنا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ ورسولُه، وصفيُّه من خَلْقِهِ وخليلُه.
اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وأعطنا الخير وادفع عنه الشرّ، ونجِّنا واشفنا، يا ربَّ العالمين. أما بعد ....
فيا إخواني ويا أحبابي: يظن الناس أن الإنسان لو عفا سيقولون عنه إنه ضعيف، أو إنه عاجز، أو إنه غير قوى، وهذا ما يردِّده أهل النفاق لإخوانهم حتى يمنعوهم عن الوفاق! وأهل النفاق يحذرهم الله ويقول لهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسفل مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ (145النساء). لأنهم يعكِّرون صفو القلوب، ويثيرون الإحن والفتن بين النفوس.
مع أن رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم يُبين أنَّ هناك عبادة لا يُساويها قيام الليل ولا صيام النهار ولا تلاوة القرآن في كل حركة وسكنه!! فما هذه العبادة؟!! اسمعوه وهو يقول لكم: (ألا أنبئكم بما هو خيرٌ لكم من الصلاة ومن الصيام ومن الزكاة والحج؟ -ويقصد بذلك النوافل – قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين) .
الذي يسعى للصلح بين المؤمنين له أجرٌ عند ربِّ العالمين خيرٌ من القائمين لله في الأسحار، وخيرٌ من الصائمين أكثر أيام العام، وخيرٌ من الذين يحجُّون لله كل عام بعد حجة الإسلام. لماذا؟ لأنه يسعى للوفاق بين إخوانه المؤمنين، وبين أهل بلده من المسلمين!
فإذا فسدت نفوسنا، وقطعنا أرحامنا، فإنا بعد ذلك ندمر قيم ديننا، ونقضى على تعاليم قرآننا، لأن نفوسنا تحرِّكنا إلى الشرِّ وإلى الضُرِّ الذي نهانا الله والنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حذَّرنا منه - والنفس في غوايتها تعمى عن أوامر الله، وتسهو عن أحاديث رسول الله - مع أن في هذا هلاكها والعياذ بالله والله عزَّ وجلَّ يقول : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ (9، 10الشمس). كل الذي يعفو يقول فيه رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزًّا) .
ولو نظرنا على مدى الدهر، ما الذي جعل الأولياء أولياء؟!! وجعل الصالحين صالحين؟!! هو تحمُّلهم الأذى عن الخلق، وعدم مكافأتهم السيئة بالسيئة، بل يكافئون السيئة بالحسنة!! فكلَّما زاد الإيذاء كلَّما ظهرتْ قوَّةُ الصَّبر والتحمُّل من الصالحين والأوفياء رضي الله عنهم وأرضاهم.
إخواني وأحبابي: لا تضيِّعوا دينكم فإنه أعزُّ شيءٍ تخرجون به من هذه الحياة، وأنتم خارجون للقاء الله عزَّ وجلَّ تحرصون على الإيمان، وتحرصون على تعاليم الإيمان، وتتمسكون بأخلاق النَّبِيِّ العدنان، حتى يكرمنا الله عزَّ وجلَّ بما أكرم به أهل القرآن.
........ ثم الدعاء ........
*******************************
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، يحبُّ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ كان على خُلُقِه. وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ اللهِ ورسولُه، وصفيُّه من خلقه وخليلُه، الذي أدَّبه مولاه بما يحبُّه ويرضاه، فكان نعم العبد الذي يتخلَّق بأخلاق مولاه، ويسير على نهجه وهُداه، حتى قال لنا في شأنه صلَّى الله عليه وسلَّم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4القلم).
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد صاحب الخُلق العظيم، وآله وأصحابه الذين ساروا على نهجه القويم، وانظمنا معهم في عقد معيتهم بفضلك ومنّك وجودك يا حنان يا كريم. أما بعد ...
فيا إخواني ويا أحبابي: يظن كثيرٌ من الناس أن العبادات الإسلامية التي عليها المكافآت الإلهية، وبها دخول الجنان الرضوانية هي الصلاة والصيام والزكاة والحج وفقط، لكن هناك عبادات أعظم في الأجر والثواب من هذه العبادات - حرص عليها رسولكم الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وبها أدَّب أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وهى عبادة النبيِّين وعبادة المرسلين. تلك العبادات: عبادة العفو والصفح.
وهل العفو عبادة؟ نعم، بل أكبر عبادة يُثاب عليها المرء يوم لقاء الله عزَّ وجلَّ، حتى أن أول فوجٍ يدخل جنة الله، يقول فيهم سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذا كان يوم القيامة يُنادى منادِ الله عزَّ وجلَّ على أهل الفضل - قالوا: يا رسول الله، ومن أهل الفضل؟، قال: "العافين عن الناس"، وجوههم تتلألأ كالقمر في ليلة التمام) .
فيكون أول فوجٍ يفرُّ من الزحام ويدخلون الجنة بسلام - كما أنبأ النبيُّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (134آل عمران). لماذا كان أهل العفو أوّل فوجٍ يدخل الجنة بعد النبيِّين والمرسلين؟
لأن أول خُلُقٍ تخلَّق به الأنبياء والمرسلون - وأمرهم الله عزَّ وجلَّ أن يتخلقوّا به في كل وقتٍ وحين - هو العفو: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْر﴾ (159آل عمران). أمر الله حبيبه ومصطفاه بالعفو، فتخلقّ بهذا الخُلُقِ الكريم في كل أحواله وفى كل أحيانه.
وعندما كان في إحدى الغزوات ونزل المطر من السماء وابتلت ثيابه بالماء، فذهب خلف شجرة وخلع ثيابه ووضعها فوق هذه الشجرة لتجِفَّ، واستلقى على ظهره تحتها فنام، والأعداء يتربصون بالمسلمين من فوق رؤوس الجبال، فقال أحدهم: هذه فرصة لن تلوح لكم مثلها أبداً، فمحمد نائمٌ بمفرده تحت الشجرة، وأصحابه قد انفصلوا عنه، ونزل إليه رجلٌ، وكان صلى الله عليه وسلَّم نائماً - فلما وجده نائماً جذب سيف رسول الله صلى الله عليه وسلمّ من على الشجرة ثم أيقظه، لأنهم لايقتلون غيلة، وكان يستطيع أن يقضى عليه وهو نائم، لكنهم مع أنهم لم يدخل الإيمان إلى قلوبهم، ولم تنطق بالتوحيد ألسنتهم، إلا أنهم كانوا لا يغدرون، ويعتبرون من يغدر قد ارتكب ظلماً عظيماً وجرماً كبيراً، ويشيع أمره بين الناس أجمعين.
فأيقظه من نومه وقال له: يا محمد، من يمنعك منى الآن؟ قال:" الله ". فشُلتّ يده، وسقط السيف من يده في الحال. فأمسك صلى الله عليه وسلَّم بالسيف وقال له: (ومن يمنعك منى الآن؟ قال: عفوك وحلمك وكرمك، قال: عفوت عنك) .
جاء ليقتله، ومكنَّه الله عزَّ وجلَّ منه، لكنه وهو العفوُّ الذي جمَّله الله بالعفو، وتخلقّ بخلق العفو، عفا عنه. وكذلك مَنْ جمَّلهم الله بالتوحيد، وتابعوه فإن لهم المزيد.
وأنتم تعلمون جميعاً ماذا فعل فيه قومه ومَنْ حوله من أصناف الإيذاء، ومن أنواع العذاب، وعندما دخل عليهم بأمر الله فاتحاً، هرب كلُّ واحدٍ منهم، حتى أنَّ منهم مَنْ وصل إلى شاطئ بلاد اليمن هارباً، وهم يظنون أنه سيفعل بهم الأفاعيل لأن الله عزَّ وجلَّ مكَّنه منهم، فوقف على باب الكعبة وقال: {(يا معشر قريش، ما تظنون أنِّي فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء، لا أقول لكم إلاَّ كما قال أخي يوسف لإخوته: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (92يوسف).
فجاءه نفرٌ وقالوا: يا رسول الله، إن ابن عمِّك صفوان بن أمية خرج ووصل إلى شاطئ اليمن خائفاً منك، قال: أمِّنُوه وقولوا له ارجع فلن ترى إلا خيراً. فذهبوا إليه وقالوا: لا تخف، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفاً فقال: يا صفوان ماذا يرضيك؟!! قال: أن تعفو عنِّى يا رسول الله. قال: قد عفوت عنك، ثم أعطاه بعد عزوة حنين غنماً سدت ما بين جبلين، تزيد على الخمسة آلاف رأس، فقال صفوان: "لا تطيب بهذا إلا نَفْسُ نَبِيّ، والله يا رسول الله لقد جئتك وأنت أبغض الخَلْقِ إلىَّ، والآن صِرْتَ أحبَّ الخَلْقِ إلىَّ"} .
خلقٌ كريمٌ صنعه النبيُّ العظيم صلى الله عليه وسلم، وأسَّس شريعته على هذا الخُلُق.
وعندما حجَّ حَجَّةَ الوداع، وخطب خطبته العصماء على جبل عرفة، أنهى كلَّ عادات الجاهلية، وأعلن بدء وجود العادات والأخلاق الإسلامية وقال: (إنَّ رِبَا الجاهلية موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وقضى الله أنَّه لا رِبَا، وإنَّ أول رِبًا أبدأ به عمي العباس بن عبد المطلب، وإنَّ دماء الجاهلية موضوعة، وإنَّ أوَّلَ دَمٍ نبدأ به دَمُ عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدنة والسقاية. والعَمْدُ قَوْدٌ، وشِبْهُ العَمْدِ ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد) . وفى رواية: (وإن دماء الجاهلية قد انتهت فلا تطالبوا بدمٍ منها - لأنه جاء دين العفو - وأول دمٍ دمُ ابن عمى سفيان بن الحارث).
وكان قد قُتِلَ أبوه ويطالب بدمه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمهم العفو والسماح ، وبدأ بنفسه صلى الله عليه وسلم ليعلِّمَنا أن ديننا هذا هو دين: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (134آل عمران).
والأمثلة كثيرة في هذا المجال، ولا أريد أن أطيل عليكم، ولكن لنا مثلٌ واحدٌ عند الأصحاب، فقد يقول البعض: هذا نبيُّ الله، وله حالٌ خاصٌ مع الله، لكن انظروا إلى أصحابه!!
فهذا أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه يتولَّى ابن خالته مُسطح بن أثاثه - يُطعمه ويُنفق عليه، ويكسوه، ويُعطيه كل ما يحتاج إليه، ويُروِّج المنافقون حادثة الإفك للحبيبة زوجة الرسول السيدة عائشة، ويتلقَّف مُسطح الخبر وينشره في كل أرجاء المدينة، ويتوّلى هو تدبيره، ويتوّلى هو نشره، ويتولى هو إذاعته في كل أنحاء المدينة!!!، فتراود نَفْسُ أبي بكرٍ أن يقطع عنه المعونة ولا يكفيه بالنفقة - لا يفكر أن يقتله أو أن يؤدبه، لأن هذا لم يكن يدور في تفكيرهم لإخوانهم المؤمنين والمؤمنات، لكن كل الذي فكَّر فيه هو أن يقطع عنه النفقة التي كان يعطيها له - وإذا بالله عزَّ وجلَّ ينزل قرآناً خاصّاً له ويقول له: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (22النور).
فعندما قرأها رسول الله، قال: (بلى يا ربِّ أحب أن تغفر لي، عفوت عنه). رغم ما فعل وما قال، لأن الله عزَّ وجلَّ يغفر ويعفو عمن يعفو عن إخوانه، ويحاسب بشدّة من يحاسب إخوانه بشدّة من حاسبهم بشدة وتعنت معهم، فالله عزَّ وجلَّ يعاملنا بما نعامل به إخواننا.
لقد روى نبيُّكم الكريم صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً أمر الله عزَّ وجلَّ به في النار، فقالت الملائكة: أليس لك عملاً صالحاً تذكره لله عزَّ وجلَّ ليعفو عنك؟ قال: لا، ثم تذكّر وقال: إني كنت أعمل تاجراً، وكنت آمر صبياني أن يتجاوزوا عن المُعسر وينتظروا حتى يُوسر، فقال الله عزَّ وجلَّ: تجاوزتُ عن عبدي، وأنا أحق بالتجاوز والعفو، وأنا أرحم الراحمين) ، عفونا عنك بعفوك عن الناس، أدخلوه الجنة لأنه كان يعفو عن الناس، ويتجاوز عن الناس، ولا يشكوهم لجهات حكومية مطالباً بالشيكات والكمبيالات التي يستدينون له فيها، بل ينظِرهم ويُمهلهم حتى يُوسع الله عليهما، ويعفو عن الذي ليس في استطاعته السداد.
عباد الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم معلماً داعياً مولاه: (اللهم إنك عفو كريمٌ تُحب العفو فا عفُ عنا) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جاءه أخوه متنصلاً -ـ أي: معتذراً - فليقبل منه، مُحقًّا كان أو مُبطلاً، فإن لم يقبل منه لم يرد علىّ الحوض) . وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة، يُنادى منادٍ من قدَّام العرش: يا عبادي، أما ما كان بيني وبينكم فقد غفرته لكم، وأما ما كان بينكم وبين بعضكم فتجاوزوا عنه وادخلوا الجنة برحمتي). أو كما قال، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، نَحْمِدُكَ اللهمَّ سبحانك على أن هديتنا إلى هذا الدين، وعمَّرت قلوبنا بالهدى واليقين، وحبَّبتَ إلينا الإيمان وزينته في قلوبنا، وكرَّهتَ إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وجعلتنا من الراشدين، ونسألك سبحانك أن تديم علينا هذا الحال حتى تتوفانا مسلمين، وتلحقنا بالصالحين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ بالجُودِ معروف، وبالخير موصوف. وأشهد أن سيدنا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ ورسولُه، وصفيُّه من خَلْقِهِ وخليلُه.
اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وأعطنا الخير وادفع عنه الشرّ، ونجِّنا واشفنا، يا ربَّ العالمين. أما بعد ....
فيا إخواني ويا أحبابي: يظن الناس أن الإنسان لو عفا سيقولون عنه إنه ضعيف، أو إنه عاجز، أو إنه غير قوى، وهذا ما يردِّده أهل النفاق لإخوانهم حتى يمنعوهم عن الوفاق! وأهل النفاق يحذرهم الله ويقول لهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسفل مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ (145النساء). لأنهم يعكِّرون صفو القلوب، ويثيرون الإحن والفتن بين النفوس.
مع أن رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم يُبين أنَّ هناك عبادة لا يُساويها قيام الليل ولا صيام النهار ولا تلاوة القرآن في كل حركة وسكنه!! فما هذه العبادة؟!! اسمعوه وهو يقول لكم: (ألا أنبئكم بما هو خيرٌ لكم من الصلاة ومن الصيام ومن الزكاة والحج؟ -ويقصد بذلك النوافل – قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين) .
الذي يسعى للصلح بين المؤمنين له أجرٌ عند ربِّ العالمين خيرٌ من القائمين لله في الأسحار، وخيرٌ من الصائمين أكثر أيام العام، وخيرٌ من الذين يحجُّون لله كل عام بعد حجة الإسلام. لماذا؟ لأنه يسعى للوفاق بين إخوانه المؤمنين، وبين أهل بلده من المسلمين!
فإذا فسدت نفوسنا، وقطعنا أرحامنا، فإنا بعد ذلك ندمر قيم ديننا، ونقضى على تعاليم قرآننا، لأن نفوسنا تحرِّكنا إلى الشرِّ وإلى الضُرِّ الذي نهانا الله والنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حذَّرنا منه - والنفس في غوايتها تعمى عن أوامر الله، وتسهو عن أحاديث رسول الله - مع أن في هذا هلاكها والعياذ بالله والله عزَّ وجلَّ يقول : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ (9، 10الشمس). كل الذي يعفو يقول فيه رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزًّا) .
ولو نظرنا على مدى الدهر، ما الذي جعل الأولياء أولياء؟!! وجعل الصالحين صالحين؟!! هو تحمُّلهم الأذى عن الخلق، وعدم مكافأتهم السيئة بالسيئة، بل يكافئون السيئة بالحسنة!! فكلَّما زاد الإيذاء كلَّما ظهرتْ قوَّةُ الصَّبر والتحمُّل من الصالحين والأوفياء رضي الله عنهم وأرضاهم.
إخواني وأحبابي: لا تضيِّعوا دينكم فإنه أعزُّ شيءٍ تخرجون به من هذه الحياة، وأنتم خارجون للقاء الله عزَّ وجلَّ تحرصون على الإيمان، وتحرصون على تعاليم الإيمان، وتتمسكون بأخلاق النَّبِيِّ العدنان، حتى يكرمنا الله عزَّ وجلَّ بما أكرم به أهل القرآن.
........ ثم الدعاء ........
*******************************