بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
[56الأحزاب]
سنتكلم على قدر أهل الإيقان والتسليم في هذا المقام العظيم، فقد تاه العلماء، واحتار الحكماء في هذه الآية التي أنزلها الله تفخيماً وتعظيماً لقدر حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، وكيف أن الله عزَّ وجلَّ بدأ بذاته وثنَّى بملائكته - كيف يصلى عليه الله؟!! هناك من خَمَّن!! ومن قدح ذهنه!! ومن كدح فكره!! حتى يأتي بتأويل مناسب للآية!!
فمن يقول: أن الصلاة من الله الرحمة! والصلاة من الملائكة طلب المغفرة! ومن يقول: الصلاة من الله الرضوان، والصلاة من الملائكة طلب الرحمة من الرحمن. كل تلك المعاني راقية وجميلة!! ولكن كلام الرحمن له أسرارٌ أدقّ وأعجب!!! فالآية واضحةٌ وجليَّة، ولا تحتاج إلا إلى قلوب خليَّة تسمع الآية عند نطقها من ربِّ البرية، فيملأ الله عزَّ وجلَّ فؤادها بالمعاني الإلهية التي ينبغي أن تفقهها البريَّة. ولنتلمس معاً قبساً من تلك المعاني !!!!
كان الله عزَّ وجلَّ ولا شيء معه، وأَحبَّ أن يُعرف فخلق الخلق ليعرفوه، فبحبيبه صلى الله عليه وسلم عرفوه، فهو الواسطة بين الحقِّ والخلق، وهو الميزاب الذي يتنزل منه كل عطاءات الحقِّ إلى الخلق، فكل عطاءات الله إلى خلق الله بابُها وميزابُها، وسرُّ فيضها، وسببُ فضلها، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول تعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ﴾ [20 الإسراء].
بعض إخواننا العلماء أهل الفكر أخطأوا فقالوا: ﴿هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء﴾، هم المسلمون والكافرون، لكن هل الكافرون لهم عطاء من الله؟!! لكنا نقول: ﴿هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء﴾ : هم السابقون واللاحقون، ما قبله وما بعده، ما قبله من النبيين والمرسلين وأممهم، وما بعده من العلماء العاملين والورثة الروحانيين وأتباعهم. أما ما يُعطى للكافرين فهو ابتلاء: ﴿ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ [20 الإسراء]. لكن العطاء إذا كان من الله عزَّ وجلَّ لا يُسْأل صاحبه يوم العرض والجزاء، هل يَسْأل أحد صاحبه عن هدية أهداها له؟!
فمصدرُ كل عطاء، وبابُ كلِّ خير للسابقين من الرسل والأنبياء، واللاحقين من الورثة الروحانيين والصالحين والأولياء، وأُممهم وأتباعهم - كلهم ينزل العطاء أولاً على سيِّد الرسل والأنبياء، ثم منه إليهم سرَّ قوله صلى الله عليه وسلم: {اللهُ المعطِي، وأنا القَاسِمُ} (صحيح البخاري عن معاوية رضي الله عنه، ونص الحديث: «مَن يُردِ اللهُ به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّين، واللهُ المعطِي وأنا القاسمُ، ولا تزالُ هذهِ الأمَّة ظاهرينَ على مَن خالفَهم حتى يأتيَ أمرُ اللهِ وهم ظاهرون).
وهذا أمرٌ إلهي صريح: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [39ص]. فأعلمنا الله في الآية أن كل عناية، وكل رعاية، وكل هداية، وكل سابقة حسنى أزلية، وكل إمدادات روحانية أو باطنية، أو نورانية أو شهودية، أو إحسانية أو إيقانية، وكل تفضلات إلهية غيبية، فإنما تنزل من الله على خير البرية، ثم منه يتم توزيع العطية على المستحق لذلك من أهل السابقية.
صلاةُ اللهِ عَلَى نَبِيِّهِ
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ﴾ والصلاة في المعنى العام صِلَة، فكل صِلات الله، وكل عطاءات الله، وكل فتوحات الله، وكل إكرامات الله، وكل نعم الله الخاصة لأهل عناية الله، تنزل أولاً على رسول الله - سواءاً النعم الذاتية من الحضرة الإلهية، أو النعم التي تسوقها الملائكة من حضرة الربوبية، لأن حضرة الربوبية تربيَّة لكل البرية، والذي يسوق العطايا من حضرة الربوبية إلى الخلق هم الملائكة الموكَّلُون بها، لكن نعم حضرة الله تنزل على قلوب الصادقين والمخلصين والصالحين مباشرة منه سبحانه، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [4 الفتح]. تنزل مباشرة بدون واسطة من الملائكة!! وكذلك قوله:﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ [65 الكهف] - المقام اللدني.
والمقامات الذاتية يا إخواني ثلاثة مقامات: مقام المعيَّة، ومقام العنديَّة، ومقام اللدنيَّة، والعطاءات تتنزَّل منها على قلوب المستحقين لها من أهل السابقية على حسب تقرير الحضرة المحمدية!! هو الذي يطلب العطاء، ويتنزل بطلب سيِّد الرسل والأنبياء، أو بتوجُّه سيِّد الرسل والأنبياء إلى حضرة الله عزَّ وجلَّ، فينزل العطاء على حضرته، ثم يوزِّعه على عباد الله عزَّ وجلَّ المملوءة قلوبهم بالحب الصادق لحضرته صلى الله عليه وسلم، لكن العطاءات في مقام الربوبية تتصرف فيها الملائكة، وهذه أيضاً تنزل كلها على سيدنا رسول الله، وهو يوزعها بما شاء على جميع خلق الله.
إذاً النعم الذاتية لأهل الخصوصية، والنعم الربانية لجميع البرية، فكل ذلك من الحضرة المحمدية، ويأتي له ذلك من الحضرة الإلهية، ولذلك قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: { أمسينا وما بنا من نعمة ظاهرة أو باطنة في دين أو دنيا إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم سببها، وهو الذي أوصلها إلينا }. (وقال أحمد بن عجيبة في تفسير البحر المديد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : { وفيها مِن شُكر الواسطة في نعم الله علينا المأمورين بشكره, وما من نعمة لله علينا, سابقة ولا لاحقة؛ من نعمة الإيجاد والإمداد في الدنيا والآخرة, إلا وهو صلى الله عليه وسلم السبب في وصولها إلينا, وإجرائها علينا, فوجب حقه علينا، ووجب علينا في شكر نعمته ألاَّ نفتر عن الصلاة عليه مع دخول كل نفس وخروجه }).
فأنبأنا الله وأخبرنا معاشر المؤمنين لحبِّه سبحانه لنا، وحتى لا نتوه كما تاه السابقون، وقال لنا عطائي كله مع هذا النبيِّ، وإكرامي كله مع هذا الصفيِّن، سواء الذاتي الذي أُنزله مباشرة، أو الربَّاني الذي تنزله الملائكة مثل الرياح والأمطار والأشجار والنباتات، فقال لنا الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. صِلوه دائماً تأتى لكم العطايا على الدوام! ...كيف نصله؟ وضَّح لنا إمامنا ومرشدنا الإمام أبو العزائم رضي الله عنه الأمر فقال:
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا بِقُلُوبِكُمْ فَهُوَ الحَبِيبُ وَشَمْسُهُ قَدْ أَشْرَقَتْ
صلِّ عليه بقلبك وليس بلسانك، فبلسانك ستأخذ حسنات، لكنك تريد صِلات وعطاءات وهبات نورانيات وذاتيات فلابد من أن تُعَلِّق قلبك بالحبيب، ولا تجعل لأحد معه في الهوى عندك له نصيب، حتى ولو كان أقرب المقربين إليك والمحيطين بك من أهل أو قريب.
صَلاةُ الصِّلَةِ للمُؤمِنِين
صلوا عليه وسلموا بقلوبكم فهو الحبيب وشمسه قد أشــرقت
يا نُورَ قَلْبِى نَظْـــرَةً لمتيَّمٍ يَحْيـا بِهَا فالرُّوح منىَّ شُــوِّقَتْ
كيف نصلى عليه؟ نَصِلُ قلوبنا بقلبه صلى الله عليه وسلم، وحتى توصل القلوب بالحبيب لابد أن تَطْهُرَ من الغير وتطيب، كما قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
واخلع سوانا في الجمع طُرّاً فالخلع يهدى والجمع يُفنى
وقال أيضاً:
فاخلع سواه وكن صبًّا به مغرم وبعه نفسك والأموال يُعطيك
إذا كان الأنبياء والمرسلون - وأولو العزم منهم - كانوا يتنافسون في حُبِّ سيِّد الأولين والآخرين حتى ينالوا العطاءات التي يريدونها من الله عزَّ وجلَّ! فموسى كليم ونجيُّه وصفيُّه كان كل أمله نظرة من مولاه، إذ أخبر عنه الله: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [143الأعراف].
أي: لن تراني وأنت في عالم الأشباح والأجسام والمباني، ولكن أنظر إلى الجبل - إلى القلب الذي جعله الله محلاً للقرب والتداني - فَإِنِ اسْتَقَرَّ في مَكَانَهُ على حبِّ ربِّه وعلى حبِّ حبيبه، ولم يتغير ولم يتحول فَسَوْفَ تَرَانِي!.
عرف سيدنا موسى الحقيقة فطلب من الله عزَّ وجلَّ أن يكون على طريقه صلى الله عليه وسلم حتى يتملى بشهود جمالات الله عزَّ وجلَّ في ذاته، لأنه عرف أنه لن يشهد أحدٌ الله إلا في مظهر، إلا الحبيب الأكرم!!، فطلب من الله أن يجعله يقف على طريق المظهر !! ليشهد هذه الجمالات والكمالات فيه:
وإنَّمَا السِّرُّ فِي مُوسَى يُرَدِّدُهُ لِيَجْتَلِى حُسْنَ مَوْلاهُ حِينَ يَشْهَدُهُ
ليرى أنوار الله التي تجلَّتْ في حبيب الله ومصطفاه. فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو شاشة الأسماء والصفات الإلهية، لا تظهر الأسماء الإلهية والصفات الربانية إلا في مظهر أكمل وهو الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفيه وبه ومنه يشهد المشاهدون، ويلوح جمال الله عزَّ وجلَّ للمرادين والمطلوبين، لأنه عزَّ وجلَّ جعله صلى الله عليه وسلم الشاشة التي يتجلَّى فيها للأنبياء والمرسلين، والصالحين والمقربين، من بدء البدء إلى نهاية النهايات.
ولذا وقف موسى عليه السلام على طريق سيدنا رسول الله ويرده، ليس من أجلنا في الحقيقة - لأنه يعلم علم اليقين أن الله عزَّ وجلَّ إذا أمرنا بأمر قوَّانا وأعاننا عليه؛ فلو فرض علينا خمسين صلاة لأعاننا عليها- ولكنه يريد أن يتمتع بما كان يتمناه وهو شهود وجه الله في حبيب الله ومصطفاه، لأنه المظهر الأكمل الذي لاح فيه جمال الله عزَّ وجلَّ لأنبياء الله ورسل الله.
وحذارِ أن تعتقد أن هذا الجمال حسيّ، فهناك جمال روحانيّ، وهناك جمال ربَّانيّ، وهناك جمال صفاتيّ، وهناك جمال أسمائيّ، وهناك جمال ذاتيّ، وهناك الجمال الحسيُّ المشهود. وهذا الجمال الحسي كان صلى الله عليه وسلم له فيه الغاية القصوى، ولذلك سيدنا يوسف - الذي انبهر من جماله الحسيِّ النسوة وقطعن أيديهن - أوتي نصف جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسيّ، قال صلى الله عليه وسلم: {أُعطى يوسف شطر الحُسن} (رواه أبو يعلى، وكذا مسلم عن أنس رضي الله عنه).
أى أن سيدنا يوسف أوتى نصف الجمال الحسيّ، ومع ذلك لما رأته النسوة وكان في يد كل واحدة تفاحة وسكين قطَّعن أيديهن بدلاً من التفاح عند مشاهدتهن لجمال يوسف الحسيّ، فما بالك بجمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الروحاني؟!! وما بالك بجمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرباني؟!! وما بالك بجمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذاتي؟!!
عين الحسِّ تشهد الحسَّ، وعين القلب تشهد أنوار حضرة الربّ، وعين الفؤاد تشهد الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم بلا بعاد، وعين الروح تشهد الجمالات الإلهية الظاهرة في خير البرية، وعين النفخة القدسية تشهد الجمالات الذاتية التي اختص بها الله عزَّ وجلَّ الحضرة المحمدية. كلها جمالات، وكلها كمالات، وبدؤها ومنتهاها العِشْقُ الكامل لهذه الذات.
فلو أن إنساناً أحبَّ إنسانة، ويريد أن يُظهِرَ لها أنه متعلِّقٌ بها، فيبعث إليها خطابات وتحيات، وينظر إليها بنظرات، ويستقبلها ويودعها بابتسامات، متى تستجيب له؟ إذا تأكدت أنه صادق في هذا الأمر. إحدى الصالحات ضربت مثلاً لمريد في هذا الأمر - بعد أن ادَّعى أنه يحبُّها - فقالت له: أنت تحبني أكثر أم فلانة التي وراءك؟ فالتفت خلفه، فضربته على وجهه وقال: أنت لا تنفع لنا لأنك التفت لغيرنا!!:
مِنْ لَفْتَةٍ حَجْبَةٌ والحَجْبُ نَارٌ مِنْ فَوقِ نَارِ الغضى سَيْرِى لِمَنَّانِ
فالذي يحبُّ الحبيبَ لابد أن يعيش دوماً هايم في جمال الحبيب، إذا مشى لا يوجد غيره على باله، وإذا نام لا يوجد غيره في خياله، وإذا تكلم لا يسمع في كلامه إلا نغمات كلامه، وإذا تكلم الخلق معه لا يسمع إلا من فمه ويتلذذ بكلامه، فيعيش كما يقولون: (كُلِّى بكُلِّكَ مَشْغُولٌ أَيَا أَمَلِى). وهذه هي الأحوال التي بها ارتقى الصالحون والمحبون لسيِّد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، وبلغوا المنازل العليا.
ولذا ورد أن الله تعالى: {أوحى اللـه تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى أتُريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك, ومن وسواس قلبك إلى قلبك, ومن روحك إلى بدنك, ومن نور بصرك إلى عينيك؟ قال: نعم يا ربِّ, قال: فأكثر من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم}. (تفسير البحر المديد، وحلية الأولياء).
جمالك في عيني وذكرك في فمي ونورك في قلبي فكيف تغيب
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه كان يجلس مع سيدنا رسول الله إلى منتصف الليل، ثم يأذن له سيدنا رسول الله بالانصراف – وكان بيت سيدنا أبو بكر بالعوالي خارج المدينة – وعندما يصل إلى بيته يقول اشتقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم على هذه الشاكلة، حتى أن أحدهم وهو سيدنا عبد الله بن زيد لما وصله خبر لحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى قال: اللهم خذ بصري حتى لا أرى بعد حبيبي محمد أحداً أبداً، فأخذ الله بصره في الحال!!.
أنوار الجمال
إن الذي يؤجج هذا الغرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم الشوق الدائم إلى حضرته صلى الله عليه وسلم، والذي يزيده هياماً إذا لاحت بارقة من أنوار طلعته، فالإنسان يحتاج إلى الجهاد في البداية حتى تلوح له بارقة من أنوار حضرته، بعد ذلك لن يلتفت لا إلى يمين ولا شمال، لكن الإنسان الذي يريد المال والأولاد وغير ذلك ويريد مع ذلك حضرة النبي! أين القلب الذي يسع كل ذلك! ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾. [4 الأحزاب]. فلا يدخل القلب إلا واحد، ورسول الله حدَّد الجهاد في هذا الباب فقال: {لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }. (صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه).
فالإنسان إذا لم يصل لهذا الحال عليه أن يجاهد، فيذهب إلى أهل هذا المقام العالي ويزاحمهم ويُكثر من زيارتهم ويُكثر من مودتهم حتى يُعديه حالهم، وهذا سبب تردد الناس على الصالحين، لأن الإنسان عندما يكون مع الصالحين يكون كأصحاب حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، قال سيدنا حنظلة رضي الله عنه: {كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ فَوَعَظَنَا فَذَكَّرَ النَّارَ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ إِلَىٰ الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلاَعَبْتُ الْمَرْأَةَ،قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ. فَذَكَرْتُ ذٰلِكَ لَهُ فَقَالَ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ. فَلَقِينَا رَسُولَ اللّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ. فَقَالَ: مَهْ، فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ. فَقَالَ:يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً. وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ، حَتَّىٰ تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ}. (صحيح مسلم).
وكانوا رضوان الله عليهم يُطَّبقون في الحال، فكانوا يرون الملائكة وتراهم الملائكة، وكانوا يتمتعون بالأنوار الذاتية والربانية والنورانية في ذات خير البرية في كل أنفاسهم في حياتهم الدنيوية، فإذا فارقوا الدار الدنيوية فهم إما في المعية، وإما في العندية، وإما في اللدنية، وكلهم في قاب قوسين أو أدنى في مقامات القرب من ربِّ البرية عزَّ وجلَّ.
ولذلك يذهب الناس للصالحين، حتى يُحضِّروا قلوبهم، ويُشوقوا نفوسهم، ويُزَهِّدوهم في الفاني، ويُرَغِّبوهم في الباقي، ويلوح لهم في هؤلاء الصالحين جمال سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، جمال أحواله وجمال أخلاقه وجمال صفاته وجمال تواضعه وجمال علمه!! ثم بعد ذلك إذا داوموا يلوح لهم جمال أنواره وجمال أسراره وكمالات ذاته صلى الله عليه وسلم، وهذا سرُّ تردِّد الناس إلى الصالحين، ولا يوجد شيء يُقَوِّى الوجد والهيام إلا هذا الأمر، والصالحون لا يحتاجون إلى أحد من الخلق، بل إن كل واحد منهم يريد أن يفرَّ من الخلق حتى يظل في جلوة وخلوة مع الحق، وفي ذلك يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
لولا الذين تحبهم لفررت من كلِّ الخلائق ســائحاً فرَّارا
قلبى لديك وبالبرلس هيكلى أوصلْ إليك الصبَّ أعْلِ منَارا
فالصالحون هم الذين يؤجِّجون نار الغرام، وهم الذين يُقوون الهيام، وهم الذين يزيدون الوجد والاصطلام، وهم الذين يُظهرون كمالات الحبيب المصطفي للأنام، فلذلك تتردَّد عليهم الخلائق، لأن التردُّد على الصالحين هو الذي يُجلى القلب من الدنيا والشهوات، والحظوظ والأهواء، والمستحسنات والمستلذات! فالذي يجلى القلب من هذه الأمور مودَّة الصالحين والجلوس معهم.
والذي يذهب للصالحين لابد أن يذهب وهو مسافر من الدنيا وذاهب إلى الآخرة، ويترك كل أمور الدنيا وراء ظهره: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ [153آل عمران]. فيجد اليقين، ويجد النور المبين، ويجد معارج المقربين، ويجد شراب الأرواح، ويجد طلعة الكريم المنعم الفتاح. يجد كل هذه النعم والمنن النورانية والإلهية في حضرات الصالحين.
لكن الذي يذهب للصالحين ليأكل ويشرب فإنه يأكل في بطنه ناراً، لكن قبل أن تذهب للصالحين لابد أن تُعلِى همَّتك من أجل الأنوار الراقية، والمقامات السامية، والمواجهات الراقية الموجودة في هذه الحضرات، لكن الطعام والشراب جعلوه من أجل الملاطفات والمؤانسات، لأنه لو لم يكن الطعام والشراب فإن الذي يذهب إليهم لن يعود مرة أخرى للأنام لأنه سيشرب الراح ويترك الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: {حُبِّبَ إليَّ مِنَ الدُّنْيا النساءُ والطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ} (مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه). لماذا؟ حتى يظل بيننا.
كثير من الصالحين عندما يعلو ويرتقى ويصبح في الإلهانية يعود مرة أخرى إلى البشرية حتى يظل في الحياة الوسطية التي نادى بها الله عزَّ وجلَّ هذه الأُمة المحمدية: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [23الأنبياء]. فيُرَّدُ إلى الوسطية!! وإلا سيظل في الإلهانية على الدوام، وبالتالي لن ينتفع به الخلق ولا أحد من الأنام.
فجعل الله عزَّ وجلَّ رياض الصالحين هي المقار التي يتم فيها تجهيز المقربين والمرادين لمواجهات سيد الأولين والآخرين، فهي مراكز التدريب النورانية التي تُدرِّب القلوب التقية النقية وتؤهلها وتفتح لها الباب لمواجهة خير البرية، وذلك لمن أخلصوا لله عزَّ وجلَّ وطلبوا الله بصدق ويقين.
لكن الذين يترددون على الصالحين ولو لسنين، وهَمُّهُم طلب الدنيا والطعام والشراب فإنهم يضحكون على أنفسهم!!! لكن الشراب المخصوص لا يخرج إلا لمخصوص، وهذا المخصوص لا يوجد في قلبه إلا الحبيب: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [21الإنسان]. والربُّ هنا أي المُربِّى، ووصف الشراب بأنه طهور لأنه يُطهر القلب من كل غين ومن كل غير، ومن كل بعد ومن كل صدود، ومن كل الشواغل، ومن كل الأغيار حتى يُصبح هذا القلب مؤهلاً للأنوار:
من غيرنا في عصرنا لا تُكشفن إلا لنا وبنا بِسِرِّ الوالى
كيف نكون من العارفين والواصلين؟ قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
سرُّ الوصولِ إلى الجَنَابِ العَالِى حُبُّ النبىِّ مُحَمَّدٍ والآلِ
ولكن هذا الحبُّ ليس فيه شريك ولا هوى، ولا نفس، ولا شهوة زائلة ولا دنيا فانية، لا يريدون إلا الحبَّ الصادق رغبة فيما عند الله، وطلباً لرضوان الله، وقرباً لحبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم:
ألا يا أخى بالحب ترقى وتُرفعن وبالزهــــــد تُعطى ما له تتشوق
****************
ونختم بسؤال جاءنا من أحد المحبين الذين يترددون على روضات الصالحين ليتعلم حقيقة وأسرار الصلاة على سيدنا رسول الله إذ قال السائل:
أن السالك قد يعقد النيًّة أحياناً ويصلى على حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لكي يراه ويتمتع برؤية طلعته البهيه ومحيَّاه، ولكنه يرى شيخه فما تفسير ذلك؟
ونقول للمحبِّ السائل ولكل إخواننا وقرائنا الكرام: اعلموا إن الشيخ المربى هو صورة من صور رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن المصلى على رسول الله بنية أن يراه صلى الله عليه وسلم! .. فإنه إن رأى شيخه فهو بذلك قد رأى صورة من صور رسول الله، وذلك لأن صور رسول الله لا تحد ولا تعد، وكل رجل من الصالحين على قدره صورة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يوحى إليه، وإنما يُلهم، لأن الإلهام مرتبة من مراتب الوحي.
وصلى الله على سيدنا محمد ملهم كل المحبين لذاته، وشفيع كل العاشقين لصفاته، وعلى آله وصحبه والتابعين، وعلينا معهم أجمعين إلى يوم الدين.
كانت هذه المحاضرة بحدائق المعادى بتاريخ 11 من ربيع الأول 1431هـ الموافق 25 من فبراير 2010م
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
[56الأحزاب]
سنتكلم على قدر أهل الإيقان والتسليم في هذا المقام العظيم، فقد تاه العلماء، واحتار الحكماء في هذه الآية التي أنزلها الله تفخيماً وتعظيماً لقدر حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، وكيف أن الله عزَّ وجلَّ بدأ بذاته وثنَّى بملائكته - كيف يصلى عليه الله؟!! هناك من خَمَّن!! ومن قدح ذهنه!! ومن كدح فكره!! حتى يأتي بتأويل مناسب للآية!!
فمن يقول: أن الصلاة من الله الرحمة! والصلاة من الملائكة طلب المغفرة! ومن يقول: الصلاة من الله الرضوان، والصلاة من الملائكة طلب الرحمة من الرحمن. كل تلك المعاني راقية وجميلة!! ولكن كلام الرحمن له أسرارٌ أدقّ وأعجب!!! فالآية واضحةٌ وجليَّة، ولا تحتاج إلا إلى قلوب خليَّة تسمع الآية عند نطقها من ربِّ البرية، فيملأ الله عزَّ وجلَّ فؤادها بالمعاني الإلهية التي ينبغي أن تفقهها البريَّة. ولنتلمس معاً قبساً من تلك المعاني !!!!
كان الله عزَّ وجلَّ ولا شيء معه، وأَحبَّ أن يُعرف فخلق الخلق ليعرفوه، فبحبيبه صلى الله عليه وسلم عرفوه، فهو الواسطة بين الحقِّ والخلق، وهو الميزاب الذي يتنزل منه كل عطاءات الحقِّ إلى الخلق، فكل عطاءات الله إلى خلق الله بابُها وميزابُها، وسرُّ فيضها، وسببُ فضلها، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول تعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ﴾ [20 الإسراء].
بعض إخواننا العلماء أهل الفكر أخطأوا فقالوا: ﴿هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء﴾، هم المسلمون والكافرون، لكن هل الكافرون لهم عطاء من الله؟!! لكنا نقول: ﴿هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء﴾ : هم السابقون واللاحقون، ما قبله وما بعده، ما قبله من النبيين والمرسلين وأممهم، وما بعده من العلماء العاملين والورثة الروحانيين وأتباعهم. أما ما يُعطى للكافرين فهو ابتلاء: ﴿ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ [20 الإسراء]. لكن العطاء إذا كان من الله عزَّ وجلَّ لا يُسْأل صاحبه يوم العرض والجزاء، هل يَسْأل أحد صاحبه عن هدية أهداها له؟!
فمصدرُ كل عطاء، وبابُ كلِّ خير للسابقين من الرسل والأنبياء، واللاحقين من الورثة الروحانيين والصالحين والأولياء، وأُممهم وأتباعهم - كلهم ينزل العطاء أولاً على سيِّد الرسل والأنبياء، ثم منه إليهم سرَّ قوله صلى الله عليه وسلم: {اللهُ المعطِي، وأنا القَاسِمُ} (صحيح البخاري عن معاوية رضي الله عنه، ونص الحديث: «مَن يُردِ اللهُ به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّين، واللهُ المعطِي وأنا القاسمُ، ولا تزالُ هذهِ الأمَّة ظاهرينَ على مَن خالفَهم حتى يأتيَ أمرُ اللهِ وهم ظاهرون).
وهذا أمرٌ إلهي صريح: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [39ص]. فأعلمنا الله في الآية أن كل عناية، وكل رعاية، وكل هداية، وكل سابقة حسنى أزلية، وكل إمدادات روحانية أو باطنية، أو نورانية أو شهودية، أو إحسانية أو إيقانية، وكل تفضلات إلهية غيبية، فإنما تنزل من الله على خير البرية، ثم منه يتم توزيع العطية على المستحق لذلك من أهل السابقية.
صلاةُ اللهِ عَلَى نَبِيِّهِ
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ﴾ والصلاة في المعنى العام صِلَة، فكل صِلات الله، وكل عطاءات الله، وكل فتوحات الله، وكل إكرامات الله، وكل نعم الله الخاصة لأهل عناية الله، تنزل أولاً على رسول الله - سواءاً النعم الذاتية من الحضرة الإلهية، أو النعم التي تسوقها الملائكة من حضرة الربوبية، لأن حضرة الربوبية تربيَّة لكل البرية، والذي يسوق العطايا من حضرة الربوبية إلى الخلق هم الملائكة الموكَّلُون بها، لكن نعم حضرة الله تنزل على قلوب الصادقين والمخلصين والصالحين مباشرة منه سبحانه، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [4 الفتح]. تنزل مباشرة بدون واسطة من الملائكة!! وكذلك قوله:﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ [65 الكهف] - المقام اللدني.
والمقامات الذاتية يا إخواني ثلاثة مقامات: مقام المعيَّة، ومقام العنديَّة، ومقام اللدنيَّة، والعطاءات تتنزَّل منها على قلوب المستحقين لها من أهل السابقية على حسب تقرير الحضرة المحمدية!! هو الذي يطلب العطاء، ويتنزل بطلب سيِّد الرسل والأنبياء، أو بتوجُّه سيِّد الرسل والأنبياء إلى حضرة الله عزَّ وجلَّ، فينزل العطاء على حضرته، ثم يوزِّعه على عباد الله عزَّ وجلَّ المملوءة قلوبهم بالحب الصادق لحضرته صلى الله عليه وسلم، لكن العطاءات في مقام الربوبية تتصرف فيها الملائكة، وهذه أيضاً تنزل كلها على سيدنا رسول الله، وهو يوزعها بما شاء على جميع خلق الله.
إذاً النعم الذاتية لأهل الخصوصية، والنعم الربانية لجميع البرية، فكل ذلك من الحضرة المحمدية، ويأتي له ذلك من الحضرة الإلهية، ولذلك قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: { أمسينا وما بنا من نعمة ظاهرة أو باطنة في دين أو دنيا إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم سببها، وهو الذي أوصلها إلينا }. (وقال أحمد بن عجيبة في تفسير البحر المديد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : { وفيها مِن شُكر الواسطة في نعم الله علينا المأمورين بشكره, وما من نعمة لله علينا, سابقة ولا لاحقة؛ من نعمة الإيجاد والإمداد في الدنيا والآخرة, إلا وهو صلى الله عليه وسلم السبب في وصولها إلينا, وإجرائها علينا, فوجب حقه علينا، ووجب علينا في شكر نعمته ألاَّ نفتر عن الصلاة عليه مع دخول كل نفس وخروجه }).
فأنبأنا الله وأخبرنا معاشر المؤمنين لحبِّه سبحانه لنا، وحتى لا نتوه كما تاه السابقون، وقال لنا عطائي كله مع هذا النبيِّ، وإكرامي كله مع هذا الصفيِّن، سواء الذاتي الذي أُنزله مباشرة، أو الربَّاني الذي تنزله الملائكة مثل الرياح والأمطار والأشجار والنباتات، فقال لنا الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. صِلوه دائماً تأتى لكم العطايا على الدوام! ...كيف نصله؟ وضَّح لنا إمامنا ومرشدنا الإمام أبو العزائم رضي الله عنه الأمر فقال:
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا بِقُلُوبِكُمْ فَهُوَ الحَبِيبُ وَشَمْسُهُ قَدْ أَشْرَقَتْ
صلِّ عليه بقلبك وليس بلسانك، فبلسانك ستأخذ حسنات، لكنك تريد صِلات وعطاءات وهبات نورانيات وذاتيات فلابد من أن تُعَلِّق قلبك بالحبيب، ولا تجعل لأحد معه في الهوى عندك له نصيب، حتى ولو كان أقرب المقربين إليك والمحيطين بك من أهل أو قريب.
صَلاةُ الصِّلَةِ للمُؤمِنِين
صلوا عليه وسلموا بقلوبكم فهو الحبيب وشمسه قد أشــرقت
يا نُورَ قَلْبِى نَظْـــرَةً لمتيَّمٍ يَحْيـا بِهَا فالرُّوح منىَّ شُــوِّقَتْ
كيف نصلى عليه؟ نَصِلُ قلوبنا بقلبه صلى الله عليه وسلم، وحتى توصل القلوب بالحبيب لابد أن تَطْهُرَ من الغير وتطيب، كما قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
واخلع سوانا في الجمع طُرّاً فالخلع يهدى والجمع يُفنى
وقال أيضاً:
فاخلع سواه وكن صبًّا به مغرم وبعه نفسك والأموال يُعطيك
إذا كان الأنبياء والمرسلون - وأولو العزم منهم - كانوا يتنافسون في حُبِّ سيِّد الأولين والآخرين حتى ينالوا العطاءات التي يريدونها من الله عزَّ وجلَّ! فموسى كليم ونجيُّه وصفيُّه كان كل أمله نظرة من مولاه، إذ أخبر عنه الله: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [143الأعراف].
أي: لن تراني وأنت في عالم الأشباح والأجسام والمباني، ولكن أنظر إلى الجبل - إلى القلب الذي جعله الله محلاً للقرب والتداني - فَإِنِ اسْتَقَرَّ في مَكَانَهُ على حبِّ ربِّه وعلى حبِّ حبيبه، ولم يتغير ولم يتحول فَسَوْفَ تَرَانِي!.
عرف سيدنا موسى الحقيقة فطلب من الله عزَّ وجلَّ أن يكون على طريقه صلى الله عليه وسلم حتى يتملى بشهود جمالات الله عزَّ وجلَّ في ذاته، لأنه عرف أنه لن يشهد أحدٌ الله إلا في مظهر، إلا الحبيب الأكرم!!، فطلب من الله أن يجعله يقف على طريق المظهر !! ليشهد هذه الجمالات والكمالات فيه:
وإنَّمَا السِّرُّ فِي مُوسَى يُرَدِّدُهُ لِيَجْتَلِى حُسْنَ مَوْلاهُ حِينَ يَشْهَدُهُ
ليرى أنوار الله التي تجلَّتْ في حبيب الله ومصطفاه. فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو شاشة الأسماء والصفات الإلهية، لا تظهر الأسماء الإلهية والصفات الربانية إلا في مظهر أكمل وهو الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفيه وبه ومنه يشهد المشاهدون، ويلوح جمال الله عزَّ وجلَّ للمرادين والمطلوبين، لأنه عزَّ وجلَّ جعله صلى الله عليه وسلم الشاشة التي يتجلَّى فيها للأنبياء والمرسلين، والصالحين والمقربين، من بدء البدء إلى نهاية النهايات.
ولذا وقف موسى عليه السلام على طريق سيدنا رسول الله ويرده، ليس من أجلنا في الحقيقة - لأنه يعلم علم اليقين أن الله عزَّ وجلَّ إذا أمرنا بأمر قوَّانا وأعاننا عليه؛ فلو فرض علينا خمسين صلاة لأعاننا عليها- ولكنه يريد أن يتمتع بما كان يتمناه وهو شهود وجه الله في حبيب الله ومصطفاه، لأنه المظهر الأكمل الذي لاح فيه جمال الله عزَّ وجلَّ لأنبياء الله ورسل الله.
وحذارِ أن تعتقد أن هذا الجمال حسيّ، فهناك جمال روحانيّ، وهناك جمال ربَّانيّ، وهناك جمال صفاتيّ، وهناك جمال أسمائيّ، وهناك جمال ذاتيّ، وهناك الجمال الحسيُّ المشهود. وهذا الجمال الحسي كان صلى الله عليه وسلم له فيه الغاية القصوى، ولذلك سيدنا يوسف - الذي انبهر من جماله الحسيِّ النسوة وقطعن أيديهن - أوتي نصف جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسيّ، قال صلى الله عليه وسلم: {أُعطى يوسف شطر الحُسن} (رواه أبو يعلى، وكذا مسلم عن أنس رضي الله عنه).
أى أن سيدنا يوسف أوتى نصف الجمال الحسيّ، ومع ذلك لما رأته النسوة وكان في يد كل واحدة تفاحة وسكين قطَّعن أيديهن بدلاً من التفاح عند مشاهدتهن لجمال يوسف الحسيّ، فما بالك بجمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الروحاني؟!! وما بالك بجمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرباني؟!! وما بالك بجمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذاتي؟!!
عين الحسِّ تشهد الحسَّ، وعين القلب تشهد أنوار حضرة الربّ، وعين الفؤاد تشهد الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم بلا بعاد، وعين الروح تشهد الجمالات الإلهية الظاهرة في خير البرية، وعين النفخة القدسية تشهد الجمالات الذاتية التي اختص بها الله عزَّ وجلَّ الحضرة المحمدية. كلها جمالات، وكلها كمالات، وبدؤها ومنتهاها العِشْقُ الكامل لهذه الذات.
فلو أن إنساناً أحبَّ إنسانة، ويريد أن يُظهِرَ لها أنه متعلِّقٌ بها، فيبعث إليها خطابات وتحيات، وينظر إليها بنظرات، ويستقبلها ويودعها بابتسامات، متى تستجيب له؟ إذا تأكدت أنه صادق في هذا الأمر. إحدى الصالحات ضربت مثلاً لمريد في هذا الأمر - بعد أن ادَّعى أنه يحبُّها - فقالت له: أنت تحبني أكثر أم فلانة التي وراءك؟ فالتفت خلفه، فضربته على وجهه وقال: أنت لا تنفع لنا لأنك التفت لغيرنا!!:
مِنْ لَفْتَةٍ حَجْبَةٌ والحَجْبُ نَارٌ مِنْ فَوقِ نَارِ الغضى سَيْرِى لِمَنَّانِ
فالذي يحبُّ الحبيبَ لابد أن يعيش دوماً هايم في جمال الحبيب، إذا مشى لا يوجد غيره على باله، وإذا نام لا يوجد غيره في خياله، وإذا تكلم لا يسمع في كلامه إلا نغمات كلامه، وإذا تكلم الخلق معه لا يسمع إلا من فمه ويتلذذ بكلامه، فيعيش كما يقولون: (كُلِّى بكُلِّكَ مَشْغُولٌ أَيَا أَمَلِى). وهذه هي الأحوال التي بها ارتقى الصالحون والمحبون لسيِّد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، وبلغوا المنازل العليا.
ولذا ورد أن الله تعالى: {أوحى اللـه تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى أتُريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك, ومن وسواس قلبك إلى قلبك, ومن روحك إلى بدنك, ومن نور بصرك إلى عينيك؟ قال: نعم يا ربِّ, قال: فأكثر من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم}. (تفسير البحر المديد، وحلية الأولياء).
جمالك في عيني وذكرك في فمي ونورك في قلبي فكيف تغيب
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه كان يجلس مع سيدنا رسول الله إلى منتصف الليل، ثم يأذن له سيدنا رسول الله بالانصراف – وكان بيت سيدنا أبو بكر بالعوالي خارج المدينة – وعندما يصل إلى بيته يقول اشتقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم على هذه الشاكلة، حتى أن أحدهم وهو سيدنا عبد الله بن زيد لما وصله خبر لحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى قال: اللهم خذ بصري حتى لا أرى بعد حبيبي محمد أحداً أبداً، فأخذ الله بصره في الحال!!.
أنوار الجمال
إن الذي يؤجج هذا الغرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم الشوق الدائم إلى حضرته صلى الله عليه وسلم، والذي يزيده هياماً إذا لاحت بارقة من أنوار طلعته، فالإنسان يحتاج إلى الجهاد في البداية حتى تلوح له بارقة من أنوار حضرته، بعد ذلك لن يلتفت لا إلى يمين ولا شمال، لكن الإنسان الذي يريد المال والأولاد وغير ذلك ويريد مع ذلك حضرة النبي! أين القلب الذي يسع كل ذلك! ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾. [4 الأحزاب]. فلا يدخل القلب إلا واحد، ورسول الله حدَّد الجهاد في هذا الباب فقال: {لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }. (صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه).
فالإنسان إذا لم يصل لهذا الحال عليه أن يجاهد، فيذهب إلى أهل هذا المقام العالي ويزاحمهم ويُكثر من زيارتهم ويُكثر من مودتهم حتى يُعديه حالهم، وهذا سبب تردد الناس على الصالحين، لأن الإنسان عندما يكون مع الصالحين يكون كأصحاب حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، قال سيدنا حنظلة رضي الله عنه: {كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ فَوَعَظَنَا فَذَكَّرَ النَّارَ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ إِلَىٰ الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلاَعَبْتُ الْمَرْأَةَ،قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ. فَذَكَرْتُ ذٰلِكَ لَهُ فَقَالَ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ. فَلَقِينَا رَسُولَ اللّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ. فَقَالَ: مَهْ، فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ. فَقَالَ:يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً. وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ، حَتَّىٰ تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ}. (صحيح مسلم).
وكانوا رضوان الله عليهم يُطَّبقون في الحال، فكانوا يرون الملائكة وتراهم الملائكة، وكانوا يتمتعون بالأنوار الذاتية والربانية والنورانية في ذات خير البرية في كل أنفاسهم في حياتهم الدنيوية، فإذا فارقوا الدار الدنيوية فهم إما في المعية، وإما في العندية، وإما في اللدنية، وكلهم في قاب قوسين أو أدنى في مقامات القرب من ربِّ البرية عزَّ وجلَّ.
ولذلك يذهب الناس للصالحين، حتى يُحضِّروا قلوبهم، ويُشوقوا نفوسهم، ويُزَهِّدوهم في الفاني، ويُرَغِّبوهم في الباقي، ويلوح لهم في هؤلاء الصالحين جمال سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، جمال أحواله وجمال أخلاقه وجمال صفاته وجمال تواضعه وجمال علمه!! ثم بعد ذلك إذا داوموا يلوح لهم جمال أنواره وجمال أسراره وكمالات ذاته صلى الله عليه وسلم، وهذا سرُّ تردِّد الناس إلى الصالحين، ولا يوجد شيء يُقَوِّى الوجد والهيام إلا هذا الأمر، والصالحون لا يحتاجون إلى أحد من الخلق، بل إن كل واحد منهم يريد أن يفرَّ من الخلق حتى يظل في جلوة وخلوة مع الحق، وفي ذلك يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
لولا الذين تحبهم لفررت من كلِّ الخلائق ســائحاً فرَّارا
قلبى لديك وبالبرلس هيكلى أوصلْ إليك الصبَّ أعْلِ منَارا
فالصالحون هم الذين يؤجِّجون نار الغرام، وهم الذين يُقوون الهيام، وهم الذين يزيدون الوجد والاصطلام، وهم الذين يُظهرون كمالات الحبيب المصطفي للأنام، فلذلك تتردَّد عليهم الخلائق، لأن التردُّد على الصالحين هو الذي يُجلى القلب من الدنيا والشهوات، والحظوظ والأهواء، والمستحسنات والمستلذات! فالذي يجلى القلب من هذه الأمور مودَّة الصالحين والجلوس معهم.
والذي يذهب للصالحين لابد أن يذهب وهو مسافر من الدنيا وذاهب إلى الآخرة، ويترك كل أمور الدنيا وراء ظهره: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ [153آل عمران]. فيجد اليقين، ويجد النور المبين، ويجد معارج المقربين، ويجد شراب الأرواح، ويجد طلعة الكريم المنعم الفتاح. يجد كل هذه النعم والمنن النورانية والإلهية في حضرات الصالحين.
لكن الذي يذهب للصالحين ليأكل ويشرب فإنه يأكل في بطنه ناراً، لكن قبل أن تذهب للصالحين لابد أن تُعلِى همَّتك من أجل الأنوار الراقية، والمقامات السامية، والمواجهات الراقية الموجودة في هذه الحضرات، لكن الطعام والشراب جعلوه من أجل الملاطفات والمؤانسات، لأنه لو لم يكن الطعام والشراب فإن الذي يذهب إليهم لن يعود مرة أخرى للأنام لأنه سيشرب الراح ويترك الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: {حُبِّبَ إليَّ مِنَ الدُّنْيا النساءُ والطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ} (مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه). لماذا؟ حتى يظل بيننا.
كثير من الصالحين عندما يعلو ويرتقى ويصبح في الإلهانية يعود مرة أخرى إلى البشرية حتى يظل في الحياة الوسطية التي نادى بها الله عزَّ وجلَّ هذه الأُمة المحمدية: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [23الأنبياء]. فيُرَّدُ إلى الوسطية!! وإلا سيظل في الإلهانية على الدوام، وبالتالي لن ينتفع به الخلق ولا أحد من الأنام.
فجعل الله عزَّ وجلَّ رياض الصالحين هي المقار التي يتم فيها تجهيز المقربين والمرادين لمواجهات سيد الأولين والآخرين، فهي مراكز التدريب النورانية التي تُدرِّب القلوب التقية النقية وتؤهلها وتفتح لها الباب لمواجهة خير البرية، وذلك لمن أخلصوا لله عزَّ وجلَّ وطلبوا الله بصدق ويقين.
لكن الذين يترددون على الصالحين ولو لسنين، وهَمُّهُم طلب الدنيا والطعام والشراب فإنهم يضحكون على أنفسهم!!! لكن الشراب المخصوص لا يخرج إلا لمخصوص، وهذا المخصوص لا يوجد في قلبه إلا الحبيب: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [21الإنسان]. والربُّ هنا أي المُربِّى، ووصف الشراب بأنه طهور لأنه يُطهر القلب من كل غين ومن كل غير، ومن كل بعد ومن كل صدود، ومن كل الشواغل، ومن كل الأغيار حتى يُصبح هذا القلب مؤهلاً للأنوار:
من غيرنا في عصرنا لا تُكشفن إلا لنا وبنا بِسِرِّ الوالى
كيف نكون من العارفين والواصلين؟ قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
سرُّ الوصولِ إلى الجَنَابِ العَالِى حُبُّ النبىِّ مُحَمَّدٍ والآلِ
ولكن هذا الحبُّ ليس فيه شريك ولا هوى، ولا نفس، ولا شهوة زائلة ولا دنيا فانية، لا يريدون إلا الحبَّ الصادق رغبة فيما عند الله، وطلباً لرضوان الله، وقرباً لحبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم:
ألا يا أخى بالحب ترقى وتُرفعن وبالزهــــــد تُعطى ما له تتشوق
****************
ونختم بسؤال جاءنا من أحد المحبين الذين يترددون على روضات الصالحين ليتعلم حقيقة وأسرار الصلاة على سيدنا رسول الله إذ قال السائل:
أن السالك قد يعقد النيًّة أحياناً ويصلى على حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لكي يراه ويتمتع برؤية طلعته البهيه ومحيَّاه، ولكنه يرى شيخه فما تفسير ذلك؟
ونقول للمحبِّ السائل ولكل إخواننا وقرائنا الكرام: اعلموا إن الشيخ المربى هو صورة من صور رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن المصلى على رسول الله بنية أن يراه صلى الله عليه وسلم! .. فإنه إن رأى شيخه فهو بذلك قد رأى صورة من صور رسول الله، وذلك لأن صور رسول الله لا تحد ولا تعد، وكل رجل من الصالحين على قدره صورة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يوحى إليه، وإنما يُلهم، لأن الإلهام مرتبة من مراتب الوحي.
وصلى الله على سيدنا محمد ملهم كل المحبين لذاته، وشفيع كل العاشقين لصفاته، وعلى آله وصحبه والتابعين، وعلينا معهم أجمعين إلى يوم الدين.
كانت هذه المحاضرة بحدائق المعادى بتاريخ 11 من ربيع الأول 1431هـ الموافق 25 من فبراير 2010م