هل للإسلام قوانين في الكلام؟
نعم، لكننا لا نسأل عنها ولا نبحث عنها اسمع معي إلى قوانين الإسلام في الكلام:
أما القانون الأول مع الناس جميعاً، مشركهم وكافرهم وجاحدهم، كلِّ الناس يقول لنا فيهم ربُّ الناس:
(قُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) (83البقرة).
كلِّمُوهم بالحسن، وليس بالكلام القبيح، وليس بالكلام الكريه لأنه حتى ولو كان عدوك فقد قيل في الأثر: (اتقوا غيظ القلوب ولو في البهائم).
لا تجعل أحداً يغتاظ منك، والغيظ في العادة يكون بسبب كلمة أو سلوك غير مرغوب فيه، فأمرنا الله أن نحسن الكلمة حتى مع غير المؤمنين. أما مع المؤمنين:
(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (24الحج)
هذا هو الأمر الأول، تخفف عنهم عند الضيق، ونرفع روحهم المعنوية من اليأس، ونزيل الهموم والغموم من صدورهم، ونرفع الحزن والأسى من قلوبهم، ونعينهم على مشاكلهم، كل هذا من ماذا؟ من الكلمة.
وهذه الكلمة الطيبة جعلها الله عزَّ وجلّ من رياض الجنة، وأعطانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مبشراً لأهميتها فقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم:
{ إِنَّ العبدَ لَـيَتَكَلَّـمُ بالكلمةِ من رضوانِ الله - الكلمة الطيبة الصالحة - يرفعه الله بها في الجنة سبعين خريفاً - يعني سبعين سنة - وإِنَّ العبدَ لَـيَتَكَلَّـمُ بالكلـمةِ من سَخَطِ الله لا يُلْقِـي لَهَا بالاً - من فتنة أو وقيعة أو خديعة - يَهْوَى بِهَا فـي جَهَنَّـم سبعين خريفاً -أي سبعين سنة}(1)
ولذا فكلكم تعرفون أنه عندما كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين أصحابه وانتقل إلى جوار ربِّه، ومشى أصحابه على هديه، لم يكن عندهم محكمة واحدة، ولا قاضٍ يفصل بينهم، ولا محامٍ يدافع عن حقوقهم، لأنهم مَلَكُوا الكلمة، فملكوا ناصية الأمور، فلم يحتاجوا إلى مرافعات ولا دفاعات ولا مخاصمات، لأن كل تلك الأشياء تبدأ من الكلمة حتى أن مصائر الشعوب تتعلق بكلمة ربما يكون شعبٌ مغلوبٌ على أمره وضعيف، ويتفوه رئيسه بكلمة تودي بحياة شعبه.
فالكلمة يا إخواني هي المصدر الأول والسبب الأول في فساد المجتمع وإصلاحه، والمؤمن وصفه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال في شأنه:
{رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً قَالَ خَيْرَاً فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ}(2)
لا يتكلم إلا بحساب لأن الله يقول:
(مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (18ق)
فهو يعلم أن كل كلمة ستسجَّل عليه، إما في ميزان حسناته وإما في صحف سيئاته، فلا يتفوه بكلمة قبل أن يزنها بالميزان الذي أنزله له الحنان المنان وهو العقل، فيعرض الكلمة على عقله، وعقله مستضيئ بشريعة ربِّه، فإذا وافقت شرع الله ووافقت عادة الناس المرعية التي يعرفها العقل أخرجها وتفوه بها، وإذا كانت مخالفة لشرع الله ولا تلائم العادات المتبعة في أعراض الناس لم يتفوه بها، وأمسك لسانه حتى لا يكون على هذه الصورة القبيحة التي وصفها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
الأمر الثاني وهو تحمل المسئوليات، فقد رأى صلَّى الله عليه وسلَّم رجلاً يحمل حِمْلاً عظيماً مِنْ الحَطَب ولا يستطيع أن يحمله، ولا يستطيع أن يسير به، وهو مع ذلك يزيد عليه وهذا ما يحدث في زماننا يريد كلُّ رجل أن يجمع عدة وظائف في قبضته، لماذا؟ هل عددنا قليل؟ أو هل كوادرنا غير موجودة؟
الأعداد كثيرة والكوادر كثيرة والشباب كثير في كل تخصص، وديننا يؤمن بالتخصص الدقيق، والرسول صلَّى الله عليه وسلَّم مع أنه كان يوحى إليه من ربِّه إلا أنه لم يجمع الأمور في قبضته، بل وزع التركة على الأصحاب وقال:
{أرْحَمُ أُمَّتِي أبو بكرٍ، وأشَدُّها في دِينِ الله عُمَرُ، وَأَصْدَقُها حَياءً عُثمانُ، وَأَعْلَمُها بالحلالِ وَالحَرَامِ معاذُ بْنُ جَبَلٍ، وأقرَؤها لكتاب الله أُبيٌّ، وأعْلَمُها بالفَرَائِضِ زَيْدُ بنُ ثابتٍ، ولِكُلِّ أمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ هذِهِ الأمَّةِ أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ} (3)
مع أن كل هؤلاء تعلَّموا منه لأنه المُعَلِّمُ الأول صلَّى الله عليه وسلَّم، بل إنه كان يستشيرهم ويقول لهم:
{أما إنَّ الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غيًّا}(4)
فعلَّمهم صلَّى الله عليه وسلَّم التخصُّص وحدَّد المسئوليات. فالرجل له مسئولية، والمرأة لها مسئولية، والخادم عليه مسئولية، وقال في مقدمة المسئوليات:
{كُلُّكُمْ رَاعٍ. وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ} (5)
ثم وضح مسئولية الرجل ومسئولية المرأة، ومسئولية الخادم حتى لا يوجد رجل في الإسلام يستبد بالأمور ويلغي شخصية الزوجة. هذا ليس في الإسلام.
وأمر الرجل أن يدرِّب أبناءه من الطفولة، فإذا بلغ الولد سن الرابعة عشر قال له: صاحبه، يعني: اجعله لك أخاً، وعلِّمه السلوك الحميد في المجتمع، كيف يكسب؟ وكيف يحصل على الأرزاق؟ وكيف يشارك في الأفراح؟ وكيف يواسي في الأحزان؟ وكيف يودُّ الأقرباء؟ وكيف يحمل هموم الأخوة؟ حتى يخرج رجلاً بمعنى الكلمة. فالإسلام يؤمن بالتخصصات، ولذا أمر المسلمين أن يَحْمِلَ الواحدُ منهم ما يستطيع حَمْلَه، والذي لا يستطيع أن يقوم به إذا حمله يعتبر خان الأمة وخان نفسه، وخان دين الله عزَّ وجلّ ، لأنه حمَّل نفسه ما لا يستطيع.
المبدأ الثالث - هو: التعامل، فقد رأى صلَّى الله عليه وسلَّم أناساً: {قد وكِّلَ بهم رجال يفكون لحيهم، وآخرون يجيئون بالصخر من النار يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (6)
وهذه آفة المعاملة في مجتمعنا، إن الذي يغشُّ في بيعه وشراءه يأكل أموال الناس بالباطل، والذى يخادع يأكل أموال الناس بالباطل، والذي يرائي يأكل أموال الناس بالباطل، والذي ينصب أو يحتال أو يغش هذا بالطبع تعلمون أنه يأكل أموال الناس بالباطل.
لو طبَّق المسلمون هذا المبدأ لكان ثروة كبيرة، لو حرص كل مسلم على اللقمة الحلال لنفسه ولذويه وأهله لانصلح حال مجتمعنا، فالعمل يكون بشرف بين التُّجار، ولا يكون جشع بين أصحاب رءوس الأموال، ولا نجد كذباً في مجتمعنا، ولا انعدام أمانة في محلاتنا، ولصار أولادنا أذكياء بالفطرة، مطيعين بالسليقة، بررة بآبائهم وأمهاتهم، قائمون بما يرضي خالقهم وإلههم، يؤدّون الأعمال ويتقنونها لله، لأنهم يتعاملون مع ذات الله عزَّ وجلّ.
(1)(صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنهُ).
(2)(في الفتح الكبير وجامع الأحاديث في الزهد عن خالد بن أبي عمران مرسلاً)،
(3)(أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه).
(4)(أخرجه ابن عدي والبيهقي في «الشعب» عن ابن عباس، وأوله (قال: لما نزلت ?وَشَاوِرْهُمْ فِي ?لأمْرِ?، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: {الحديث})
(5)(صحيح مسلم والبخاري عن ابن عمر، والطبراني في الأوسط والصغير عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهُم).
(6)(مسند الحارث عن أبى سعيد الخدري).