السعادة والصفاء



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

السعادة والصفاء

السعادة والصفاء

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
السعادة والصفاء

سر الوصول إلى السعادة والصفاء والسلام النفسي ،أسراروأنوار القلوب التى صفت وأشرقت بعلوم الإلهام وأشرفت على سماوات القرب وفاضت بعلوم لدنية ومعارف علوية وأسرار سماوية



    لماذا هاجر النبي من مكة إلى المدينة؟

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1890
    تاريخ التسجيل : 29/04/2015
    العمر : 57

    لماذا هاجر النبي من مكة إلى المدينة؟ Empty لماذا هاجر النبي من مكة إلى المدينة؟

    مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء يوليو 26, 2022 2:34 pm

    الحمد لله ربِّ العالمين، أعزَّ عباده المؤمنين، فاختار لهم القرآن كتاباً، ومحمداً صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، والإسلام ديناً. سبحانه .. سبحانه!! لا يهدي إلى طريقه إلا مَنْ أحبّ، ولا يبعد عن حزبه وأحبابه إلاَّ مَنْ أبغض وطرد، فقد قال لحبيبه صلى الله عليه وسلم: }لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ{ (63-الأنفال).
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينصر من اتبع هداه، ويؤيد دينه وشرعه على من عاداه، فَنَصَرَ حبيبه وقوىَّ دعوته وحزبه حتى جعلها عامة على هذه البسيطة، وسيأتي اليوم - أيها المسلمون - الذي يظهر هذا الدين على الدين كلِّه، حتى لا يبقى على ظهر الأرض إلاَّ مَنْ يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، جمعنا الله عزَّ وجلَّ به بعد فرقة، وعلَّمنا به بعد جهالة، وهدانا به بعد ضلالة، وأعزنا به بعد ذلة، وجعلنا بسببه وبنوره خير أمة أخرجت للناس.
    اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين، وعلى صحابته المباركين، من المهاجرين والأنصار، ومن اتَّبعهم بخير إلى يوم القرار، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
    فيا إخواني ويا أحبابي: سؤال دائماً - يُرَاوِدُنا، لماذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة؟ ولماذا أمر أصحابه - مِنْ قَبْلُ - بالهجرة مرتين إلى بلاد الحبشة؟ إن الإجابة التي نحفظها جميعاً: فراراً من أذى الكفار، ومن شدة بطش الكافرين والجاحدين، فراراً بدين الله وبنور الله وبالإيمان بالله عزَّ وجلّ.
    قد يكون هذا ينطبق على الهجرة الأولى إلى بلاد الحبشة، لكن الهجرة الثانية إلى المدينة المنورة كان لها غايةٌ أخرى، وحكمةٌ ثانية كبرى، ومن أجلها تدبَّرَ وتروَّى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يختار الله عزَّ وجلَّ له هذا المكان.
    لماذا هاجر إلى المدينة؟ إنه كان يبحث عن مكان يقيم بين أهله وذويه مدينة فاضلة، على العقيدة الحقَّة، والأخلاق الصادقة، والمعاملات الحسنة، والعبادات الخالصة لله عزَّ وجلّ. ويريد أن تكون هذه المدينة نموذجاً تحتذيه كل المدن والقرى الأرضية، إذا أرادوا إصلاح أحوالهم، وإذا أرادوا انتعاش تجارتهم وأموالهم، وإذا أرادوا صلاح أخلاقهم وتهذيب نفوسهم، وإذا أرادوا في الآخرة السعادة عند ربِّهم عزَّ وجلّ.
    ولذا نقول لإخواننا: أنه لا سعادة لمجتمعنا، أو لأي قرية أو مدينة في بلادنا أو غير بلادنا، إلا إذا طبَّقَتْ - من جديد - الأسس والسجايا والقيم والأخلاق التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار هجرته - صلى الله عليه وسلم.
    وقد عبَّر عن هذا الحال جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه وأرضاه عندما طلبه النجاشي - ملك الحبشة - استجابة للشكوى التي تقدم بها عمرو بن العاص بالنيابة عن قريش. لقد أرسلوه بالهدايا إلى النجاشي، وطلبوا منه أن يكلِّمه ليقبض عليهم ويردَّهم إلى السجون والتعذيب في مكة - كما كانوا من قبل. ولكن النجاشي - كما وصفه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: { لا يُظلَمُ عنده أحدٌ، وأرضه أرض صدق } فلم يرضَ بالحُجَّة بدون الأخرى.
    فإن الدين القويم يحتم على كل مؤمن ألا يحكم على قضية من أول وهلة، ومن أول شاكٍ، بل لابد أن يسمع إلى المشكو لأنه ربما يكون مظلوماً ومعه الحقّ، وقد قيل لسليمان عليه السلام - عندما جاءته امرأة باكية وتدَّعي لها حقاً على ضرتها، فقال من حوله: إنا نرى الحق لهذه، قال: ولِمَ؟ قالوا: لأنها تبكي. قال: ومن أدراكم بالثانية؟ ربما تكون قد فقأت لها عيناً!! أو كسرت لها عضواً منعها من سرعة المجيئ!!
    فلا يجب على مسلم - في قضية كبيرة أو صغيرة - أن يحكم إلا بعد أن يستمع إلى الإثنين، الشاكي والمشكو حتى يتبين له وجه الحق، وإذا كانوا يكذبون على سيد الخلق حتى قال: { إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ - يستطيع أن يُنَمِّقَ الكلام، ويزخرف الكلام، حتى يروق في عين السامعين، ثم قال محذراً - فَأَقْضِي لَهُ عَلَىٰ نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ }[2].
    فطلب النجاشي جعفر -رضى الله عنه- ومن معه وقال لهم: اختاروا رجلاً يتحدث عنكم، فأشاروا إلى جعفر، فقال: ما شأنكم؟ فقال رضى الله عنه وأرضاه: (كنا قوماً في جاهلية، نعبد الأوثان، ونقطع الأرحام، ونشرب الخمر، ونفعل الفحشاء، ونكذب في الحديث، حتى بعث الله عزَّ وجلَّ إلينا رسولاً مِنَّا، نعرف نسبه ونعرف صدقه، دعانا إلى الإيمان بالله، وإلى صدق الحديث، وإلى صلة الأرحام، وإلى حسن الجوار، وإلى الوفاء بالعهد - وأخذ يعدِّد له فضائل الإسلام التي جاء من أجلها نَبِيُّ الإسلام صلى الله عليه وسلم.
    ما أردت أن أذكره في هذا الصدد: أن نبيَّكم الكريم جاء بهذه الأخلاق الكريمة، والقيم العظيمة، فوجد العرب في مكة لا يريدون أن يغيِّرُوا طباعهم، ولا أن يهذِّبُوا أخلاقهم، ولا أن يعدِّلُوا أحوالهم - فيُصِرُّونَ على شرب الخمور، ويُصِرُّونَ على الزنا والفجور، ويُصِرُّونَ على قطع الأرحام، ويُصِرُّونَ على إيذاء الأيتام، ويُصِرُّونَ على الجفاء بين الأنام، ويُصِرُّونَ على هذه الخبائث - وهو يريد أن يصنع مجتمعاً للأنام، فيه القيم الفاضلة، والأخلاق الكريمة، فكان ذلك سرُّ هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
    هاجر إلى المدينة - عندما وجد في أهلها شوقاً إلى هذه الخصال، ورغبة في هذه الأخلاق، وحميَّة في نصرة هذه الشمائل والصفات، فهاجر إليهم فنشرها فيما بينهم، فأصلح هذا المجتمع - وهذا سر إصلاح أي مجتمع - وله أسس ثلاثة، ذكرها الله في قرآنه، وجعلها دستوراً إلى أن ينتهي الزمان ينتهي المكان، ويرث الله الأرض ومن عليها. دستور الإصلاح لأي مجتمع على البسيطة، ما هو يا رب؟ } وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ { (9-الحشر).
    هذه القيم وهذه المبادئ - وتحتها آلاف المبادئ الإيمانية، وآلاف القيم الإسلامية، لكن هذه هي مجمل الآداب الإيمانية والإسلامية التي عليها صلاح الحال، وصلاح الأفراد، وصلاح العباد وصلاح البلاد، وصلاح كل واد وناد، فإن صلاح الكُلِّ بنشر المحبة - وديننا أيها الأحبة هو دين المحبة، فليس للبغضاء طريق في الإسلام، وليست للكراهية طريق بين المؤمنين، وإنما أسس هذا الدين على الحُبِّ لله، والحُبِّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحب لكل مَن آمن بالله عزَّ وجلّ. وحتى لو كان هذا الذي آمن بالله، أخطأ في حقِّ نفسه، أو أساء في حقِّ ربِّه، أو ارتكب مُحَرَّماً، فإني لا أكرهه في ذاته - لأن هذا ينافي دين الله - ولكني أكره هذا الخلق الذي اتصف به، وهذا العمل الذي قام به، فإذا تركه فهو أخي وحبيبي في الله ورسوله.
    وقد قيل لأبي الدرداء رضى الله عنه وأرضاه: إن أخاك فلان وقع في إثم عظيم، فهل تبغضه؟ قال: لا، وإنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي. ثم قال لهم ناصحاً: أرأيتم لو أن أخاً لكم وقع في بئر، ماذا كنتم فاعلين؟ قالوا: نأخذ بيده. قال: كذلك أخاكم إذا وقع في ذنب تأخذوا بيديه، لتنقذوه من إبليس وجنوده إلى حزب الله، وإلى دين الله، وإلى أنصار الله عزَّ وجلّ.
    وقد قال في ذلك رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان .. لم يقل الصلاة، ولم يقل الزكاة، ولا الصيام، ولا الحج!! مع أهميتهم البالغة عند الله عزَّ وجلّ، ولكنه قال: { أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الحُبُّ فِي اللَّهِ وَالبُغْضُ في الله عزَّ وجلّ}[3].
    إن الحب لله وفي الله - أيها المسلمون - هو المرهم الذي يداوي العاصي من المؤمنين، وهو الشفاء الذي يشفي به الله صدور الموحدين، وهو الترياق الذي به يدخل كل مؤمن إلى رضوان رب العالمين.
    مَنْ الذين يدخلون جنتك يا ربّ؟ ومن الذين ينالون رضوانك يوم القيامة يا ربّ؟ استمع إليه وهو يحدِّد صفاتهم، ويبين سماتهم فيقول: } وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ { (47-الحجر). الذين انتزع الغل والحقد والحسد، والبغضاء والكراهية، من قلوبهم لعباد الله المؤمنين. هو يكره اليهود، ويبغض الجاحدين، ويحقد على الكافرين، لكن لا يجب على مؤمن أن يتصف بهذه الصفات بالنسبة للمؤمنين، وإلاَّ كان عملُه كلُّه - حتى لو ملأ البرَّ والبحر عبادة - حابطاً هالكاً يوم لقاء رب العالمين عزَّ وجلّ.
    فالإسلام هو الحُبُّ - يا جماعة المؤمنين - لأن الله عندما مدح الأنصار، لم يمدحهم بالصلاة، ولا بالزكاة، ولا حتى بالشجاعة في ميدان القتال في سبيل الله، وإنما أول صفة مدحهم بها وعليها الله: } يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ { (9-الحشر)، الحب، ولذا أكد عليها النبي الكريم فقال: { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرا أَوْ لِيَسْكُتْ }[4]. تلك آداب الإسلام وتلك تعاليم نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
    فإن أبا بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه، عندما بيَّن الله فضْلَه وبيَّن النَّبِيُّ منزلته ومكانته عند الله، أخذ يتحدث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بينهم - عن سرِّ حصوله على هذه المنزلة، وسرِّ عُلُوِّه إلى هذه المكانة، فبعضهم قال: لقيامه الليل، وبعضهم قال: لإكثاره من صيام النهار، وبعضهم قال: لإكثاره من تلاوة القرآن، وبعضهم قال: لتبتله بين يدي الواحد القهار، فخرج عليهم النَّبِيُّ المختار - وهم على ذلك - فقال: { ما فضلكم أبو بكر بكثير الصلاة، ولا بكثير الصيام، ولكن بشئ وَقَـرَ في صدره }[5]. وما هو؟!!
    هو الحُبُّ لله، والحُبُّ لرسول الله، والحُبُّ لعباد الله المؤمنين. حتى أنه عند انتقال رسول الله إلى الرفيق الأعلى، وقد اختاره لإمامة الصلاة، وقال لامرأة جاءت إليه في قضية، ثم رجعت وقالت: إذا رجعتُ ولم أجدك فإلى مَنْ اتَّجه؟ قال: إلى أبي بكر - وأشار إليه إشارات صريحة. لكنه لشدة الحُبِّ في قلبه كان يتدافع الإمامة ويقدِّم عمر ويقول: عمر أولى مني، ثم يقدم أبا عبيدة ويقول: أبو عبيدة أحقُّ بهذا الأمر مني. ويريد أن يعطيها لإخوانه حتى يظلُّوا أحبَّاء فيما بينهم، أوفياء لبعضهم، لا تنفك المحبَّة عن صدورهم، لأنه يعلم أن المحبَّة هي أساس الصفاء في مجتمع المؤمنين، وهي أساس النقاء في علاقات المؤمنين، وهي أساس قبول الأعمال عند رب العالمين عزَّ وجلّ.
    قال صلى الله عليه وسلم: { ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لله، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُود فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ }[6].
    أو كما قال، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
    الخطبة الثانية:
    الحمد لله ربِّ العالمين، الذي هدانا للمعاني الإيمانية، وخلَّقنا بالأخلاق الربانية، وجعلنا من عباده الصالحين. وأشهد أن لا إله لا الله وحده لا شريك له، يعطي الدنيا لمَنْ يُحِبّ ومَنْ لا يُحِبّ، ولا يعطي الدين والإيمان إلا لمَنْ أَحَبّ، وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسوله، أسس هذا الدين على المحبة الصادقة لله، وعلى الحب الخالص لعباد الله، فكان ديناً قيماً، قال في حقِّه الله: } وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا { (103-آل عمران).
    اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد سرِّ هذه الأخوة الإيمانية، وأجمعنا عليه في الحياة الروحانية والدار الأخروية، واجعلنا من المنتفعين بهذه الأوامر القرآنية في كل أنفاسنا يا ربَّ العالمين. (أما بعد)
    فيا إخواني في الله ورسوله: إن المرض الأول الذي استشرى في مجتمعنا، وعكر علينا صفو حياتنا ليس الغلاء، وليس قلة الرواتب، وليس كثرة المشاغل والمصالح، إنما المرض الأول هو الأثرة والأنانية التي جعلت كل مِنَّا يحبُّ نفسه وفقط.
    أما أوصاف المؤمنين فهي: } وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ { (9-الحشر) - أصبح كل واحد مِنَّا يحبُّ الخير لنفسه فقط، وإذا زاد قليلاً فلنفسه وولده، وبعد ذلك لا يتجاوز قيد أنملة - لكن المؤمنين يحبُّون لإخوانهم ما يحبُّون لأنفسهم.
    اسمعوا معي إلى هذا الدواء النبوي، الذي يحل كل هذه المشاكل في لَمْسَةِ حنان محمدية، ولَمْسَةِ لُطْفٍ رحمانية ربانية، يقول فيه خير البرية: { لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }[7]. لو طبقنا هذا الدواء، لزالت جميع الأسقام والأدواء!!
    فأنا لا أحب أن يغتابني رجل، فلماذا أغتاب غيري؟!! وأنا لا أفرح أن يسبني ابن أخي، فلماذا أسمح لابني أن يسب أخي؟!! وأنا لا أرضى لزوجة جاري أن تجاهر زوجتى بالسَّبِّ والشَّتْم، فلماذا أرضى لزوجتي أن تجاهر جارتها بالسَّبِّ والشَّتْم؟!! وقد أنْهَرُهَا ظاهراً أمام الناس، وأُشَجِّعُهَا بعد ذلك باطناً في الخلوة بعد اختفاء الناس!! أنا لا أرضى أن ينقل جاري حدَّ الأرض ويأتي به عليّ، فكيف أنقل الحدَّ في أرض جاري؟!! أنا لا أرضى أن تَنْزِلَ بَهِيمة جاري وتقضي على زرعي، فلماذا أرضى أن تَنْزِلَ بِهِيمَتِي وتقضي على زرع جاري؟!! وغيرها .. وغيرها!!
    فالمؤمن يُحِبُّ لجاره ما يحب لنفسه، ويرضى لجاره ما يرضاه لنفسه، وقد جعل الإسلام الجيران ثلاثة: جاراً له حقوقاً ثلاثة، وهو الجار المؤمن القريب: له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة، والجار البعيد المسلم: له حق الجوار، وحق الإسلام، والجار اليهودي والنصراني: فله حق الجوار. وحق الجوار شأنه كبير، والذي يطالب بالحقوق ملك الملوك عزَّ وجلّ.
    فهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم كان جاره يهودياً، وهو صلى الله عليه وسلم القائد والحاكم، ويستطيع بإشارة أن يجعله يترك داره، ويهجرها إلى مكان آخر، لكنه لا يروِّع أحداً – فالمسلمون لا يَغْصِبُون أرض أحد، فعندما أخذ عمرو بن العاص أرض يهودية وضمها إلى مسجده الذي تعلمونه، واشتكت إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أمر أن يرد الأرض إلى صاحبتها، لأنه لا يجوز للمسلم أن يتعبد على أرض مغصوبة من أهلها - فتركه صلى الله عليه وسلم في جواره، ولكنه زاد في إيذائه، فكان يجمع العذرات ويضعها على بابه قبل كل صباح، فيخرج رسول الله ويزيلها بتؤدة وأناة، ويطهر المكان ويغسل الباب من الأذى ولا يقول شيئاً، فخرج يوماً ولم يجد أثراً، فسأل عن اليهودي فقيل: أنه مريض، فقال: وجبت زيارته لأنه جار!! فذهب إليه وزاره، وقال: لقد عودتنا على عادة!! فلما لم نرها سألنا عنك، فقالوا: مريض، فقلنا: حق علينا زيارتك، فكانت النتيجة أنه أسلم لله عزَّ وجلّ عندما وجد هذه الشمائل المحمدية، والأخلاق الربانية، في النبى صلى الله عليه وسلم.
    فدين الإسلام - يا إخواني - يجعل المُؤمِنَ غَيْرَ كَامِلِ الإيمان إلاَّ إذا كان يُحِبُّ الخير لإخوانه المؤمنين أكثر من نفسه. أما بقية الصفات التي تحدث عنها الله، فلها وقت آخر، ولكن أقرؤها وتدبروها، وعوها واعملوا بها، واحفظوها في قلوبكم: } يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ { (9-الحشر).
    نسأل الله بما سأل به حبيبه ومصطفاه، فنقول: اللهم ارزقنا حُبَّك الخالص لوجهك الكريم بلا شوب يشوبه، اللهم ارزقنا حُبَّك وحُبَّ كلَّ عبد يُحِبُّك، وحُبَّ كل عمل يوصلنا إليك.
    اللهم انزع من صدورنا كل شحناء وبغضاء لعبادك المؤمنين، وأملأ قلوبنا بالحُبِّ الخالص لجميع عباد الله المسلمين.
    اللهم أرنا الحقَّ حقاًّ وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
    اللهم حَبِّبْ إلينا الإيمان وزيِّنْهُ في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
    اللهم اغفر لأمواتنا ولأموات المسلمين أجمعين.
    اللهم انصر عبادك المؤمنين المجاهدين في البوسنة وأذربيجان، وفي بورما وكشمير والفلبين، وفي كل مكان يا خير الناصرين.
    اللهم أطفأ نار الحرب المشتعلة بين عبادك المؤمنين في اليمن والصومال وأفغانستان والجزائر يا أرحم الراحمين. اللهم أبعد عنهم طريق الغالين، ووفقهم إلى طريق الصالحين، واجعلهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى يا أرحم الراحمين.
    اللهم أصلح الراعي والرعية، واجمعنا جامعة إسلامية، ووفق ولاة أمورنا للعمل بأحكام كتابك ولتنفيذ سنة خير أحبابك، واحفطهم من بطانة السوء واجمعهم على بطانة الخير، يا أرحم الراحمين.
    عباد الله: } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { (90-النحل).
    ****************
    [1] كانت هذه الخطبة بمسجد قرية سرابيوم محافظة الإسماعيلية يوم الجمعة 10/6/1994م الموافق 2 من محرم 1415هـ.
    [2] رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما والإمام مالك في الموطأ.
    [3] رواه أحمد والبيهقي عن البراء بن عامر والطيالسي، الطبراني في الكبير عن ابن عباس.
    [4] رواه أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه عن أبي هريرة.
    [5] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان أبو يعلى في مسنده، أحمد في مسنده والداري في سننه عن أنس.
    [6] رواه البخارى ومسلم عن أنس
    [7] رواه أحمد عن أنس بن مالك
    اعلان في الاسفل
    اربط موقعك بنادليل الموقعخريطة الموقعأعلن معناشارك معناسياسة الخصوصية


    SSL site seal - click to verify

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 19, 2024 5:50 pm