إن ظلم الإنسان لنفسه عند الله وعند رسول الله وعند كتاب الله وعند العلماء بالله هو أن يتجاوز الإنسان حدود الله:
(وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (1الطلاق).
أي: أن الإنسان الذي يتعدى، أي: يتجاوز الحدود التي أعدَّها الملك المعبود للمعاملات وللأخلاق وللعبادات وللكمالات الإلهية، فقد عرض نفسه للظلم الكبير الذي لا ينفع فيه وزير ولا شفيع ولا نظير، لأن الأمر يتعلق بالملك الكبير سبحانه وتعالى.
فإن كان الإنسان يرخي لنفسه العنان لترتكب بعض الهفوات أو بعض الزلات، فإنه في هذا الشهر الكريم يجب أن يقبض بلجام نفسه بقوة الشريعة الإلهية، ويجعلها مسخرة لأحكام ربِّ البرية، فلا تنظر العين منها إلا لما أحلَّه الله، وإذا أرادت أن تلتفت إلى الحرام تقول لها: (النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ، مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ، أَبْدَلَهَا اللَّهُ إِيمَانَاً يَجِدُ حَلاَوَتَهُ فِي قَلْبِهِ) (روى في الترغيب والترهيب ومجمع الزوائد عن عبد الله بن مسعود).
يا أيتها العين: أما سمعتي خالقك وهو يقول: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) (30النور).
وإذا أرادت الأذن أن تستمع إلى ما حرَّم الله من غيبة ونميمة وسبَّ وشتم وقول باطل، قال لها: يا أيتها الأذن: كوني كما قال الله:
(وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (12الحاقة)،
والأذن الواعية هي التي لا تقع في معصية، وفى الأثر:
(المُغْتَابُ وَالمُسْتَمِعُ شَرِيكَانِ فِي الإِثْمِ)(1)
فأنت إذا استمعت إلى المغتاب فأنت على إحدى ثلاث خصال:
الأولى: إذا وافقته كنت شريكه على هذا الإثم وعلى هذا العمل وهذه الجريمة الشنعاء التي جعلها ربُّ الأرض والسماء أقبح من إسالة الدماء استمعوا إليه سبحانه إذ يقول:
(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (12الحجرات).
والثانية: أنت إذا نهرته عن الغيبة وقمت عنه؛ عرضت نفسك للسوء وللوقوع في عرضك ولارتكاب الإثم بسببك. والحل الثالث ولا غنى له هو قول الله تعالى: (فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (68الأنعام).
إنك توطن نفسك ألا تجلس في مجالس الغيبة ولا مجالس النميمة ولا في مجالس اللهو في هذه الأيام المباركة، لأن الله حرَّم فيها هذه المعاصي، وهذه المعاصي وإن كانت بالطبع محرَّمة طول العام، ولكنها هذه الأيام أشد حرمة وأشد تجريماً وأشد وزراً عند الرحيم الرحمن سبحانه وتعالى:
(فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) (36التوبة).
أي إن الإنسان يمسك بزمام نفسه، وتجعلها تسير كما يريد الله وتمشي خلف رسول الله. فالمكان الذي كان يحبُّه أجلسها فيه، والعمل الذي كان يحبه يجعلها تعمله، ومن أخبرني بحبهم أجالسهم وأتقرب منهم، ومن عرَّفني أنه يبغضهم أسارع إلى النفور عنهم.
ومن هنا نفهم معنى الآية فمن أرخى العنان لنفسه فقد ظلم نفسه لأنها بوقوعها في الذنوب تستوجب غضب علام الغيوب، ونحن الضعفاء والمساكين أحوج ما نكون إلى نظرة رضا من رب العالمين، فإنه لو غضب على أحد طرفة عين كانت حياته كلها نكد، وكان قبره شعْلة من اللهب، وكانت قيامته حسرة وندامة، يوم لا تنفع الندامة ولا الملامة، وكان مصيره كما تعلمون وكما تعرفون
والدنيا كما قال الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه:
(الدنيا ساعة فأجعلها طاعة). كلنا مسافرون وكلنا جاهزون للقاء الله ولا نعلم الميعاد ولا نعلم وقت السفر، فعلينا أن نجهز الزاد والزاد الذي ينفع للميعاد، وليس الأرصدة التي في البنوك ولا العمارات ولا الأراضون، ولا الأولاد ولا البنين إلا إذا كانوا صالحين موفقين، لا ينفع إلا ما قال الله: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (179البقرة).
(1) ورد فى الإحياء للغزالى وفى مراقى العبودية.